أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015
18106
التاريخ: 26-03-2015
37852
التاريخ: 26-03-2015
2600
التاريخ: 25-03-2015
20280
|
وهو أيضاً مما
فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ القليل
مشتملاً على المعنى الكثير بإيماء أو لمحة تدل عليه، كما قال بعضهم في صفة
البلاغة: هي لمحة دالة، وشرح هذا الحد أنها إشارة المتكلم إلى معاني كثيرة بلفظ
يشبه ..لقلته واختصاره بإشارة اليد، فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو
عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة جداً، ولا بد في الإشارة من اعتبار صحة
الدلالة وحسن البيان مع الاختصار، لأن المشير بيده إن لم يفهم المشار إليه معناه
بأسهل ما يكون، فإشارته معدودة من العبث، ولهذا قال هند ابن أبي هالة في وصف رسول
الله صلى الله عليه[وآله] وسلم: يشير بكفه كلها وإذا تعجب قلبها، وإذا حدث
اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى فوصفه ببلاغة اليد كما
وصفه ببلاغة اللسان، يعني أنه يشير بيده في الموضع الذي تكون فيه الإشارة أولى من
العبارة، وهذا حذق بمواضع المخاطبات. وقوله: كلها أي يفهم بها
المخاطب كل ما أراده بسهولة فإن الإشارة ببعض الكف تصعب، وبكل الكف تسهل، فأعلمنا
هذا الوصاف أنه صلى الله عليه[وآله] وسلم كان سهل الإشارة، كما كان سهل العبارة.
وهذا ضرب من
البلاغة الذي يمتدح بمثله، وهو أيضاً من بلاغة الواصف إذ أشار بقوله: كلها إلى كل
المقصود الذي تدل عليه الإشارة، ومن حذق الواصف إتيانه بلفظ الإشارة في الوصف، لما
أراد أن يصف الإشارة البديعية وقسمها قسمين: قسماً للسان وقسماً لليد، وقوله:
وإذا تعجب قلبها ، يعني أنه يشير بها على وجهها إذا كان المعنى الذي
يشير إليه على وجهه ليس فيه ما يستغرب فيعجب منه، فإن الشيء المعجب إنما يكون
معجباً لكونه غير معهود، فكأن الأمر فيه قد قلب لمخالفته المعهود، فلذلك يجعل صلى
الله عليه[وآله] وسلم قلب يده في وقت الإشارة إشارة إلى أن هذا الأمر قد جاء على
خلاف المعهود، ولذلك تعجب منه. وقوله وإذا حدّث اتصل بها يعني اتصل
حديثه بها فيكون المعنى متصلاً، والمفهوم بالعبارة والإشارة متلاحماً، آخذة أعناق
بعضه بأعناق بعض، وقوله: فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى
يعني أنه عند انتهاء إشارته يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى مشيراً إلى أنه
ختم الإشارة، لأن الإبهام بها يختم القبض، ولذلك عطف هذه الجملة بالفاء، ولم يأت
بها معطوفة بالواو، كما أتى بما قبلها من الجمل لكونها آخر إشاراته، والواو لكونها
غير مقتضية للترتيب، يجوز أن يكون المتأخر بها متقدماً ولا كذلك الفاء، إذ لا بد
أن يكون المعطوف بها متأخراً لكونها موضوعة للتعقيب.
وأما اقتصاره على
باطن الإبهام دون ظاهرها فمعناه أنه جعل آخر الإشارة متصلاً بأول العبارة اتصالاً
متلائماً كملاءمة باطن الكف التي ضرب بها باطن الإبهام التي ضرب عليها، وهذه أيضاً
من بلاغة الواصف رضي الله عنه ومن شواهد الإشارة في الكتاب العزيز قوله تعالى:
وَغِيضَ الْمَاءُ فإنه سبحانه أشار بهاتين اللفظتين إلى انقطاع مادة
الماء من مطر السماء ونبع الأرض، وذهاب الماء الذي كان حاصلاً على وجه الأرض قبل
الإخبار إذ لو لم يكن ذلك لما غاض الماء.
وكقوله سبحانه:
فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ فالمح كل
ما تميل النفوس إليه من الشهوات وتلتذه الأعين من المرئيات، لتعلم أن هذا اللفظ
القليل جداً عبر عن معان كثيرة لا تنحصر عداً. وكذلك قوله تعالى: فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ بمعنى قابلهم بما يفعلونه معك، وعاملهم بمثل
معاملتهم لك سواء مع ما تدل عليه لفظة سواء من الأمر بالعدل، ومثل هذا المعنى قول
زهير [وافر]:
فإني لو لقيتك
واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء
يعني: قابلت كل
منكرة منك بكفئها.
وإذا علمت ذلك
فانظر ما بين هذا البيت وبين قوله تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاءٍ لتعلم فرق ما بين الكلامين.
ومن أمثلة هذا
الباب قول امرئ القيس [وافر]:
بعزهم عززت وإن
يذلوا ... فذلهم أنالك ما أنالا
فانظر كم تحت
قوله: أنا لك ما أنا لا من أنواع الذل، وكذلك قوله للمسيّب [كامل]:
ولأشكرن غريب
نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل
أنت الشجاع إذا هم
نزلوا ... عند المضيق وفعلك الفعل
فالحظ كم تحت قوله
وفضله الفضل بعد إخباره بأنه يشكر غريب نعمته حتى يموت من أصناف المدح، وترجيح
فضله على الشكر، وفي قوله غريب نعمته غاية المدح، إذ جعل نعمته نعمة لم يقع مثلها
في الوجود قط، وكذلك قوله: وفعلك الفعل بعد إخباره بنزول القوم عند المضيق الدال
على صبرهم وشجاعتهم، وما في ذلك من ترجيح شجاعة الممدوح عليهم.
وكذلك قوله في صفة
الفرس [طويل]:
على هيكل يعطيك
قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا وان
فإنه أشار بقوله
أفانين جري إلى جميع صنوف عدو الخيل المحمودة والذي يدل على أنه أراد الأفانين
المحمودة، نفيه عن الفرس الكزوزة والوني، فسلبه صفات القبح من الجماح والحرن
والاسترخاء والفتور، وجعله يعطي هذا الجري عفواً من غير طلب ولا حث، وهذا كمال
الوصف وتمام النعت، ولو عدّت هذه المعاني بألفاظها الموضوعة لها لاحتيج في العبارة
عنها إلى ألفاظ كثيرة.
ومن الإشارة نوع
يقال له اللحن والوحي، وهو يجمع العبارة والإشارة ببعد لا يفهم طريقه إلا ذو فهم،
كما قال الشاعر [كامل]:
ولقد وحيت لكم
لكيما تفطنوا ... ولحنت لحناً ليس بالمرتاب
ومثال ذلك ما حكى
عن رجل من بلعنبر، أسِر في بكر بن وائل فسألهم أن يرسل إلى قومه؛ فقالوا: ترسل
بحضرتنا، وخافا أن ينذرهم، فإنهم عزموا على غزو قومه، فحضروا وأحضروه عبداً، فقال
له: أتعقل؟ قال: إني لعاقل، فأشار إلى الليل، وقال: ما هذا؟ فقال: الليل؛ فقال:
أراك عاقلاً، فملأ كفه من الرمل وقال: كم عدد هذا؟ فقال: لا أدري وإنه لكثير،
فقال: أيها أكثر: النجوم، أم النيران؟ فقال: إن كلا لكثرة، فقال: إيت قومي،
وأقرئهم السلام وقل لهم: أكرموا فلاناً فإن قومه لي مكرمون، يعني أسيراً كان عند
قومه من بكر بن وائل، ثم قل لهم: إن العرفج قد أوفى وقد اشتكت النساء، ومرهم أن
يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، ويركبوا جملي الأصهب، وبآية ما أكلت معكم
حيساً وسلوا عن خبري أخي الحارث، فلما قال لهم العبد ذلك قالوا: لقد جن الأعور
والله ما له ناقة ولا جمل، فلما سألوا أخاه سأل العبد عما قال له أولاً فأخبره،
فشرحه، وقال لهم: قد أنذركم، أما الليل فإنه أشار إلى أنكم في عمياء مظلمة، وأما
الرمل فإنه أشار إلى أنكم تغزون بمثل عدده، وأما النجوم والنيران، فأشار بذلك إلى
كثرة عدد عدوكم، وأما قوله: أوفى العرفج فإنه أشار إلى أن العدو قد استلأموا
وركبوا، وأما قوله: اشتكت النساء، أي اتخذوا القرب للغزو، وأما الناقة الحمراء
فعني الدهناء، وقوله أطلتم ركوبها، إشارة إلى أنكم قد عرفتم بإيطانها لطول مقامكم
بها فأمركم أن ترحلوا عنها، وتنزلوا الصمان، وهو الجمل الأصهب الذي أمر كم بركوبه،
ففعلوا فسلموا، وأما الحيس، فإشارة إلى أن عدوكم قد جمع لكم أخلاطاً كما جمع الحيس
السمن والتمر والأقط والله أعلم.
ومن أمثلة الوحي
والإشارة بضرب من الاستعارة قول يزيد بن الوليد لمروان بن محمد، وقد بلغه عنه
تلكؤه عن بيعته: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا قرأت كتابي هذا فاقعد على أيهما
شئت.
ومن ذلك قول
الحجاج للمهلب: إن فعلت وإلا أشرعت لك صدر الرمح، فقال المهلب متى أشرع الأمير إلى
صدر الرمح قلبت له ظهر المجن.
ومن شواهده
الشعرية قول امرئ القيس [طويل]:
وما ذرفت عيناك
إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتّل
وقوله عمرو بن معد
يكرب [طويل]:
فلو أن قومي
أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت
وكقول شاعر
الحماسة [طويل]:
بني عمنا لا
تنبشوا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
وكقول الآخر [طويل]:
أقول وقد شدوا
لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا
وكل هذا من قول
رسول الله صلى الله عليه[وآله] وسلم وقد أنشده العباس بن مرداس [متقارب]:
أتجعل نهبي ونهب
العبيد
فقال: يا علي،
اقطع لسانه عني، فأخذ علي بيده فأخرجه، فقال أقاطع لساني يا أبا الحسن؟ فقال: إني
لممض فيك ما أمر، وكل هذا من قوله تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى
النَّارِ ويدخل في هذا قوله عز وجل: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
أي بدنك، قال الأصمعي: في تفسير هذا الحرف: تقول العرب فدى لك ثوبي، يريدون نفسه،
وأنشد [وافر]:
ألا أبلغ أبا حفص
رسولاً ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
وقال عنترة [كامل]:
فشككت بالرمح
الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم