أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-9-2017
3769
التاريخ: 14-8-2017
2676
التاريخ: 19-8-2017
2850
التاريخ: 19-8-2017
2766
|
هبط موكب العظمة عراص الغاضريات، وهو يضمّ الفتية من آل عبد المطلب، والأُباة الصفوة من الأصحاب، فكانوا فرحين بما أتاهم المولى من فضله، واختصّهم به من المنحة الكبرى، حيثُ جعل أثر ميتتهم حياة للدين ومدحرة للأضاليل، فكانوا رضوان اللّه عليهم بما أودع اللّه تعالى فيهم من النيات الصادقة لايهابون في سبيل السير إليه تعالى عقبة كأداء، أو نبأً موحشاً ; من تخاذل القوم، وتدابر النفوس، وتضاءل القوى، لما عرفوه من أنّها موهبة لا يحظى بها إلاّ الأمثل فالأ مثل، فقابلوا الأخطار بجأش طامن، وجنّان ثابت، لا تزجره أيّ هائلة، وكُلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً وانبساطاً، بين ابتسامة ومداعبة، ومن فرح إلى نشاط.
وَمُذ أخَذَت فِي نَينَوى مِنهُم النَوُى ... لاَحَ بِهَا للغَدرِ بَعضُ الَعلاَئِمِ
غَدا ضَاحِكَاً هَذَا وذَا مُتبّسماً ... سُروُراً ومَا ثَغرُ المَنُونِ بَبِاسِمُ
هازل برير بن خضير عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: " ما هذه ساعة باطل! فقال برير: واللّه لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكنّي لمستبشر بما نحن لاقون، واللّه ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددت أنّهم مالوا علينا الساعة " .
وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين: " ما هذه ساعة ضحك! قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟! ما هو إلاّ أن يميل علينا هؤلاء الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور " .
وناهيك بعباس بن أبي شبيب الشاكري حينما برز إلى الحرب، وقد أحجم القوم عنه ; لأنّهم عرفوه بالإقدام والبسالة، فلمّا رأى أنّه لم يبارزه أحد ألقى ما عليه من درع ولامة، فاغتنمها القوم فرصة، ومع ذلك لم يبرز إليه أحد، يكنّهم رموه بالسهام والحجارة، وأنّه ليطرد أكثر من مائتين، فرحاً مبتهجاً بما يلاقيه من حبور ونعيم.
وإنّي لأعجب من الرواة حملة التاريخ إذا توسّعوا في النقل وقذفوا أُولئك الأُباة الصفوة، والغلب المصاليت، بما تندى منه وجه الإنسانية، ويأباه الوجدان الصادق، فقيل: " كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم، وتتغيّر ألوانهم، كُلِّما اشتدّ الحال، وضاق المجال، إلاّ الحسين فإنّ أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير " .
وذلك بعد أن أعوزتهم الوقعة في شهيد الإباء، فلم يجدوا للغمز فيه نصيباً، فمالوا على أصحابه وأهل بيته الذين قال فيهم الإمام (عليه السلام): " إنّي لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوفى من أهل بيتي " ، " وقد استلمتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني، استيناس الطفل إلى محالب أُمه " .
وليس ذلك إلاّ من الداء الدفين بين أضالع قوم دافوا السمَّ في الدّسم، إلى سذج آخرين حسبوه حقيقة راهنة، فشوّهوا وجه التاريخ، غير أنّ البصير الناقد لا تخفى عليه نفسية القوم، ولا ما جاؤوا به.
وأعجب من ذلك قول محفر ليزيد: " إنّا أحطنا بهم، وهم يلوذون عنّا بالآكام والحفر، لواذ الحمام من الصقر " .
بفيك الكثك أيّها القائل، كأنّك لم تشاهد ذلك الموقف الرهيب، فترى ما للقوم من بسالة وإقدام ومفادات دون الدين الحنيف، حتّى أغفل يومهم مع ابن المصطفى أيام صفّين وما شاكلها من حروب دامية، ووقائع هائلة، وحتّى أخذت أندية الكوفة لا تتحدّث إلاّ عن شجاعتهم.
أجل، إنّ تلك الأهوال أدهشتك، فلم تدرِ ما تقول، أو إنّ الشقّة بعدت عليك فنسيت ما كان، ولكن هل غاب عن سمعك صراخ الأيامى، وعويل الأيتام في دور الكوفة، حتّى طبق أرجاءها من جراء ما أوقعه أُولئك الصفوة بأعداء اللّه ورسوله، بسيوفهم الماضيّة. والعذر لك أنّك أدركت ساعة العافية، فطفقت تشوّه مقامهم المشكور، طلباً لمرضاة (يزيد الخمور).
ولقد صرّح عن صدق نيّاتهم وإخلاصهم في التضحية عدوهم الألدّ عمرو بن الحجّاج محرّضاً قومه: " أتدرون من تقاتلون؟! تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، تقاتلون قوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه، على قلتهم، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: قد صدقت الرأي، ما رأيت أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم " ، " ولو خرجتم إليهم وحداناً لاتوا عليكم " .
وقيل لرجل شهد يوم الطفّ مع عمر بن سعد: " ويحك أقتلتم ذرية رسول اللّه؟
فقال: عضضت بالجندل، إنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأُسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين حياضّ المنيّة، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين لا أُم لك؟ " .
وأيّ فرد منهم أقلقه الحال حتّى ارتعدت فرائصه؟! أهو زهير بن القين الذي وضع يده على منكب الحسين وقال مستأذناً:
إقدِم هُدِيتَ هَادِياً مَهدِيا ... فَاليَومَ أَلقى جَدّكَ النَبّيا!
أم ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسين وهو في آخر رمق من الحياة، فكأنّه لم يقنعه عن المفادات كُلّ ما لاقاه من جهد وبلاء؟!
أم أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمّه في سبيل السير إلى ربِّه سبحانه، كُلّ ما هناك من فوادح وآلام إلاّ الصلاة التي دنا وقتها، فقال للحسين: " نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا واللّه لا تُقتل حتّى أُقتل دونك، وأحب أن ألقى اللّه وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها، فقال الحسين: " ذكرت الصلاة جعلك اللّه من المصلّين الذاكرين " ؟!
أم سعيد الحنفي الذي تقدّم أمام الحسين وقت الصلاة واستهدف لهم، فأخذوا يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً، حتّى سقط لكثرة نزف الدم ، فقال للحسين: أوفيت يابن رسول اللّه؟! قال: " نعم، أنت أمامي في الجنّة "؟!
أم ابن شبيب الشاكري الذي ألقى جميع لامته لتقرب منه الرجال، فيموت، في حين نرى الكماة الأبطال المعروفين بالشجاعة والإقدام يتدرعون للحرب كي لا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم؟
أم الغفاريان اللذان استأذنا الحسين في الحملة وهما يبكيان، فقال (عليه السلام) لهما: " ما يبكيكما، فواللّه إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين "؟!
فقالا: ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك أبا عبد اللّه، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على الدفع عنك، والذب عن حرمك " ، فجزّاهما الحسين خيراً؟!
وإذا تأمّلنا قول الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام): " إنّ أصحاب جدّي الحسين لم يجدوا ألم مسّ الحديد " ، وضحَ لنا ما عليه أُولئك الأطايب من الثبات، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح، ولعاً منهم بالغاية، شوقاً إلى جوار المصطفى.
ولا يستغرب هذا من يعرف حالة العاشق، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بكُلِّ ما يلاقيه من عناء ونكد، حكى المؤرّخون أنّ عزّة دخلت على كثير الشاعر وهو في خبائه يبري سهاماً له، ولما نظر إليها أدهشه الحال، وأبهره الجمال، فأخذ يبري أصابعه، وسالت الدماء، وهو لا يحسّ بالألم .
وأكبر مثال على ذلك حكاية الكتاب المجيد حالة النسوة حينما شاهدن جمال الصدّيق يوسف (عليه السلام)، فقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] .
وإذا كانت النسوة لم يشعرن بألم قطع المدية أيديهنّ، لمحض جمال الصديق، فليس من الغريب ألا يجد أصحاب الحسين (عليه السلام) ـ وهم زبد العالم كُلِّه ـ ألم مسِّ الحديد عند نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيّد الشهداء (عليه السلام).
هذا ما عليه الأصحاب من سرّ المفادات، وقد كان مُرشدهم إلى ذلك، والمقدّم فيهم (حامل اللواء)، إذا لم يكن هياباً بما شاهده من لغط، وصخب، وضوضاء، وصهيل، وجحفل مجر، يتبعه جيش لجب، وقد أخذ ابن ميسون عليهم أقطار الأرض وآفاق السماء.
بِجَحافِل بالطّفِ أُولهَا ... وأخيرُهَا بالشّامِ مُتصلِّ
فلا يرى إلاّ وجوهاً عابسة، كُلّ يتحرّى استئصال شأفة الإمامة، وإزهاق من يجنح إليها، و" قمر الهاشميين " أسرة وجهه، تشرق كالبدر المنير ; لأنّه (عليه السلام) يجد ببصيرته الهادية له إلى المفادات قرب الأجل المضروب، وحصول الضالة المنشودة، وهذا كُلّه بعد العلم بأنّه إذا فارق أخاه في ذلك الموقف يكون في سعة من الخطر.
وأنا لكبر موقفه وثباته حينما قال لهم أبو عبد اللّه (عليه السلام): " هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، فأنتم في إذن منّي، فإنّ القوم لم يطلبوا غيري، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري، وليأخذ كُلِّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سوادكم هذا " .
هنا كان لعبّاس الشرف والحفاظ موقفه المشهود الذي أظهر فيه من قوّة الإيمان، وغزارة العلم، وعوامل الشهامة، ما أوقف جوالة الفكر، وحيرة نفاذة الحلم، حيث ابتدر الجماعة بقوله: " ولِمَ نفعل ذلك لا أبقانا اللّه بعدك "؟! وتابعه الهاشميّون الصفوة والصحب الأكارم، متخذين قوله حقيقة راهنة، من معلم هذّبته المعرفة، وبصّرته التجارب، وإنّه لم يرد بقوله إلاّ التضحية الخالّصة، والسعادة الخالدة، فأجابوا بما انحنت عليه الأضالع من إيثار موتة العزّ دون سبط الرسول على حياة مخدجة بعده، وإن كانت محفوفة بنعومة من العيش.
فقال آل عقيل: " قبّح اللّه العيش بعدك، نفديك بأنفسنا وأهالينا ".
وقال ابن عوسجة: " لو لم يكن معي سلاح لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت دونك ".
وقال سعيد الحنفي: " أنحن نخلّي عنك؟! لا واللّه حتّى يعلم اللّه أنا قد حفظنا وصيّة رسول اللّه فيك، ولو علمت أنّي أُقتل ثُمّ أُحيى، ثُمّ أُقتل، ثُمّ أُحرق حيّاً، ثُمّ أُذرى يفعل بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثُمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ".
وتكلم الجماعة بما يشبه ذلك .
فأجَادُوا الجَوابَ واختَرطُوا البيـ ... ـضَ اهتَياجَاً إلى جِلادِ الأعَادِي
وانثَنَوا للوغَى غِضَابَ أُسود ... عَصِفتْ فِي العَديِ بصَرصِر عَادِ
حَرسِوُه حتّى احتسُوا جُرعِ المَو ... تِ ببيضِ الضَبَا وسُمرِ الصِعَادِ
سَمحَوُا بالنُفُوسِ فِي نُصرةِ الدِ ... ينِ وأدّوا فِي اللّهِ حَقّ الجِهَادِ
وبعد أن عرف الحسين منهم صدق النيّة والإخلاص في المفادات أوقفهم على غامض القضاء، وقال: " إنّي أُقتل وكلّكم تقتلون، حتّى القاسم وعبد اللّه الرضيع، إلاّ السجّاد، فإنّه أبو الأئمة "، ثُمّ كشف عن أبصارهم، فرأوا ما حباهم اللّه من نعيم الجنّان، وعرفهم منازلهم فيها .
وليس ذلك في القدرة الإلهية بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، ولقد حكى المؤرّخون وقوع نظير هذا لسحرة فرعون لمّا آمنوا بموسى (عليه السلام) وأراد فرعون قتلهم، فإنّهم شاهدوا منازلهم في الجنّة .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|