أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-5-2021
2610
التاريخ: 2-5-2021
2349
التاريخ: 9-11-2017
2826
التاريخ: 9-5-2017
1573
|
أقام الأمويون نظاماً ملكياً هو الأول من نوعهِ في الإسلام وسارت الحكومات التي جاءت من بعدهم على هذا النهج، وساير الفكر الإسلامي هذا الوضع وبنى نظرية الدولة الإسلامية على أساسه .
ولقد كانت أهم ملامح نظام الحكم الإسلامي على مرّ التاريخ تنحصر في الأستبداد والبذخ والملكية وأفتقاد حرية الرأي وأحترام الأنسان .
ولم يحدث في تاريخ الفكر الإسلامي أن أصطدم الفقهاء بهذه القواعد بل عايشوها وتفاعلوا معها تماماً كما يتعايش فقهاء اليوم مع الحكومات المعاصرة. فقد كان الحاكم هو الذي يعين القضاة ويتدخل في الأحكام وهو الذي يعين الخليفة من بعده وهو صاحب الرأي الأوحد في البلاد ويعيش حياة مترفة على حساب المسلمين الكادحين المعدمين.
وما يأسف له المرء أن هذه الصورة المنحرفة للحكم الإسلامي باركها معظم الفقهاء ودعموها ونسجوا من حولها الروايات والفتاوى التي تبرر هذهِ الصورة وتدفع بالمسلمين إلى التعاطف معها، فلقد دافعوا عن بني أمية وبني العباس، ثم عن الأيوبيين والمماليك وغيرهم من قياصرة المسلمين وملوكهم.
إن هؤلاء الفقهاء لا تعنيهم ممارسات الحكّام ومواقفهم لكونها لا تمس الدين ولا تصطدم بهم، فما دامت لا تمس جوهر الدين ولا أصوله ولا تصطدم بهم أو تقف بالضد من مصالحهم فهي إذن في صالح المسلمين.
وكيف للحكام أن يمسوا الدين صراحة ويخرجوا على ما أجمعت عليه الأمة من أصوله وشرائعه وهو ركيزتهم ووسيلتهم لتأمين وجودهم ومستقبلهم؟ ثم كيف لهم أن يصطدموا بالفقهاء وهم حلفاؤهم وأدواتهم في تطويع المسلمين وتحذيرهم من مغبة التمرد والعصيان؟!
وهذا الموقف نابع من التصور الأحادي الذي يستند إلى ظنهم بأن كل ما يخرج عن دائرة إعتقادهم وفهمهم للإسلام هو الباطل والضلال، وكل من يخرج على حكمهم زنديق أو مرتد يحق لهم مقاتلته أو قتله وإنتهاب ممتلكاته وإنتهاك حرماته واستئصالا شأفته .
يقول القاضي أبو يعلى الفراء عن كيفية أختيار الحاكم: "وهي فرض على الكفاية مخاطب بها طائفتين من الناس إحداهما: أهل الأجتهاد حتى يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم الإمامة أما أهل الأختيار فيعد فيهم ثلاثة شروط أحدها: العدالة. والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة. والثالث: أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤدّيين إلى اختياري من هو للإمامة أصلح .
وأما أهل الإمامة فيعد فيهم أربع شروط،
أحدها: أن يكون قرشياً من الصميم، وقد روى أحمد: "لا يكون من غير قريش خليفة" .
الثاني: أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضياً: من الحرية والبلوغ والعقل والعلم والعدالة .
الثالث: أن يكون قيّماً بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك والذب عن الأمة .
الرابع: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين. وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل ألفاظ تقتضي إسقاط أعتبار العدالة والعلم والفضل. فقال: ومن غلبهم بالسيف- أي المسلمين وحاكمهم- حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه برّاً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين. وروي عنه: فإن كان أميراً يُعرف بشرب المسكر والغلول- أي سرقة الغنائم- يغزو معه وإنما ذاك له في نفسه" (1) .
ومن الواضح أن هذهِ الرؤى التي يجمع عليها فقهاء القوم إنما هي مشتقة من الواقع القبلي والواقع الأموي، وقد بنيت على أساس سلوك معاوية ومن بعده من الخلفاء الذين أغتصبوا الحكم بالقوة وفرضوا أنفسهم على الأمة وإن لم تتوافر فيهم الشروط المطلوبة في الحاكم.
ولقد دفعت الأمة الثمن غالياً ومازالت تدفع بسبب من هذا الطرح السياسي الذي لا صلة له بالدين وإنما هو من نتاج واقع باركه فقهاء يسيرون في ركاب الحكام وأضفوا عليه المشروعية بروايات وأجتهادات ألزمت بها الأمة بتوجيه الحكام .
إن معظم الفقهاء كانوا قد حددوا شكل الدولة الإسلامية ومقوماتها وصفات الحاكم من خلال سلوك خلفاء بني أمية وبني العباس ومواقفهم متجنبين الإمام علي (عليه السلام) ومواقفه ونموذج دولته لكون طرحه ونموذجه يتناقض مع الطرح والنموذج السائد الذي يسيرون في ركابه.
لقد كانت تجربة الإمام علي (عليه السلام) في الحكم هي التجربة التي تعكس صوره الدولة الإسلامية الحقّة والتي قام الخط الأموي بالتعتيم عليها وتشويهها حتى لا تكشف حقيقة الحكم الأموي وتناقضه مع الإسلام .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما ملامح دولة الإمام علي (عليه السلام)؟ .
إن الإمام علي (عليه السلام) كان زاهداً في الحكم كما كان زاهداً في الدنيا، وما كان يهدف إليه هو أن تستقيم الأمة على نهج الإسلام الصحيح كما كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه واله) وتسترشد بعلمه الذي ورثه عن نبي هذه الأمة .
ومن هنا نرى أنه حينما طالبه الناس بالبيعة له بعد أستشهاد الخليفة عثمان بن عفان قال: "دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب.. وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً.." (2) .
والإمام يرفض أغتصاب السلطة والأستسلام للأمر الواقع بقوله: "أيها الناس إن أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب أستُعتِب فإن أبى قُوتِل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار.." (3) .
ويؤكد الإمام من خلال قوله هذا رفضه لبيعة الحكّام في معزل عن الرعية، كما وقع للمسلمين من بعدهِ .
قال السيد علي خان في كتاب الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة:- روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام) أنه قال لبعض أصحابه: "يا فلان مالقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس؟ أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) قُبض وقد أخبر أَنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا. ثم تداولتها قريش واحداً بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل، فبويع الحسن(عليه السلام) ابنه وعوهد ثم غُدِر به وأُسلِم، ووثب عليه أهل العراق حتّى طُعن بخنجر في جنبه، وأنتُهب عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته وهم قليل حتى قُتل، ثم بايع الحسين(عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه، ثم لم نزل أهل البيت نُستذل ونُستضام ونُقضى ونُمتهن ونُحرم ونُقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا مالم نقله ومالم نفعله ليبغضونا إلى الناس، وكان عِظَم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن، فقُتلت شيعتنا في كل بلدة، وقطّعت الأيدي والأرجل على الظِنّة، وصار من ذكر بحبنا والإنقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو دُهمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين(عليه السلام)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليُقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال شيعة عليّ" (4) .
وفي اليوم الذي أُستشهد فيه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بويع الإمام الحسن السبط (عليه السلام)، فأحبّه الناس وأطاعوه (5) ، وسار بهم سيرة أبيه (عليه السلام)، وأقرّ عمال أبيه فلم يعزل منهم أحداً (6) .
وقد تحدّث الإمام الحسن (عليه السلام) في خطاباته بمثل ما تحدّث به والده الإمام علي (عليه السلام) في شأن أهل البيت ومنزلتهم وحقّهم الواجب على الأمة، وتكرر منه ذلك في مواضع، منها:
1- في حياة أبيه (عليه السلام) وقد مرض فأمره (عليه السلام) أن يصلي بالناس يوم الجمعة، فقال في خطبته: "إن الله لم يبعث نبيّاً إلا أختار له نقيباً ورهطاً وبيتاً، فوالذي بعث محمداً بالحق نبيّاً لا ينتقص من حقّنا أهل البيت أحد إلا نقصه الله من عمله مثله، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة.. ولتعلمنّ نبأه بعد حين"(7) .
2- في خطبته الأولى أيام خلافته، ذكر عليّاً (عليه السلام) فوصفه بأنه "خاتم الأوصياء، وأمين الصديقين والشهداء" وأستطرد في ذكر خصاله ثم قال: "من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد (صلى الله عليه واله) – ثم تلا قوله تعالى- {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] (8) أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الذي أرسل رحمة للعالمين، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عزّ وجل مودّتهم وولايتهم.."(9)
3- وفي أيام خلافته، في خطبة بليغة قال (عليه السلام): "نحن حزب الله المفلحون وعترة رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله (صلى الله عليه واله)، والثاني كتاب الله فيه تفصيل كلّ شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمعوّل عليه في كل شيء، لا يُخطئنا تأويله، بل نتيقن حقائقه.. فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء: 59] (10)، وقوله تعالي: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] (11). وأحذّركم الأصغاء لهتاف الشيطان.. إنه لكم عدوٌّ مبين- فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم ربُّ العزة والجلالة: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] (12)، فتلقون للرماح أزراً، وللسيوف جزراً، وللسهام غرضاً، ثم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً" (13) .
وقد فشل أهل العراق وتضعضعوا حين رأوا من الإمام الحسن (عليه السلام) تشميراً لحرب معاوية الذي وجّه جيوشه صوب العراق، فقد كان الإمام الحسن (عليه السلام) قد وجه مقدمة جيشه بقيادة قيس بن سعد بن عبادة، وتحرك هو بسائر الجيش من ورائه، فبينما هو في المدائن، عملت دسائس معاوية عملها، إذ نادى منادٍ في الجيش: ألا إن قيساً قد قُتل، فاختبط الناس وإنتهب الغوغاء سرادق الإمام الحسن (عليه السلام) وطعنه رجل من المارقين، فنزل الإمام القصر الأبيض في المدائن وقد أقبلت صوبه جيوش الشام عليها عبد الله بن عامر، فبعثوا إليه بطلب الصلح، فإستجاب لذلك، وكاتب معاوية بالصلح. سنة إحدى وأربعين للهجرة، وسمي هذا العام بعام الجماعة (14) .
لم يكن الإمام الحسن إذن قد رأى في معاوية خيراً فسلّم له الأمور، لكنه رأى في جيشه ضُعفاً لا يُجبر، فسالم لحفظ دماء المخلصين من أصحابه، بدليل قوله (عليه السلام): "إني رأيت هوى معظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بُقياً على شيعتنا خاصُة من القتل، فرأيت رفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإن الله كل يوم هو في شأن" (15) .
وهذا كلام صريح، بيّن فيه دواعي الصلح، ومثله تماماً قاله لجماعة من أشراف أصحابه عاتبوه بعد رجوعه إلى المدينة المنورة (16) ، ثم كشف عن أنّه لم يصالح رضىً بمعاوية، وإنما لدفع الحرب إلى يومٍ ما تكون فيها كفة الحق أقوى شوكةً وأمضى عزماً .
كما أن الإمام الحسن (عليه السلام) لم يُخفِ قناعته تلك حتى عن معاوية، وعلى الملأ، حين دعاه معاوية أن يلقي خطبته بعد إمضاء الصلح، فقام خطيباً فقال بعد الحمد والثناء: "أيها الناس، إن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإني قد أخذت على معاوية أن يعدل فيكم، وأن يوفر عليكم غنائمكم، وأن يقسم فيكم فيأكم" ثم أقبل على معاوية فقال: "أكذلك؟" قال معاوية: نعم، ثم هبط الأمام الحسن (عليه السلام) من المنبر وهو يشير بإصبعه الى معاوية ويقول: "وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين" (17) .
وقد أختلف المؤرخون كثيراً في ذكر تفاصيل كتاب المصالحة وبنوده التي تضمنها حتى عاد عسيراً على المحقّق أن يقف على صورة تامة لذلك الصلح يستطيع أن يثق بها إلى درجة اليقين. أما القدر الذي نستطيع أن نعتمده من الشروط التي أملاها الإمام الحسن (عليه السلام) في تلك المعاهدة، على درجة عالية من اليقين، فيتلخص في :
1- العمل بكتاب الله وسُنّة رسوله (صلى الله عليه وآله).. أما ما زيد على هذا الشرط من ذكر سيرة الخلفاء الصالحين فلا يصح قطعاً، فهو بعينه الشرط الذي رفضه بالأمس الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى ضحّى بالخلافة كلها لئلا يمنح هذا الشرط شيئاً من الشرعية. فكيف يضعه الإمام الحسن (عليه السلام) شرطاً في البيعة وهو يأمل أن تعود الخلافة إليه، كما سيأتي في ثاني شروطه.
وأيضاً فقد رفض الإمام الحسن يوم بويع في الكوفة أيّ كلمة تضاف في البيعة على الكتاب والسُنّة، فردّ على من أراد زيادة شرط "قتال المحلّين" قائلاً: "على كتاب الله وسنّة نبيه، فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط" (18).
2- أن يكون الأمر بعد معاوية للإمام الحسن (عليه السلام)، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد (19) .
هذا أهم ما في تلك المعاهدة التي ضمّت أموراً أخرى تفصيلية، كالأمتناع عن سبّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبسط الأمن بين الناس جميعاً وعدم تتبع شيعة الإمام عليّ (عليه السلام)، ونحو هذا (20) .
ونحن نرى من خلال الأحداث التاريخية أن معاوية بن أبي سفيان لم يلتزم بأيّ شرط من شروط المعاهدة، فبالنسبة لمسألة الأمتناع عن سبّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعدم تتبع شيعته، فنحن سنورد نصوصاً نقلها لنا السيد علي خان في كتاب (الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة)، تبين عدم ألتزام معاوية بعهده حيث قال: روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب الأحداث، قال: "كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة، أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه، ويقعون وأهل بيته، وكان أشدُّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأستعمل عليهم زياد بن سُميّة وكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام عليّ (عليه السلام) فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم" (21) .
وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحدٍ من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم: "أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا إليّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم وأسمه وأسم أبيه وعشيرته". ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد بخبر مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب أسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا في ذلك حيناً (22).
ثم كتب إلى عماله: "أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا يتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وأئتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحبّ إليّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله" (23) .
فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها وجَدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي المكاتب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، حتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم.
فلبثوا في ذلك ما شاء الله، ثم كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: "أنظروا من قامت عليه البيّنة أنه يُحبُّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه"، وشفع ذلك بنسخة أخرى: "من أتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به وأهدموا داره". فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولاسيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه بسره ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يُحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر (24) .
ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويُقرّبوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى أنتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها (25) .
وأخيراً صفا الجو لمعاوية بعد مقتل الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وتسليم الإمام الحسن (عليه السلام) الخلافة إليه، وعندما دخل الكوفة، خطب بالناس هناك معبّراً عن حقيقة نواياه تجاه الخلافة والحكم قائلاً: "إني والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون" (26) .وبشأن ما صالح عليه الإمام الحسن (عليه السلام) قال: "ألا وإنّ كل شيء أعطيته الحسن فتحت قدميَّ هاتين" (27) .
والحقيقة فإن سلوك معاوية طوال مدة خلافته، بل منذ أن ولاّه الخليفة عمر ابن الخطاب (عليه السلام) ولاية الشام، في الولاية والحكم كان مصداقاً لسلوك الملك المستبد، وهو لم يضع تحت قدميه معاهدة صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام) فقط، وإنما قام بإنزال تعاليم الإسلام الربانية وقيمه السامية ذلك المنزل أيضاً .
وأستشهد الإمام الحسن (عليه السلام) في سنة 49هـ/669م بعد أن دست له زوجته جعده بنت المنافق المعروف الأشعث بن قيس السم بتحريض من معاوية، وقد وعدها بمئة ألف دينار وبالتزويج من إبنه يزيد. فأوفاها بما وعدها من مال، وأبى عليها التزويج من إبنه قائلاً لها: "أخشى أن تفعلي به كما فعلت بأبن رسول الله" (28).
وكان ذلك في منتصف خلافة معاوية، وهو الوقت الذي بدأ فيه يخطط بتوريث الخلافة إلى إبنه يزيد. ويروي ابن قتيبة أن معاوية لما أتاه خبر وفاة الإمام الحسن (عليه السلام) أظهر فرحاً وسروراً، حتى سجد وسجد من كان معه (29) .
ويعلل هذا بتخلص معاوية من شروط عام الجماعة مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وتمكنه من توريث الخلافة في عائلته .
____________
(1) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي (ت 450هـ/1058م)، الأحكام السلطانية والولايات الدينية (بغداد، المكتبة العالمية، 1409هـ/ 1989م)، صص 16-17 ؛ الفراء، أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد (ت 458هـ/1065م)، الأحكام السلطانية، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط1 (القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1356هـ/ 1938م)، صص 3-4 .
(2) ابن أبي الحديد، أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 هـ/1258م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل أبراهيم، ط2 (بيروت، دار إحياء الكتب العربية، 1385هـ/1965م)، جـ 7، ص 33 .
(3) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، جـ 9، ص 328 .
(4) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، جـ 11، صص 43-44؛ ابن معصوم، الدرجات الرفيعة، صص 5-7؛ المجلسي، بحار الأنوار، جـ 44، صص 68-69؛ العلوي، محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر بن يحيى (ت 1350هـ/1931هـ)، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، ط1، (قم، دار الثقافة، 1412هـ/ 1992م)، صص 152-153 .
(5) المرعشي، نور الله بن عبد الله بن نور الله بن محمد التستري (ت 1019هـ/1610م)، إحقاق الحق وإزهاق الباطل، تحقيق: السيد شهاب الدين النجفي، (قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي، بلا)، جـ 11، ص 157.
(6) العصفري، أبو عمر خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني البصري (ت 240هـ/854م)، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق: أكرم ضياء العمري، ط2، (دمشق، دار القلم، 1397هـ/1977م)، ص 203.
(7) المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346هـ/957م)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط2 (طهران مؤسسة مطبوعاتي اسماعيليان، 1390هـ/1970م)، جـ5، ص12؛ المرعشي، إحقاق الحق، جـ 33، ص 519.
(8) سورة يوسف- آية: (38) .
(9) الدولابي، أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد (ت 310هـ/922م)، الذرية الطاهرة، تحقيق: سعد المبارك الحسن، ط1، (الكويت، الدار السلفية، 1407هـ/1987م)، ص 74؛ الطبراني، المعجم الأوسط، جـ 2، ص 337 ؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، جـ 9، ص 146؛ الراوندي، قطب الدين سعيد بن هبة الله بن الحسن (ت 573هـ/ 1177م)، الخرائج والجرائح، (قم، مؤسسة الإمام المهدي ()، بلا)، جـ 1، ص 237 ؛ المجلسي، بحار الأنوار، جـ 25، ص 214 .
(10) سورة النساء- آية: (59) .
(11) سورة النساء- آية: (83) .
(12) سورة الأنفال- آية: (48) .
(13) المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري (ت 413هـ/1022م)، الأمالي، تحقيق: الحسين استاد ولي وعلي اكبر الغفاري، (قم، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، بلا)، ص 349؛ المسعودي، مروج الذهب، جـ 5، صص 13-14 ؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، جـ 27، ص 195؛ الحكيم، محمد باقر (ت 1424هـ/2003م)، علوم القرآن ، ط3، (قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1417هـ/1997م)، ص 317 .
(14) ابن سعد، الطبقات الكبرى، جـ 6، صص 52-53؛ الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود بن ونند (ت 282هـ/895م)، الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، ط1 (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1380هـ/1960م)، صص 217-218؛ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، جـ 3، ص 167 ؛ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي (ت 460هـ/1067م)، اختيار معرفة الرجال، تحقيق: محمد باقر الحسيني، (قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1404هـ/1984م)، جـ 1، ص 29؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، جـ1، ص 190؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، جـ 13، ص 262 ؛ ابن حجر، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني (ت 852 هـ/1448م)، فتح الباري (شرح صحيح البخاري)، ط2، (بيروت، دار المعرفة، بلا)، جـ 13، ص 53.
(15) الدينوري، أبو حنيفة، الأخبار الطوال، ص 220 .
(16) الدينوري، الأخبار الطوال، ص 221؛ ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، جـ 1، ص 141؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، جـ 10، ص 305 ؛ ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق، جـ 13، ص 279؛ المزّي، أبو الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي الكلبي (ت 742هـ/1341م)، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، ط4 (بيروت، مؤسسة الرسالة، 1412هـ/1992م)، جـ 6، ص 250؛ ابن كثير، البداية والنهاية، جـ 8، ص 21.
(17) الشريف المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي (ت 436هـ/1044م)، تنزيه الأنبياء، ط2، (بيروت، دار الأضواء، 1409هـ/ 1989م)، ص 224؛ الطبرسي، الأحتجاج، جـ 1، ص 420؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، جـ 13، ص 267؛ السيوطي، الدر المنثور، جـ 5، ص 689؛ العلوي، النصائح الكافية، ص 195 .
(18) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، جـ 3، ص 164 .
(19) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، جـ 13، ص 265؛ المرعشي، إحقاق الحق، جـ 33، ص 532؛ القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ()، ط1، (النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 1395هـ/1975م)، جـ 2، ص 287 .
(20) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، جـ 13، ص 266؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، جـ 3، ص 264.
(21) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 548هـ/1153م)، إعلام الورى بأعلام الهدى، ط1، (قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1417هـ/1997م)، جـ 1، ص 11؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، جـ 11، ص44؛ ابن معصوم، الدرجات الرفيعة، ص6؛ المجلسي، بحار الانوار، جـ 33، ص 191؛ الأميني، عبد الحسين أحمد النجفي (ت 1392هـ/1972م)، الغدير؛ ط4، (بيروت، دار الكتاب العربي، 1397هـ/1977م)، جـ 11، ص 28.
(22) ابن معصوم، الدرجات الرفيعة، ص 7.
(23) المجلسي، بحار الأنوار، جـ 33، ص 178؛ العلوي، النصائح الكافية، ص 95 .
(24) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، جـ 11، صص 44-45؛ ابن معصوم، الدرجات الرفيعة، صص 7-8؛ المجلسي، بحار الأنوار، جـ 33، صص 179-180؛ العلوي، النصائح الكافية، صص 97-98؛ مرتضى، جعفر، الصحيح من سيره النبي الأعظم (صلى الله عليه واله)، ط4، (بيروت، دار الهادي، 1415هـ/ 1995م)، جـ 4، صص 74-75 .
(25) العاملي، محسن الأمين، الشيعة في مسارهم التاريخي، ط1، (بيروت، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1421هـ/ 2000م)، ص73.
(26) الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد (ت 356هـ/966م)، مقاتل الطالبيين، تحقيق: أحمد صقر، ط2، (طهران، مؤسسة مطبوعاتي إسماعليان، 1390هـ/1970م)، ص 70؛ المفيد، الارشاد، جـ 2، ص 14؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، جـ 16، ص 46.
(27) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، جـ 16، ص 15؛ العسكري، السيد مرتضى، أحاديث أم المؤمنين عائشة، (بيروت، دار الغدير، 1380هـ/1960م)، جـ 1، ص 253.
(28) الصدوق، كمال الدين تمام النعمة، ص 546؛ المسعودي، مروج الذهب، جـ 5، ص3؛ الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 73؛ الطبرسي، الأحتجاج، جـ 2، ص 13؛ ابن الأثير، أسد الغابة، جـ 2، ص 15؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، جـ 16، ص 11.
(29) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة (منسوب له)، جـ 1، ص 150.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|