أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-9-2016
1581
التاريخ: 1-11-2021
1532
التاريخ: 1-11-2021
2017
التاريخ: 13-11-2021
1656
|
ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» والمراد هو الجواز الوضعي؛ بمعنى النفوذ والمضيّ، كما سيأتي التكلّم فيه إن شاء اللَّه تعالى، وفي هذه القاعدة جهات من البحث:
الجهة الاولى: في مدركها، وهو امور:
الأوّل: كونها من الأمارات الظنيّة القويّة التي بنى على حجيّتها العقلاء من الملل كافّة، سيّما القضاة والحكّام في جميع الأقطار والأمصار والأعصار، ولم يردع عنها الشارع بل بنى على امضائها، كما نشاهده في باب الحدود، والديات، والقصاص، والقضاء وغيرها.
أمّا بناء العقلاء على الاعتماد على إقرار العاقل، فلأنّه- بعد فرض كون المقرّ عاقلًا، والعاقل لا يصدر منه ما لا يجتمع مع العقل- لابدّ وأن يكون الوجه لإقراره إمّا بيان الواقع؛ لانزجرا نفسه عن الخلاف الذي صدر عنه؛ كالسرقة والقتل والغصب وأمثاله، أو تخفيف العذاب الأخروي كالزنا وشبهه، وقد وقع في بعض الروايات الواردة في مورد الإقرار بالزّنا التعبير ب «طهّرني» (1) الدالّ على أنّ إقراره الموجب للحدّ إنّما هو لأجل حصول الطّهارة والنظافة من القذارة المعنوية المتحقّقة بسبب الزّنا، فالداعي إلى الإقرار هو التخلّص في الجملة من العذاب الاخروي.
نعم، ربما يمكن أن يتحقّق الإقرار من دون أن يكون لبيان الواقع أو التحذّر من شدّة العذاب، بل يكون كذباً مخالفاً للواقع صادراً بداعي إظهار الشخصية أو الشجاعة مثلًا، ولكنّه حيث يكون متصفاً بالشذوذ وقلّة الوجود، لا يمنع عن اعتماد العقلاء على الأقارير، ولكن احتماله صار موجباً لكون الإقرار من الأمارات الظنيّة؛ إذ بدونه يكون الإقرار موجباً للعلم بصحّة ما أقرّ به وصدّقه، فهو- أي احتمال الكذب- وإن صار مانعاً عن تحقّق العلم، إلّا أنّه لم يصر مانعاً عن الاعتماد على الإقرار ونفوذه وجوازه، ولذلك ترى أنّ عمدة ما يعتمدون عليه في المحاكم وفي باب المرافعات وفصل الخصومات وإجراء الأحكام والمقرّرات هو الإقرار الصّادر من المتّهم، ولم يناقش في هذا الاعتماد واحد منهم أصلًا.
وأمّا عدم ردع الشارع وامضاؤه فهو يظهر كما عرفت بملاحظة الكتب المختلفة من كتب الحديث المؤلّفة للخاصة والعامّة، ولا شبهة في الإمضاء بوجه.
الثاني: الكتاب؛ كقوله تعالى: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [آلعمران: 81] . وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] . وقوله تعالى: { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] . واجيب عنها، أمّا عن الآية الاولى، فلأنّه لا ربط لها بما هو محلّ البحث في قاعدة إقرار العقلاء؛ لأنّ اللَّه تعالى يخاطب الناس ويقول- بعد أخذ العهد والمواثيق منهم على أن يؤمنوا وينصروا رسله «هل أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري» أي ثقلي؟ والمراد بالثقل: العهود والمواثيق التي اخذت منهم، أي قبلتم عهودي ومواثيقي، قالوا: «أقررنا» أي قبلنا تلك العهود والمواثيق، والمراد من الأمر بالشهادة تثبيت تلك العهود والمواثيق عليهم وإتمام الحجّة، ولذلك يقول بعد ذلك:
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ أي لا يمكن لكم أن تنكروا هذه العهود.
وأمّا عن الآية الثانية، فلأنّه أيضاً لا ربط لها بالمقام؛ سواء كان المراد ب «آخرون» هم الفاسقون المعترفون بذنوبهم، التائبون عمّا فعلوا من خلط العمل الصالح بالعمل السيّء، أو المتخلّفين عن غزوة تبوك، فندموا وتابوا (2).
أقول: لا تنبغي المناقشة في إشعار الآية بل دلالتها على أنّ الاعتراف بالذنب كاشف عن ثبوته وحاك عن تحقّقه، ولكن دلالتها على أنّ «إقرار كلّ عاقل على نفسه جائز» ممنوعة.
وأمّا عن الآية الثالثة، فلأنّ المراد من الشهادة الواجبة- ولو كانت على النفس- هي ما إذا كان نفس الشهادة وأداؤها موجباً لوقوع ضرر على النفس، والمفروض في القاعدة كون المقرّبه ضرراً على المقرّ لا نفس إقراره، فهذه الآية أيضاً لا مجال للاستدلال بها في محلّ البحث في المقام.
الثالث: الرّوايات، وهي على قسمين:
الأوّل: ما يدلّ على القاعدة بعنوانها الكلّي؛ وهو الحديث المشهور بين الفريقين الذي عبّر عنه صاحب الجواهر قدس سره بالنبويّ المستفيض أو المتواتر (3) وهو قوله صلى الله عليه و آله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (4) ، وأيضاً قوله صلى الله عليه و آله: قولوا الحقّ ولو على أنفسكم (5) ، وأورده صاحب الجواهر في كتاب الإقرار (6) .
والظاهر عدم انطباق الحديث الثاني على المقام؛ لأنّ المراد وجوب إظهار الحقّ وعدم جواز كتمانه، وإن كان نفس هذا الإظهار وعدم الكتمان ضرراً على المقرّ، فالرواية مثل قوله تعالى: { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] .
وأمّا الحديث الأوّل: فهو ينطبق على القاعدة، بل عنوانها مأخوذ فيه ...
القسم الثاني: الأحاديث الكثيرة التي ورد أكثرها في الموارد الخاصّة، كالإقرار بالولد والنسب، وكون النساء مصدّقات في أنفسهنّ (7) ، ولكنّ الظاهر أنّ ذكر المورد إنّما هو لأجل تطبيق القاعدة عليه، لا لأجل خصوصيّة فيه، كما لا مجال للتأمّل فيه لمن راجعها، وقد ورد في بعض الأحاديث، مثل:
مرسل العطّار، عن الصادق عليه السلام: المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه(8) . ومرجعه إلى أنّ الشهادة على النفس وإن كانت واحدة، بل ربما لا يكون عادلًا، لكنّها أكشف للواقع وأصدق من شهادة سبعين مؤمناً وإن كانت متصفة بالتعدّد، بل وبالعدالة أيضاً.
وفي خبر جرّاح المدائني، عن الصادق عليه السلام: لا أقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه (9) . فإذا قبلت شهادة الفاسق على نفسه، فشهادة العادل عليها بطريق أولى، ومرجع هذه الروايات إلى أنّ مسألة الإقرار من شؤون مسألة الشهادة. غاية الأمر أنّ لها خصوصيّة؛ وهي عدم اعتبار التعدّد والعدالة فيها، بخلاف الشهادة على الغير.
الرّابع: عدم الخلاف من أحد من علماء الإسلام بل إجماعهم كافّة على حجّية «إقرار العقلاء على أنفسهم» ونفوذه ومضيّته في الجملة (10) .
ولكن بملاحظة ما ذكرنا مراراً يظهر أنّه لا أصالة للإجماع في مثل المقام ممّا يوجد فيه نصّ معتبر، إلّا أن يكون الإجماع جابراً لضعف الرّواية على تقديره.
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ عمدة الدليل على نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم هو بناء العقلاء، ويكون مثل الحديث النبوي دليلًا على الإمضاء، فالحديث يمضي ما عليه بناء العقلاء، وعليه: لا يكون دليلًا مستقلّاً في مقابله، ولكن حيث يكون بناء العقلاء من الأدلّة اللبّية ودليل الإمضاء دليلًا لفظيّاً، لابدّ من المشي على طبق دليل الإمضاء والبحث في مفاده من جهة العبارات الواقعة والكلمات المستعملة فيه.
الجهة الثانية: في مفاد القاعدة، وقد عرفت أنّه لابدّ في هذه الجهة من البحث في مفاد الحديث الذي هو دليل لفظي يتضمّن الإمضاء لما عليه بناء العقلاء.
فنقول: أمّا الإقرار، فمعناه لغةً وعرفاً هو الإثبات وجعل الشيء ذا قرار وثبات (11) ، ومعنى أقرّه على شغله: هو جعله ثابتاً على ذلك الشّغل، ومعناه في المقام الذي هو بحث فقهي: هو إثبات المقرّ به وجعله ثابتاً.
وإضافة الإقرار إلى العقلاء لأجل خصوصية لهم في هذا الحكم، وعدم شموله لغيرهم ممّن لا عقل له.
والمتفاهم من كلمة «على أنفسهم» كونه على ضررهم؛ فإنّ كلمة «على» في مثل المقام بمعنى الضرر في مقابل «اللام» الذي بمعنى النفع، مثل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] .
والمراد بالجواز كما أشرنا إليه في أوّل بحث القاعدة هو النفوذ والمضيّ لا الجواز مقابل الحرام؛ لأنّ الجواز التكليفي لا يختصّ بالإقرار على النفس، بل يشمل الإقرار للنفس، كما أنّه لا يختصّ بخصوص العقلاء، مع أنّه قد لا يكون الإقرار على النفس من العاقل بجائز شرعاً، كما إذا علم بكذب إقراره، فإنّه حينئذ حرام من جهة الكذب، وربما ينطبق عليه عنوان محرّم آخر؛ كقذف المحصنة فيما إذا أقرّ بالزنا بالمحصنة الفلانية، مع أنّ الظاهر كما عرفت كون الحديث إمضاء لما عليه العقلاء، ومرّ أيضاً أنّ العقلاء يجعلون الإقرار من الأمارات الظنّية القويّة ويعتمدون عليها، فالمراد من الجواز هي الحجية التي عليها بناء العقلاء.
وأمّا الظرف، فهل هو متعلّق بالإقرار كما هو ظاهر عبارة القاعدة، ومرجعه إلى تقييد موضوع الحكم بالمضيّ بما إذا كان الإقرار على النفس وبضرره، كتقييده بما إذا كان صادراً من العقلاء على ما تقتضيه إضافة الإقرار إليهم، أو يكون متعلّقاً بالجواز والمضيّ، ويكون الموضوع مطلق الإقرار، ومرجعه إلى كون الحكم- وهو الجواز- مقيّداً بكونه على النفس وبضرر المقرّ؟
وعلى التقدير الأوّل، فهل يكون الحكم بالجواز مطلقاً وغير مقيّد، أو يكون هو أيضاً كموضوعه مقيّداً بما إذا كان على النفس، ففي هذه الجهة ثلاثة احتمالات:
الأوّل: أن يكون الظرف متعلّقاً بالإقرار وموجباً لتقييد الموضوع، من دون أن يكون الحكم مقيّداً به أيضاً.
الثاني: أن يكون الظرف متعلّقاً بالحكم وموجباً لتقييده من دون ارتباط له بالموضوع، والثمرة بين الاحتمالين تظهر فيما إذا كان الإقرار على ضرره، ولكن كان له لازم يكون لنفعه، كما لو أقرّ بولديه مولود أو زوجيّة امرأة؛ فإنّ الإقرار بالأبوة وكذا الزوجية كما يكون على نفسه من جهة وجوب إعطاء النفقة، كذلك يكون لنفسه من جهة الإرث منهما على تقدير موتهما.
ففي هذا الفرض إن كان الظرف متعلّقاً بالإقرار، وكان الحكم بالجواز مطلقاً، يترتّب على إقراره كلا الأمرين؛ لثبوت قيد الموضوع وكون الحكم مطلقاً، فاللازم نفوذ إقراره في اللازم أيضاً كنفوذه فيما يرجع إلى ضرره.
وإن كان الظرف متعلّقاً بالجواز يكون مقتضاه النفوذ في خصوص ما يرجع إلى ضرر نفسه، ولا يشمل اللازم بوجه.
الثالث: أن يكون الظرف متعلّقاً بكلا الأمرين، لا بمعنى تعلّقه من الجهة النحوية بأمرين، بل بمعنى تقدير على أنفسهم بعد الحكم بالجواز أيضاً، فكأنّه قال: إقرار العقلاء على أنفسهم، جائز على أنفسهم، وعدم التصريح به لعدم الحاجة إليه، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] حيث تكون كلمة «بهم» مقدّرة بعد قوله تعالى: وَأَبْصِرْ.
ومقتضى هذا الاحتمال أنّه إذا كان للإقرار مدلول التزاميّ لا يكون ضرراً على المقرّ لا تشمله القاعدة.
والظاهر بملاحظة فتاوى الفقهاء رضوان اللَّه عليهم أجمعين بثبوت خصوص ما يرجع إلى ضرر المقرّ، وبملاحظة ظهور عبارة القاعدة في كون الظرف متعلقاً بالإقرار، هو هذا الاحتمال الثالث الذي يرجع إلى تقييد الموضوع والحكم معاً بكونه على النفس.
ولكن في المقام إشكال مهمّ أورده النراقي قدس سره في عوائده مفصّلًا، وخلاصته: أنّه إذا كان الإقرار بأمر واحد لا يمكن تحقّقه إلّا بين اثنين، كالإقرار بالزوجيّة في المثال المتقدّم، يشكل الحكم بنفوذ الإقرار فيه، بل لا يمكن الحكم به لا في حقّ المقرّ ولا في حقّ الغير، أمّا في حقّ الغير فظاهر، وأمّا في حقّه فلعدم إمكان تحقّقه بدون الثبوت في حقّ الغير، وبعبارة اخرى: إمّا يحكم بنفوذه في حقّهما، فيلزم نفوذ الإقرار في حقّ الغير وهو باطل شرعاً، أو بنفوذه في حقّه خاصّة دون حقّ الآخر وهو باطل عقلًا؛ لاستلزامه انفكاك ما يمتنع انفكاكه عن الشيء، مع أنّه لو حكم بعدم النفوذ أيضاً لا يكون مخالفة فيه؛ لعموم النبوي؛ إذ الثابت منه نفوذ الإقرار في حقّ النفس، وهذا إقرار بشيء واحد في حقّ النفس والغير، فلا يشمله الخبر، بل ليس ذلك متبادراً من الإقرار على النفس (12) .
والجواب عن هذا الإشكال: أنّ وروده يبتني على أن يكون مقتضى الحديث، الحكم بالثبوت الواقعي التكويني، فإنّه مع فرض تقوّم الشيء بشخصين واستحالة التفكيك بين أمرين لا يبقى مجال للتفكيك بوجه، وأمّا إذا كان المراد هو الثبوت التعبّدي فلا إشكال في التفكيك؛ لأنّ مرجعه إلى الحكم بالثبوت في مقدار دلّ دليل التعبّد عليه، فإنّه في مثل المثال إذا كان زيد شاكّاً في بقاء زوجيّته المتيقّنة في السابق، والزوجة عالمة بزوال الزوجية، يكون مقتضى قاعدة «لا تنقض» الجارية في حقّ الزوج لزوم ترتيب آثار الزوجيّة من إعطاء النفقة ومثله، ولا تجب على الزوجة الموافقة مع العلم بزوالها، وليس ذلك إلّا لأجل كون الثبوت ثبوتاً تعبّدياً لا مانع فيه من تحقّق التفكيك بوجه.
كما أنّه لا مانع في الثبوت التعبّدي من التضادّ أصلًا، فإذا كان شخصان مشتركين في ثوب واحد، وكان الثوب مشكوك النجاسة في زمان، ولكن كانت حالته السابقة المتيقّنة الطهارة بالإضافة إلى أحدهما والنجاسة بالإضافة إلى آخر، يكون مقتضى الاستصحابين النجاسة والطهارة معاً في ثوب واحد، ولا مانع منه بعد فرض كون الثبوت تعبّدياً.
وبالجملة: لا مجال للإشكال في موارد الثبوت التعبدي بعد قصور دليل التعبد عن الشمول للمدلول الالتزامي؛ فإنّه يتحقّق حينئذ الانفكاك من دون أن يكون هناك مانع.
إن قلت: إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ في الاصول العمليّة، حيث إنّ مثبتاتها ليست بحجّة، والحجّية مقصورة على المدلول المطابقي. وأمّا في باب الأمارات، فقد اشتهرت حجيّة مثبتاتها وعدم انحصار الحجّية فيها بالمدلول المطابقي، بل شمولها للمدلول الالتزامي أيضاً، فإذا شهدت البيّنة مثلًا بأنّ زيداً بلغ ثلاثين سنة، فكما أنّ شهادتها حجّة في هذا المدلول المطابقي، فكذلك حجّة في اللوازم العادية والعقلية أيضاً، وقد مرّ أنّ الإقرار عند العقلاء من الأمارات الظنّية القويّة وقد أمضاها الشارع، فاللازم أن يكون حجّة بالإضافة إلى اللّوازم أيضاً.
قلت: الفرق بين الاصول والأمارات بما ذكرت ليس مستنداً إلى تعبّد في هذه الجهة بحيث كان مقتضاه التفكيك في الاصول دون الأمارات، بل لأجل أنّ دليل الأصل لا يشمل المدلول الالتزامي بوجه دون دليل الأمارة، فإذا كان حياة زيد مشكوكة من حيث البقاء يكون مقتضى الاستصحاب الحكم بالبقاء، ولكن لا يلزم ترتيب آثار البقاء التي لم تكن متيقّنة في السابق، بل كانت متيقّنة العدم كنبات اللحية، الذي لم يكن له حالة سابقة، فمعنى عدم حجّية مثبت الاستصحاب أنّ دليل لا تنقض لا يجري إلّافي خصوص ما كان فيه يقين بالحدوث وشك في البقاء، ولا معنى لجريانه فيما ليس فيه هذا العنوان؛ وهو اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء.
وأمّا في مثل مثال البيّنة فالشهادة ببلوغ زيد ثلاثين شهادة بجميع لوازمه العادية والعقليّة، والمفروض عدم انحصار دليل حجّية البيّنة بخصوص المدلول المطابقي، فكلّما قامت على البيّنة فهو ثابت؛ سواء كان مدلولًا مطابقيّاً أو مدلولًا التزاميّاً، وبعبارة اخرى: يدخل الجميع في دائرة الشهادة، والمفروض اعتبارها.
لكن في المقام مع كون الإقرار من الأمارات عند العقلاء والشارع، الّا أنّه، حيث يكون دليل الإمضاء مقيّداً موضوعاً وحكماً بكونه على النفس، فلا يبقى مجال لتوسعة دائرة الحكم بالثبوت بغير ما إذا كان على النفس، بل لابدّ من الاقتصار على هذه الجهة والتّحديد بذلك، فالإقرار مع كونه أمارة لكنّه لا يترتّب عليه إلّا ما كان على النفس، ولا مانع من التفكيك كما عرفت.
ونظيره قاعدة التجاوز بناءً على كونها أمارة؛ فإنّه لو شك في إتيان صلاة الظهر في أثناء الاشتغال بصلاة العصر، أو شك في أثناء الصلاة أنّه توضّأ أم لا؟
يكون مقتضى قاعدة التجاوز البناء على الإتيان بصلاة الظهر في المثال الأوّل من جهة شرطيّتها لصلاة العصر، ولزوم الترتيب بين الصلاتين، لا مطلقاً حتّى لا يجب الإتيان بها بعد الفراغ عن صلاة العصر مع بقاء الوقت وكون الإتيان بها مشكوكاً، كما أنّ مقتضى قاعدة التجاوز أنّه توضّأ من جهة شرطية الطهارة للصلاة التي هو مشتغل بها، لا أنّه توضّأ مطلقاً حتى لا يجب عليه التوضّؤ لصلاة اخرى مع اشتراطها بالوضوء وكونه مشكوكاً، فالتعبّد بوجود صلاة الظهر في الأوّل وبوجود الوضوء في الثاني لا يكون تعبّداً مطلقاً، بل محدوداً بما تكون القاعدة مقيّدة به؛ وهو صدق عنوان التجاوز، فالأمارية لا تلازم الحكم بالثبوت مطلقاً.
ولذلك ترى الفقهاء يفتون في المقام بأنّه لو أقرّ بالزنا بالمرأة الفلانية يترتّب على إقراره حدّ الزنا من الجلد مع عدم الإحصان، والرّجم معه، ولكنّه لا يثبت على المرأة شيء من جهة هذا الإقرار أصلًا.
كما أنّه لو أقرّ ببنوّة شخص له، يترتّب على إقراره وجوب الإنفاق على تقديره؛ كما أنّه يرث منه بمقتضى إقراره، ولكنّه لا يرث منه، ولا مانع من الانفكاك.
وخلاصة الكلام أنّ الإقرار- كما في العوائد (13) - إمّا أن يكون في حقّ الغير محضاً ؛ كأن يقول: زيد سرق مال عمرو، أو في حقّ نفسه كذلك؛ كأن يقول: هذا ليس مالي، أو عليّ درهم في سبيل اللَّه، أو يكون في حقّه وحقّ الغير معاً، وهو على قسمين؛ لأنّه إمّا أن يكون إقراراً مركّباً من أمرين يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر يقرّ بأحدهما لنفسه وبالآخر للآخر فيقول: بعت أنا وشريكي تمام الدار، أو يكون إقراراً بأمر واحد لا يمكن تحقّقه إلّا بين اثنين.
وبعبارة اخرى: يكون اعترافاً بأمرين يمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر؛ كأن يقرّ بمبايعة، أو مصالحة، أو مؤاجرة، أو زوجيّة، أو تطليق، أو يقرّ باخوّته لهند واختيّتها له، أو ببنوّته لعمرو وابوّته له، ونحو ذلك.
والحكم في الأوّلين واضح، وكذا في القسم الثالث، ضرورة أنّه ينفذ في حقّ نفسه لا في حقّ الآخر، والإشكال إنّما هو في القسم الرّابع، وقد عرفت توضيح الإشكال وكذا تفصيل الجواب، وخلاصته: الفرق بين الثبوت الواقعي، وبين الثبوت التعبّدي الذي هو مفاد قاعدة الإقرار المستفادة من دليل الإمضاء.
وينبغي التنبيه على امور:
الأمر الأوّل: قد عرفت أنّ الإقرار لغة وعرفاً عبارة عن جعل الشيء ذا قرار وثبات، وأنّ الإقرار على النفس معناه تثبيت شيء عليها وبضررها؛ سواء كان مالًا أو حقّاً أو أمراً مستتبعاً لثبوت حقّ أو مال على نفسه، كإقراره بثبوت نسبة بينه وبين غيره، وسواء كان الحق حق الناس كالدين مثلًا، أو حقّ اللَّه كالإقرار بما يوجب الحدّ من الزنا وغيره.
ولا فرق في تحقّق الإقرار على النفس بين أن يكون مدلولًا مطابقيّاً للّفظ، كما إذا قال: أنا مديون لزيد بمائة درهم مثلًا، أو مدلولًا التزاميّاً كما إذا قال زيد مخاطباً له: «أنت مديون لي بكذا»، فقال في جوابه: «رددت عليك دينك»، فإنّ قوله:
«رددت...» وإن لم يكن مدلوله المطابقي الإقرار بثبوت الدين، إلّا أنّ مدلوله الالتزامي يكون إقراراً عند العرف بثبوته، ولذلك ترى الفقهاء يحكمون بلزوم إقامة البيّنة على الردّ بعد إقراره بثبوت الدّين، ولو قال في جواب المدّعي: مالك عليّ دين، لم يلزم عليه إقامة البيّنة؛ لأنّه كان منكراً، ووظيفته اليمين مع عدم إقامة المدّعي البيّنة.
وبالجملة: لا إشكال في اعتناء العرف والعقلاء بالإقرار الّذي يكون مدلولًا التزاميّاً. هذا كلّه إذا كان الإقرار باللفظ.
وأمّا إذا كان بغير اللفظ كالإشارة، كما إذا سأله الحاكم: هل أنت مديون لزيد؟
فصدّقه بالإشارة، فلا إشكال في كونه إقراراً في الجملة وينفذ على المقرّ، إنّما الإشكال في أنّه هل بينه وبين الإقرار باللفظ فرق من جهة انه لا يعتبر في اللفظ إلّا مجرّد الظهور الذي يكون حجّة عند العقلاء في باب الألفاظ، ويعتبر في غيره الصراحة بحيث لا يحتمل الغير بوجه، ولا يجرى فيه احتمال آخر أصلًا، أو أنّه لا فرق بينهما أصلًا، بل يكون الملاك في كليهما هو الظّهور، فكما أنّ اللفظ الظاهر في الإقرار يكون عند العرف مصداقاً لقوله صلى الله عليه و آله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فكذلك الفعل الظاهر في الإقرار كالإشارة في المثال المذكور، غاية الأمر ثبوت الاختلاف بينهما في الصغرى؛ بمعنى ثبوت الظهور للألفاظ نوعاً وعدم ثبوته للفعل كذلك؛ لأنّه يجري فيه وجهان بل وجوه، أمّا مع ثبوت الظهور- كما هو المفروض- فلا فرق بينهما؟ الظاهر هو الثاني، وإن كان ظاهر المحقّق البجنوردي في قواعده الفقهية (14) هو الأوّل، ثمّ إنّ ما ذكرنا في الإشارة يجرى في الكتابة من دون فرق.
الأمر الثاني: أنّك عرفت أنّ الإقرار ظاهره الإثبات وجعل الشيء ذا قرار، فإذا كان الإقرار على النفس بهذه الصورة؛ أي بصورة الإثبات، فلا شبهة في نفوذه وكونه مصداقاً للقاعدة، وأمّا إذا كان بصورة النفي والإنكار، كما إذا نفى الحق عن نفسه بعد إقرار الطرف بثبوته له، كما إذا قال البائع مثلًا له: لك الخيار عليّ في هذه المعاملة الواقعة، فنفى ثبوت الخيار لنفسه، وأنكر ما أقرّه البائع على نفسه. أو نفى المال، كما إذا قال له ذو اليد : هذا المال الذي في يدي لك، فنفى كون المال له وأنكر ما أقرّه ذو اليد على نفسه.
أو نفى النسبة، كما إذا قال ورثة الميت له: أنت شريكنا في الإرث؛ لأنّك أخ لنا، فنفى الاخوّة وكونه وارثاً للميّت، فهل يكون مصداقاً للقاعدة ، ويكون النفي والإنكار الذي يرجع إلى الإقرار على النفس نافذاً عليه وممضى بضرره، أم لا؟
والثمرة بين الوجهين تظهر في الرجوع عن هذا الإنكار وتصديق المقرّ فيما أقرّ به بعده، فإن كان هذا الإنكار إقراراً على النفس، فلا يسمع الإنكار بعد الإقرار والرجوع عنه ... وإن لم يكن إقراراً على النفس، فلا مانع من السماع بعد عدم كونه إنكاراً بعد إقرار.
والظاهر- بملاحظة ما عرفت من لزوم الرجوع إلى العرف في تشخيص موضوع الإقرار المأخوذ في القاعدة- كون المقام أيضاً من مصاديق الإقرار وإن كان بصورة النفي والإنكار، والظاهر أنّ هذا المقام أقرب من المدلول الالتزامي المتقدّم الذي ذكرنا شمول القاعدة له، وعليه: فمقتضى عموم القاعدة كون المقام أيضاً ممّا يكون إقراره نافذاً عليه.
نعم، يبقى في المقام أنّه في مثل الأمثلة المتقدّمة يتحقّق مصداقان للإقرار على النفس: إقرار من البائع مثلًا بثبوت حق الخيار للمشتري عليه، وإقرار من المشتري- كما هو المفروض- بعدم ثبوت الخيار له على البائع، وكلاهما إقرار على النفس، فاللازم أن يقال بالتعارض والتساقط، كما هو مقتضى القاعدة في كلّ أمارتين متعارضتين، وعليه: فلا يؤخذ أيّ واحد من المقرّين بإقراره.
نعم، لو رجع النافي عن إقراره الذي بصورة الإنكار، وصدّق المقرّ الأوّل، فإن كان المقرّ الأوّل باقياً على إقراره أُخِذَ بمقتضى إقراره الجديد الذي لا يكون له معارض، وإن لم يكن باقياً على الإقرار يتحقّق المدّعي والمنكر، فيدخل في باب القضاء كما لا يخفى.
الأمر الثالث: لا شبهة في أنّه بعد تماميّة الإقرار على النفس لا يسمع الإنكار وتكذيب الإقرار، والوجه فيه أنّه لا دليل على اعتبار هذا الإنكار بعد قيام الدليل على اعتبار الإقرار المتقدّم ونفوذه، وأنّه من الأمارات المعتبرة عند العقلاء والشارع، فعدم سماع الإنكار بعده إنّما هو لأجل عدم الدليل على السّماع والاعتبار؛ لعدم كونه من مصاديق القاعدة، وعدم دليل آخر على الاعتبار.
نعم، لابدّ من ملاحظة أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا تمّ الإقرار، وكان الإنكار أمراً آخر غير مرتبط به بحسب الدلالة والظهور، فإذا كان الإنكار بمنزلة القرينة المتّصلة، أو المنفصلة التي تكون أصالة الظهور فيها حاكمة على أصالة الظهور في طرف ذي القرينة، فهذا لا يكون إنكاراً بعد إقرار، فإذا قال لزيد: عليّ عشرة إلّا درهماً، فليس هناك إلّا ظهور واحد؛ وهو الظهور في الإقرار بتسعة، وليس استثناء الدرهم بمنزلة الإنكار بعد الإقرار بعشرة، بل لم يتحقّق الإقرار من أوّل الأمر إلّا بالإضافة إلى التسعة، ولم يتحقّق للكلام ظهور إلّا بالنسبة إليها، وهكذا الأمثلة الاخرى.
فمحلّ البحث هو ما إذا كان لكلّ من الإقرار والإنكار ظهور مستقلّ غير مرتبط بالآخر، غاية الأمر المضادّة بينهما من جهة الواقع، ففي هذه الصورة لا مجال لسماع الإنكار بعد أنّه لم يقم دليل عليه. وأمّا إذا كان هناك ظهور واحد في الإقرار على النفس، فلا إشكال في لزوم الأخذ به كما في المثال وشبهه.
نعم، هنا شبهة؛ وهي أنّه لو فرض أن يكون للإنكار حكومة على الإقرار، وكان بمنزلة الشرح والتفسير والتوضيح له، كما في الدليل الحاكم بالإضافة إلى الدليل المحكوم، مثل قوله عليه السلام: لا شك لكثير الشك (15) ، الذي هو ناظر إلى أدلّة الشكوك الدالّة على لزوم البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط، وتقييد لها بغير كثير الشك، فهل يقبل هذا التفسير وهذه الحكومة؟ مثلًا إذا قال: إنّ داري هذه لزيد، ثمّ قال بكلام منفصل: أردت من الدّار نصفها، فنصفها فقط لزيد، فهل يقبل منه هذا التفسير الذي هو بمنزلة الإنكار لما أقرّ به من كون تمام الدار لزيد، على ما هو مقتضى ظاهر الإقرار، أم لا يقبل؟
يمكن أن يقال بالقبول؛ لعدم الفرق بين المقام وبين حكومة أحد الدليلين على الآخر، المقتضية لتقدّم الدّليل الحاكم على الدّليل المحكوم؛ لكونه ناظراً إليه ومسوقاً لتحديد مدلوله سعة وضيقاً، فاللازم في المقام أيضاً القبول بعد كون الإنكار بمنزلة الشرح والتفسير للإقرار.
نعم، لو كان بينهما مضادة بالكلّية لما كان مجال لقبول الإنكار، كما إذا أنكر في المثال كون الدار لزيد ولو ببعض أجزائها، وأمّا مع عدم المضادّة بهذه الكيفيّة فاللازم القبول.
ولكنّ التحقيق يقتضي عدم القبول؛ لأنّ مسألة التقنين التي تجري فيها الحكومة والتخصيص وأمثالهما، تغاير المحاورات العادية التي لا ربط لها بمقام وضع القانون، ألا ترى أنّ التخصيص الذي بلغ من الكثرة إلى حدّ قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» لا يجري في غير مسألة التقنين بوجه؛ لأنّ الموجبة الكليّة تناقض السالبة الجزئيّة، وكذا السالبة الكليّة تناقض الموجبة الجزئيّة، كما في علم المنطق، فإذا قال قائل: «ما لقيت من القوم أحداً» ثمّ قال مع الفصل: «لقيت من القوم زيداً» فهذه مناقضة غير مقبولة عند العرف والعقلاء، وهذا بخلاف ما إذا قال في مقام التقنين: «أكرم القوم» ثمّ قال: «لا تكرم من القوم زيداً».
فهذا يدلّنا على بطلان مقايسة مثل المقام بمسألة الحكومة والتخصيص وأمثالهما، الجارية في نطاق وضع القانون ومقام التقنين، وعليه: فلا يقبل الإنكار بعد الإقرار، ولو كان بصورة الشرح والتفسير وبعنوان الناظر كما عرفت.
الأمر الرّابع: مقتضى إطلاق قوله صلى الله عليه و آله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، نفوذ الإقرار على النفس مطلقاً، من دون فرق بين ما إذا كان في قبال من يدّعي ما أقرّ به، وبين ما إذا لم يكن في البين مدّع أصلًا.
ويحتمل- ثبوتاً- الفرق واختصاص القاعدة بما إذا كان الإقرار في قبال المدّعي، وعليه: فلو قال: إنّ هذه الدار التي في يدي وتحت استيلائي لزيد، ولم يكن زيد يدّعي كون الدّار له، بل يظهر الجهل وعدم العلم، فحيث لا يكون هذا الإقرار في قبال المدّعي لا يكون بنافذ على ما هو المفروض من الاحتمال، فلو أنكر بعد ذلك وقال: هذه الدّار لي، لا يكون من الإنكار بعد الإقرار حتّى لا يسمع، بل تكون يده أمارة الملكيّة، ويجوز له التصرّف فيه بما شاء.
وأمّا على الفرض الأوّل فيكون هذا الإنكار إنكاراً بعد إقرار، ولا مجال لسماعه كما مرّ، وعليه: تكون يده ساقطة عن الاعتبار، إلّا إذا ادّعت الملكية الجديدة وكان حصولها ممكناً، فحينئذ يمكن أن يقال باعتبار يده بناءً على تقدّم أمارية اليد الفعلية على استصحاب حال اليد السابقة التي هي يد أمانية بمقتضى إقراره النافذ على ما هو المفروض.
وأمّا بناءً على تقدّم الاستصحاب المزبور، فلا يترتّب على يده الفعلية شيء، ولا تكون أمارة بوجه، ويجري مثله فيما إذا كان مستأجراً لدار، والمستأجر يده يد أمانة، ثمّ ادّعى انتقالها إليه بناقل شرعي، فهل يجري حينئذٍ استصحاب يده الأمانية، أو تكون يده أمارة الملكية؟ فيه وجهان، ولا يبعد دعوى تقدّم الاستصحاب في مثل هذه الموارد، والتحقيق في محلّه.
الأمر الخامس: لو قلنا باختصاص نفوذ الإقرار بما إذا كان في قبال من يدّعي ما أقرّ به، فلا إشكال في لزوم تسليم ما أقرّ به إلى المدّعي وجواز التصرّف له في ذلك، بلحاظ أنّ مقتضى ادّعائه العلم بكونه له، ولا معارض له في هذا الادعاء ، بل صاحب اليد يقرّ بكونه له؛ أي للمدّعي.
وأمّا لو لم نقل بالاختصاص، وقلنا بنفوذ الإقرار على النفس مطلقاً، فهل يجوز لزيد مثلًا- الذي أقرّ صاحب اليد بكون ما في يده له، ولا يكون هو مدّعيا أصلًا، بل يظهر الجهل وعدم العلم، كما في المثال المتقدّم في الأمر الرابع- التصرّف في ذلك الشيء بمقتضى الإقرار وقيام الدليل على نفوذه مطلقاً ولو لم يكن مدّعياً، أم لا يجوز له ذلك؟
يمكن أن يقال بعدم الجواز؛ لأنّ مقتضى القاعدة نفوذ الإقرار في خصوص ما يرتبط بضرر النفس ويكون عليها، وأمّا من الجهة الراجعة إلى نفع الغير، فلم يدلّ دليل على النفوذ، ففي المثال يكون مقتضى القاعدة نفوذ الإقرار بالإضافة إلى عدم كون ما في يده ملكاً للمقرّ ومتعلّقاً به، وأمّا كونه ملكاً لزيد، فلا اقتضاء للقاعدة بالنسبة إليه، فلا يجوز لزيد- الجاهل بكون ما في يد المِقرّ له- التصرّف فيه بصرف الإقرار وبمجرّده.
وبعبارة اخرى: الإقرار بكون ما في يده لزيد لا يكون إقراراً على النفس إلّا من جهة المدلول الالتزامي؛ وهو عدم كونه له، ودليل نفوذ الإقرار من جهة هذا المدلول لا يشمل النفوذ من جهة المدلول المطابقي أيضاً، اللّهمّ إلّا أن يستند لجواز تصرّف زيد في المثال إلى قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به»، ولابدّ من البحث فيها ليظهر صحّة الاستناد وعدمه.
إن قلت: إنّه مع عدم جواز التصرّف لزيد في المثال، كيف يعامل مع المال الذي انتزع من يد المقرّ بمقتضى إقراره.
قلت: يبقى أمانة في يد الحاكم أو المأذون من قبله حتّى يظهر المالك، ومع عدمه يعامل معه معاملة مجهول المالك، كما في سائر الموارد.
الأمر السادس: أنّ معنى الإقرار- لغة وعرفاً- هو الإخبار بثبوت شيء وجعله ذا قرار وثبات، والظاهر اعتبار الجزم في هذا الإخبار ولزوم كونه بتّاً، فلو أخبر بصورة الاحتمال وقال: إنّي أحتمل أن يكون ما في يدي لزيد لم يكن إقراراً أصلًا؛ لأنّ الاحتمال لا يجتمع مع الثبات والقرار المأخوذ في مفهوم الإقرار ومعناه، بل وكذا لو أقرّ بثبوت شيء من العين أو الدين أو الحقّ أو أمر مستتبع لشيء من ذلك معلّقاً على أمر؛ فإنّ الإقرار لا يجتمع مع التعليق؛ فإنّ مرجع الإقرار إلى جعله ذا ثبات، ومرجع التعليق إلى التزلزل والابتناء على المعلّق عليه، وهذان لا يجتمعان، من دون فرق بين ما إذا كان المعلّق عليه محتمل الوقوع والتحقّق، كقدوم زيد من السفر، وبين أن يكون محقّق الوجود فيما سيأتي، كطلوع الشمس غداً وإن كان التنافي في الصورة الاولى أظهر منه في الصورة الثانية.
ثمّ إنّ في مسألة الإقرار فروعاً كثيرة وقع الاختلاف في بعضها من جهة شمول القاعدة وعدمه، كما أنْ فيها مسائل اخرى غير مرتبطة بالقاعدة، بل بالألفاظ المستعملة في مقام الإقرار، أو بجهات اخرى كلّها مذكورة في كتاب الإقرار، الذي هو من الكتب الفقهية المشتملة على أبحاث كثيرة، ولا مجال للبحث عنها في هذا المقام الذي يكون محطّ البحث فيه نفس القاعدة المستفادة من السنّة فقط، ومن أحبّ تفصيل مسائل الإقرار، فليراجع كتابه في الفقه.
هذا تمام الكلام في قاعدة إقرار العقلاء.
_______________
( 1) وسائل الشيعة: 28/ 38، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود ب 16 ح 6 و ص 55 ب 31 ح 3- 5.
( 2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي: 3/ 49.
( 3) جواهر الكلام: 35/ 3.
( 4) عوالي اللئالي: 1/ 223 ح 104 و ج 2/ 257 ح 5 و ج 3/ 442 ح 5، وسائل الشيعة: 23/ 184، كتاب الإقرار ب 3 ح 2، مستدرك الوسائل: 16/ 31، كتاب الإقرار ب 2 ح 1.
( 5) بحار الأنوار: 30/ 414، تلخيص الحبير: 3/ 125 ح 1265، ولكن المروي هو: قل الحقّ ولو على نفسك، كما قاله صاحب تلخيص الحبير، ونقله في البحار: 77/ 173 عن كنز الفوائد للكراجكي: 2/ 31 وفي كنز العمال: 3/ 359 ح 6929 عن ابن النجار، عن عليّ عليه السلام.
( 6) جواهر الكلام 35/ 3.
( 7) انظر وسائل الشيعة: 19/ 322- 328، كتاب الوصايا ب 26 ووسائل الشيعة: 21/ 499، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد ب 102.
( 8) صفات الشيعة: 116 ح 60، وعنه وسائل الشيعة: 23/ 184، كتاب الإقرار ب 3 ح 1 وبحار الأنوار: 75/ 216 ح 18.
( 9) الكافي: 7/ 395 ح 5، تهذيب الأحكام: 6/ 242 ح 600، وعنهما وسائل الشيعة: 23/ 186، كتاب الإقرار ب 6 ح 1.
( 10) المبسوط: 3/ 2- 3، السرائر: 2/ 498، جواهر الكلام: 35/ 3.
( 11) راجع تاج العروس: 7/ 381.
( 12) عوائد الأيّام: 489- 490.
( 13) عوائد الأيّام: 489.
( 14) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي: 3/ 58.
( 15) لم نعثر عليه في كتب الحديث، ولعلّه قاعدة اصطيادية من سياق الروايات، فليراجع وسائل الشيعة: 8/ 227- 229، كتاب الصلاة، أبواب الخلل ب 16.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|