أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-7-2016
1875
التاريخ: 29-7-2016
1765
التاريخ: 2024-02-14
775
التاريخ: 24-3-2021
2496
|
[قال النراقي :] «أحدها» ما يجري بين العباد و بين خالقهم سبحانه ، فإنها لما كانت عبارة عن العمل بالمساواة على قدر الإمكان ، و الواجب سبحانه و أهب الحياة و الكمالات و ما يحتاج إليه كل حي من الأرزاق و الأقوات ، و هيأ لنا في عالم آخر من البهجة و السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، و ما من يوم إلا ويصل إلينا من نعمه و عطاياه ما تكل الألسنة عن حصره و عده ، فيجب أن يكون له تعالى علينا حق يقابل به تلك النعم التي لا تحصى كثرة حتى تحصل عدالة في الجملة ، إذ من أعطى خيرا و لم يقابله بضرب من المقابلة فهو جائر.
ثم المقابلة و المكافأة تختلف باختلاف الأشخاص ، فإن ما يؤدى به حق إحسان السلطان غير ما يؤدى به حق إحسان غيره ، فإن مقابلة إحسانه إنما تكون بمثل الدعاء و نشر المحاسن ، و مقابلة إحسان غيره تكون بمثل بذل المال و السعي في قضاء حوائجه و غير ذلك.
والواجب سبحانه غنى عن معونتنا و مساعينا , و لا يحتاج إلى شيء من أعمالنا و أفعالنا ، و لكن يجب علينا بالنظر إلى شرع العدالة حقوق تحصل بها مساواة في الجملة ، كمعرفته و محبته ، و تحصيل العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة ، و الاجتهاد في امتثال ما جاءت به رسله وسفراؤه من الصوم و الصلاة ، و السعي إلى المواقف الشريفة و غير ذلك ، و إن كان التوفيق لإدراك ذلك كله من جملة نعمائه ، إلا أن العبد إذا أدى ما له فيه مدخلية و اختيار من وظائف الطاعات ، و ترك ما تقتضى الضرورة بتمكنه على تركه من المعاصي و السيئات ، لخرج عن الجور المطلق و لم يصدق عليه أنه جائر مطلق ، و إن كان أصل تمكنه و اختياره بل أصل وجوده و حياته كلها من اللّه سبحانه.
«الثاني» ما يجرى بين الناس بعضهم لبعض : من أداء الحقوق و تأدية الأمانات و النصفة في المعاملات و المعاوضات و تعظيم الأكابر و الرؤساء و إغاثة المظلومين و الضعفاء ، فهذا القسم من العدالة يقتضى أن يرضى بحقه ، و لا يظلم أحدا ، و يقيم كل واحد من أبناء نوعه على حقه بقدر الإمكان ، لئلا يجور بعضهم بعضا ، و يؤدى حقوق إخوانه المؤمنين بحسب استطاعته.
وقد ورد في الحديث النبوي : «إن المؤمن على أخيه ثلاثين حقا لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو : يغفر زلته ، و يرحم غربته ، و يستر عورته ، و يقيل عثرته ، و يقبل معذرته , و يرد غيبته ، و يديم نصيحته ، و يحفظ خلته ، و يرعى ذمته ، و يعود مرضته ، و يشهد ميتته ، و يجيب دعوته ، و يقبل هديته ، و يكافئ صلته ، و يشكر نعمته ، و يحسن نصرته ، و يحفظ حليلته ، و يقضى حاجته ، و يشفع مسألته ، و يسمت عطسته ، و يرشد ضالته ، و يرد سلامه ويطيب كلامه ، و يبر إنعامه ، و يصدق أقسامه ، و يواليه و لا يعاديه ، و ينصره ظالما أو مظلوما فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه ، و أما نصرته مظلوما فيعينه على من ظلمه ، و أما نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقه ، و لا يسأمه ، ولا يخذله ، و يجب له من الخير ما يحب لنفسه ، و يكره له من الشر ما يكره لنفسه».
«الثالث» ما يجري بين الأحياء و ذوي حقوقهم من الأموات : من أداء ديونهم و إنفاذ وصاياهم والترحم عليهم بالصدقة و الدعاء , و قد أشار خاتم الرسالة (صلى اللّه عليه و آله و سلم) إلى أقسام العدالة بقوله ( صلى اللّه عليه و آله و سلم ) : «التعظيم لأمر اللّه و الشفقة على خلق اللّه» و بقوله ( صلى اللّه عليه و آله و سلم ) في خبر آخر: «الدين النصيحة ، قيل لمن؟ , قال : للّه و لرسوله و لعامة المؤمنين».
ايقاظ
قد ظهر مما ذكر أن الكمال كل الكمال لكل شخص هو العدل و التوسط في جميع صفاته و أفعاله الباطنة و الظاهرة ، سواء كانت مختصة بذاته أو متوسطة بينه و بين أبناء نوعه ، و لا تحصل النجاة و السعادة إلا بالاستقامة على وسط الأشياء المتخالفة ، و التثبت على مركز الأطراف المتباعدة ، فكن يا حبيبي جامعا للكمالات ، متوسطا بين مراتب السعادات ، و مركزا لدائرة نيل الإفاضات , فكن أولا متوسطا بين العلم و العمل جامعا بينهما بقدر الإمكان و لا تكتف بأحدهما حتى لا تكون واحدا من الرجلين القاصمين لظهر فخر الثقلين صلى اللّه عليه و آله و سلم , و كن في العمل متوسطا بين حفظ الظاهر و الباطن فلا تكن في باطنك خبيثا و ظاهرك نقيا ، حتى تكون كشوهاء ملبسة بزي حوراء مدلسه بأنواع التدليسات ، ولا بالعكس لتكون مثل درة ملوثة بأقسام القاذورات ، بل ينبغي أن يكون ظاهرك مرآة لباطنك ، حتى يظهر من محاسنك بقدر ما اقتضته ملكاتك الفاضلة الباطنة , و كن في جميع ملكاتك الباطنة و أفعالك الظاهرة متوسطا بين الإفراط و التفريط على ما يقرع سمعك في هذا الكتاب , ثم كن في العلوم متوسطا بين العلوم الباطنة العقلية و العلوم الظاهرة الشرعية ، فلا تكن من الذين قصروا أنظارهم على ظواهر الآيات ولم يعرفوا من حقائق البينات ، يذمون علماء الحقيقة و ينسبونهم إلى الإلحاد و الزندقة ، و لا من الذين صرفوا أعمارهم في فضول أهل يونان و هجروا ما جاء به حامل الوحي و الفرقان ، يذمون علماء الشريعة و يثبتون لهم سوء القريحة ، يدعون لأنفسهم الذكاء و الفطانة و ينسبون ورثة الأنبياء إلى الجهل و البطالة , ثم كن في العقليات متوسطا بين طرق العقلاء من غير جمود على واحدة منها بمجرد التقليد أو التعصب ، فتوسط بين الحكمة و الكلام والإشراق و العرفان ، و اجمع بين الاستدلال و تصفية النفس بالعبادة والرياضة ، فلا تكن متكلما صرفا لا تعرف سوى الجدل ، و لا مشائيا محضا أضاع الدين و أهمل و لا متصوفا استراح بدعوى المشاهدة و العيان من دون بينة و برهان , و كن في العلوم الشرعية متوسطا بين الأصول و الفروع ، فلا تكن أخباريا تاركا للقواعد القطعية ، و لا أصوليا عاملا بقياسات عامية , و قس على ذلك جميع أمورك الباطنة و الظاهرة ، و اعمل به حتى يرشدك إلى طريق السداد ، و يوفقك لاكتساب زاد المعاد.
[دفع اشكال]
إن قيل : قد تلخص مما ذكر : أن الفضيلة في جميع الأخلاق و الصفات إنما هو المساواة من غير زيادة و نقصان ، مع أنه قد ثبت أن للتفضل محمود و هو زيادة فلا يدخل تحت العدالة الراجعة إلى المساواة (قلنا): التفضل احتياط يقع لتحصيل القطع بعدم الوقوع في النقصان ، و ليس الوسط في طرفين من الأخلاق على نهج واحد فإن الزيادة في السخاء إذا لم يؤد إلى الإسراف أحسن من النقصان عنه ، و أشبه بالمحافظة على شرائطه ، فالتفضل إنما يصدر عن فضيلة العدالة ، لأنها مبالغة فيها و لا يخرجها عن حقيقتها ، إذ المتفضل من يعطي المستحق أزيد مما يستحقه ، و هذه الزيادة ليست مذمومة ، بل هي العدالة مع الاحتياط فيها ، و لذا قيل : «إن المتفضل أفضل من العادل» ، و المذموم أن يعطي غير المستحق أو يترك المساواة بين المستحقين ، لأنه أنفق فيما لا ينبغي أو على ما لا ينبغي ، و صاحبه لا يسمى متفضلا بل مضيعا ، و لكون التفضل احتياطا إنما يحسن من الرجل بالنسبة إلى صاحبه في المعاملة التي بينهما ، و لو كان بين جماعة و لم يكن له نصيب في ما يحكم فيه لم يسعه إلا العدل المحض و لم يجز له التفضيل.
تتميم
(إصلاح النفس قبل إصلاح الغير و أشرف وجوه العدالة عدالة السلطان) قد تلخص أن حقيقة العدالة أو لازمها أن يغلب العقل الذي هو خليفة اللّه على جميع القوى حتى يستعمل كلا منها فيما يقتضي رأيه ، فلا يفسد نظام العالم الإنساني ، فإن الواجب سبحانه لما ركب الإنسان بحكمته الحقة و مصلحته التامة من القوى الكثيرة المتضادة، فهي إذا تهايجت و تغالبت و لم يقهرها قاهر خير، حدثت فيه بهيجانها و اضطرابها أنواع الشر، و جذبه كل واحدة منها إلى ما يقتضيه ويشتهيه ، كما هو الشأن في كل مركب , و قد شبه المعلم الأول مثله بمن يجذب من جهتين حتى ينقطع و ينشق بنصفين أو من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها , فيجب على كل إنسان أن يجاهد حتى يغلب عقله الذي هو الحكم العدل و الخير المطلق على قواه المختلفة ، ليرفع اختلافها و تجاذبها و يقيم الجميع على الصراط القويم.
ثم كل شخص ما لم يعدل قواه و صفاته لم يتمكن من إجراء أحكام العدالة بين شركائه في المنزل و البلد ، إذ العاجز عن إصلاح نفسه كيف يقدر على إصلاح غيره ، فإن السراج الذي لا يضيء قريبه كيف يضيء بعيده ، فمن عدل قواه و صفاته أولا و اجتنب عن الإفراط و التفريط واستقر على جادة الوسط ، كان مستعدا لسلوك هذه الطريقة بين أبناء نوعه ، و هو خليفة اللّه في أرضه ، و إذا كان مثله حاكما بين الناس و كان زمام مصالحهم في قبضة اقتداره لتنورت البلاد بأهلها ، و صلحت أمور العباد بأسرها ، و زاد الحرث و النسل و دامت بركات السماء و الأرض.
وغير خفي أن أشرف وجوه العدالات و أهمها و أفضل صنوف السياسات و أعمها هو عدالة السلطان ، إذ غيرها من العدالات مرتبطة بها و لولاه لم يتمكن أحد من رعاية العدالة ، كيف و تهذيب الأخلاق و تدبير المنزل يتوقف على فراغ البال و انتظام الأحوال ، و مع جور السلطان أمواج الفتن متلاطمة ، و أفواج المحن متراكمة ، و عوائق الزمان متزاحمة ، و بوائق الحدثان متصادمة ، و طالبوا الكمال كالحيارى في الصحارى لا يجدون إلى مناله سبيلا و لا إلى جداوله مرشدا و دليلا ، و عرصات العلم و العمل دارسة الآثار، و منازلهما مظلمة الأرجاء و الأقطار فلا يوجد ما هو الملاك في تحصيل السعادات ، أعني تفرغ الخاطر و الاطمئنان وانتظام أمر المعاش الضروري لأفراد الإنسان , و لذا لو تصفحت في أمثال زماننا زوايا المدن و البلاد و اطلعت على بواطن فرق العباد ، لم تجد من الألوف واحدا تمكن من إصلاح نفسه و يكون يومه خيرا من أمسه ، بل لا تجد دينا إلا و هو باك على فقد الإسلام و أهله ، و لا طالبا إلا و هو لعدم المكنة باق على جهله ، و لعمري إن هذا الزمان هو الزمان الذي أخبر عنه سيد الأنام و عترته الأبرار الكرام عليه و عليهم أفضل الصلاة و السلام من أنه : « لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، و لا من القرآن إلا رسمه».
وبالجملة : المناط كل المناط في تحصيل الكمالات و إخراج النفوس من الجهالات ، هو عدالة السلطان ، و اعتناؤه بإعلاء الكلمة ، و سعيه في ترويج أحكام الدين و الملة ، ولذا ورد في الآثار : (إن السلطان إذا كان عادلا كان شريكا في ثواب كل طاعة تصدر عن كل رعية ، و إن كان جائرا كان سهيما في معاصيهم).
وقال سيد الرسل (صلى اللّه عليه و آله و سلم ) : «أقرب الناس يوم القيامة إلى اللّه تعالى الملك العادل و أبعدهم عنه الملك الظالم».
وورد عنه (صلى اللّه عليه و آله و سلم) : «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة».
والسر أن أثر عدل ساعة واحدة ربما يصل إلى جميع المدن و الأمصار و يبقى على مر الدهور و الأعصار، و قال بعض الأكابر: لو علمت أنه يستجيب لي دعوة واحدة لخصصتها بإصلاح حال السلطان حتى يعم نفعه.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|