أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-07-2015
4082
التاريخ: 29-07-2015
3365
التاريخ: 2023-04-18
1226
التاريخ: 29-07-2015
3455
|
يتضح لنا من خلال الاجراءات التي قام بها المتوكل العباسي تجاه الإمام الهادي ( عليه السّلام ) أنّ حركة الإمام وقيامه بمهامّه إزاء الأمة وخاصّته - وهي القواعد المؤمنة بمرجعيته الفكرية والروحيّة - كانت حركة محدودة تخضع لمدى الرقابة والضغط الموجه إليه وإلى خاصته . فكان الإمام ( عليه السّلام ) منتهجا نفس السبيل الذي انتهجه آباؤه ( عليهم السّلام ) ، وعلى وفق المصلحة العليا للرسالة الاسلامية وبمقدار ما تسمح به الظروف العامة والخاصة التي تحيط بالإمام ( عليه السّلام ) في عصره وهي ضرورة الحفاظ على مفاهيم الرسالة الاسلامية أوّلا ومنع خاصّته من الوقوع في الانحراف أو ما كان يكيده لهم السلطان العباسي من منزلقات ثانيا .
ويمكن أن نصور مواقف الإمام الهادي ( عليه السّلام ) على منحيين :
المنحى الأول : هو إثبات الحق ونقد الباطل ، على صعيد الأمة الاسلامية ، سواء كان ذلك على مستوى جهاز الحكم أو على مستوى القواعد الشعبية العامة .
حتّى انّ يحيى بن أكثم قال للمتوكل : « ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل - أي الإمام ( عليه السّلام ) - شيئا بعد مسائلي هذه وإنه لا يرد عليه شيء بعدها إلّا دونها ، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة »[1].
المنحى الثاني : هو المحافظة التامة على أصحابه ورعاية مصالحهم وتحذيرهم من الوقوع في أحابيل السلطة العباسيّة ومساعدتهم في إخفاء نشاطهم والحذر في التحرك بحسب الامكان .[2]
وتتضح لنا مواقف الإمام الهادي ( عليه السّلام ) من خلال استعراض بعض الحوادث التي واجهها وما اتّخذ من اجراءات إزاءها لنحصل على صورة واضحة المعالم حينما نأخذ كل ظروفه بنظر الاعتبار فتتضح من خلالها الحركة العامة للأئمة الأطهار والمواقف الخاصّة بكل امام .
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) والمتوكل العباسي
لقد سعى جماعة بالإمام ( عليه السّلام ) إلى المتوكل ، وأخبروه بأن في منزله سلاحا وكتبا وغيرها وأنه يطلب الأمر لنفسه ، فأرسل المتوكل مجموعة من الأتراك ليلا ليهجموا على منزله على حين غفلة ، فلمّا باغتوا الإمام ( عليه السّلام ) وجدوه وحده ، مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن ، وليس بينه وبين الأرض بساط فأخذ على الصورة التي وجد عليها ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل ، فمثل بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأكبره وأجلسه إلى جانبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولم تكن للمتوكّل حجة يتعلّل بها على الإمام ( عليه السّلام ) . فناول المتوكل الإمام ( عليه السّلام ) الكأس الذي في يده .
فقال الإمام ( عليه السّلام ) : يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط ، فأعفني ، فأعفاه ، فقال المتوكل : أنشدني شعرا أستحسنه .
قال الإمام ( عليه السّلام ) : إنّي لقليل الرواية للشعر .
قال المتوكل : لا بدّ أن تنشدني شيئا . فأنشده الإمام ( عليه السّلام ) :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا من بعد عز من معاقلهم * فاودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساء لهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا يوما وما شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد اكلوا
وطالما عمّروا دورا لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا * فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفرا معطّلة * وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا
فبكى المتوكل بكاء كثيرا حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكى من حضر ثم أمر برفع الشراب ، ثم قال يا أبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال الإمام ( عليه السّلام ) : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه ، وردّه إلى منزله مكرّما .[3]
فمواقف الإمام ( عليه السّلام ) كانت تنسجم مع موقع الإمامة أوّلا وتنسجم مع الظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بالإمام ( عليه السّلام ) وشيعته ثانيا .
وكان الإمام ( عليه السّلام ) يحاول إتمام الحجة وإقامة الحق كلما سمحت الفرصة بذلك ، فقد روي أن نصرانيّا جاء إلى دار الإمام ( عليه السّلام ) حاملا إليه بعض الأموال ، فخرج إليه خادمه وقال له : أنت يوسف بن يعقوب ؟ فقال : نعم ، قال : فانزل واقعد في الدهليز ، فتعجّب النصراني من معرفته لاسمه واسم أبيه ، وليس في البلد من يعرفه ، ولا دخله قط . ثم خرج الخادم وقال : المئة دينار التي في كمك في الكاغد هاتها ، فناولها إيّاه ثم دخل على الإمام ( عليه السّلام ) وطلب منه أن يرجع إلى الحق وأن يدخل في الإسلام فلما قال له الإمام : يا يوسف أما آن لك ؟ فقال يوسف يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه الكفاية لمن اكتفى ، فقال له الإمام ( عليه السّلام ) : هيهات انك لا تسلم ولكنه سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا[4].
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) ووزير المنتصر
وروي أن الإمام ( عليه السّلام ) كان يساير أحمد بن الخصيب في أثناء وزارته وقد قصر أبو الحسن - أي الإمام الهادي ( عليه السّلام ) - عنه فقال له ابن الخصيب : سر ، جعلت فداك ، فقال له أبو الحسن ( عليه السّلام ) : « أنت المقدّم » ، يقول الراوي فما لبثنا إلّا أربعة أيام حتى وضع الدهق على ساق ابن الخصيب وقتل .[5]
وابن الخصيب هذا من المتجبرين وقد استوزره المنتصر وندم على ذلك لما اشتهر بالظلم . فمن ذلك أنه ركب يوما فتظلم إليه متظلم بقصة فأخرج رجله من الركاب فزج بها في صدر المتكلم فقتله فتحدّث الناس في ذلك فقال بعض الشعراء :
قل للخليفة يا ابن عم محمد * أشكل وزيرك انه ركال
أشكله عن ركل الرجال فان ترد * مالا فعند وزيرك الأموال[6]
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) والتحدّي العلمي
لم تنحصر تحديات السلطة بإجراءاتها القمعية ضد الإمام ( عليه السّلام ) بل كانت تعمد بين الحين والآخر إلى إحراج الإمام في قضايا علميّة حيث تدفع بوعاظها إلى محاججة الإمام ( عليه السّلام ) بطرح أسئلة في مجالس عامة .
على أن عجز فقهاء السلطة عن إيجاد حلول لمشاكل فقهية مستجدّة كان يدفع الخليفة لطرح الأسئلة على الإمام ( عليه السّلام ) . فقد روي أن رجلا نصرانيا قدم إلى المتوكل وكان قد فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم الحد عليه ، فأسلم ، فقال يحيى ابن أكثم - وهو قاضي القضاة - قد هدم ايمانه شركه وفعله ، وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود ، إلى غير هذه الأقوال . . . فلمّا رأى المتوكل هذا الاختلاف بين الفقهاء أمر بالكتابة إلى أبي الحسن العسكري - الإمام الهادي ( عليه السّلام ) - لسؤاله عن هذا المشكل الذي اختلفوا فيه ، فلما قرأ الإمام ( عليه السّلام ) الكتاب كتب : « يضرب حتى يموت » . فأنكر يحيى بن أكثم وأنكر فقهاء العسكر - أي سامراء - ذلك ، فقالوا يا أمير المؤمنين : سله عن ذلك فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجيء به سنة .
فكتب المتوكل إلى الإمام قائلا : إنّ الفقهاء قد أنكروا هذا وقالوا : لم يجيء به سنة ولم ينطق به كتاب ، فبيّن لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى الموت ؟ !
فكتب ( عليه السّلام ) : بسم اللّه الرحمن الرحيم فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا[7]. فأمر به المتوكل فضرب حتى مات .[8]
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) وفتنة خلق القرآن
وفي فترة حكم المأمون العباسي ، أثيرت من قبل السلطان العباسي قضية خلق القرآن من أجل إبعاد الأمة عن همومها وأهدافها بالإضافة إلى توسيع وتعميق شقّة الخلاف بين أبناء الأمة ، ليكون هذا الخلاف حاجزا بينهم وبين السلطان المنحرف والبعيد في سلوكه ونشاطه عن الشريعة الإسلامية .
وهناك جهة ثالثة هي ان السلطة قد استغلت هذه القضية إذ جعلتها مصيدة لمعارضيها فكانت تتعرّف عليهم من خلالها ثم تقوم بتحجيم دورهم في أوساط الامّة .
وكتب الإمام الهادي ( عليه السّلام ) إلى شيعته في بغداد لإبعادهم عن الخوض في مسألة خلق القرآن مع من يخوض فيها تجنّبا لهم من الآثار السلبيّة التي يمكن أن تلحق بهم وربما يكونون عرضة للوقوع تحت اجراءات قمعية ومطاردة من قبل السلطة ، وقد روي عنه ( عليه السّلام ) الكتاب الآتي :
عن محمد بن عيسى بن عبيد بن اليقطين قال كتب علي بن محمد بن علي ابن موسى الرضا ( عليه السّلام ) إلى بعض شيعته ببغداد : « بسم اللّه الرحمن الرحيم عصمنا اللّه وإياك من الفتنة فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلّا يفعل فهي الهلكة نحن نرى إن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه وليس الخالق إلّا اللّه ، وما سواه مخلوق والقرآن كلام اللّه لا تجعل له اسما من عندك فتكون من الضالين جعلنا اللّه وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون »[9].
وقد شغلت هذه المسألة الذهنيّة الإسلامية فترة حكم المأمون والمعتصم والواثق ، وكان جواب الإمام ( عليه السّلام ) محدّدا وبليغا ؛ إبعادا للشيعة عن الوقوع في حبائل السلطان والخروج من هذه الفتنة بسلامة في الدين ، فكان الإمام الهادي ( عليه السّلام ) يترصّد الأحداث والظواهر التي تكتنف الحياة الاسلامية عامة وما تتطلب من مواقف خاصّة فيما يتعلق بشيعته لتجنيبهم مزالق الانحراف من الخوض في كثير من المسائل التي لا طائل منها سوى الكشف عن هويّتهم ، وبالتالي التعرض لحبائل السلطة من القمع والاضطهاد والسجن .
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) مع أصحابه وشيعته
لقد حفلت حياة الإمام ( عليه السّلام ) بالأحداث المريرة إذ كان الصراع على السلطة على أشدّه بين أبناء الأسرة الحاكمة من جهة ، وبين الامراء والقوّاد الأتراك وغيرهم من الطامحين في السلطة من جهة ثانية . فكان نتيجة هذا الصراع أن ينال الإمام الهادي ( عليه السّلام ) وأبناء عمومته وشيعته في هذه الظروف الكثير من الأذى والاضطهاد باعتباره زعيم الجبهة المعارضة لكل هؤلاء المتصارعين على السلطة من حكّام وامراء ووزراء . فبالرغم من وجود هذا الصراع الشديد فان الحكام العباسيين كانوا يخافون الإمام ( عليه السّلام ) ويرون أنّه سيد أهل البيت وإمام الأمة وصاحب الكلمة المسموعة بين الناس .
وكان الإمام ( عليه السّلام ) يمارس دور التربية والتوجيه وإعداد المؤمنين بمرجعيته الفكرية والروحية من أجل تحصينهم ضد الانحرافات العقائدية والفكرية ويمنعهم من الخوض في كثير من المسائل التي يكون الخوض فيها كاشفا عن هويتهم وارتباطهم بالإمام ( عليه السّلام ) مما كان يؤدي إلى أن يكونوا تحت طائل عقوبات واضطهادات السلطة فيما إذا علموا موالاتهم للإمام وأهل البيت ( عليهم السّلام ) كما حصل ذلك لابن السكّيت وغيره ، حيث كانت تقوم السلطة بقتلهم أو زجّهم في السجون .
إنّ دارسي هذه الفترة - وهي العصر العباسي الثاني - وإن وصفوها بالضعف السياسي والإداري للسلطة لكن حكّام الدولة لم يتهاونوا في تشديد الرقابة على الإمام وأصحابه ؛ محاولين بذلك تحديد دائرة نشاط الإمام ( عليه السّلام ) وحدّها من التوسع في تأثيرها على قطاعات الأمة المختلفة . لذا نرى أن الإمام ( عليه السّلام ) كان يكرّس جلّ وقته وتعليماته بخصوص شيعته ومواليه مع تحيّن الفرصة في اتخاذ المواقف التي تعكس وجهة النظر الاسلامية في الوقائع والأحداث مع بيان ابتعاد الحكّام العباسيين عن تطبيق تعاليم الإسلام وهم في قمة انحرافهم وانغماسهم في اللهو والمجون .
وكانت مواقف الإمام الهادي ( عليه السّلام ) تجاه الأحداث متناسبة مع تلك الظروف فكان يصدر توجيهاته وتعليماته بحذر ودقة وسرية تامة إلى شيعته وأصحابه .
ولعلّ أهم وأوضح موقف وقفه الإمام ( عليه السّلام ) في هذا الصدد بحسب ما لدينا من وثائق تاريخية هو موقفه تجاه محاولة المتوكل للنيل من الإمام ( عليه السّلام ) عن طريق أخيه ، حيث أغراه بعض جلسائه بدعوة موسى إليه لإشاعة أن ابن الرضا يجلس إلى المتوكل وينادمه الشرب واللهو ، غير أن الإمام ( عليه السّلام ) قد خرج فيمن خرج لاستقبال أخيه وحذّره عاقبة ما يقصده المتوكل ومن ثم أنبأه أنه لا يجتمع والمتوكل في مجلس ، وكان كما قال الإمام ( عليه السّلام ) حتى قتل المتوكل .[10]
رعاية الإمام الهادي ( عليه السّلام ) لشيعته وقضاء حوائجهم
كتب الإمام الهادي ( عليه السّلام ) كتابا حذّر فيه محمد بن الفرج الرخجي جاء فيه :
« يا محمد ! اجمع أمرك وخذ حذرك » ، فلم يفهم ما أراده الإمام بكلامه هذا حيث قال محمد : فانا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد - أي الإمام - بما كتب حتى ورد رسول حملني من وطني مصفّدا بالحديد ، وضرب على كل ما أملك وكنت في السجن ثماني سنين .
ونجد أن رعاية الإمام ( عليه السّلام ) لم تنقطع عن محمد هذا حتى كتب إليه وهو في السجن مبشّرا له بالخروج من السجن ثم أوصاه : يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي .
وقال محمد : فقرأت الكتاب وقلت في نفسي : يكتب إلي أبو الحسن بهذا وأنا في السجن إنّ هذا لعجب ، فما لبثت إلّا أيّاما يسيرة حتى فرّج عني وحلّت قيودي وخلي سبيلي[11].
ومن ذلك أيضا ما حدث بأحد أصحابه المتضررين من الحكم العباسي ، حيث يقول قصدت الإمام يوما فقلت : ان المتوكل قطع رزقي ، وما أتّهم في ذلك إلّا علمه بملازمتي لك ، فينبغي أن تتفضّل عليّ بمساءلته . .
فقال الإمام ( عليه السّلام ) له : تكفى إن شاء اللّه .
قال : فلما كان الليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولا ، فجئت فوجدته في فراشه .
فقال : يا أبا موسى يشتغل شغلي عنك وتنسينا نفسك . أيّ شيء لك عندي به ؟ فقلت : الصلة الفلانيّة ، وذكرت أشياء ، فأمر لي بها وبضعفها ، فقلت للفتح : وافى علي بن محمد إلى هاهنا ؟ وكتب رقعة ؟ قال : لا . قال فدخلت على الإمام فقال لي : يا أبا موسى هذا وجه الرضا . فقلت ببركتك يا سيدي ، ولكن قالوا : انك ما مضيت إليه ولا سألت - أي المتوكل - فأجابه الإمام ( عليه السّلام ) مصححا له رؤيته وتفكيره محاولا أن يرتفع به إلى الانشداد باللّه الواحد القادر سبحانه ، بقوله :
إن اللّه تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمات إلّا إليه ، ولا نتوكل في الملمات إلّا عليه وعوّدنا - إذا سألناه - الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا[12].
فكان الإمام ( عليه السّلام ) على اطلاع دائم على الوضع والظروف التي كان يعيشها أصحابه وشيعته وهو يعمل جادّا من أجل تخفيف وطأة ذلك عنهم لما يعلمه من سوء ظروفهم الاقتصادية والسياسية ، وما تقوم به السلطة العباسية من التضييق وخلق ظروف يصعب عليهم التحرك أو العمل فيها فضلا عن محاربتهم اقتصاديا وسياسيا وربّما كان يتوخى الإمام ( عليه السّلام ) من ذلك أمورا مثل :
1 - تقوية صلتهم وتوجههم للارتباط باللّه سبحانه وحده .
2 - قضاء حوائجهم الخاصة .
3 - إعادة الثقة بأنفسهم لمداومة نصرة الحق وخذلان الباطل .
4 - تقوية صلتهم به والأخذ عنه وعن الثقات الذين يشير الإمام إليهم للتعامل معهم .
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) والغلاة
ظهر في عصر الإمام ( عليه السّلام ) أشخاص وبرزت مجموعات تدعو إلى آراء وتوجهات خاصة بهم تحاول خداع السذّج من الناس لصرفهم عن قيادة الإمام ( عليه السّلام ) وتشكيكهم في معتقداتهم لغرض تفتيت الحركة الشيعية وتحجيم دورها .
ولا يبعد أن تكون السلطة من وراء بعضها بواسطة أيادي كان يهمّها أن تضعف حركة الإمام ( عليه السّلام ) وتضيق دائرة تأثيره فيما تبتدعه من أفكار هدّامة منافية للاسلام .
ومن هؤلاء الغلاة والمنحرفين علي بن حسكة والقاسم اليقطيني . ولما سئل الإمام ( عليه السّلام ) من قبل أصحابه عن معتقدات ( علي بن حسكة ) قال الإمام ( عليه السّلام ) عنها : « ليس هذا ديننا فاعتزله »[13].
وعن محمد بن عيسى - أحد أصحاب الإمام ( عليه السّلام ) - قال : كتب إلي أبو الحسن العسكري ابتداءا منه : لعن اللّه القاسم اليقطيني ولعن اللّه علي بن حسكة القمي ، انّ شيطانا يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غرورا[14].
إلى غيرها من المواقف الكثيرة للإمام ( عليه السّلام ) بهذا الخصوص لبيان وجه الحق وإثباتا للعقيدة الحقة وتجنيبا لأصحابه وشيعته من الانحراف والزيغ .
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) والثورات في عصره
إن الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة وظروف القهر والاستبداد السياسي التي عانت منها الأمة إبّان عصر الدولة العباسية الثاني حفّزت كثيرا من معارضي الدولة على الخروج المسلّح عليها فحدثت عدّة انتفاضات وثورات في أمصار الدولة كما كانت هناك حركات انفصالية قامت نتيجة لها دول وامارات في أمصار مختلفة .
ولا ندعي شرعية جل هذه الحركات مع صعوبة معرفة موقف الإمام ( عليه السّلام ) منها للحيطة والسرية التي كانت سمة تعامل الإمام وشيعته مع الأحداث إذ كانت وصاياه وتعليماته إلى خاصته وشيعته تتّسم بأعلى درجات السرية ، وكانت تلك الثورات والانتفاضات على نوعين :
1 - الحركات والثورات التي تدعو إلى الرضا من آل محمد ( صلّى اللّه عليه واله ) .
2 - حركات معارضة لأسباب ودوافع متعددة منها الظلم والتعسّف السلطوي لحكام بني العباس وجور الولاة والامراء وقوّاد الجند الأتراك ؛ لما امتازت به هذه الحقبة الزمنية من بروز دور واسع للأتراك في إدارة السلطة .
الإمام الهادي ( عليه السّلام ) وأساليب مواجهة السلطة
إن إبعاد الإمام الهادي ( عليه السّلام ) عن المدينة وإقامته قريبا من مركز الخلافة في سامراء ما كان إلّا لتحصى عليه حركاته وسكناته ومن ثم إبعاده عن شيعته وأهل بيته ومحبّيه كمحاولة من السلطة العباسية لإضعاف نشاط الإمام وتحجيم دوره وبالتالي إخضاعه لرقابة مشددة للتعرف على مدى تحرّكه أوّلا ثم التعرف على شيعته وأصحابه ثانيا وإتّخاذ الإجراءات الكفيلة بإفشال تحرّكهم ومنع تأثير الإمام ومنع انتشار فكر الإمام ( عليه السّلام ) بين أبناء الأمة الاسلامية التي عرفت الإمام الرضا ومدرسته وأبناءه الذين كانوا يشكّلون الجبهة الأساسية المعارضة للحكم القائم ثالثا .
إذا ثبات الحكم العباسي كان يتوقّف على شل أيّ تحرّك ضده ، من هنا نجد أنّ تعليمات الإمام وتوجيهاته لشيعته وأصحابه كانت تمتاز بالدقة والعمق لشدة وحراجة الظرف الذي كانوا يعيشونه .
وتبرز لنا صعوبة الظرف الذي كان يحيط بالإمام ( عليه السّلام ) وشيعته من قبل السلطة العباسية الغاشمة من خلال نوع التعليمات التي كان يراعيها الإمام وشيعته وهي :
1 - اتخاذ أماكن سريّة للقاءات ، فعن إسحاق الجلاب قال : دعاني الإمام ( عليه السّلام ) فأدخلني من اصطبل داره إلى موضع واسع لا أعرفه[15].
2 - الحذر من كتابة المعلومات وما يصدر عن الإمام ( عليه السّلام ) ، فعن داود الصرمي : أمرني سيدي - الإمام الهادي - بحوائج كثيرة فقال ( عليه السّلام ) « قل : كيف تقول ؟ فلم أحفظ ما قال لي ، فمر الدواة وكتب :
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أذكره إن شاء اللّه والأمر بيده » .
3 - استعمال الأسماء السرية[16].
4 - استعمال القوة ضد العناصر التي كانت تشكّل خطرا .
5 - الاعتماد على العناصر ذات الالتزام والايمان والمخلصة في نقل الأخبار والرسائل[17].
هذا فضلا عن أساليب أخرى لإيصال المعلومات أو اتّخاذ المواقف إزاء الأحداث العامة أو غيرها عن طريق طرح الأفكار في مجالس عامّة أو خاصّة أو عن طريق الأدعية والزيارات للأئمة ( عليهم السّلام ) كما في الزيارة الجامعة الّتي تضمنت معاني سامية وأفكار عقائدية مهمّة .
لقد عاصر الإمام العسكري ( عليه السّلام ) هذه الأحداث بكل تفاصيلها وشاهد كل ما ألمّ بأبيه ( عليه السّلام ) وشيعته من اجراءات قمعية من قبل السلطة وما عانته الأمة منهم طيلة عقدين من الزمن .
[1] المناقب : 4 / 437 .
[2] الغيبة الصغرى : 118 .
[3] مروج الذهب : 4 / 11 عن المبرّد ، ولعلّ عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان : 2 / 434 وعن المسعودي السبط في تذكرة الخواص : 323 .
[4] الخرائج والجرائح : 1 / 396 ح 3 ب 11 وعنه في كشف الغمة : 3 / 182 .
[5] أصول الكافي : 1 / 501 ح 6 وعنه في الارشاد : 2 / 306 وإعلام الورى : 2 / 116 وعن الارشاد في كشف الغمة : 3 / 170 .
[6] مروج الذهب : 4 / 48 ، والكامل في التاريخ : 5 / 311 .
[7] غافر ( 40 ) : 84 - 85 .
[8] مناقب آل أبي طالب : 4 / 437 .
[9] أمالي الشيخ الصدوق : 489 .
[10] أصول الكافي : 1 / 502 ح 8 وفي ط : 2 / 9 وعنه في الارشاد : 2 / 307 وفي إعلام الورى : 2 / 121 - 122 وعن الارشاد في كشف الغمة : 3 / 171 .
[11] أصول الكافي : 1 / 500 وعنه في الارشاد : 2 / 306 وإعلام الورى : 2 / 115 وعن الارشاد في كشف الغمة : 170 .
[12] أمالي الطوسي : 285 ح 555 وعنه في مناقب آل أبي طالب : 4 / 422 .
[13] رجال الكشي : 516 ح 994 و 995 .
[14] رجال الكشي : 518 ح 996 .
[15] أصول الكافي : 1 / 498 - 499 ح 3 .
[16] يراجع تاريخ الكوفة : 393 ، ومنهاج التحرك عند الإمام الهادي : 87 - 93 .
[17] دلائل الإمامة : 219 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|