دفع الدين الإسلامي العقول إلى مجال العلوم والمعرفة، وورد الحديث في القرآن الكريم عن العلم في مواطن كثيرة ، فأول سورة نزلت على النبي –محمد صلى الله عليه والة وسلم- دعت إلى العلم ووجهت اليه، وهي سورة العلق، التي قال الحق تبارك وتعالى فيها: (إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم)(1).. وفي الآية إشارة إلى آلة العلم وهو القلم، الذي أقسم به الله تعالى في سورة القلم، بقوله: (ن والقلم وما يسطرون)(2). تنويهاً بعلو منزلته وسمو قدره وخطر شأنه. ولا غرابة فهذا دين سماوي يعرف للكتابة والقراءة قدرهما وأثرهما في نظام الحياة، إذ على قدر انتشارهما في أمة يكون مقدار نبوغها وتقدمها بين الأمم(3). كما أمر الله تعالى رسوله الكريم – صلى الله عليه والة وسلم – بالتزود بالعلم. بقوله تعالى في سورة طه: (وقل رب زدني علماً)(4). ولو كان هناك شيئاً أشرف من العلم لأمر اللهِ تعالى نبيه بطلب المزيد منه، وهذا مما يدل على شرف العلم وسمو منزلته(5). وهناك الكثير من الآيات القرآنية التي نوهت بشأن العلم والعلماء. كما أكدت هذا الاهتمام القرآني بالعلم الأحاديث النبوية الشريفة، فقد فاضت السنة النبوية المطهرة بالكثير من النصوص التي تدعو إلى العلم والمعرفة. فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه والة وسلم- يقول: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة...)(6). ولقد كان الرسول الكريم – صلى الله عليه والة وسلم – يحرص على تعليم الصغار، ويظهر ذلك جليا في فداء أسارى بدر، حيث جعل –صلى الله عليه والة وسلم – فداء الأسير الذي لا يجد مالا، تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة(7). فالتعلم إذن فرض على كل إنسان، والتعليم هو حق للأبناء على الآباء وعلى المجتمع بصورة عامة، فما من أمة عنيت بتربية أبنائها وتهذيب أخلاقهم وتثقيف عقولهم وتوسيع مداركهم بالعلوم والمعارف الا وفتحت لها أبواب الرقي والتقدم وعلّي شأنها بين الأمم. وقد حظيت مسألة التعليم باهتمام كبير من قبل التشريعات الوضعية، الدولية منها والوطنية. حيث نصت المادة (26) من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948 على ما يلي: (1. لكل شخص حق في التعليم. ويجب أن يوفر التعليم مجاناً، في الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية، ويكون التعليم الإبتدائي إلزامياً). كما أشارت إتفاقية حقوق الطفل التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة لعام 1989 إلى حق الطفل في التعليم، حيث جاء في المادة (28) من هذه الاتفاقية ما يلي: (1. تعترف الدول الاطراف بحق الطفل في التعليم، وتحقيقا للأعمال الكامل لهذا الحق تدريجياً، وعلى أساس تكافؤ الفرص، تقوم بوجه خاص بما يلي: أ- جعل التعليم الإبتدائي إلزامياً ومتاحاً للجميع مجاناً؛ ب- تشجيع وتطوير شتى أشكال التعليم الثانوي، سواء العام أو المهني واتاحتها لجميع الأطفال؛ ج- جعل التعليم العالي، بشتى الوسائل المناسبة متاحا للجميع على أساس القدرات..) وقد حملّت المادة (18) من الاتفاقية المذكورة الوالدين أو الأوصياء القانونيين حسب الحالة، المسؤولية الأولى عن تربية الطفل وتعليمه. كما حظرت المادة (32) من الاتفاقية إستخدام الطفل في عمل يتعارض مع حقه في التعليم أو يعطل من ممارسته له، أو يضر بمصلحته بأية صورة من الصور(8).أما على الصعيد الوطني، فقد وضع المشرع العديد من التشريعات والقوانين واللوائح التي تغطي جوانب العملية التربوية والتعليمية بما يعود بالنفع على الطالب، والتي تتعلق بإنشاء المؤسسات التعليمية وتزويدها بالملاكات المتخصصة، وتحديد المناهج الدراسية فيها ، بدءاً بالمرحلة الابتدائية فالمتوسطة فالثانوية ثم مرحلة التعليم العالي. وقد روعي في ذلك الربط بين المناهج التعليمية في كل مرحلة وبين الملكات الذهنية للطالب، وقدرته على استيعاب المناهج المحددة لكل مرحلة، وغير ذلك من الأنظمة والتعليمات المرتبطة بقطاع التربية والتعليم. وقد صدر عندنا في العراق، قانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976. حيث جاء في مادته الأولى ما يلي: (أولاً- التعليم في مرحلة الدراسة الابتدائية مجاني وإلزامي لجميع الأولاد الذين يكملون السادسة من العمر. ثانياً- تلتزم الدولة بتوفير جميع الامكانات اللازمة له. ثالثاً- يلتزم ولي الولد بالحاقه بالمدارس الابتدائية عند إكماله السن المنصوص عليه في الفقرة أعلاه واستمراره فيها لحين إكمال الولد مرحلة الدراسة الابتدائية ، أو الخامسة عشرة من عمره...). وجاء في المادة (13) منه ما يلي: (أولاً- يعاقب بغرامة لا تزيد عن مائة دينار، ولا تقل عن دينار واحد، أو بالحبس لمدة لا تزيد عن شهر واحد، ولا تقل عن اسبوع واحد أو بكليهما، ولي الولد المتكفل فعلا بتربيته، إذا خالف أياً من أحكام هذا القانون. ثانياً- تكون العقوبة الحبس فقط، عند تكرار مخالفة أحكام هذا القانون)(9).ويلاحظ على المشرع العراقي في هذا المجال وقد دعا إلى إلزامية التعليم، أنه لم يقدم وسيلة فعالة لمنع حالات التخلف عن الدراسة أو الحد منها. فالمعروف إن هناك نسبة من أطفال المدارس يتسربون سنوياً من مدارسهم، أما لعدم رغبتهم في الدراسة أو بناء على تحريض وتشجيع من أوليائهم، ويلتحقون بأعمال لا تتناسب مع إمكانياتهم الجسدية أو الذهنية، وذلك بهدف تأمين دخل لأسرهم(10). فالإلزام التشريعي في هذا المجال يمثل ثغرة كبيرة للغاية فيما يتعلق بوضع هذا الإلتزام موضع التنفيذ، فلا يكفي تدخل المشرع بفرض جزاء على الأسرة التي تتهاون أو تتسامح في تسرب طفلها قبل إنتهاء مرحلة التعليم الإلزامي في أقل تقدير. وإنما لا بد أيضا من اتخاذ الإجراءات اللازمة حيال إدارات المدارس التي تتهاون في حصر حالات التخلف عن التسجيل أو الدوام، وذلك بالتعاون مع مديرية التربية المختصة للحيلولة دون التسرب من الدراسة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، وإنما لابد كذلك من الوقوف على أسباب التسرب والعمل على تلافيها والتغلب عليها بكل الطرق المتاحة، نظرا للأهمية التي يحتلها التعليم في تحديد مستقبل النشئ في حياة المجتمع. وقد تنبه المشرع السوري لتلك الحالة، واعتبر إمتناع الولي عن تعليم الصغير سبباً مسقطاً لولايته ، كما اعتبر معارضة الحاضنة في ذلك سببا مسقطا لحضانتها. حيث نص في المادة (170/4) من قانون الأحوال الشخصية على ما يلي: (يعتبر إمتناع الولي عن إتمام تعليم الصغير حتى نهاية المرحلة الإلزامية سبباً لإسقاط ولايته، وتعتبر معارضة الحاضنة أو تقصيرها في تنفيذ ذلك سببا مسقطا لحضانتها).فالولي ملزم بتعليم من هو في ولايته القدر الذي يخرجه من الأمية وييسر له سبيل الفهم والإدارك ، أي في حدود مرحلة التعليم الإلزامي. أما بعد هذه المرحلة، فان القدر الواجب من التعليم يختلف باختلاف المقدرة المالية للولي ، ومدى استعداد المولى عليه وتقبله للتعلم. فإذا كان الأب أو الولي على النفس ممن تجب عليه نفقة الصغير، لا يقدر على الاستمرار في تعليمه بعد مرحلة التعليم الإلزامي، فله أن يدفع الصغير إلى تعلم مهنة يتكسب منها. أما إذا كان الأب ممن يعلمون أولادهم بعد المرحلة الإلزامية ولديه المقدرة المالية على ذلك وجب عليه التعليم. وحتى لو كان ممن يعلم أمثاله أولادهم تعليما عاليا اجبر عليه عند إمتناعه عنه، وفرضت عليه نفقاته بشرط أن يكون الولد رشيدا صالحا لمثل هذا النوع من التعليم(11). وفي هذا الخصوص نص المشرع المصري في المادة (18 مكرر ثانياً)(12). من القانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية ، على ما يلي: (تستمر نفقة الأولاد على أبيهم إلى أن تتزوج البنت أو تكسب ما يكفي نفقتها وإلى أن يتم الإبن الخامسة عشرة من عمره قادراً على الكسب المناسب، فان أتمها عاجزاً عن الكسب لآفة بدنية أو عقلية أو بسبب طلب العلم الملائم لأمثاله ولاستعداده،.... إستمرت نفقته على أبيه)(13). وجاء المشرع العراقي بنص مماثل تقريباً للنص المصري ولكن بشيء من الاقتضاب والغموض. حيث نص في المادة (59/2) من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، على أنه (تستمر نفقة الأولاد إلى أن تتزوج الأنثى ويصل الغلام إلى الحد الذي يتكسب فيه أمثاله ما لم يكن طالب علم). فهنا النص لم يقيد إستمرار نفقة طالب العلم بالمقدرة المالية للولي وبمدى إستعداد هذا الطالب للتعلم كما فعل نظيره المصري. وبهذا الخصوص قضت محكمة التمييز بأنه: (لا يستحق الأبن نفقة من أبيه بداعي انه يدرس مساءً إذا كان قد بلغ العمر الذي يتكسب فيه أمثاله)(14). وقد جاء في حيثيات هذا القرار: (إن الدراسة المسائية لا تمنع من التكسب وقت النهار الذي هو وقت العمل). ومما يثير التساؤل هنا، هو هل إن الدراسة المسائية هي فقط إلتزام بدوام بحيث لا يمنع من التكسب وقت النهار، الا توجد هناك مذاكرة للدروس ومتابعة واستعداد للامتحانات وما إلى ذلك من متطلبات الدراسة. ثم إن النص القانوني قد جاء مطلقاً، وهو إن الأب يستمر بنفقة الغلام إلى الحد الذي يتكسب فيه أمثاله ما لم يكن طالب علم، ولم يحدد كونه طالب علم صباحي أو مسائي.
_____________________________
[1]-سورة العلق / 1-5.
2- سورة القلم /1.
3-أنظر: د. محمد محمود حجازي – التفسير الواضح – مطبعة الاستقلال الكبرى – القاهرة – ط4- 1388هـ – 1968م – ج29 – ص79.
4-سورة طه / 114.
5-أنظر: أبو عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي –الجامع لأحكام القرآن– دار إحياء التراث العربي – بيروت - لبنان1965 – 1966 – ج11-ص250.
6-الحاكم – المستدرك على الصحيحين 1/89، ابن الأثير – جامع الأصول 9/6.
7-احمد بن محمد بن حنبل – المسند – شرحه احمد محمد شاكر – دار المعارف – مصر -ط2 – 1369هـ- 1950- ج4 –ص47- رقم الحديث – 2216.
8-أنظر: منشورات الأمم المتحدة – مصدر سابق – ص471-473، د. عبد القادر القادري – الحقوق الثقافية للطفل – قراءة في إتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل – المجلة المغربية للقانون والسياسة والإقتصاد – ع29 – 1997 – ص9.
9-أنظر: قانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976 والمنشور في الوقائع العراقية – السنة التاسعة عشرة – 1976 – عدد 2002 – تاريخ 11/10/1976. ص16.
0[1]- حيث تلعب عوامل كثيرة دورها في زيادة ظاهرة التسرب من الدراسة، كتردي المستوى المعاشي للأسرة أو قلة وعي الوالدين بضرورة التعليم وأهميته، أو بسبب ما تعانيه الأسرة من تفكك فيها، وإلى غير ذلك من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تحيط بالفرد. أنظر: نايف عودة كايد- المشكلات الاجتماعية والتربوية للأبناء القاصرين- دراسة ميدانية في مدينة بغداد – ماجستير – كلية الآداب – جامعة بغداد – 1985 – ص128 وما بعدها.
1[1]-أنظر: حاشية ابن عابدين 2/925، كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام الحنفي – شرح فتح القدير – المطبعة الكبرى الأميرية – بولاق – مصر – 1317 هـ - ج3 – ص344، محمد الحسيني حنفي – الأحوال الشخصية – حقوق الأولاد والأقارب – دار الفكر العربي – مصر – ط4 – 1965 – ص245.
2[1]- مضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 الخاص بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية المصرية. أنظر: معوض عبد التواب – الموسوعة الشاملة في الأحوال الشخصية – مصدر سابق – ص332.
3[1]- وقد بينت المذكرة الإيضاحية لهذه المادة ما ذهب إليه المشرع المصري بهذا الخصوص بقولها: (تعليم الولد أياً كان ذكراً أو أنثى يراعى فيه وسع أبيه وما يليق بمثله، ولا يلزم الإنسان بتعليم أبن أخيه مثلا إلى المستوى الواجب لأبنه... وأن الإشتغال بالتعليم يعتبر عجزاً حكمياً موجباً للنفقة إذا كان تعليما ترعاه الدولة ولا ينافي الدين، وبشرط أن يكون الطالب رشيدا في التعليم، وفي قدرة من وجبت عليه النفقة الإنفاق عليه في التعليم). معوض عبد التواب – المصدر السابق – ص333.
4[1]-النشرة القضائية – جمهورية العراق – وزارة العدل – س3-ع4-1974- رقم القرار: 577/شخصية /شرعية أولى /72 – تاريخه: 26/12/1972-ص112.