الحديث عن مدرسة البصرة هو الحديث عن النحو العربي منذ نشأته حتى عصرنا الحاضر ، فالذي لا شك فيه أن النحو ـ بصورته المعروفة ـ نشأ بصرياً وتطور بصرياً، وذلك لا جدال وجه من وجوه الضعف فيه .
ويكاد الدارسون يجمعون على أن النحو العربي نشأ لحفظ القرآن من " اللحن " ، وهم يقدمون في ذلك روايات كثيرة عن أبي الأسود الدؤلي وصنيعه في النحو من أنه نفسه وضع النحو ، او أنه أخذه عن سيدنا علي بن ابي طالب رضي الله عنه حين وضع له أبواباً وقال له : انح هذا النحو .... الى آخر تلك الروايات .
غير أن الشيء الوحيد الثابت هو أن أبا الأسود وضع ضبط القرآن بالنقط وأنه قال لكاتبه" إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه الى أعلاه، وإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف"(1).
ص9
وكان هذا العمل الخطوة الأولى في عمل النحو ، ومن الواضح ان الحركات النحوية الاصطلاحية أخذت عن أبي الاسود كما يشير النص السابق . ولم يكن هذا العمل يهدف الى حفظ النص من اللحن فقط كما وقر في الاذهان ، وإنما كان يهدف الى غاية أبعد في أصول الحياة الإسلامية . ذلك أن المسلمين عرفوا ـ بداية ـ أن عليهم أن يقرأوا القرآن وأن " يفهموه " لأنه هو الذي ينظم حياتهم ، ومن ثم نستطيع تفسير نشأة الحركة العقلية العربية كلها بأنها كانت نتيجة نزول القرآن الكريم ، فهي كلها من نحو وصرف وبلاغة وتفسير وفقه وأصول وكلام تسعى الى هدف واحد هو " فهم " النص القرآني الكريم .
ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن ابا الاسود كان من أئمة القراء ، وأن ابن أبي إسحق الحضرمي ، وعيسى بن عمر كانا من القراء ، وأن أبا عمرو بن العلاء هو إمام البصرة في القراءة واحد القراء السبعة كذلك .
النحو إذن نشأ " لفهم " القرآن ، وفرق كبير بين علم يسعى " لفهم " النص وعلم يسعى " لحفظه " من اللحن ، ولو كانت الغاية منه حفظ النص من اللحن لما انتج العرب هذه الثروة الضخمة في مجال الدرس النحوي ، ومحاولة " الفهم " هذه هي التي حددت مسار المنهج لأنها ربطت درس النحو بكل المحاولات الأخرى التي تسعى الى فهم النص ، ومن ثم فإن دراسة منهج النحو عند العرب لا تكون صحيحة إلا مع اتصالها بدراسة العلوم العربية الأخرى وبخاصة الفقه والكلام .
ونحن نلفت الى هذه القضية لأن دارسين معاصرين كثيرين حاولوا أن يركزوا على أن النحو العربي نشأ متأثراً بنحو اليونان أو الهنود أو
ص10
السريان دون أن يكون هناك سند تاريخي أكيد أو سند فني سليم .
سبقت البصرة الى وضع النحو منذ القرن الاول للهجرة ، واستمرت جهود المدرسة على أيدي أعلامها الأوائل : ابن ابي إسحق الحضرمي ، وعيسى بن عمر الثقفي وابي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب ، حتى كان الخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه اللذان يعتبر ان بحق الواضعين للنحو العربي بصورته المعروفة .
ولسنا هنا بصدد دراسة مناهج كل مدرسة من المدارس التي نقدم بعض أعلامها في هذا الكتاب ، لكننا نكتفي هنا بالإشارة الى أن البصرة عرفت في تاريخ النحو بأنها المدرسة التي وضعت أصول القياس النحوي ، وأنها كانت تسعى الى أن تكون القواعد مطردة اطراداً واسعاً ومن ثم كانت تميل الى طرح الروايات الشاذة دون أن نتخذها واسعاً ومن ثم كانت تميل الى طرح الروايات الشاذة دون أن تتخذها إطاراً لوضع قانون نحوي ، ولذلك كانت تتحرى صحة الاستقراء اللغوي ، كما رفضت الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف لما ادعي من جواز روايته بالمعنى ولدخول كثير من الأعاجم في هذه الرواية.
غير أننا ينبغي أن نعلم أن عدداً غير قليل من القضايا التي استقرت عليها المدرسة البصرية غير صحيح من الناحية اللغوية ، لأنها فسرته في ضوء نظر عقلي معين ، وصحيح من الناحية اللغوية ، لأنها فسرته في ضوء نظر عقلي معين ، وصحيح أنه غير مجلوب ، لكنه في الوقت نفسه لا يطابق الواقع اللغوي .
ومع ذلك فقد ظل التعصب شديداً للبصرة منذ القديم ، بل ظل موجوداً عند عدد من الدارسين المعاصرين وبخاصة في مواجهة النحو الكوفي (2) . والحق أن الدراسة الموضوعية لكلتا المدرستين تبين أن
ص11
كثيراً من المسائل التي ذهب إليها الكوفيون أقرب الى الواقع اللغوي والى المنهج النحوي الصحيح من تلك التي ذهب إليها البصريون .
ومهما يكن من أمر فلقد اخترنا من البصرة أهم كتاب في النحو العربي كله هو " الكتاب " لسيبويه ، لا باعتباره ممثلاً لمدرسة البصرة ، بل لأنه الكتاب الذي ظل إماماً للنحاة في كل العصور . ثم اخترنا كتاباً يمثل استقرار المذهب البصري وهو كتاب المقتضب للمبرد .
ص12
__________________
(1) ابن النديم الفهرست 59 .
(2) انظر مثلا : الشيخ محمد الطنطاوي : نشأة النحو ص 22 ، والأستاذ سعيد الأفغاني : في أصول النحو 188 ـ 217 ، والدكتور عبد الحميد سند الجندي : في تاريخ النحو . حولية كلية البنات بجامعة عين شمس 1961 ص 27 ـ 41 .
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
انطلاق الجلسة البحثية الرابعة لمؤتمر العميد العلمي العالمي السابع
|
|
|