أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-10-2017
10147
التاريخ: 17-10-2017
4340
التاريخ: 16-10-2017
9660
التاريخ: 20-10-2017
12182
|
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة : 101 - 102] .
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة : 101].
{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم} خاطب الله المؤمنين ، ونهاهم عن المسالة عن أشياء ، لا يحتاجون إليها في الدين ، إذا أبديت وأظهرت ساءت وحزنت ، وذلك نحو ما مضى ذكره من الرجل الذي سأل عن أبيه ، وأشباه ذلك من أمور الجاهلية . وقيل : إن تقديره لا تسألوه عن أشياء عفا الله عنها ، إن تبد لكم تسوءكم ، فقدم وأخر فعلى هذا يكون قوله {عفا الله عنها} صفة لأشياء أيضا ، ومعناه : كف الله عن ذكرها ، ولم يوجب فيها حكما . وكلام الزجاج يدل على هذا ، لأنه قال : أعلم الله ان السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع ، فإنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك ، وخاصة في وقت سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهة تبيين الآيات ، فنهى الله عز وجل عن ذلك ، وأعلم أنه قد عفا عنها ، ولا وجه لمسألة ما عفا الله عنه ، ولعل فيه فضيحة على السائل إن ظهر ، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله : " إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ، ولم يدعها نسيانا ، فلا تتكلفوها " .
وقال مجاهد : كان ابن عباس إذا سئل عن الشيء لم يجئ فيه أثر ، يقول : هو من العفو ، ثم يقرأ هذه الآية {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} معناه وإن ألححتم وسألتم عنها عند نزول القرآن ، أظهر لكم جوابها ، إذا لم تقصدوا التعنت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا تتكلفوا السؤال عنها في الحال . وقيل : معناه وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن ، تحتاجون إليها في الدين ، من بيان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحو ذلك ، تكشف لكم ، وهذه الأشياء غير الأشياء الأولى ، إلا أنه قال : وإن تسألوا عنها ، لأنه كان قد سبق ذكر الأشياء . وقيل : إن الهاء راجعة إلى الأشياء الأولى ، فبين لهم أنكم إن سألتم عنها عند نزول القرآن في الوقت الذي يأتيه الملك بالقرآن ، يظهر لكم ما تسألون عنه في ذلك الوقت ، فلا تسألوه ، ودعوه مستورا ثم قال {عفا الله عنها} أي : عفا الله عن تبعة سؤالكم ، ويكون تقديره عفا الله عن مسألتكم التي سلفت منكم ، مما كرهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم . {والله غفور حليم} فلا تعودوا إلى مثلها ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطا . وأما على ما ذكرنا من أن قوله {عفا الله} على التقديم ، فيكون تقدير الآية : لا تسألوا عن أشياء ترك الله ذكرها وبيانها ، لأنكم لا تحتاجون إليها في التكليف إن تظهر لكم تحزنكم وتغمكم وقال بعضهم : إنها نزلت فيما سألت الأمم أنبياءها من الآيات ، ويؤيده الآية التي بعدها .
النظم : قيل في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها : إنها تتصل بقوله {تفلحون} لأن من الفلاح : ترك السؤال عما لا يحتاج إليه وثانيها : إنها تتصل بقوله {ما على الرسول إلا البلاغ} فإنه يبلغ ما فيه المصلحة ، فلا تسألوه عما لا يعنيكم وثالثها : إنها تتصل بقوله {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أي : لا تسألوه فيظهر سرائركم .
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة : 102] .
ثم أخبر سبحانه أن قوما سألوا مثل سؤالهم ، فلما أجيبوا إلى ما سألوا ، كفروا فقال {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} وفيه أقوال أحدها : إنهم قوم عيسى عليه السلام سألوه إنزال المائدة ، ثم كفروا بها ، عن ابن عباس وثانيها : إنهم قوم صالح ، سألوه الناقة ، ثم عقروها ، وكفروا بها . وثالثها : إنهم قريش حين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحول الصفا ذهبا ، عن السدي . ورابعها : إنهم كانوا سألوا النبي صلى اله عليه وآله وسلم عن مثل هذه الأشياء ، يعني من أبي ونحوه ، فلما أخبرهم بذلك ، قالوا : ليس الامر كذلك ، فكفروا به ، فيكون على هذا نهيا عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أنساب الجاهلية ، لأنهم لو سألوا عنها ، ربما ظهر الامر فيها على خلاف حكمهم ، فيحملهم ذلك على تكذيبه ، عن أبي علي الجبائي .
فإن قيل : ما الذي يجوز أن يسال عنه ، وما الذي لا يجوز؟ فالجواب : إن الذي يجوز السؤال عنه ، هو ما يجوز العمل عليه في الأمور الدينية أو الدنيوية ، وما لا يجوز العمل عليه في أمور الدين والدنيا ، لا يجوز السؤال عنه . فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الانسان : من أبي ؟ لان المصلحة قد اقتضت أن يحكم على كل من ولد على فراش انسان بأنه ولده ، وإن لم يكن مخلوقا من مائه ، فالمسألة بخلاف ذلك سفه لا يجوز . ثم ذكر سبحانه الجواب عما سألوه عنه .
____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص429-431 .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . ان قوله تعالى : {لا تَسْئَلُوا} يومئ إلى أن بعض الصحابة كانوا يلحفون في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها ، وربما أدى الجواب عنها إلى ما يسوء السائلين .
وفي رواية : ان رجلا قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : من أبي ؟ قال له : أبوك فلان .
فقال آخر : يا رسول اللَّه أبن أبي ؟ . قال : في النار . فنزلت الآية . وفي رواية ثانية : ان النبي قال : كتب اللَّه عليكم الحج ، فحجوا ، فقالوا : أفي كل عام يا رسول اللَّه ؟ فسكت . فأعادوا السؤال ، فقال : لا . ولو قلت :
نعم لوجبت . فنزلت الآية . وهذه الرواية أرجح من تلك لقوله تعالى :
{وإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} . أي لا تتكلفوا السؤال عن أشياء الا بعد أن ينزل فيها القرآن ، فمتى ابتدأكم ، واقتضى الأمر الشرح والتوضيح سألتم النبي (صلى الله عليه وآله) فيبدي لكم ما سألتم عنه . وبهذا يتضح ترجيح رواية السؤال عن الحج في سبب النزول على رواية السؤال عن آباء الصحابة وسلفهم ، لأن القرآن يبتدأ النزول بالعقيدة والشريعة ، ولا يبتدئ بآباء الصحابة وسلفهم .
وفي الحديث : « ان اللَّه حدد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ، ولكن رحمة منه بكم فاقبلوها ، ولا تبحثوا عنها » .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْها } . أي عن مسائلكم السابقة ، فلا تعودوا إلى مثلها . وقيل :
عفا اللَّه عنها ، أي أمسك وكف عن ذكر الأشياء التي سألتم عنها ، فكفوا أنتم ، ولا تتكلفوا السؤال عنها ، وكل من التفسيرين محتمل ، لا يأباه ظاهر اللفظ . { واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } يصفح عن المخطئ إذا رجع عن خطأه .
{ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ } . بعد أن نهاهم سبحانه عن السؤال عن أشياء هم في غنى عنها ضرب لهم مثلا بمن كان قبلهم ، سألوا وشددوا على أنفسهم بالسؤال ، ولما بيّن اللَّه لهم كرهوا وتمردوا فاستحقوا العذاب ، ولو تركوا السؤال لكان خيرا لهم . . وقد أطال المفسرون الكلام في بيان المراد من القوم الذين سألوا ثم أصبحوا كافرين بسبب السؤال ، ولكن الآية أبهمت ولم تبين . . ومع ذلك لنا أن نقول : إن القوم الذين سألوا وكفروا هم بنو إسرائيل لقوله تعالى حكاية عنهم : {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهً جَهْرَةً} [النساء - 152 ] .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص135-136 .
الآيتان غير ظاهرتي الارتباط بما قبلهما ، ومضمونهما غني عن الاتصال بشيء من الكلام يبين منهما ما لا تستقلان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشمه جمع من المفسرين في توجيه اتصالهما تارة بما قبلهما ، وأخرى بأول السورة ، وثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كله أولى .
قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (الآية) الإبداء الإظهار ، وساءه كذا خلاف سره .
والآية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم ، وقد سكتت أولا عن المسئول من هو؟ غير أن قوله بعد : {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} ، وكذا قوله في الآية التالية : {قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ} يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله مقصود بالسؤال مسئول بمعنى أن الآية سيقت للنهي عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله عن أشياء من شأنها كيت وكيت ، وإن كانت العلة المستفادة من الآية الموجبة للنهي تفيد شمول النهي لغير مورد الغرض وهو أن يسأل الإنسان ويفحص عن كل ما عفاه العفو الإلهي ، وضرب دون الاطلاع عليه بالأسباب العادية والطرق المألوفة سترا فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الأمور مظنة الهلاك والشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته وأعزته أو زوال ملكه وعزته ، وربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذي يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء .
فنظام الحياة الذي نظمه الله سبحانه ووضعه جاريا في الكون فأبدا أشياء وحجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلا لحكمة ، ولم يخف ما أخفاه إلا لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها والتوسل إلى ظهور ما خفي منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الإنسانية المبنية على نظام بدني مؤلف من قوى وأعضاء وأركان لو نقص واحد منها أو زيد شيء عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى والأعضاء الباقية ، وربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها .
ثم إن الآية أبهمت ثانيا أمر هذه الأشياء التي نهت عن السؤال عنها ، ولم توضح من أمرها إلا أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم {إلخ} ، ومما لا يرتاب فيه أن قوله : {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} نعت للأشياء ، وهي جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط ، ولازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أبدئت لهم فطلب إبدائها وإظهارها بالمسألة طلب للمساءة.
فيستشكل بأن الإنسان العاقل لا يطلب ما يسؤه ، ولو قيل : لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم ، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور.
ومن عجيب ما أجيب به عن الإشكال أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط {إن} مما لا يقطع بوقوعه ، والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه فكان التعبير بقوله {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} دون {إذا أبديت لكم تسؤكم} دالا على أن احتمال إبدائها وكونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها ، انتهى موضع الحاجة.
وقد أخطأ في ذلك ، وليت شعري أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع؟ وهل يفيد قولنا : إن جئتني أكرمتك إلا القطع بوقوع الإكرام على تقدير وقوع المجيء ؟ فقوله : إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء ، انتهى. إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الآية هو النهي عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أبدئت وليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهي عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن أبدئت ، فالإشكال على حاله .
ويتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم ـ على ما في بعض الروايات : أن المراد بقوله : {أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالآجال وعواقب الأمور وجريان الخير والشر والكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعا من أن يتضمن ما يسوء الإنسان ويحزنه كسؤال الرجل عن باقي عمره ، وسبب موته ، وحسن عاقبته ، وعن أبيه من هو؟ وقد كان دائرا بينهم في الجاهلية.
فالمراد بقوله : {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هو النهي عن السؤال عن هذه الأمور التي لا يخلو انكشاف الحال فيها غالبا أن يشتمل على ما يسوء الإنسان ويحزنه كظهور أن الأجل قريب ، أو أن العاقبة وخيمة ، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه.
فهذه أمور يتضمن غالبا مساءة الإنسان وحزنه ، ولا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي صلى الله عليه وآله بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني وأنفة العصبية أن يكذب النبي صلى الله عليه وآله فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية : {قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ}.
وهذا الوجه وإن كان سليما في بادئ النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى : {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} سواء قلنا : إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الأشياء حين نزول القرآن ، أو تشديد النهي عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب ـ وهو النبي صلى الله عليه وآله ـ في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الأسئلة رعاية لمصلحة السائلين ؛ لكنها أعني الأشياء المسئول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة.
أما عدم ملاءمته على المعنى الأول فلأن السؤال عن هذه الأشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن ، والمفسدة هي المفسدة.
وأما على المعنى الثاني فلأن حال نزول القرآن وإن كان حال البيان والكشف عن ما يحتاج إلى الكشف والإبداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف وشرائع الأحكام وما يجري مجراها ، وأما تعيين أجل زيد وكيفية وفاة عمرو ، وتشخيص من هو أبو فلان؟ ونحو ذلك فهي مما لا يرتبط به البيان القرآني ، فلا وجه لتذييل النهي عن السؤال عن أشياء كذا وكذا بنحو قوله : {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} وهو ظاهر.
فالأوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الآية {قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، إلخ وكذا قوله : {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} تدل على أن المسئول عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الأحكام مما ربما يستقصي في البحث عنه والإصرار في المداقة عليه ، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلما أمعن في السؤال وألح على البحث كما قصه الله سبحانه في قصة البقرة عن بني إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التي أمروا بذبحها.
ثم إن قوله تعالى : {عَفَا اللهُ عَنْها} الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي في قوله : {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} لا كما ذكروه : أنه وصف لأشياء ، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم ، (إلخ) .
وهذا التعبير ـ أعني تعدية العفو بعن ـ أحسن شاهد على أن المراد بالأشياء المذكورة هي الأمور الراجعة إلى الشرائع والأحكام ، ولو كانت من قبيل الأمور الكونية كان كالمتعين أن يقال : عفاها الله.
وكيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالأشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الأحكام والشرائع والقيود والشرائط العائدة إلى متعلقاتها ، وأن السكوت عنها ليس لأنها مغفول عنها أو مما أهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفا من الله سبحانه لعباده وتسهيلا كما قال : {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق والتحريج وهو مما يسوؤهم ويحزنهم البتة فإن في ذلك ردا للعفو الإلهي الذي لم يكن البتة إلا للتسهيل والتخفيف ، وتحكيم صفتي المغفرة والحلم الإلهيين.
فيرجع مفاد قوله : {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ} ، إلخ إلى نحو قولنا : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا النبي صلى الله عليه وآله عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها ولم يتعرض لبيانها تخفيفا وتسهيلا فإنها بحيث تبين لكم أن تسألوا عنها حين نزول القرآن ، وتسوؤكم إن أبدئت لكم وبينت .
وقد تبين مما مر أولا : أن قوله تعالى : {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} من تتمة النهي كما عرفت ، لا لرفع النهي عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل .
وثانيا : أن قوله تعالى : {عَفَا اللهُ عَنْها} جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفا بحسب التركيب الكلامي .
وثالثا : وجه تذييل الكلام بقوله : {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} مع كون الكلام مشتملا على النهي غير الملائم لصفتي المغفرة والحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله : {عَفَا اللهُ عَنْها} دون النهي الموضوع في الآية.
قوله تعالى : {قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ} يقال : سأله وسأل عنه بمعنى ، و {ثُمَّ} يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان.
والباء في قوله : {بِها} متعلقة بقوله : {كافِرِينَ} على ما هو ظاهر الآية من كونها مسوقة للنهي عن السؤال عما يتعلق بقيود الأحكام والشرائع المسكوت عنها عند التشريع ؛ فالكفر كفر بالأحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها وتضيق القلوب من قبولها ، ويمكن أن تكون الباء للسببية ولا يخلو عن بعد .
والآية وإن أبهمت القوم المذكورين ولم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الآية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى وقصص أخرى من قوم موسى وغيرهم .
__________________________
1. تفسير الميزان ، ج6 ، ص124-128 .
الأسئلة الفضولية :
لا شك أنّ السّؤال مفتاح المعرفة ، ولذلك من قلّت أسئلته قلت معرفته ، وفي القرآن وفي الرّوايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عمّا لا يعرفون ، ولكن لكل قاعدة استثناء ، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضا ، منها أن هناك أحيانا بعض المسائل التي يكون إخفاؤها أفضل لحفظ النظام الاجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع ، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيدا عن الفضيلة فحسب ، بل يكون مذموما أيضا مثلا : يرى معظم الأطباء ضرورة كتمان الأمراض الصعبة الشفاء والمخيفة عن المريض نفسه ، وقد يخبرون أهله شريطة أنّ يلتزموا كتمان الأمر عن المريض ، والسبب هو أن التجارب قد دلت على أنّ المريض إذا عرف أنّ مرضه لا يشفى بسرعة انتابه الرعب والهلع وقد يؤخر ذلك شفاءه ، إن لم يكن مرضه مهلكا فعلى المريض أنّ لا يلح في إلقاء الأسئلة على طبيبه العطوف ، لأنّ هذا الإلحاح قد يحرج الطبيب ، فيصرّح للمريض بما لا ينبغي أنّ يصارحه به تخلصا من هذا الإصرار واللجاج.
كذلك الناس عموما ، فهم في التعامل فيما بينهم يحتاجون إلى أن يحسن بعضهم الظن ببعض ، فللحفاظ على هذا الرصيد الهام خير لهم ألّا يعرفوا خفايا الآخرين ، إذ أن لكل امرئ نقاط ضعيفة ، فانكشاف نقاط ضعف الناس يضرّ بالتعاون فيما بينهم فقد يكون امرؤ ذو شخصية مؤثرة قد ولد في عائلة واطئة ومنحطة ، وإذا انكشف هذا فقد تتزلزل آثاره الوجودية في المجتمع ، لذلك ينبغي على الناس ألا يلحوا في السؤال والتفتيش في هذا المجال.
كما أنّ الكثير من الخطط والمناهج الاجتماعية يلزمها الكتمان حتى يتمّ تنفيذها ، فالإعلان عنها يعتبر ضربة تؤخر سرعة إنجاز العمل.
هذه وأمثالها نماذج لما لا يصح فيه الإلحاح في السؤال ، وعلى القادة أن لا يفشوا أمثال هذه الأسرار ما لم يقعوا تحت ضغط شديد.
والقرآن في هذه الآية يشير إلى الموضوع نفسه ويقول : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
ولكن إلحاح بعض الناس بالسؤال من جهة ، وعدم الإجابة على أسئلتهم من جهة أخرى ، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدي الأمر إلى مفاسد أكثر ، لذلك تقول الآية : {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيشق عليكم الأمر.
أمّا قصر افشائها على وقت نزول القرآن ، فذلك لأنّ تلك التساؤلات كانت متعلقة بمسائل ينبغي أن تنزل أجوبتها عن طريق الوحي.
ثمّ لا تحسبوا الله غافلا عن ذكر بعض الأمور إن سكت عنها ، فقد {عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
يقول علي عليه السلام : «إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها» (2) .
سؤال :
قد يسأل سائل : إذا كان إفشاء هذه الأمور يتعارض مع مصلحة الناس ، فلما ذا يماط اللثام عنها على أثر الإلحاح ؟
الجواب :
السبب هو ما قلناه من قبل ، فالقائد إذا لزم الصمت رغم الإلحاح بالسؤال ، فقد تنجم عن ذلك مفاسد أخطر ، ويثار سوء ظن يشوب أذهان الناس ، مثل صمت الطبيب إزاء إلحاح المريض في السؤال عن مرضه ، فإن ذلك يثير شكوك المريض ، وقد يحمله على الظن بأن الطبيب لم يشخص مرضه بعد ، فيهمل استعمال ما يصفه له من علاج ، عندئذ لا يسع الطبيب إلّا أن يفشي له سرّ مرضه ، ولو سبب له ذلك بعض المشاكل.
الآية التي بعدها تؤكّد هذه الحقيقة ، وتبيّن أنّ أقواما سابقين كانت لهم أسئلة كهذه ، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا : {لقَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ}.
وللمفسّرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام ، منهم من ذهب إلى أن الأمر يخص تلامذة عيسى عليه السلام عند ما طلبوا مائدة من السماء ، فعند ما تحقق لهم ما أرادوا عصوا ، ويقول بعض : إنّها حكاية مطالبة النّبي صالح عليه السلام بمعجزة ، ولكن الظاهر أن هذه الاحتمالات بعيدة عن الصواب ، لأنّ الآية تتحدث عن «سؤال» عن مجهول يراد الكشف عنه ، لا عن «طلب» شيء ، ولعل استعمال كلمة «سؤال» في كلا الحالين هو سبب هذا الخطأ.
قد تكون تلك الأقوام من بني إسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأوّل من هذا التّفسير) فراحوا يمطرون موسى بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها ممّا لم يكن قد نزل بشأنها أي شيء ، ولكنّهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم ، بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا الكثير من النفقات في سبيل ذلك ، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.
في تفسير قوله تعالى : {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ} احتمالان :
الأوّل : أنّ المقصود بالكفر هو العصيان ، كما سبقت الإشارة إليه.
والثّاني : هو أنّ الكفر قصد بمعناه المعروف ، وذلك لأن سماع الإجابات المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إلى إنكار أصل الموضوع وصلاحية المجيب ، كأن يسمع مريض جوابا لا يروقه من طبيبه ، فيؤدي ردّ الفعل به إلى إنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.
في ختام هذا البحث نجد لزاما أن نكرر ما قلناه في بدايته ، وهو أنّ هذه الآيات لا تمنع أبدا إلقاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة ، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها ، وبالتعمق في أمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم ـ أحيانا ـ بقاؤها في طي الكتمان.
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 641-643 .
2. «مجمع البيان» ، ذيل الآية المذكورة .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|