أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-5-2020
2234
التاريخ: 7-6-2020
4570
التاريخ: 13-6-2020
14028
التاريخ: 11-6-2020
7326
|
قال تعالى:{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53 )إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 50 - 56]
عطف سبحانه قصة هود على قصة نوح فقال { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} أراد أخاهم في النسب دون الدين { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده وأطيعوه دون الأصنام { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} دخول من يفيد التعميم نفى أن يكون لهم معبود يستحق العبادة غير الله عز اسمه { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} أي : ما أنتم إلا كاذبون في قولكم إن الأصنام آلهة { يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}أي:لست أطلب منكم على دعائي لكم إلى عبادة الله جزاء { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} أي: ليس جزائي إلا على الله الذي خلقني { أَفَلَا تَعْقِلُونَ} عنى ما أقول لكم فتعلمون أن الأمر على ما أقوله.
{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قد بينا وجه تقديم الاستغفار على التوبة في أول هذه السورة { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أي: يرسل المطر عليكم متتابعا متواترا دارا وقيل : أنهم كانوا قد أجدبوا فوعدهم هود أنهم إن تابوا أخصبت بلادهم وأمرعت وهادهم (2)وأثمرت أشجارهم وزكت ثمارهم بنزول الغيث الذي يعيشون به وهذا مثل قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} فسرت القوة هنا بالمال والولد والشدة وكل ذلك مما يتقوى به الإنسان قال علي بن عيسى يريد عزا إلى عزتكم بكثرة عددكم وأموالكم وقيل: قوة في إيمانكم إلى قوة أبدانكم.
{ولا تتولوا} عما أدعوكم إليه { مجرمين} أي: مشركين كافرين { قالوا يا هود ما جئتنا ببينة} أي: بحجة ومعجزة تبين صدقك { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك} أي :لسنا بتاركي عبادة الأصنام لأجل قولك وقيل: إن {عن }جعلت مكان الباء فمعناه بقولك {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: مصدقين وإنما حملهم على دفع البينة مع ظهورها أشياء منها تقليد الآباء والرؤساء ومنها إتمامهم لمن جاء بها حيث لم ينظروا فيها ومنها أنه دخلت عليهم الشبهة في صحتها ومنها اعتقادهم لأصول فاسدة دعتهم إلى جحدها .
وإنما حملهم على عبادة الأوثان أشياء منها اعتقادهم إن عبادتها تقربهم إلى الله زلفى ومنها أن الشيطان ربما ألقى إليهم أن عبادتها تحظيهم في الدنيا ومنها أنهم ربما اعتقدوا مذهب المشبهة فاتخذوا الأوثان على صورته عندهم فعبدوها { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} هذا تمام الحكاية عن قوم هود جوابا لهود والمعنى: لسنا نقول إياها ذهب إليه ابن عباس ومجاهد { قال} أي: قال هود لقومه { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا} أي: وأشهدكم أيضا بعد إشهاد الله { أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ } أي: إن كنتم تزعمون أن آلهتكم عاقبتني لطعني عليها فإني على بصيرة في البراءة مما تشركونه مع الله من آلهتكم التي تزعمون أنها أصابتني بسوء وإنما أشهدهم على ذلك وإن لم يكونوا أهل شهادة من حيث كانوا كفارا فساقا إقامة للحجة عليهم لا لتقوم الحجة بهم فقال هذا القول إعذارا وإنذارا وقيل إنه أراد بقوله {اشهدوا} واعلموا كما قال شهد الله أي علم الله.
{ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} أي: فاحتالوا واجتهدوا أنتم وآلهتكم في إنزال مكروه بي ثم لا تمهلوني قال الزجاج: وهذا من أعظم آيات الأنبياء أن يكون الرسول وحده وأمته متعاونة عليه فيقول لهم كيدوني فلا يستطيع واحد منهم ضره وكذلك قال نوح لقومه فاجمعوا أمركم وشركاءكم الآية وقال نبينا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فإن كان لكم كيد فكيدون ومثل هذا القول لا يصدر إلا عمن هوواثق بنصر الله وبأنه يحفظه عنهم ويعصمه منهم ثم ذكر هود (عليه السلام) هذا المعنى فقال { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي: فوضت أمري إلى الله سبحانه متمسكا بطاعته تاركا لمعصيته وهذا هو حقيقة التوكل على الله سبحانه { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أيك ما من حيوان يدب على وجه الأرض إلا وهو مالك لها يصرفها كيف يشاء ويقهرها وجعل الآخذ بالناصية كناية عن القهر والقدرة لأن من أخذ بناصية غيره فقد قهره وأذله.
{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي:أنه سبحانه مع كونه قاهرا على عدل فيما يعامل به عباده والمعنى أنه يعدل ولا يجوز وقيل معناه إن ربي في تدبير عباده على طريق مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب فهو يجري على سبيل الصواب ويفعل ما يقتضيه الحكمة.
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص289-291.
2- ملرع المكان :أخصب .ووهاد جمع وهد :المطمئن من الارض ،والمكان المنخفض كأنه حفرة .
{ وإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهً ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ }بعبادة الأوثان . . وهود من عاد نسبا ووطنا ، ولذا وصفه سبحانه بأخيهم ، ورسالته هذه إلى قومه هي رسالة جميع الأنبياء ، وسبق نظيرها من نوح في الآية 26 من هذه السورة ، ومن هود نفسه في الآية 65 من سورة الأعراف ج 3 ص 347 ، وذكرنا مكان قبره ، وانه أول من تكلم بالعربية ، وانه أبو اليمن ومضر . فراجع .
{ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ}ان من يعمل للَّه لا يطلب الرزق من غيره ، وان اللَّه وحده هو الذي ينفع ويضر ، ومر تفسيره في الآية 29 من هذه السورة .
{ ويا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}. والفرق بين الاستغفار والتوبة ان الاستغفار طلب العفو عن الماضي مع صرف النظر عن الآتي ، اما التوبة فطلب العفو عما مضى مع التعهد بترك المعصية فيما يأتي { يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ولا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ }. يظهر من هذا انهم كانوا أصحاب زرع وضرع ، حيث رغَّبهم سبحانه في كثرة المطر ، كما أن قوله : { يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ }يدل على أنهم كانوا على شيء من القوة المادية والمعنوية ، ويومئ إلى ذلك قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ - 7 الفجر » .
وتسأل : لقد ربط اللَّه في هذه الآية بين الايمان ، وبين انزال المطر ، فكيف تجمع بينها وبين قولك عند تفسير الآية 2 من سورة الأنفال وغيرها : ان الايمان لا ينبت قمحا ، لأن اللَّه يجري الأمور على سنن الكون ؟ .
الجواب : أجل ، ان اللَّه يجري الأمور على سننها الكونية ، ما في ذلك ريب . .
ولكن هذا لا يمنع من وجود المعجزات ، وخوارق سنن الكون لحكمة تستدعي ذلك . . ان جميع الأسباب الطبيعية وغيرها تنتهي إلى مشيئته تعالى ، فهي وحدها سبب الأسباب ، وقد تتعلق هذه المشيئة القدسية بوجود شيء ما مباشرة وبلا واسطة
خارقا لجميع الأسباب المألوفة ، فيوجد بلا سببه المألوف كطوفان نوح ، وما إليه من المعجزات . . وقد شاء اللَّه تعالى ألا تظهر هذه المعجزات الخارقة للنواميس الا بوجود نبي من الأنبياء اثباتا لنبوته ، أو استجابة لدعوته ، أو انتقاما من أعدائه . .
ومن أجل ذلك كانت نادرة الوقوع . وبكلمة ان جريان الأشياء في هذه الحياة على أسبابها شيء ، والمعجزة التي تستند إلى مشيئة اللَّه مباشرة شيء آخر .
{ قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ }. هذا كذب منهم وبهتان ، لأن اللَّه سبحانه ما أرسل رسولا إلا وزوده بالحجة الكافية الوافية على رسالته ، ولكن قوم هود أبوا الاستجابة له ولحججه وبيناته لأنها تخالف أهواءهم ، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أقوام الأنبياء والرسل : « كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وفَرِيقاً يَقْتُلُونَ - 71 المائدة » .
{ وما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ }قال صاحب المغني : ( عن ) هنا للتعليل ، والمعنى لا نترك الشرك لمجرد قولك اتركوه بلا بينة ودليل { وما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ }هذا توضيح وتأكيد لقولهم : { وما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا }. وعلى هؤلاء وأمثالهم يصدق قول من قال : الإنسان هو الذي خلق الآلهة ، وليست الآلهة هي التي خلقت الإنسان .
{ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ }. ان قولهم هذا يصور مدى جهلهم وإيمانهم بالخرافات والأساطير . . أحجار صماء يعتقدون انها تضر من ينهى عن عبادتها ! . . ومتى بلغ الإنسان هذا الحد من الجهل فلا يجدي معه شيء ، ولذا وصفه اللَّه في العديد من آياته بالأعمى والأصم .
{ قالَ » - لهم هود - « إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهً واشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ }. لما قالوا لهود ( عليه السلام ) : ان بعض آلهتنا أصابك بسوء تحداهم بأن يجتمعوا هم وآلهتهم ، ويبذلوا كل جهد لايذائه ، وهو على استعداد لتحمل النتائج ، ويتضمن تحديه هذا التنبيه إلى انهم مغفلون ومخدوعون .
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ }هذا تعليل لعجزهم عن إيذائه واستخفافه بهم وبأصنامهم { ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها }فالكل في قبضته تعالى ، ولا يملك أحد معه لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا { إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )
فهو ينصر ويخذل ويثيب ويعاقب على أساس هذا الصراط ، صراط الحق والعدل .
وتسأل : إذا كان اللَّه سبحانه آخذا بزمام العبد وناصيته ، وهو تعالى على صراط مستقيم - فإنه يلزم من ذلك أمران : الأول أن يكون العبد مسيرا غير مخير ، كما هو شأن المقود مع القائد . الثاني أن يكون كل إنسان على صراط مستقيم في جميع أفعاله وأقواله ، لأنه تابع للَّه ، تماما كما تتبع الدابة الآخذ بزمامها ، واللَّه سبحانه على صراط مستقيم ، فينبغي أن يكون العبد كذلك ؟ .
الجواب : ليس المراد بقوله تعالى : { ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها }.
ان العبد لا إرادة له ولا اختيار في شيء ، وانما هو كناية عن قدرة اللَّه على كل شيء ، وانه هو وحده الضار النافع ردا على المشركين الذين نسبوا إلى أصنامهم لقدرة على الضر والنفع .
________________________
1- التفسير الكاشف، ، محمد جواد مغنية، ج4،صفحه 239-241.
تذكر الآيات قصة هود النبي وقومه وهم عاد الأولى، وهو (عليه السلام) أول نبي يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوح (عليه السلام)، ويشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقة والانتهاض على الوثنية، ويعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدة مواضع من كلامه:{قوم نوح وعاد وثمود}.
قوله تعالى:{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} كان أخاهم في النسب لكونه منهم وأفراد القبيلة يسمون إخوة لانتسابهم جميعا إلى أب القبيلة، والجملة معطوفة على قوله تعالى سابقا:{نوحا إلى قومه} والتقدير:{ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا} ولعل حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل:{وإلى عاد أخاهم} إلخ، ولم يقل: وهودا إلى عاد مثلا كما قال:{نوحا إلى قومه} لأن دلالة الظرف أعني:{إلى عاد} على تقدير الإرسال أظهر وأوضح.
قوله تعالى:{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} الكلام وارد مورد الجواب كان السامع لما سمع قوله:{وإلى عاد أخاهم هودا} قال: فما ذا قال لهم؟ فقيل:{قال يا قوم اعبدوا الله} إلخ، ولذا جيء بالفصل من غير عطف.
وقوله:{اعبدوا الله} في مقام الحصر أي اعبدوه ولا تعبدوا غيره من آلهة اتخذتموها أربابا من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى.
والدليل على الحصر المذكور قوله بعد:{ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} حيث يدل على أنهم كانوا قد اتخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة والشفاعة.
قوله تعالى:{ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} إلى آخر الآية، قال في المجمع، الفطر الشق عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، ومنه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق منه فظهر.
انتهى، وقال الراغب: أصل الفطر الشق طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطارا - إلى أن قال - وفطر الله الخلق وهو إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان وهو المشار إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. انتهى.
والظاهر أن الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، والخصوصية المفهومة من مثل قوله:{فطرة الله التي فطر الناس عليها} إنما نشأت من بناء النوع الذي تشتمل عليه فطرة وهي فعلة، وعلى هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، وإنما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى:{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير:} المائدة: - 110.
والكلام مسوق لرفع التهمة والعبث والمعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجرا وجزاء حتى تتهموني أني أستدر به نفعا يعود إلي وإن أضر بكم، ولست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتى يكون عبثا من الفعل بل إنما أطلب به جزاء من الله الذي أوجدني وأبدعني أ فلا تعقلون عني ما أقوله لكم حتى يتضح لكم أني ناصح لكم في دعوتي، ما أريد إلا أن أحملكم على الحق.
قوله تعالى:{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} إلى آخر الآية تقدم الكلام في معنى قوله:{استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} في صدر السورة.
وقوله:{ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} في موقع الجزاء لقوله:{استغفروا ربكم} إلخ، أي إن تستغفروه وتتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، والمراد بالسماء السحاب فإن كل ما علا وأظل فهوسماء، وقيل المطر وهو شائع في الاستعمال، والمدرار مبالغة من الدر، وأصل الدر اللبن ثم استعير للمطر ولكل فائدة ونفع فإرسال السماء مدرارا إرسال سحب تمطر أمطارا متتابعة نافعة تحيى بها الأرض وينبت الزرع والعشب، وتنضر بها الجنات والبساتين.
وقوله:{ويزدكم قوة إلى قوتكم} قيل المراد بها زيادة قوة الإيمان على قوة الأبدان وقد كان القوم أولي قوة وشدة في أبدانهم ولو أنهم آمنوا انضافت قوة الإيمان على قوة أبدانهم وقيل المراد بها قوة الأبدان كما قال نوح لقومه:{ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ:} نوح: - 12 ولعل التعميم أولى.
وقوله:{ولا تتولوا مجرمين} بمنزلة التفسير لقوله:{استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} أي إن عبادتكم لما اتخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم ومعصية توجب نزول السخط الإلهي عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم وارجعوا إليه بالإيمان حتى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة وزيادة قوة إلى قوتكم.
وفي الآية{أولا} إشعار أودلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب والسنة كما ربما أومأ إليه قوله:{يرسل السماء} وكذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ:} الأحقاف: - 24.
وثانيا: أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا والمحن، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ:} الآية الأعراف: - 96، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات 94 - 102 من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وفي أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.
قوله تعالى:{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} سألهم هود في قوله:{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم ويعودوا إلى عبادة الله وحده وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم فردوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالا وتفصيلا: أما إجمالا فبقولهم:{ما جئتنا ببينة} يعنون أن دعوتك خالية عن الحجة والآية المعجزة ولا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.
وأما تفصيلا فقد أجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم:{وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك} وعن دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة بقولهم:{وما نحن لك بمؤمنين} فآيسوه في كلتا المسألتين.
م ذكروا له ما ارتأوا فيه من الرأي لييأس من إجابتهم بالمرة فقالوا:{ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} والاعتراء الاعتراض والإصابة يقولون: إنما نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوهت به في صورة الدعوة.
قوله تعالى:{ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} أجاب هود (عليه السلام) عن قولهم بإظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثم التحدي عليهم بأن يكيدوا به جميعا ولا ينظروه.
فقوله:{إني بريء مما تشركون من دونه} إنشاء وليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبري، ولا ينافي ذلك كونه بريئا من أول أمره فإن التبرز بالبراءة لا ينافي تحققها من قبل، وقوله:{فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون} أمر ونهي تعجيزيان.
وإنما أجاب (عليه السلام) بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنها لا تمسه (عليه السلام) بسوء مع تبرزه بالبراءة، ولو كانت آلهة ذات علم وقدرة لقهرته وانتقمت منه لنفسها كما ادعوا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء وهذه حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوه، ثم يشاهدوا من أنفسهم أنهم لا يقدرون عليه بقتل أوتنكيل مع كونهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم غيرهم في الشدة والبطش، ولو لا أنه نبي من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربه لقدروا عليه بكل ما أرادوه من عذاب أو دفع.
ومن هنا يظهر وجه إشهاده (عليه السلام) في تبريه ربه سبحانه وقومه أما إشهاده الله فليكون تبريه على حقيقته وعن ظهر القلب من غير تزويق ونفاق، وأما إشهاده إياهم فليعلموا به ثم يشاهدوا ما يجري عليه الأمر من سكوت آلهتهم وعجز أنفسهم من الانتقام منه ومن تنكيله.
وظهر أيضا صحة ما احتمله بعضهم أن هذا التعجيز هو معجزة هود (عليه السلام) وذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرد في صورة الحجة، وفيها قولهم:{ما جئتنا ببينة} ومن المستبعد جدا أن يهمل النبي هود (عليه السلام) في دعوته وحجته التعرض للجواب عنه مع كون هذا التحدي والتعجيز صالحا في نفسه لأن يتخذ آية معجزة كما أن التبري من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله وعن أن بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.
فالحق أن قوله:{إني أشهد الله واشهدوا} إلى آخر الآيتين مشتمل على حجة عقلية على بطلان ألوهية الشركاء، وعلى آية معجزة لصحة رسالة هود (عليه السلام).
وفي قوله:{جميعا} إشارة إلى أن مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا فيكون أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل.
قوله تعالى:{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} إلى آخر الآية.
لما كان الأمر الذي في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم وعدم قدرته، وصالحا لأن يصدر بداعي أن الآمر لا يخاف الخصم وإن كان الخصم قادرا على الإتيان بما يؤمر به لكنه غير قادر على تخويفه وإكراهه على الطاعة وحمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون:{ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا:} طه: - 72.
وكان قوله:{ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنه لا يخافهم وإن فعلوا به ما فعلوا، عقبه لدفع هذا الاحتمال بقوله:{إني توكلت على الله ربي وربكم} فذكر أنه متوكل في أمره على الله الذي هو يدبر أمره وأمرهم ثم عقبه بقوله:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فذكر أنه ناجح في توكله هذا فإن الله محيط بهم جميعا قاهر لهم يحكم على سنة واحدة هي نصرة الحق وإظهاره على الباطل إذا تقابلا وتغالبا.
فتبريه من أصنامهم وتعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله:{ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} ثم لبثه بينهم في عافية وسلامة لا يمسونه بسوء ولا يستطيعون أن ينالوه بشر آية معجزة وحجة سماوية على أنه رسول الله إليهم.
وقوله:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الدابة كل ما يدب في الأرض من أصناف الحيوان، والأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة ونهاية القدرة، وكونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيرة وهو تدبير الأمور على منهاج العدل والحكمة فهو يحق الحق ويبطل الباطل إذا تعارضا.
فالمعنى أني توكلت على الله ربي وربكم في نجاة حجتي التي ألقيتها إليكم وهو التبرز بالبراءة من آلهتكم وأنكم وآلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة علي وعليكم وعلى كل دابة، وسنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه ويحفظني من شركم.
ولم يقل:{إن ربي وربكم على صراط مستقيم} على وزان قوله:{ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم، وهو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه ويستمسك برابطة العبودية التي بينه وبين ربه حتى ينجح طلبته، وهذا بخلاف مقام قوله:{ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة والإحاطة.
_________________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج10،ص235-239.
محطّم الأصنام الشّجاع:
كما أشرنا آنفاً، فإِنّ قصص خمسة أنبياء عظام وما واجههوه من شدائد وصعاب في دعواتهم والنتائج المترتبة عليها مبين في هذه السورة. وفي الآيات السابقة كان الكلام حول نوح(عليه السلام) وأمّا الآن فالحديث عن هود(عليه السلام).
جميع هؤلاء الأنبياء جمعهم هدف واحد ومنطق واحد، وجميعهم نهضوا لإِنقاذ البشرية من كل أنواع الأسر، ولدعوتهم إِلى التوحيد بجميع أبعاده.
وكان شعارهم جميعاً الإِيمان والإِخلاص والجد والمثابرة والإِستقامة في سبيل الله، وكان رد الفعل من أقوامهم الخشونة والارهاب والضغوط..
يقول سبحانه في الآية الأُولى من هذه القصّة.. { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} ونلاحظ في الآية أنّها وصفت هوداً بكونه «أخاهم».
وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إِلى أصل واحد..
فمثلا يقولون في الأسدي «أخو أسد» وفي الرجل من قبيلة مذحج «أخو مذحج».
أو أنّ هذا التعبير يشير إِلى أنّ معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيّاً، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعاً، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه، بل من منطلق أنّهم إِخوة لهم..
معاملة خالية من أية شائبة واي امتياز أو استعلاء.
كان أوّل دعوة هود ـ كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعاً ـ توحيد الله ونفي الشرك عنه { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}.
فهذه الأصنام ليست شركاءه، ولا منشأ الخير أو الشرّ، ولا يصدر منها أي عمل، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات «الأصنام» التي لا قيمة لها إِطلاقاً.
ثمّ يضيف هود قائلا لقومه: لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة، فأنا لا أُريد منكم أي أجر { يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} فأجري وحده على من فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شيء، فهو الخالق والرازق { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}.
وأساساً فإنّي في كل خطوة أخطوها لسعادتكم، إِنّما أفعل ذلك طاعةً لأمره، ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم، وإِضافة إِلى ذلك فهل لديكم شيء من عندكم، فكل ما هو لديكم منه سبحانه {أفلا تعقلون}.
ثمّ شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والإِستفادة من جميع الوسائل الممكنة لإِيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبيّن أن هذا الأجر المادي مشروط بالايمان فيقول: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} فإِذا فعلتم ذلك فإِنّه { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}(2) لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط، بل تظل خضراء مثمرة دائماً، وزيادة على ذلك فإنّ الله بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إِليه يرعاكم { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}.
فلا تتصوروا أنّ الإِيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبداً، بل إنّ قواكم الجسميّة ستزداد بالإِستفادة من القوّة المعنوية .. وبهذا الدعم المهم ستقدرون على عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأُمّة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر مستقل، فعلى هذا إيّاكم والإِبتعاد عن طريق الحق { وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}.
قوّة المنطق:
والآن لننظر ماذا كان ردّ فعل القوم المعاندين والمغرورين ـ قوم عاد ـ مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إِليهم: { قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي لم تأتِنا بدليل مقنع لنا { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} الذي تدعونا به إِلى عبادة الله وترك الأوثان { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وأضافوا إلى هذه الجمل الثّلاث غير المنطقية، أنّك يا هودُ مجنون و{إِن نقول إلاّ اعتراك بعض الهتنا بسوء} ولا شكّ أنّ هوداً ـ كأي نبي من الأنبياء ـ أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنّهم لغرورهم ـ مثل سائر الأقوام ـ أنكروا معاجره وعدوّها سحراً وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث الإِتفاقية التي لايمكن أن تكون دليلا على المطلوب.
وأساساً، فإِنّ نفي عبادة الأوثان لا يحتاج إِلى دليل، ومن يكن له أقل شعور وعقل ـ ويترك المخاصمة ـ يدرك هذا الأمر جيداً، ولو فرضنا أنّ ذلك يحتاج إِلى دليل، فهل يحتاج إِلى معجزة بعد الدلائل العقلية والمنطقية ..؟!
وبتعبير آخر فإِنّ ما جاء في دعوة هود ـ في الآيات المتقدمة ـ هو الدعوة إِلى الله الواحد الأحد، والتوبة إِليه والإِستغفار من الذنوب، ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان، كل هذه المسائل يمكن اثباتها بالدليل العقلي.
فعلى هذا، إِنّ كان المقصود من قولهم: {ما جئتنا ببيّنة} هو نفي الدليل العقلي، فكلامهم هذا غير صحيح قطعاً. وإِذا كان المقصود هو نفي المعجزة، فإِنّ هذا الإدعاء لايحتاج إِلى معجزة. وعلى كل حال فإِنّ قولهم: { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} دليل على لجاجتهم، لأنّ الإِنسان العاقل والباحث عن الحقيقة يتقبل الكلام الحق من أيّ كان.
وخصوصاً هذه الجملة { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} فإِنّهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم! فإِنّ هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم، وخرافة عبادة الأصنام!
فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إِلى حماية من الانسان نفسه، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإِنسان العاقل؟!
أضف إِلى ذلك، ما دليلهم على جنون هود إلاّ أنّه كسر طوق «السنة المتبعة عندهم» وكان معارضاً للسنن والآداب الخرافية في محيطه، فإِذا كان هذا هو الجنون فينبغي أن نعدّ جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين.
وليس هذا جديداً، فالتاريخ السالف والمعاصر مليءٌ بنسبة الجنون إِلى الاشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للإِستعمار، والنافضين أثواب الأسر.
على كل حال، فإِنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالّين اللجوجين رداً مقروناً بالمنطق، من منطلق القوّة أيضاً .. يقول القرآن في جواب هود لهم { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.
يشير بذلك إِلى أنّ الأصنام إِذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علناً فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر بي؟
ثمّ يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء، فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شيء، فإِذا كنتم قادرين { فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}.
فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئاً، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبداً، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات، إلاّ أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات، و { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ}.
وهذا دليل على أنّني لا أقول إلاّ الحق والصدق، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر، فلو فكرتم جيداً لكان هذا وحده معجزاً حيث ينهض إِنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب، لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه! ثمّ يضيف: لستم وحدكم في قبضة الله، فإِنّه { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، فما لم يأذن به الله، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً.
ولكن اعلموا أيضاً أنّ ربّي القدير ليس كالاشخاص المقتدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق، بل هو الله
الذي لا يفعل إلاّ الحكمة والعدل { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص93-101.
2- «المدرار» كما وضحنا سابقاً مشتق من «درّ» وهو انصباب حليب الأثداء، ثمّ استعمل في انصباب المطر، والطريق في الآية أنّها لا تعبر بـ «ينزل المطر من السماء» بل قالت: (يرسل السماء عليكم مدراراً) بمعنى أنّ المطر يهطل إِلى درجة غزيرة حتى كأنّ السماء تهطل، وملاحظة أنّ مدراراً صيغة مبالغة أيضاً فيستفاد غاية التوكيد من هذه الجملة.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|