أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-5-2020
5020
التاريخ: 30-4-2020
4696
التاريخ: 6-5-2020
3649
التاريخ: 13-6-2020
26993
|
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [هود: 1 - 4]
قد بينا تفسير {الر} والأقاويل التي فيها في، أول البقرة فلا معنى لإعادته {كتاب}يعني القرآن أي هو كتاب {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}ذكر فيه وجوه: أحدها أن معناه {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}فلم ينسخ منها شيء كما نسخت الكتب والشرائع {ثم فصلت}ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام عن ابن عباس وثانيها:أن معناه {أحكمت آياته}بالأمر والنهي {ثم فصلت}بالوعد والوعيد والثواب والعقاب عن الحسن وأبي العالية وثالثها: {أحكمت آياته}جملة ثم فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلف أمكن من النظر والتدبر عن مجاهد ورابعها : أحكمت في نظمها بأن جعلت على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزا ثم فصلت بالشرع والبيان المفروض فكأنه قيل محكم النظم مفصل الآيات عن أبي مسلم وخامسها : أتقنت آياته فليس فيها خلل ولا باطل لأن الفعل المحكم ما قد أتقنه فاعله حتى لا يكون فيه خلل ثم فصلت بأن جعلت متتابعة بعضها إثر بعض .
{من لدن حكيم}أي: إن هذا الكتاب أتاكم من عند حكيم في أحواله وتدابيره {خبير}أي: عليم بأحوال خلقه ومصالحهم وفي هذه الآية دلالة على أن كلام الله سبحانه محدث لأنه وصفه بأنه أحكمت آياته ثم فصلت والإحكام من صفات الأفعال وكذلك التفصيل ثم قال {من لدن حكيم} وهذه الإضافة لا تصح إلا في المحدث لأن القديم يستحيل أن يكون صادرا من غيره وقوله {ألا تعبدوا إلا الله} معناه أنزل هذا الكتاب ليأمركم {ألا تعبدوا إلا الله} ولكي لا تعبدوا إلا الله كما يقال كتبت إليك أن لا تخرج من الدار وأن لا تخرج بالنصب والجزم {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}هذا إخبار من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه مخوف من مخالفة الله وعصيانه باليم العقاب مبشر على طاعة الله بجزيل الثواب {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} ومعناه :اطلبوا المغفرة واجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة وقيل معناه استغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستأنف متى وقعت منكم المعصية عن الجبائي وقيل إن {ثم}هاهنا بمعنى الواو عن الفراء وهذا لأن الاستغفار والتوبة واحد فتكون التوبة تأكيدا للاستغفار.
{يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعني :أنكم متى استغفرتموه وتبتم إليه يمتعكم في الدنيا بالنعم السابغة في الخفض والدعة والأمن والسعة إلى الوقت الذي قدر لكم أجل الموت فيه وقال الزجاج :يريد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} قيل إن الفضل بمعنى التفضيل والإفضال أي :ويعط كل ذي إفضال على غيره بمال أو كلام أو عمل بيد أو رجل جزاء إفضاله فيكون الهاء في فضله عائدا إلى ذي الفضل .وقيل :إن معناه يعطي كل ذي عمل صالح فضله أي :ثوابه على قدر عمله فإن من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الجنة وعلى هذا فالأولى أن تكون الهاء في فضله عائدا إلى اسم الله تعالى {وإن تولوا}أي:أعرضوا عما أمروا به وقيل: معناه وإن تتولوا أنتم أي تعرضوا فحذف إحدى التاءين ولذلك شدد ابن كثير في رواية البزي عنه {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}أي: كبير شأنه وهو يوم القيامة وهذا الخوف ليس في معنى الشك بل هو في معنى اليقين أي: فقل لهم يا محمد :إني أعلم أن لكم عذابا عظيما .وإنما وصف اليوم بالكبير لعظم ما فيه من الأهوال {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ}أي:في ذلك اليوم إلى حكم الله مصيركم لأن حكم غيره يزول فيه .وقيل:معناه إليه مصيركم بأن يعيدكم للجزاء {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يقدر على الإعادة والبعث والجزاء فاحذروا مخالفته .
______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج5،ص240-242.
{الر}مثل ألم في أول سورة البقرة ، فراجع . {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}. المراد بالكتاب القرآن ، والمعنى ان هذا القرآن واضح المعاني محكم النظم ، لا نقص فيه ولا خلل ، لأنه ممن يقدّر الأمور ويدبرها على أساس العلم والحكمة ، قال بعض العارفين : ان للَّه كتابين : واحد تكويني ، وهو هذا الكون ، والآخر تدويني ، وهو القرآن ، وكل منهما محكم من جميع جهاته على أتم الوجوه وأكملها . . وتكلم العلماء من أديان شتى عن عظمة القرآن ، نقلت طرفا من أقوالهم في كتاب {الإسلام والعقل » فصل « النبوة » .
ومن الصدف اني قرأت - وأنا أفسر هذه الآية - مقالا عن كتاب « محمد » للمستشرق الفرنسي مكسيم رودينسون ، نشرته مجلة المصور المصرية في عدد 22 تشرين الثاني سنة 1968 ، وفيه : « يؤكد المؤلف ان القرآن نقل إلى الأجيال التالية رسالة الإنسان المقهور المستغل ، ذلك الإنسان الثائر على الظلم والقهر ، وزوده بحافز التسلح بالقوة لكي يقهر المستبدين والظالمين والمنافقين - ثم قال المؤلف - ان الإسلام نظام وعقيدة وأسلوب حياة ، ونظرة شاملة إلى الكون والإنسان » .
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهً إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ}. ياء انني لمحمد ( صلى الله عليه واله ) ، وهاء منه للَّه تعالى ، ونذير بالعقاب على المعصية ، وبشير بالثواب على الطاعة . .
بعد أن ذكر سبحانه ان آيات القرآن محكمة ومفصلة قال : من هذه الآيات التوحيد والإخلاص في العبادة للَّه وحده ، والاعتراف بأن محمدا ( صلى الله عليه واله ) ينذر ويبشر بلسان اللَّه تعالى .
{وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} . أي ان تعبدوا اللَّه وحده ، وتؤمنوا بنبوة محمد ، وتطلبوا المغفرة من اللَّه ، وتتوبوا إليه ، والفرق بين الاستغفار والتوبة ان الاستغفار طلب العفو عما مضى بصرف النظر عما يأتي ، أما التوبة فهي طلب الغفران عن الماضي ، مع العهد على ترك المعاصي في المستقبل .
{يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}. بعد أن
أمر سبحانه بالإخلاص للَّه في العبادة ، والاعتراف لمحمد ( صلى الله عليه واله ) بالرسالة ، وبالاستغفار والتوبة ، بعد هذا ذكر سبحانه ان جزاء التائبين المطيعين في الدنيا ان لا يستأصلهم كما استأصل الكافرين من قبلهم ، بل يبقيهم إلى أن يستوفوا آجالهم ، أما جزاؤهم في الآخرة فلكل من الثواب حسب عمله قلة وكثرة .
{وإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}بكثرة أهواله وشدتها ، وهي جزاء من تولَّى وأعرض عن الحق {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}وبقدرته يحيي الموتى ، ويجمع للحساب ، ويجزي كلا بما يستحق ، وهو القاهر فوق عباده .
_________________
1- تفسير الكاشف،محمد جواد مغنيه،ج4،ص204-205.
السورة كما يظهر من مفتتحها ومختتمها والسياق الذي يجري عليه آياتها تبين غرض الآيات القرآنية على كثرتها وتشتتها، وتصف المحصل من مقاصدها على اختلافها والملخص من مضامينها.
فتذكر أنها على احتوائها معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الإلهية والأخلاق الكريمة الإنسانية، والأحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات والمعاملات والسياسات والولايات ثم وصف عامة الخليقة كالعرش والكرسي واللوح والقلم والسماء والأرض والملائكة والجن والشياطين والنبات والحيوان والإنسان، ووصف بدء الخليقة وما ستعود إليه من الفناء والرجوع إلى الله سبحانه.
وهو يوم البعث بما يتقدمه من عالم القبر وهو البرزخ ثم القيام لرب العالمين والحشر والجمع والسؤال والحساب والوزن وشهادة الأشهاد ثم فصل القضاء ثم الجنة أو النار بما فيهما من الدرجات والدركات.
ثم وصف الرابطة التي بين خلقة الإنسان وبين عمله وما بين عمله، وما يستتبعه من سعادة أوشقاوة ونعمة أو نقمة ودرجة أو دركة، وما يتعلق بذلك من الوعد والوعيد والإنذار والتبشير بالموعظة والمجادلة الحسنة والحكمة.
فالآيات القرآنية على احتوائها تفاصيل هذه المعارف الإلهية والحقائق الحقة تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل وتلك فروعه، وهي الأساس الذي بني عليه بنيان الدين وهو توحيده تعالى توحيد الإسلام بأن يعتقد أنه تعالى هو رب كل شيء لا رب غيره ويسلم له من كل وجهة فيوفي له حق ربوبيته، ولا يخشع في قلب ولا يخضع في عمل إلا له جل أمره.
وهذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها وشرائعها بالتحليل، وهو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب.
فالسورة تبين ذلك بنحو الإجمال في هذه الآيات الأربع التي افتتحت بها ثم تأخذ في بيانه التفصيلي بسمة الإنذار والتبشير بذكر ما لله من السنة الجارية في عباده، وإيراد أخبار الأمم الماضية، وقصص أقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى (عليه السلام)، وما ساقهم إليه الاستكبار عن إجابة الدعوة الإلهية والإفساد في الأرض والإسراف في الأمر، ووصف ما وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أوعد الله به الذين كفروا وكذبوا بالآيات، وتبين في خلال ذلك أمورا من المعارف الإلهية الراجعة إلى التوحيد والنبوة والمعاد.
ومما تقدم يظهر ما في قول بعضهم عند ما ذكر غرض هذه السورة: أنها في معنى سورة يونس وموضوعها، وهو أصول عقائد الإسلام في الإلهيات والنبوات والبعث والجزاء وعمل الصالحات وقد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل (عليهم السلام). انتهى.
وقد عرفت أن السورتين مسوقتان لغرضين مختلفين لا يرجع أحدهما إلى الآخر البتة فسورة يونس تبين أن السنة الإلهية جارية على القضاء بين الرسل وبين أممهم المكذبين لهم، ثم توعد هذه الأمة بما جرى مثله على الذين من قبلهم، وسورة هود تبين أن المعارف القرآنية ترجع بالتحليل إلى التوحيد الخالص كما أن التوحيد يعود بحسب التركيب إلى تفاصيل المعارف الأصلية والفرعية.
والسورة - على ما تشهد به آياتها بمضامينها والاتصال الظاهر بينها - مكية نازلة دفعة واحدة، وقد روي عن بعضهم استثناء قوله تعالى:{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك:}الآية - 12 فذكر أنها مدنية.
واستثنى بعضهم قوله:{أ فمن كان على بينة من ربه:}الآية - 17، وبعضهم قوله تعالى:{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل:}الآية - 114، ولا دليل على شيء من ذلك من طريق اللفظ، وظاهر اتصالها أنها جميعا مكية.
قوله تعالى:{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}المقابلة بين الإحكام والتفصيل الذي هو إيجاد الفصل بين أجزاء الشيء المتصل بعضها ببعض، والتفرقة بين الأمور المندمجة كل منها في آخر تدل على أن المراد بالإحكام ربط بعض الشيء ببعضه الآخر وإرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذي أجزاء وأبعاض.
ومن المعلوم أن الكتاب إذا اتصف بالإحكام والتفصيل بهذا المعنى الذي مر فإنما يتصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى والمضمون لا من جهة ألفاظه أو غير ذلك، وأن حال المعاني في الإحكام والتفصيل والاتحاد والاختلاف غير حال الأعيان فالمعاني المتكثرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الأصل المحفوظ في الجميع وهو بعينه على إجماله هذه التفاصيل، وهي بعينها على تفاصيلها ذاك الإجمال وهذا كله ظاهر لا ريب فيه.
وعلى هذا فكون آيات الكتاب محكمة أولا ثم مفصلة ثانيا معناه أن الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها وتشتت مقاصدها وأغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، وغرض فارد أصلي لا تكثر فيه ولا تشتت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصدا من المقاصد ولا ترمي إلى هدف إلا والغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه والحقيقة المطلوبة منه.
فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته وتفرق أبعاضه إلا غرض واحد متوحد إذا فصل كان في مورد أصلا دينيا وفي آخر أمرا خلقيا وفي ثالث حكما شرعيا وهكذا كلما تنزل من الأصول إلى فروعها ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، ولا يخطي غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كل واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال، وهي بتحليلها وإرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.
فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزه وكبريائه مثلا في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وفي مقام الأخلاق هو التخلق بالأخلاق الكريمة من الرضا والتسليم والشجاعة والعفة والسخاء ونحو ذلك والاجتناب عن الصفات الرذيلة، وفي مقام الأعمال والأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة والورع عن محارم الله.
وإن شئت فقل: إن التوحيد الخالص يوجب في كل من مراتب العقائد والأخلاق والأعمال ما يبينه الكتاب الإلهي من ذلك كما أن كلا من هذه المراتب وكذلك أجزاؤها لا تتم من دون توحيد خالص.
فقد تبين أن الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف والشرائع القرآنية إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركب في كل مورد من موارد العقائد والأوصاف والأعمال مع خصوصية ذلك المورد أنتج حكما يخصه من الأحكام القرآنية، وبذلك يظهر: أولا: أن قوله:{كتاب}خبر لمبتدإ محذوف والتقدير: هذا كتاب، والمراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسم إلى السور والآيات، ولا ينافي ذلك ما ربما يذكر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإن هذا الكتاب المقرومتحد مع ما في اللوح اتحاد التنزيل مع التأويل.
وثانيا: أن لفظة{ثم}في قوله:{ثم فصلت}إلخ، لإفادة التراخي بحسب ترتيب الكلام دون التراخي الزماني إذ لا معنى للتقدم والتأخر الزماني بين المعاني المختلفة بحسب الأصلية والفرعية أو بالإجمال والتفصيل.
ويظهر أيضا ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الآية كقول بعضهم: إن معناها أحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب والشرائع ثم فصلت ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام.
وفيه: أن الواجب على هذا المعنى أن يقيد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإن وجود النسخ بين الآيات القرآنية نفسها مما لا ينبغي الارتياب فيه.
والتقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية.
وكقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب.
وفيه أنه تحكم لا دليل عليه أصلا.
وكقول بعضهم: إن المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزا، وتفصيلها بالشرح والبيان.
والكلام في هذا الوجه كسابقه.
وكقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها ولا باطل، والمراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض.
وفيه: أن التفصيل بهذا المعنى غير معهود لغة إلا أن يفسر بمعنى التفرقة والتكثير ويرجع حينئذ إلى ما قدمناه من المعنى.
وكقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته جملة ثم فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلف أمكن من النظر والتأمل.
وفيه: أن الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى:{إنا أنزلناه في ليلة مباركة:}الدخان: - 3، وقوله:{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا:}إسراء: - 106 وما في هذا المعنى من الآيات مما يدل على أن للقرآن مرتبة عند الله هي أعلى من سطح الأفهام ثم نزل إلى مرتبة تقبل التفهم والتفقه رعاية لحال الأفهام العادية كما يشير إليه أيضا قوله:{ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ:}الزخرف: - 4.
وأما آيتنا التي نحن فيها كتاب أحكمت آياته ثم فصلت}إلخ، فقد علق فيها الإحكام والتفصيل معا على الآيات، وليس ذلك إلا من جهة معانيها فتفيد أن الإحكام والتفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثرة فلها جهة وحدة وبساطة وجهة كثرة وتركب، وينطبق على ما قدمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة التأويل والتنزيل فافهم ذلك.
وكقول بعضهم: إن المراد بالإحكام والتفصيل إجمال بعض الآيات وتبيين البعض الآخر، وقد مثل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة:{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ:}الآية: - 24، فإنه مجمل محكم يتبين بما ورد فيها من قصة نوح وهود وصالح. وهكذا.
وفيه: أن ظاهر الآية أن الإحكام والتفصيل متحدان من حيث المورد بمعنى أن الآيات التي ورد عليها الإحكام بعينها هي التي ورد عليها التفصيل لا أن الإحكام وصف لبعض آياته والتفصيل وصف بعضها الآخر كما هو لازم ما ذكره.
وقوله تعالى:{من لدن حكيم خبير}الحكيم من أسمائه الحسنى الفعلية يدل على إتقان الصنع، وكذا الخبير من أسمائه الحسنى يدل على علمه بجزئيات أحوال الأمور الكائنة ومصالحها، وإسناد إحكام الآيات وتفصيلها إلى كونه تعالى حكيما خبيرا لما بينهما من النسبة.
قوله تعالى:{ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ }الآية، وما بعدها تفسير لمضمون الآية الأولى:{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وإذ كانت الآية تتضمن أنه كتاب من الله إلى... له آيات محكمة ثم مفصلة كانت العناية في تفسيرها متوجه إلى إيضاح هذه الجهات.
ومن المعلوم أن هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه على الناس ويبلغهم له وجه خطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجه خطاب إلى الناس بوساطته أما وجه خطابه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الذي يتلقاه الرسول من وحي الله فهو أن أنذر وبشر وادع الناس إلى كذا وكذا، وهذا الوجه هو الذي عني به في أول سورة يونس حيث قال تعالى:{أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم:}يونس: - 2.
وأما وجه خطابه إلى الناس وهو الذي يتلقاه الناس من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهوما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أني أدعوكم إلى الله دعوة نذير وبشير، وهذا الوجه من الخطاب هو الذي عنى به في قوله:{ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير}إلخ.
فالآية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثم تفصيلها بحكاية ما يتلقاه الناس من دعوة الرسول إياهم بتلاوة كتاب الله عليهم، وليس كلاما للرسول بطريق الحكاية ولا بتقدير القول ولا من الالتفات في شيء، ولا أن التقدير: أمركم بأن لا تعبدوا أو:{فصلت آياته لأن لا تعبدوا إلا الله}بأن يكون قوله:{لا تعبدوا}نفيا لا نهيا فإن قوله بعد:{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}معطوف على قوله: ألا تعبدوا إلا الله، وهو يشهد بأن{لا تعبدوا}نهي لا نفي.
على أن التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنه من لطيف صنعة البلاغة في الآية.
وعلى هذا فقوله:{ألا تعبدوا إلا الله}دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي عن عبادة غير الله من الآلهة المتخذة شركاء لله، وقصر العبادة فيه تعالى، وقوله:{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}أمر بطلب المغفرة من الله وقد اتخذوه ربا لهم برفض عبادة غيره ثم أمر بالتوبة والرجوع إليه بالأعمال الصالحة ويتحصل من الجميع سلوك الطريق الطبيعي الموصل إلى القرب والزلفى منه تعالى، وهو رفض الآلهة دون الله ثم طلب المغفرة والطهارة النفسانية للحضور في حظيرة القرب ثم الرجوع إليه تعالى بالأعمال الصالحة.
وقد جيء بأن التفسيرية ثانيا في قوله:{وأن استغفروا}إلخ، لاختلاف ما بين المرحلتين اللتين يشير إليهما قوله:{ألا تعبدوا إلا الله}وهي مرحلة التوحيد بالعبادة مخلصا، وقوله:{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}وهي مرحلة العمل الصالح وإن كانت الثانية من نتائج الأولى وفروعها.
ولكون التوحيد هو الأصل الأساسي والاستغفار والتوبة نتيجة وفرعا متفرعا عليه أورد النذر والبشارة بعد ذكر التوحيد، والوعد الجميل الذي يتضمنه قوله:{يمتعكم}إلخ، بعد ذكر الاستغفار والتوبة فقال:{ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير}فبين به أن النذر والبشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد ويتعلقان به ثم قال:{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا }إلخ فإن الآثار القيمة والنتائج الحسنة المطلوبة إنما تترتب على الشيء بعد ما تم في نفسه وكمل بصفاته وفروعه ونتائجه، والتوحيد وإن كان هو الأصل الوحيد للدين على سعته لكن شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها ويتفرع عليها فروعها وأغصانها،{كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها}.
والظاهر أن المراد بالتوبة في الآية الإيمان كما في قوله تعالى:{فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك:}المؤمنون: - 7 فيستقيم الجمع بين الاستغفار والتوبة مع عطف التوبة عليه بثم، والمعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا واطلبوا من ربكم غفران ما قدمتم من المعصية ثم آمنوا بربكم.
وقيل: إن المعنى اطلبوا المغفرة واجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليه بالتوبة وهو غير جيد ومن التكلف ما ذكره بعضهم أن المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية ثم توبوا إليه كلما أذنبتم في المستقبل وكذا قول آخر: إن{ثم}في الآية بمعنى الواولأن التوبة والاستغفار واحد.
وقوله:{ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهي إليه الحياة لا تتخطاه البتة، فالمراد هو التمتيع في الحياة الدنيا بل بالحياة الدنيا لأن الله سبحانه سماها في مواضع من كلامه متاعا، فالمتاع الحسن إلى أجل مسمى ليس إلا الحياة الدنيا الحسنة.
فيئول معنى قوله:{يمتعكم متاعا حسنا}على تقدير كون{متاعا}مفعولا مطلقا إلى نحو من قولنا: يمتعكم تمتيعا حسنا بالحياة الحسنة الدنيوية{ومتاع الحياة إنما يكون حسنا إذا ساق الإنسان إلى سعادته الممكنة له، وهداه إلى أماني الإنسانية من التنعم بنعم الدنيا في سعة وأمن ورفاهية وعزة وشرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل المعيشة الضنك التي يشير إليها في قوله:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا:}طه: - 124.
ولا حسن لمتاع الحياة الدنيا ولا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه فإن البعض من الناس وإن أمكن أن يؤتى سعة من المال وعلوا في الأرض ثم يحسب أن لا أمنية من أماني الإنسانية إلا وقد أوتيها لكنه في غفلة عن ابتهاج من تحقق بحقيقة الإيمان بالله ودخل في ولاية الله فآتاه الله الحياة الطيبة الإنسانية، وآمنه من ذلة الحياة الحيوانية التي لا حكومة فيها إلا للحرص والشره والافتراس والتكلب والجهالة، فالنفس الحرة الإنسانية تذم من الحياة ما يستأثره النفوس الرذيلة الخسيسة وإن استتبع الذلة والمسكنة وكل شناعة.
فالحياة الحسنة لمجتمع صالح حر أن يشتركوا في التمتع من مزايا النعم الأرضية التي خلقها الله لهم اشتراكا عن تراحم بينهم وتعاون وتعاضد من غير تعد وتزاحم بحيث يطلب كل خير نفسه ونفعها في خير مجتمعه ونفعه من غير أن يعبد نفسه ويستعبد الآخرين.
وبالجملة التمتع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمى هو تمتع الفرد بالحياة على ما تستحسنه الفطرة الإنسانية وهو الاعتدال في التمتعات المادية في ضوء العلم النافع والعمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، وأما إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العام من نعم الحياة الأرضية الطيبة بتخصيص ما يناله الأفراد بكدهم وسعيهم بالمجتمع الملتئم الأجزاء من غير تضاد بين أبعاضه أو تناقض.
وقوله:{ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}الفضل هو الزيادة وإذ نسب الفضل في قوله:{كل ذي فضل}إلى من عنده الفضل من الأفراد كان ذلك قرينة على كون الضمير في{فضله}راجعا إلى ذي الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم والفضل والزيادة من المعاني النسبية التي إنما تتحقق بقياس شيء إلى شيء وإضافته إليه.
فالمعنى: ويعطي كل من زاد على غيره بشيء من صفاته وأعماله وما يقتضيه من الاختصاص بمزيد الأجر وخصوصه موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقه أويغصب فضله أو يملكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينية وإن كانت مدنية راقية فلم تزل البشرية منذ سكنت الأرض وكونت أنواع المجتمعات الهمجية أو الراقية أو ما هي أرقى تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، ومستذلة مستعبدة مقهورة، وليس يعدل هذا الإفراط والتفريط ولا يسوي هذا الاختلاف إلا دين التوحيد.
فدين التوحيد هو السنة الوحيدة التي تقصر المولوية والسيادة في الله سبحانه وتسوي بين القوي والضعيف والمتقدم والمتأخر والكبير والصغير والأبيض والأسود والرجل والمرأة وتنادي بمثل قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ:}الحجرات: - 13، وقوله:{أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض:}آل عمران: - 195.
ثم إن وقوع قوله:{ويؤت كل ذي فضل فضله}الحاكي عن الاعتناء بفضل كل ذي فضل بعد قوله:{يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى}الدال على تمتيع الجميع مشعر: أولا: بأن المراد بالجملة الأولى المتاع العام المشترك بين أفراد المجتمع وبعبارة أخرى حياة المجتمع العامة الحسنة، وبالجملة الثانية المزايا التي يؤتاها بعض الأفراد قبال ما يختصون به من الفضل.
وثانيا: أن الجملة الأولى تشير إلى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا والثانية إلى إيتاء ثواب الآخرة قبال الأعمال الصالحة القائمة بالفرد أو إيتاء كل ذي فضل فضله في الدنيا والآخرة معا بتخصيص كل من جاء بزيادة في جهة دنيوية بما تقتضيه زيادته من المزية في جهات الحياة بإقامة كل ذي فضيلة في صفة أوعمل مقامه الذي تقتضيه صفته أوعمله ووضعه موضعه من غير أن يسوي بين الفاضل والمفضول في دينهما أوتزاح الخصوصيات وتبطل الدرجات والمنازل بين الأعمال والمساعي الاجتماعية فلا يتفاوت حال الناشط في عمله والكسلان، ولا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهم في بابه واللاعب بالعمل الحقير الهين وهكذا.
وقوله:{ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}أي فإن تتولوا إلخ بالخطاب، والدليل عليه قوله:{عليكم}وما تقدم في الآيتين من الخطابات المتعددة فلا يصغي إلى قول من يأخذ قوله:{تولوا}جمعا مذكرا غائبا من الفعل الماضي فإنه ظاهر الفساد.
وقد أغرب بعض المفسرين حيث قال في قوله تعالى:{يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى}: والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا انتهى، ولست أدري كيف استفاد من الآية ما ذكره ولعله بنى ذلك على أن الآية اشترطت للأمة الحياة الحسنة من غير استئصال إن آمنوا بالله وآياته ثم إنهم آمنوا وانتشر الإسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسل إلى أهل الدنيا عامة ولم يؤمن به عامتهم، ولا أن المؤمنين به أخلصوا جميعا إيمانهم من النفاق وسرى الإيمان من ظاهرهم إلى باطنهم ومن لسانهم إلى جنانهم.
ولو كان مجرد إيمان بعض الأمة مع كفر الآخرين كافيا في تحقق الشرط وارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في أمة نوح وهود (عليهما السلام) وغيرهما وقد دعوا أممهم إلى ما دعا إليه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، واشترطوا لهم مثل ما اشترط لأمته ثم عمهم الله بعذاب الاستئصال وكان حقا عليه نصر المؤمنين.
وقد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته:{استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا:}نوح: - 12 وحكى عن هود قوله:{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ:}هود: - 52، وحكى جملة عن نوح وهود وصالح والذين من بعدهم قولهم:{ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى:}إبراهيم: - 10.
وأما قوله:(وقد بيناه في سورة يونس أيضا)فلم يأت هناك إلا بدعوى خالية وقد قدمنا هناك أن آيات سورة يونس صريحة في أن الله سيقضي بين هذه الأمة بين نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعذبهم وينجي المؤمنين سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا.
قوله تعالى:{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}في مقام التعليل لما يفيده قوله:{ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}من المعاد، وذيل الآية، مسوق لإزاحة ما يمكن أن يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض الموت، والمعنى وإن تتولوا عن إخلاص العبادة له ورفض الشركاء فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه وهو يوم البعث بعد الموت لأن مرجعكم إلى الله والله على كل شيء قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الإماتة فإياكم أن تستبعدوا ذلك.
فالآية قرينة على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة، وروى القمي في تفسيره، مضمرا: أن المراد بعذاب يوم كبير الدخان والصيحة.
_____________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج10،ص104-113.
الاصول الاربعة في دعوة الأنبياء:
تبدأ هذه السورة ـ كما في بداية السورة السابقة وسائر سور القرآن ـ ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء، ليلتفت الناس إِلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق.
وذكر الحروف المقطعة{الر} ـ نفسه ـ دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء{الر}(2) مع ما فيه من عظمة وإِعجاز بالغين، ثمّ يبيّن بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.
أوّلا: إِنّ جميع آياته متقنة ومحكمة{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}.
وثانياً: إِنّ تفصيل حاجات الإِنسان في حياته الفردية والإِجتماعية ـ مادية كانت أو معنوية ـ مبيَّن فيها أيضاً{ثمّ فُصِّلَتْ}.
هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة، من أين أُنزل، وكيف؟! أُنزل من عند ربّ حكيم وخبير{ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
فبمقتضى حكمته أُحكمت آيات القرآن، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقاً لحاجات الإِنسان، لأنّ من لم يطلع على تمام جزئيات الحاجات الروحية والجسمية للإِنسان لايستطيع أن يصدر احكاماً جديرة بالتكامل.
الواقع، إِنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات الله .. فاستحكام القرآن من حكمته، وشرحه وتفصيله من خبرته.
وفي بيان ماهو الفرق بين{أُحكمت} و{فُصلت} بحث المفسّرون كثيراً وأبدوا احتمالات عديدة .. وأقرب هذه الإِحتمالات ـ بحسب مفهوم الآية آنفة الذكر ـ هو أنّ الجملة الأُولى تعني أنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت، كما تدل على أنّه نازل من إِله فرد، ولهذا فلايوجد أي تضادٍّ في آياته، ولا يُرى بينها أي اختلاف.
والجملة الثّانية إِشارة إِلى أنّ هذا الكتاب في عين وحدته فيه شعب وفروع متعددة تستوفي جميع حاجات الإِنسان الرّوحيّة والمادية، فهو في عين وحدته ثير، وفي عين كثرته واحد! ..
وفي الآية التالية يُبيّن أهم مايحتوية القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك{ألاّ تعبدوا إلاّ الله}(3) وهذا أوّل تفصيل لمحتوى هذا الكتاب العظيم.
والثّاني من محتويات الدعوة السماوية:{أنّني لكم منه نذير وبشير}.. نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر، وأُحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!
وثالث ما في منهج دعوتي إِليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران:{وأن استغفروا ربّكم}.
ورابعها هو أن تعودوا إِلى الله بالتوبة، وأن تتصفوا ـ بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الإِستغفار ـ بصفات الله، فإِنّ العودة إِليه تعالى لا تعني إِلاّ الإِقتباس من صفاته{ثمّ تُوبوا إِليه}.
في الواقع إِنّ أربع مراحل من مراحل الدعوة المهمّة نحو الحق سبحانه بُيّنت في أربع جمل وفي أربعة أقسام، فقسمان يتضمنان الجانب «العقيدي» والأساسي. وقسمان يتضمنان الجانب «العملي» والفوقاني.
فقبول أصل التوحيد ومحاربة الشرك، وقبول رسالة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)أصلان اعتقاديان، والتطهّر من الذنوب والتخلّق بالصفات الإِلهية ـ اللذان يحملان معنى البناء بتمام معناه ـ أمران عمليان حضّ عليهما القرآن، وإِذا تأملنا بدقّة في الآيات الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأُصول الأربعة ..
هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن، ولجميع محتوى هذه السورة أيضاً.
ثمّ تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو التالي{يمتعكم متاعاً حسناً} فاذا عملنا بهذه الأُصول فإِنّ الله سبحانه يهبنا حياة سعيدة إِلى نهاية العمر، وفوق كل ذلك فإنّ كُلاً يُعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول ...{ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية:{ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإِلهي.
واعلموا أنَّ{إِلى الله مرجعكم} كائنا من كنتم، وفي أي محل ومقام أنتم، وهذه الجملة تشير إِلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة «المعاد والبعث» ولكن لاتتصوروا ـ أبداً ـ أن قدرتكم تعدّ شيئاً تجاه قدرة الله، أو أنّكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمة عدله .. ولا تتصوروا ـ أيضاً ـ أنّه لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوباً جديداً من الحياة ..{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
علاقة الدين بالدنيا:
مايزال الكثير يظنون أن التدين هو العمل لعمارة الآخرة والسعادة بعد الموت، وأنّ الأعمال الصالحة هي الزاد والمتاع للدار الآخرة .. ولا يكترثون أبداً بأثر الدين الأصيل في الحياة الدنيا على حين أن الدين الصحيح في الوقت الذي يعمر الدار الآخرة يعمر «الدنيا» أيضاً .. وطبيعي إِذا لم يكن للدين أي تأثير على هذه الحياة الدنيا فلا تأثير له في الحياة الأُخرى أيضاً.
والقرآن الكريم يتعرض لهذا الموضوع بصراحة في آيات كثيرة، وربّما يتناول أحياناً الجزئيات من هذه المسائل، كما ورد في سورة نوح(عليه السلام) على لسان هذا النّبي العظيم مخاطباً قومه{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا }(نوح:9-11).
ويفهم البعض أنّ صلة هذه المواهب المادية في الدنيا مع الإِستغفار والتطهر من الذنوب معنوية وغير معروفة، في حين أنّه لا دليل على ذلك، بل الصلة بينهما ظاهرة معروفة.
فأي أحد لا يعلم أن الكذب والسرقه والفساد تهدم العلاقات الإِجتماعية؟ وأي أحد لايعلم أن الظلم والتبعيض والإِجحاف تجعل من حياة الناس جحيماً وتكدر صفوهم؟! وأيّ أحد يشك في حقيقة أن قبول أصل التوحيد وتكوين مجتمع توحيدي على أساس قيادة الأنبياء، وتطهير المجتمع من الذنوب والآثام، والتحلّي بالقيم الإِنسانية ـ وهي الأُصول الأربعة ذاتها التي أُشير إليها في الآيات المتقدّمة ـ يسير بالمجتمع البشري نحو هدف تكاملي أفضل، ويخلق محيطاً آمناً عامراً بالصفاء والحرية والصلاح؟
وعلى هذا الأساس نقرأ بعد هذه الأُصول الأربعة في الآيات المتقدمة قوله تعالى:{ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
_____________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص10-13.
2- شرحنا هذا المعنى وسائر التفاسير التي ذكرت للحروف المقطعة في القرآن في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف.
3- في جملة{ألا تعبدوا إلاّ الله} احتمالان: الأوّل: إِنّه على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم} ـ كما أشرنا إِليه ـ والتقدير: دعوتي وأمري إلاّ تعبدوا إلاّ الله. والثّاني: أنّه كلام الله، والتقدير: آمركم ألاّ تعبدوا إلاّ الله، ولكن جملة{إِنّني لكم منه نذير وبشير} تنسجم مع المعنى الأوّل.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|