أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-3-2018
1094
التاريخ: 22-10-2014
910
التاريخ: 23-10-2014
967
التاريخ: 31-3-2018
1436
|
الكلام تارةً في أصل وجوب النظر ، وأُخرى في أنّ الوجوب المذكور ـ على تقدير ثبوته ـ عقلي أو شرعي ، لكن البحث في الأَوّل يغني عن الثاني فنقول :
والصحيح أنّه لا دليل على وجوب النظر في وجود واجب الوجود بما هو واجب ، أو خالق أو غير ذلك من الحيثيات ؛ إذ لا حكم للعقل بذلك ، ولا سبيل للشرع وتعبّده إليه بلا شك.
وإنّما يجب ذلك من جهة وجوب دفع الضرر ، فإنّ العاقل حينما يقرع سمعه قول أُناس ـ قليلين أو كثيرين ـ بعقاب أُخروي وعذاب دائمي لمَن أنكر المبدأ أو لم يعرفه ولم يعتقد به ـ وهذا النداء كان مسموعاً منذ صبيحة حياة البشر ، وسيبقى قارعاً إلى غروب وجوده ـ يحتمل صدقه وكذبه قهراً ، ولا سبيل له إلى تصديق أحد الطريفين قبل النظر .
فإذن ، يتولّد احتمال الضرر المذكور في ذهنه ، ويحصل له الخوف من احتمال صدق هذا القول ، ولا طريق لدفعه غير النظر ، فيجب لوجوب دفع الضرر فطرةً ولو كان محتملاً ؛ وذلك لأنّ الإنسان ـ بل وكذا الحيوان وكل حسّاس ـ مجبول على حبّ ذاته ، وينشأ من هذا الحب لزوم جلب المنافع ودفع المضار ، وهذا الإلزام ليس من قِبل العقل ، بل هو أمر فطري كما تدلّك عليه مشاهدة حال المجانين والصبيان والحيوانات ، فإنّها تدفع الضرر عن نفسها ، وتميل إلى منافعها وما هو يلائم أنفسها .
وإذا أعمل نظره وتفحّص عن الواقع ، فقد أَمن من الضرر المذكور قطعاً ، وتستريح نفسه من الخوف جزماً ، فإنّه إن أدّى إلى الحقّ فقد فاز فوزاً عظيماً ، وإن انجرّ إلى خلافه فهو مأمون
معذور : أمّا في الدنيا ؛ فلاعتقاده ببطلان احتمال العقاب والحساب ، وأمّا في الآخرة ؛ فلأنّ عقابه بلا بيان {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
وبالجملة : إذا كانت جهالته مستندةً إلى قصوره ـ كما هو المفروض ـ لا معنى لاستحقاقه العقاب المختصّ بالعامّة والمقصّر ، كما إذا لم يتفحّص مع قدرته عليه ، وإنكار القاصر في المقام ـ كما عن جمهور المتكلّمين ـ ضعيف ...
وهذا الذي ذكرنا ممّا لا ريب فيه ، قلنا بالتحسين والقبيح العقليين أم لم نقل ؛ إذ الوجوب المذكور ليس بحكم عقلي بل هو فطري (2) .
لا يقال : كيف والعقلاء كثيراً ما يقدمون على ارتكاب الضرر لبعض الأغراض .
فإنّه يقال : نعم ، لكن إذا كان الضرر قليلاً ، وأمّا إذا كان كثيراً فلا ولو كان محتملاً ، وهل يمكن لعاقل أن يختار عذاباً دائمياً وعقاباً أبدياً ؟ كلا .
وأمّا الوجوب الشرعي فلا مسرح له ؛ إذ لا شرع في حق الجاهل إثباتاً حتى ينفذ الحكم في حقّه.
وبالجملة حجية الخطاب موقوفة على اعتراف المخاطب بآمرية المتكلم ، وهي غير حاصلة في المورد ، وأمّا ما ورد في القرآن العزيز في ذلك ، فهو إرشادي لا مولوي ...
نقل ونقد:
الذائع في كلام المتكلّمين وجوب معرفة الله سبحانه ، بل ادّعى الجرجاني إجماع الأُمّة عليه في شرح المواقف (3) ، ولكنّهم اختلفوا في طريقه ، فالإمامية والمعتزلة على أنّه العقل ، والأشاعرة على أنّه الشرع . استدلّ الأَوّلون على قولهم بوجهين :
الأَوّل : إنّ المعرفة دافعة للخوف كما تقدّم ، ودفع الخوف واجب ، فتجب المعرفة أيضاً من باب المقدمة .
ويردُّه ما بيّناه من أنّ دفع الخوف يحصل بالنظر ، سواء أدى إلى المعرفة أم إلى الجهالة.
الثاني : إنّ شكر المنعم واجب عقلاً ؛ لاستحقاق تاركه الذم عند العقلاء ، بل قيل (4) ، إنّ العقلاء بأسرهم يجزمون بوجوب شكر المنعم ، وقيل (5) : إنّه متفق عليه بين الإمامية والمعتزلة ، بل ادّعى بعضهم (6) الوجدان والفطرة الذاتية وضرورة جميع أهل الأديان والملل على وجوبه .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى أنّ كل عاقل يدرك أنّ ما به من النعم ليس منه ولا من مثله ، بل هو من منعم غيره ، فيجب معرفته حتى يتمكّن من شكره ، وحيث إنّ المعرفة نظرية لا تحصل إلاّ بالنظر فوجب النظر والفحص ، فإنّ مقدمة الواجب واجبة .
أقول : إنْ كان وجوب الشكر لاحتمال زوال النعم بتركه ، ففيه منع هذا الاحتمال إلاّ شذوذاً ، فإنّ الناظر يرى الكفّار والملحدين متنعّمين بالعافية والسعة ، فكيف ينقدح الاحتمال المذكور في ذهنه ؟ وعلى تقدير احتماله فلا نسلّم استحقاقه العقاب الأُخروي بتركه النظر والفحص ؛ لعدم إتمام حجّة عليه في ذلك ، ضرورة أنّ ما نبّهه عقله بترك الشكر هو زوال النعم الظاهرية فقط ، فافهم جيداً .
وإن كان وجوبه لنفسه ولذاته ، بحيث كان تركه قبيحاً في نفسه ، ففيه :
أَوّلاً : ... عدم استلزام استحقاق الذم استحقاق العقاب ، فإنّ الأَوّل لا ينهض حجّةً على الثاني مع أنّه العمدة في المقام ، فتأمّل .
وثانياً : إنّ وجوب شكر المنعم لا يستلزم وجوب المعرفة ؛ لكفاية التخضّع قلباً للمنعم وإن كان مجهولاً بأوصافه ، فيسقط الدليل .
وثالثاً : ما أفاده بعض الأعيان من أهل التدقيق (7) بقوله : ثمّ إنّ أصل وجوب الشكر عقلاً بحيث يستحق العقاب على تركه ، لا يثبت إلاّ بإدخاله تحت قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، ومن البيّن عند التأمل أنّ شكر المنعم علماً وحالاً وعملاً (8) ـ وإن كان تعظيماً للمنعم وإحساناً إليه ـ إلاّ أنّه لا يثبت به إلاّ مجرّد الحسن واستحقاق المدح على فعله بمراتبه ، وليس ترك كل إحسان ولا ترك الإحسان إلى المحسن ظلماً عليه ، نعم الإساءة خصوصاً إلى المحسن ظلم ، فيشتدّ قبحه بالإضافة إلى المحسن إليه ، فالجهل بالمنعم ، أو عدم التخضّع له قلباً ، أو عدم القيام خارجاً بوظائف المجازاة بالإحسان ، ليس إلاّ ترك ما حسن بذاته ؛ إذ ليس من هذه الحيثية عقلاً فرق بين منعم ومنعم ، والأمر في غيره تعالى كذلك ، ففيه أيضاً من هذه الحيثية ... مضافاً إلى أنّ الاستناد في تحصيل المعرفة إلى وجوب شكر المنعم عقلاً ، إنّما يجدي بعد الفراغ عن انتهاء النعمة إلى مبدأ موجود ؛ ليتحقّق موضوع شكر المنعم ، ليجب عقلاً ، فهو إنّما في معرفته من حيث كيفية وجوده وصفاته لا في التصديق بوجوده . انتهى كلامه .
أقول : ويمكن أن يناقش في الوجه الأوّل بأنّ شكر المنعم بالأنعام الجزيلة الكثيرة واجب ، وتركه قبيح عند العقلاء كما هو واضح ، لكن الوجه الثاني متين ، وبالجملة : وجوب الشكر إنّما يتمّ إذا كان المنعم قابلاً للشكر ، أي كان شاعراً حسّاساً وإلاّ فلا معنى له ، فلابدّ أَوّلاً من تشخيص أنّ المنعم مَن هو ، فيكون مفاد الدليل هو لزوم النظر دون المعرفة ، فتفطّن .
واستدلّ الأشاعرة (9) على وجوب المعرفة بإجماع الأُمّة ، وحيث إنّها لا تتيسّر من دون النظر والاستدلال فهو أيضاً واجب شرعاً ، فإنّ الخطاب الشرعي وإن كان متعلّقاً بالمسبّب إلاّ أنّه لابدّ من توجيهه إلى السبب .
وربّما استدل بعضهم على وجوب النظر والمعرفة ببعض الآيات كقوله تعالى : {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] ، وقوله : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد: 19]، وأورد عليه بعضهم بأنّها تفيد الظن ولا اعتداد به ، فالعمدة هو الإجماع .
أقول : لو سلّم حجّية الإجماع فهي أيضاً ظنّية ، فإنّها استنبطت من ظواهر الآيات والروايات ، وأمّا ما تفوّه به بعضهم (10) من دعوى الضرورة الدينية على اعتباره ، فهو إفراط واختلاق .
ويرد على الاستدلال أيضاً أنّ المسبّب وإن كان غير مقدور بلا إيجاد سببه ، إلاّ أنّه لا وجه لصرف التكليف المتعلّق به إلى سببه ؛ ضرورة أنّ المقدور بالواسطة مقدور والسبب يجب من باب المقدمة عقلاً ، ثمّ إنّ في هذا البيان تناقضاً واضحاً ، حيث يدعون أَوّلاً وجوب المعرفة ثمّ يقولون بصرف الأمر إلى النظر ؛ لأنّه المقدور فتكون المعرفة غير واجبة .
وعلى الجملة : الوجوب الشرعي ـ سواء تعلّق بالنظر أو المعرفة ـ غير معقول فإنّه متأخّر عن التصديق بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، المتأخرة عن التصديق بصفاته تعالى ، المتأخّرة عن معرفة أصل وجوده ، فما لم تثبت آمرية المتكلّم لا حجّية لأمره ، فكيف يعقل الوجوب الشرعي في حق الجاهل بالله تعالى ؟ .
وملخّص الكلام : أنّه لا اعتبار بقول المجهول ، ولا موضوع لوجوب معرفة المعلوم ؛ لأنّها من تحصيل الحاصل الممتنع (11) ، ومنه ينقدح أنّ ما توهّمه جمع من الأشعريين (12) من عدم بطلان تكليف الجاهل ، بدعوى أنّ شرط التكليف فهمه لا التصديق به ، فإنّ الغافل مَن لا يفهم الخطاب ، أو لم يقل له : إنّك مكلّف ، لا مَن لا يعلم أنّه مكلّف . فهو غفلة عن الواضحات ...
ثمّ إنّه يلزمهم إفحام الأنبياء ( عليهم السلام ) ؛ إذ لا وجوب قبل المعرفة كما عرفت ، ولا معرفة إلاّ بعد النظر ، فلو قال المكلّف : لا أنظر حتى أعرف ، لَما كان للنبي عليه سلطان ، فبهذه الطريقة الأشعرية يمكن فرار الناس من الديانة الإسلامية .
وبالجملة : مفاسد هذا القول كثيرة .
وأمّا الاستشهاد بقوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] على الوجوب الشرعي ، بدعوى أنّ نفي العذاب قبل البعثة يكشف عن نفي الوجوب ، فهو ضعيف ، فإنّ الكاشف عنه نفى استحقاق العذاب دون نفي فعليته ووقوعه كما في الآية الكريمة ، نعم مَن أنكر العفو والشفاعة ، وجعل العذاب من لوازم المعصية ، كان الاستدلال عليه متّجهاً من باب الجدل . هذا مع أنّه ـ على تقدير صحّته ـ لا ينفي الوجوب الفطري المتقدم؛ لأنّ الشاك لا يرى حجّيةً لهذه الشهادة ، فافهم .
والصحيح أنّ ظاهر الآية هو الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع على الأُمم السالفة ، دون العقاب الأُخروي كما يدل عليه ما بعد الآية : قال الله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا * وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا... فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ... الآيات } [الإسراء: 15 - 17] فالآية الكريمة أجنبية عن محلّ الكلام بالكلية .
تعقيب وتكميل:
قضية الأدلة المتقدمة هي وجوب المعرفة ، لأجل دفع الضرر ، أو وقوع الشكر على ما يناسب حال المشكور المنعم ، فهو وجوب غيري ليس بنفسي ، وأمّا الوجوب الشرعي فقد دريت تعلّقه بالنظر دون المعرفة ، كما صرّح به قائله ، نعم هنا وجهان آخران يدلاّن على أنّ المعرفة واجبة وجوباً نفسياً :
الأَوّل : ما أفاده الأُصولي الشهير المحقّق الهروي في كفاية الأُصول قال : ( نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها ، كمعرفة الواجب وصفاته أداءً لشكر بعض نعمائه ) (13) . فقد جعل المعرفة نفسها شكراً له .
وأورد عليه بعض الأعيان من تلاميذه : ( من أنّ هذه المعرفة ليست مصداقاً للشكر ، بل ما هو مصداقه معرفة المنعم بما هو منعم لا بذاته ؛ لأنّ الحيثية التعليلية ـ وهي النعمة لوجوب الشكر ـ حيثية تقييدية له ، كما في جميع الأحكام العقلية ، فلا تجب معرفة الذات لإنعامه نفساً ، بل مرجعه إلى معرفة ( هكذا ) وجوب معرفة الذات مقدمة لمعرفته بالمنعمية ، مع أنّ المقصود إثبات وجوب المعرفة نفسها ) (14) .
أقول : أمّا ما ذكره في الكفاية فقد عرفت ما فيه ، وأمّا ما ذكره هذا المحقّق ، من إرجاع الحيثيات التعليلية إلى الجهات التقييدية في هذا المقام وغيره ففيه كلام ؛ لإمكان رجوع الأُولى إلى الواسطة في الثبوت ، والثانية إلى الواسطة في العروض .
الثاني : ما أفاده هذا المحقّق المذكور . قال : ( لنا طريق برهاني إلى وجوب تحصيل معرفته تعالى ، وهو أنّ كلّ عاقل بالفطرة السليمة يعلم أنّه ممكن حادث معلول ، لم يكن مثله في الإمكان والحدوث ... ) (15) .
ومن البيّن بعد التصديق بوجود المبدأ ، أنّ النفس في حدّ ذاتها قوّة محضة على إدراك المعقولات التي هي كمالها ، وأشرف الكمالات النفسانية معرفة المبدأ بذاته وصفاته وأفعاله بالمقدار الممكن ، فإنّ شرف كل علم وعقل بشرف معلومه ومعقوله ، وأفضل موجود وأكمله وجود المبدأ ، فمعرفة المبدأ أشرف كمال وفضيلة للنفس ، وبها نورانيتها ، وبها حياتها ، كما أنّه بعدم المعرفة أو بما يضادها ظلمانيتها وموتها ... إلخ ، ولعلّ ما أفاده بعض الأفاضل (16) راجع إلى هذا المعنى ، بل يمكن نسبة ذلك إلى جميع الفلاسفة أيضاً، كما يظهر من القوانين (17) أيضاً ، لكنّه مع اختصاصه ببعض آحاد الناس وعدم جريانه في حقّ أغلب أفراد النوع ، لا يثبت الوجوب المستتبع مخالفته استحقاق العقاب كما لا يخفى ، مع أنّه المقصود لا غيره ، إلاّ أن يتشبّث بحديث تجسّم الأعمال المزيّف عندنا، على نحو سيمرّ بك في المقصد الخامس إن شاء الله .
فالمتحصّل : أنّ المعرفة لم يثبت وجوبها النفسي بشيء من هذه الوجوه ، والصحيح أن يقال : إنّ المعرفة واجبة شرعاً بالضرورة الدينية ، وهل الغرض الأهم من إرسال الرسل وإنزال الكتب
إلاّ ذلك ؟ كيف ولولا وجوب المعرفة شرعاً لَما وجب النظر فطرةً ، فإنّه نشأ من احتمال ترتّب العقاب على تركها ، فلو كانت غير واجبة لم يطلبها النبي من الناس ، فلم يتحقّق موضوع لزوم وجوب النظر وهو دفع الضرر ، فإنّ ترك المعرفة إذن لا يستتبع عقاباً وعذاباً ، فلم تحكم الفطرة بشيء .
ولعلّك تقول : إنّك قلت سابقاً بامتناع وجوب المعرفة شرعاً ، فكيف تختاره هنا ؟
لكنّنا نقول : الممتنع هو الوجوب الذي له داعوية نحو متعلقة وباعثية إلى المطلوب ، بلا توسّط حكم الفطرة بوجوب دفع الضرر ، كما يزعمه الأشاعرة ، وأمّا الوجوب الذي يتوسّطه الحكم المذكور فلا بأس به .
بيان ذلك : أنّ الله تعالى أوجب المعرفة على المكلّفين ثبوتاً ، فأمر نبيه بإبلاغها إلى الناس ، والنبي يحذّر الناس بتركها ويهدّدهم عليه ، والإبلاغ المذكور وإن لم يكن بحجّة على الناس أصلاً كما دريت ، إلاّ أنّه يولّد احتمال الضرر في ذهنهم لإمكان صدقه ، فتحكم الفطرة بدفع الضرر المذكور ، ولا مدفع له إلاّ النظر فيكون واجباً .
ويتلخّص هذا البحث إلى أنّ المعرفة إن لم تكن واجبةً لا يبقى موضوع للحكم الفطري المذكور ، فالوجوب الشرعي ليس بلغوٍ ، وإنّ هذا الحكم الفطري إن لم يتوسّط ولم ينجِّز وجوب النظر ، لم يثبت الوجوب الشرعي كما دريت ، فلابدّ من اجتماعهما حتى يتمّ المقصود .
ثمّ إنّ الناظر إن أصاب فهو وإلاّ فهو معذور ، لكن الحكم الشرعي بحاله لبطلان التصويب ... هذا ما عندنا في هذا المقام ، والله ولي الاعتصام .
تطبيق:
قال الباقر ( عليه السلام ) ـ على ما في رواية زرارة ـ: ( ليس على الناس أن يعلموا حتى يكون الله هو المعلّم لهم ، فإذا أعلمهم ( علّمهم ) فعليهم أن يعلموا ) (18) .
أقول : انطباقه على مسلكنا واضح ، فإنّ وجوب النظر وإن كان فطرياً لكن تحقّق موضوعه موقوف على إعلام الله سبحانه ؛ ضرورة أنّ العقل لا يحتمل الضرر بترك المعرفة ابتداءً .
وفي رواية عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أصلحك الله هل جعل في الناس أداةً ينالون بها المعرفة ؟ قال : فقال : ( لا . قلت : فهل كُلّفوا المعرفة ؟ قال : لا ، على الله البيان {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...} [البقرة: 286] (19) .
أقول : أمّا صدر الرواية ففي معناه أخبار أُخر ، وأمّا قوله ( عليه السلام ) بنفي التكليف بالمعرفة فلعلّ المراد به ، هو التكليف الابتدائي العقلي على نحو ما تقول به العدلية ، فالرواية منطبقة على ما قرّرنا .
وقال الصادق ( عليه السلام ) ـ كما في رواية بريد بن معاوية ـ : ( ليس له على خَلقه أن يعرفوا ، وللخَلق على الله أن يعرّفهم ، ولله على الخلق ـ إذا عرّفهم ـ أن يقبلوا ) (20).
أقول : موافقته لِما ذهبنا إليه واضحة ، فافهم واغتنم ، ولله الحمد .
___________________
(1) قال الشيخ المفيد قدّس سره في أوائل المقالات : اتّفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع ، وأنّه غير منفك عن سمع ينبّه الغافل عن كيفية الاستدلال ، وأنّه لابدّ في أَوّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول ، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها من السمع والتوقيف ، إلاّ أنّ البغداديين من المعتزلة خاصّةً يوجبون الرسالة في أَوّل التكليف .
أقول : هذا الذي نقل اتّفاق الإمامية عليه ، هو عين ما اخترناه في هذه الفائدة ، وإنّما ذكرناه ؛ لئلا يظن تفرّدنا بالموضوع .
(2) وربّما جعله بعضهم دليلاً على إثبات الصانع وقال ما محصّله: إنّ المؤمن بالله مأمون سواء وافق اعتقاده الواقع أم لا ، وهذا بخلاف المنكر فإنّه على خطر عظيم . أقول : وهذا منه شيء عجيب ، نعم هذا المضمون مذكور في بعض رواياتنا ، لكن المراد به ما ذكرنا ، لاحظ أُصول الكافي 1 / 78.
(3) شرح المواقف 1 / 156.
(4) شرح التجريد للعلاّمة / 258.
(5) منهاج البراعة للخوئي 2 / 274.
(6) كفاية الموحّدين 1 / 7.
(7) نهاية الدراية في شرح الكفاية 2 / 155.
(8) يريد بالأَوّل معرفة المنعم ، وبالثاني تخضّع القلب له ، وبالثالث صرف النعمة لِما خلقت لأجله ، كما صرّح به نفسه .
(9) المواقف وشرحها 1 / 157 وهكذا في غيرهما.
(10) وهو الأيجي في شرح المواقف 1 / 159.
(11) وأمّا ما ذكره في القوانين 2 / 170 من لوم الدور من قولهم ففيه نظر فلاحظ .
(12) لاحظ شرح المواقف 1 / 158، وكلام ابن روزبهان في إحقاق الحق 1 / 161، وغيرهما .
(13) كفاية الأُصول 2 / 154.
(14) نهاية الدراية 2 / 155.
(15) نهاية الدراية 2 / 158.
(16) الدين والإسلام 1 / 28.
(17) القوانين 2 / 168.
(18) بحار الأنوار 5 / 222.
(19) أُصول الكافي 1 / 163.
(20) أُصول الكافي 1 / 164.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|