أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-04-2015
3283
التاريخ: 17-04-2015
3712
التاريخ: 16/12/2022
1683
التاريخ: 16-10-2015
6680
|
لم يكن الوضع السياسي الذي يريد أن يتحرّك في وسطه الإمام الصادق ( عليه السّلام ) قد تبدّل . فهشام بن عبد الملك الذي أقدم على اغتيال الإمام الباقر ( عليه السّلام ) لا زال هو الحاكم وسياسته مع الإمام الصادق ( عليه السّلام ) وشيعته هي السياسة نفسها وهي سياسة قائمة على أساس الحقد الجاهلي وتتلخّص في التشريد والاضطهاد .
إنّ زيد بن علي ( رضى اللّه عنه ) قد كشف لنا عمق المأساة التي كانت تعيشها الأمة آنذاك ، حين تعرّض في زمن الإمام الباقر ( عليه السّلام ) لإذلال وتوهين من قبل هشام باعتباره أحد رجال الشيعة ومن رموزها البارزين .
أخذ زيد يزداد قناعة بضرورة الثورة ضد الأمويين حتى صمّم على ذلك بلا تردّد ، وبدوافع إسلامية خالصة .
قد مرّ أن جابر بن يزيد الجعفي حين أوضح ليزيد رأي أخيه الباقر ( عليه السّلام ) بثورته وسلامة قراره وذكر له أنه مقتول لا محالة . قال له زيد :
يا جابر لم يسعني أن أسكت ، وقد خولف كتاب اللّه وتحوكم بالجبت والطاغوت ، وذلك أنّي شاهدت هشاما ورجل عنده يسبّ رسول اللّه . فقلت للسابّ : ويلك يا كافر ! أما إني لو تمكّنت منك لاختطفت روحك وعجّلتك إلى النار . فقال لي هشام : مه ، جليسنا يا زيد !
ثم قال زيد لجابر : فو اللّه لو لم يكن إلّا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتّى أفنى[1].
والرواية التالية أيضا تصوّر لنا حقيقة دوافع زيد ومدى عزمه على مناهضة بني اميّة :
فعن محمّد بن عمر بن علي ( عليه السّلام ) قال : كنت مع زيد بن علي ( عليه السّلام ) حين بعث بنا هشام إلى يوسف بن عمر ، فلمّا خرجنا من عنده وسرنا حتى كنّا بالقادسية قال زيد : اعزلوا متاعي عن أمتعتكم ، فقال له ابنه : ما تريد أن تصنع ؟
قال : أريد أن أرجع إلى الكوفة ، فو اللّه لو علمت أنّ رضى اللّه عزّ وجلّ عنّي في أن أقدح نارا بيدي حتّى إذا اضطرمت رميت نفسي فيها لفعلت ، ولكن ما أعلم شيئا للّه عزّ وجلّ عني أفضل من جهاد بني اميّة[2].
والتحق بزيد كثير من الفقهاء والمحدثين والقضاة من أصحاب الإمامين الباقر والصادق ( عليهما السّلام )[3].
وعندما قرّر الثورة ، لم يتجاوز إمام عصره حيث طرح الأمر على الإمام الصادق ( عليه السّلام ) .
قال الإمام موسى الكاظم ( عليه السّلام ) : سمعت أبي يقول : رحم اللّه عمّي زيدا . . .
لقد استشارني في خروجه ، فقلت له : يا عمّ إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك[4] .
وهكذا أقرّ الإمام الصادق ( عليه السّلام ) سلامة قراره كما أخبره بنبأ شهادته .
أمّا توجيهات الإمام الصادق ( عليه السّلام ) للمخلصين من أصحابه حيال الثورة بشكل عام فكانت من نوع آخر حيث لا يريد الإمام ( عليه السّلام ) أن يلقي بكلّ ثقل وجوده في معركة واحدة .
فعن أبي بكر الحضرمي أنه قال : ذكرنا أمر زيد وخروجه عند أبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) فقال : « عمّي مقتول . إن خرج قتل ، فقرّوا في بيوتكم ، فو اللّه ما عليكم بأس » ، فقال رجل من القوم : إن شاء اللّه[5].
زيد يعلن الثورة
وجمع زيد بن علي الأنصار والدعاة فأعلن ثورته والتحق به عدد غفير .
لكن المتتبّع للوضع السياسي والأخلاقي لتلك المرحلة ، يرى أنّ الاضطراب العقائدي والأخلاقي كان سمة من سمات ذلك العصر بالرغم من وجود قناعة كانت تعيشها الامّة وهي التذمّر من بني أمية وجورهم من جهة وتوجّههم إلى أنّ البديل السياسي المرتقب هو الخط العلوي الذي كافح الظلم وتحمّل ألوان العذاب من الحكم الأموي المنحرف . لكن هاتين القناعتين - كما سترى - لا تفيان بكامل الشروط الموضوعية لنجاح الثورة .
غير أنّ الثورة على مستوى حاجة مسيرة الأمة تعتبر ضرورة اجتماعية وسياسية لئلا تتنازل الأمة مطلقا للظالمين عن حقوقها وشخصيّتها ولتحافظ على هويّتها الإسلامية من حيث الحيوية والحساسية ضد الباطل بشكل عام .
من هنا كان العمل الثوري مفيدا للأمة وإن لم تنجح الثورة على المدى القريب . وهكذا نجد الإمام ( عليه السّلام ) مع علمه بنتائج الثورة يعمّق هذا المفهوم في نفوس الشيعة ويدعم الثّوار كما سنرى .
لقد فجّر زيد ثورته وحقّق نصرا حاسما ضدّ الأمويين بعد ان خاض حربا طاحنة كادت أن تنتهي لصالح زيد لولا وقوع الفتنة في صفوف أتباعه حيث احتال عليه بعض من كان يهوى هشاما فدخلوا عليه وقالوا : ما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فقال زيد : رحم اللّه أبا بكر وعمر صاحبي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) ثم قال : أين كنتم قبل اليوم ؟
لقد كان الغرض من إلقاء السؤال في ذلك الموقف الحرج وفي ساحة الحرب هو أحد أمرين وفي كليهما نجاح تلك الخدعة وتحقيق تلك المؤامرة ، فإما أن يتبرّأ زيد من الشيخين فيكون حينئذ أقوى لقتل زيد ؛ لأنه يسيء القول في الشيخين وتلك وسيلة اتّخذها الأمويون ومن بعدهم للقضاء على خصومهم . وإمّا أن لا يتبرّأ ممن ظلم أهل البيت حقّهم فيكون جوابه على أيّ حال سببا لايجاد الخلاف بين أصحابه .
وبالفعل نجحت المؤامرة وتفرّق أهل الغدر وذوو الأطماع وكانت هذه الحيلة من الوالي يوسف بن عمر أقوى سلاح لجأ إليه ، كما أغرى بعض جواسيسه بالأموال ليتعرّف على أصحاب زيد[6].
وخذل زيد وتفرّق جيشه حتى قال : أراها حسينية . وبعد قتله حملت جثته وصلبت بالكناسة بالكوفة[7] وذلك في سنة ( 121 ه ) .
موقف الإمام الصادق ( عليه السّلام ) من ثورة زيد
يقول مهزم الأسدي دخلت على الإمام الصادق ( عليه السّلام ) فقال : « يا مهزم ما فعل زيد ؟ » قال : قلت : صلب ، قال : « أين ؟ » قلت : في كناسة بني أسد . قال :
« أنت رأيته مصلوبا في كناسة بني أسد ؟ » قال : قلت : نعم ، فبكى حتّى بكت النساء خلف الستور[8].
نجد الإمام الصادق ( عليه السّلام ) في مواقف متعدّدة يتبنّى الدفاع عن عمّه زيد ويترحّم عليه ويوضح منطلقاته وأهدافه ويرسّخ في النفوس مفهوما اسلاميا عن ثورته حيث يعتبر هذه الثورة جزءا من حركة الإمام ( عليه السّلام ) وليس حدثا خارجا عنها ، كما نجده يردّ على الإعلام المضادّ للثورة ضمن عدّة مواقف وتصريحات :
1 - يقول الفضيل بن يسار : بعد قتل زيد ذهبت إلى المدينة لألتقي بالإمام الصادق ( عليه السّلام ) وأخبره بنتائج الثورة ، وبعد أن التقيته وسمع منّي ما دار في المعركة قال : يا فضيل شهدت مع عمّي قتال أهل الشام ؟ قلت : نعم . قال : فكم قتلت منهم ؟ قلت : ستّة . قال : فلعلّك شاكّ في دمائهم ؟ قال : فقلت : لو كنت شاكّا ما قتلتهم . ثمّ قال : سمعته يقول : أشركني اللّه في تلك الدماء ، مضى واللّه زيد عمّي وأصحابه شهداء ، مثل ما مضى عليه عليّ بن أبي طالب وأصحابه »[9].
2 - يقول عبد الرحمن بن سيّابه : دفع إليّ أبو عبد اللّه الصادق ( عليه السّلام ) ألف دينار وأمرني أن أقسّمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي بن الحسين ( عليهما السّلام ) ، فقسّمتها فأصاب عبد اللّه أخا الفضيل الرسّان أربعة دنانير[10].
هكذا كان الإمام ( عليه السّلام ) يتابع ثورة عمّه زيد ويتحمّل نتائجها وأعباءها .
وتكشف لنا الروايتان عن مستوى العلاقة القائمة بين الإمام ( عليه السّلام ) والشيعة الثائرين عندما يأمر أحدهم بإحصاء عوائل الشهداء وتوزيع المال عليهم .
3 - أمر الإمام ( عليه السّلام ) شيعته بدفن زيد ، لأنّ الأمويين كانوا قد علّقوه على أعواد المشانق ، قال سليمان بن خالد : سألني الإمام الصادق ( عليه السّلام ) فقال : ما دعاكم إلى الموضع الذي وضعتم فيه زيدا ؟ قلت : خصال ثلاثة : أما إحداهنّ فقلّة من تخلّف معنا[11] إنّما كنا ثمانية نفر ، أمّا الأخرى فالذي تخوّفنا من الصبح أن يفضحنا ، وأما الثالثة فإنّه كان مضجعه الذي كان سبق إليه فقال : كم إلى الفرات من الموضع الذي وضعتموه فيه ؟ قلت : قذفة حجر . فقال : سبحان اللّه أفلا كنتم أو قرتموه حديدا وقذفتموه في الفرات وكان أفضل ؟[12]
الإمام ( عليه السّلام ) وهشام بن عبد الملك
في هذا الجوّ المشحون بتزاحم الإرادات وحدوث تمرّد على الحكومة هنا وهناك ، خصوصا بعد ثورة زيد ( رحمه اللّه ) والإمام الصادق ( عليه السّلام ) مشغول بترتيب أوضاعه الرساليّة ، والتهم تثار ضدّ الشيعة تارة بالخروج على السلطان وأخرى بالزندقة وجواز سبّ الخلفاء ، يدخل هشام إلى المدينة ويستقبله بنو العباس بالشكوى على الإمام الصادق ( عليه السّلام ) بأنه أخذ تركات ماهر الخصي دوننا . هنا يخطب أبو عبد اللّه الصادق ( عليه السّلام ) فيقول : كان أبوكم طليقنا وعتيقنا وأسلم كارها تحت سيوفنا ، لم يهاجر إلى اللّه ورسوله هجرة قط فقطع اللّه ولايته منّا بقوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ[13] ثم قال : هذا مولى لنا مات فحزنا تراثه ، إذ كان مولانا ، ولأنّا ولد رسول اللّه ( عليه السّلام ) وامّنا فاطمة أحرزت ميراثه[14].
وبعد موت هشام بن عبد الملك تولّى الخلافة الوليد بن يزيد سنة ( 125 ه ) وكان يسمّى بالفاسق إذ لم يكن في بني اميّة أكثر إدمانا للشراب والسماع ولا أشد مجونا وتهتّكا واستخفافا بأمر الامّة منه ، حتّى إنه واقع جارية له وهو سكران وجاءه المؤذّنون يؤذنونه بالصلاة فحلف أن لا يصلّي إلّا هي ، فلبست ثيابه ، وصلّت بالمسلمين وهي جنب وسكرانة .
وكان قد اصطنع بركة من الخمر ، فكان إذا طرب ألقى نفسه فيها وكان يشرب منها حتّى يبين النقص في أطرافها[15].
ومما كان من فسقه أنه نكح أمّهات أولاد أبيه ، وتفائل يوما بالمصحف الكريم فخرجت الآية : وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فمزّق المصحف وأنشأ يقول :
أتوعد كل جبار عنيد * فها أنا ذاك جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر * فقل يا ربّ مزّقني الوليد[16]
وقد تمادى في الغيّ حتّى قال له هشام : ويحك واللّه ما أدري أعلى دين الاسلام أنت أم لا ؟ !
بداية الانفلات
لم تكن هذه اللحظات التأريخية من حياة الامّة التي بدأت فيها بالمطالبة بإزاحة بني اميّة من مركز الحكم لتتحقق بشكل عفوي ، وانما جاءت نتيجة لفعاليات ثورية بدأت من ثورة الإمام الحسين ( عليه السّلام ) ، واستمرّت حتّى ثورة زيد التي أطاحت بهيبة هشام بن عبد الملك الأموي وطغيانه .
وفي هذا الظرف كتب عامل الوليد بن يزيد في خراسان : بتردّي الأوضاع وحدوث ثورات فأجابه : إني مشغول بالعريض ومعبد وابن أبي عائشة ، وهم المغنّون الّذين كان قد أحضرهم عنده[17].
وقد صرّح الإمام الصادق ( عليه السّلام ) بعاقبة هذا الانحدار والتردّي والتمرّد على حرمات اللّه قائلا : « إن اللّه عزّ ذكره ، أذن في هلاك بني أمية بعد إحراقهم زيدا بسبعة أيّام »[18].
وكان الوليد هو الذي أمر بإنزال جثمان زيد الشهيد - بعد أن بقي أربع سنوات على أعواد المشانق - وأمر باحراقه . وكان تشديد الحراسة من السلطة على جثمان زيد - خشية إنزاله من قبل العلويين - دليلا على وجود فعّاليات منظّمة ضد الحكم القائم ، وكان الإمام الصادق ( عليه السّلام ) يعاتب الشيعة على عدم تصدّيهم لإنزال جثمان زيد الشهيد .
وعندما اشتدّت المعارضة كتب الوليد إلى عامله في الكوفة يوسف بن عمر : خذ عجل أهل العراق فأنزله جذعه ( يعني زيد بن علي ( عليه السّلام ) ) وأحرقه بالنار ثم انسفه في اليمّ .
ونفّذ يوسف ما أمره سيّده فأحرق جسد زيد بن علي وذرّه في نهر الفرات[19].
الإمام الصادق ( عليه السّلام ) يشيد بثورة عمّه زيد
كانت السلطة الحاكمة عندما تريد الانتقام من خصومها تلقي عليهم تهما مستهجنة في نظر عامّة الناس ، مثل شقّ عصا المسلمين ، وتهمة الزندقة لتكون مسوّغا لاستباحة دمائهم وتحشيد البسطاء من الناس عليهم .
ومن هنا قالوا بأن ثورة زيد بن علي ( عليه السّلام ) هي خروج على سلطان زمانه « هشام بن عبد الملك » المفروضة طاعته من قبل اللّه ! لأهداف كان يريدها زيد لنفسه .
وهذا الاتّهام قد ردّ عليه الإمام الصادق ( عليه السّلام ) وحاربه حين قال : لا تقولوا خرج زيد ، فإنّ زيدا كان عالما صدوقا ، ولم يدعكم إلى نفسه ، إنّما دعاكم إلى الرضيّ من آل محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) ، ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه ، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه[20].
وحدث حوار بين يحيى بن زيد ورجل شيعي وكان الرجل يستفهم عن موقف زيد من يحيى بن زيد . قال الرجل : قلت : يا بن رسول اللّه إنّ أباك قد ادّعى الإمامة وخرج مجاهدا ، وقد جاء عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) فيمن ادّعى الإمامة كاذبا ! فقال : مه يا عبد اللّه . إنّ أبي كان أعقل من أن يدّعي ما ليس له بحق ، وإنمّا قال : أدعوكم إلى الرضيّ من آل محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) عنى بذلك ابن عمي جعفرا . قلت :
فهو اليوم صاحب الأمر ؟ قال : نعم هو أفقه بني هاشم[21].
مقتل يحيى بن زيد
وفي أيام الوليد بن يزيد قتل يحيى بن زيد أيضا ، وذلك أنّ يحيى خرج من الكوفة بعد مقتل أبيه وتوجّه إلى خراسان ، فسار إلى الري ، ومنها أتى سرخس ، ثم خرج ونزل بلخ على الحريش بن عبد الرحمن الشيباني ولم يزل عنده حتّى هلك هشام وولي الوليد[22].
وكتب والي الكوفة إلى نصر بن سيار يخبره بأنّ يحيى بن زيد موجود في منزل الحريش ، وهنا طلب نصر من الحريش بأن يسلّم إليه يحيى ، فردّ الحريش على الوالي نصر بن سيّار قائلا : لا علم لي به . ولهذا السبب ضرب الحريش ستمائة سوط . ثم قال الحريش : واللّه لو أنّه تحت قدميّ ما رفعتهما[23].
وبقيت أجهزة النظام تراقبه ، وجرت بعد ذلك حوادث يطول ذكرها وأخيرا أرسل نصرا جيشا يقدّر بعشرة آلاف فارس وكان يحيى في سبعين رجلا ، وفي المعركة الأخيرة أصيب يحيى بسهم في جبهته فقتل وقتل أصحابه - رضوان اللّه عليهم - عن آخرهم وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه [24] وكان ذلك في سنة ( 125 ه ) وصلب جسده الشريف بالجوزجان ولم يزل مصلوبا حتّى ظهر أبو مسلم الخراساني فأنزله وصلّى عليه ودفّنه[25].
وفي سنة ( 126 ه ) قتل الوليد بن يزيد من قبل الأمويين أنفسهم وتوّلى الخلافة من بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك . وفي هذه الفترة حدثت فوضى سياسيّة لم تشهد من قبل حيث تحرّك كل من كان له أدنى طمع في الرئاسة ؛ لأنّ الامّة في هذا الظرف كانت مستعدة لأن تستجيب لأيّ لافتة تدّعي العدالة ، وتريد الانتقام من الأمويين ، فكانت تتقبل هذه الدعوات بلا فحص ولا تدقيق ، ولهذا ظهرت في هذا الظرف مذاهب سياسية شتّى ! وهذا الواقع السياسي لم يمكن مسكه ولا السيطرة عليه وتكريسه باتّجاه واحد من قبل الإمام ( عليه السّلام ) .
من هنا نجد أنّ موقفه ( عليه السّلام ) من هذا الوضع كان موقف المصلح المرشد حيث نراه تارة يحذّر من الاندفاع وراء أهل المذاهب الأخرى ، وتارة يدعو للموقف الثوري لكن للّذي يعتمد العقيدة الصحيحة إن وجد .
فالإمام ( عليه السّلام ) محيط بتفاصيل واقعه ؛ لأنّه كان على رأس حركة لم تكن وليدة الساعة وإن جاءت كردّ فعل للواقع المنحرف . ولا تخفى عليه حركة التيارات الطارئة في هذا الظرف ولا الأطماع التي تحرّك رؤساءها .
فهو إذن يعلم جيدا ما كان يستتر خلف هذه اللافتات من نوايا وأهداف كشعار بني العباس الذي خدعوا به الأمة ، من هنا حذّر الإمام ( عليه السّلام ) من الانسياق وراء تلك الدعوات ، وأكّد ضرورة الالتزام بالقيم والمبادئ المفقودة ، وأعطى ملامح الخط السياسي الذي كان ينسجم مع المرحلة لكن ليس على حساب العمل الجهادي الذي يستهدف الأمويين ، وهذا ما شاهدناه من خلال مواقفه ( عليه السّلام ) من ثورة زيد ودعمه لها .
موقف الإمام ( عليه السّلام ) إزاء الأحداث السياسية
ويمكن تلخيص الموقف السياسي الذي خطّه الإمام ( عليه السّلام ) إزاء الأحداث وإزاء العروض التي تقدّمت بها جماعات موالية وأخرى متعاطفة في نقطتين :
الأولى : موقفه من العروض التي تقدّمت بها فئات مختلفة من الأمة .
الثانية : تأكيده على الموقف المبدئي وتحذير الشيعة من الموقف الانفعالي والانحراف وراء الأحداث .
موقف الإمام ( عليه السّلام ) من العروض التي قدمت له
العرض الأوّل : روي عن عبد الحميد بن أبي الديلم أنه قال : كنت عند أبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) فأتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم ، وكتاب الفيض بن المختار وسليمان بن خالد يخبرونه أنّ الكوفة شاغرة[26] برجلها وأنّه إن أمرهم أن يأخذوها أخذوها . فلمّا قرأ ( عليه السّلام ) كتابهم رمى به ، ثمّ قال : ما أنا لهؤلاء بإمام ، أما علموا أنّ صاحبهم السفياني ؟[27].
العرض الثاني : هو الذي تقدّم به جماعة من منطقة خراسان إلى الإمام الصادق ( عليه السّلام ) ولم يكن في الحقيقة عرضا من أجل الثورة ودعوة الناس لمبايعة الإمام ( عليه السّلام ) وإنّما كان استفسارا حول الدعوة التي قد أشاعها شخص كان قد جاء من الكوفة وادّعى أنّه يمثّل الإمام وهو رسوله إليهم .
لنستمع إلى كلام راوي الحدث - الحارث بن حصيرة الأزدي - حيث قال : قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمد ( صلّى اللّه عليه وآله ) قال : ففرقة أطاعته وأجابت ، وفرقة جحدت وأنكرت ، وفرقة ورعت ووقفت . قال : فخرج من كلّ فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) - وقد كان في بعض القوم جارية فخلا بها الرجل الذي كان يعرف بالورع ووقع عليها - فلما دخلنا على أبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) وكان الرجل الذي خلا بالجارية هو المتكلم فقال لأبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) : أصلحك اللّه قدم علينا رجل من أهل الكوفة فدعا الناس إلى طاعتك وولايتك فأجاب قوم ، وأنكر قوم ، وورع قوم ووقفوا . قال : فمن أيّ الثلاث أنت ؟ قال : أنا من الفرقة التي ورعت ووقفت قال : فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا ؟ قال : فارتاب الرجل[28].
العرض الثالث : أوضح الإمام الصادق ( عليه السّلام ) سياسته في هذه المرحلة أمام حشد من معارضي الأمويين وأشار بشكل غير مباشر إلى الخلل العقائدي والفكري والأهداف التي كان يسعى لها بعض عناصر المعارضة . نلاحظ ذلك فيما روي أن عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم من كبار المعتزلة التقوا بالإمام الصادق ( عليه السّلام ) وطرحوا عليه فكرة القيام بالثورة والاستيلاء على الحكم وطلبوا منه التأييد لهم والانضمام معهم .
هنا لم يجب الإمام على نفس السؤال ولم يلبّ طلبهم وإنّما عالج مسألة أخرى هي أهمّ من الاستجابة لطلبهم مستخدما نفس الطريقة السابقة ؛ فإنّ العمل المسلّح لا ينفع إذا كانت نوازع الثائرين لا تختلف عن مباني نوازع الأمويين في الحكم ، ولهذا شخّص الإمام ( عليه السّلام ) لهؤلاء الداء الذي سبّب تلك العواقب المظلمة والانحرافات التي ألمّت بالمجتمع الاسلامي .
والحدث كما يرويه لنا عبد الكريم بن عتبة الهاشمي هو كما يلي :
قال : كنت عند أبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وحفص بن سالم وأناس من رؤسائهم ، وذلك حين قتل الوليد بن يزيد واختلف أهل الشام بينهم ، فتكلّموا فأكثروا ، وخطبوا فأطالوا ، فقال لهم أبو عبد اللّه جعفر بن محمد ( عليه السّلام ) : إنّكم قد أكثرتم عليّ فأطلتم ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، فليتكلّم بحجتكم وليوجز . فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فأبلغ وأطال فكان فيما قال : قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب اللّه بعضهم ببعض وتشتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروة ، ومعدن للخلافة ، وهو محمد بن عبد اللّه بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ، ثم نظهر أمرنا معه ، وندعوا الناس اليه ، فمن بايعه كنّا معه ، وكان منّا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغيه ، ونرده إلى الحق وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فإنّه لا غنى بنا عن مثلك ، لفضلك وكثرة شيعتك .
فلمّا فرغ ، قال أبو عبد اللّه ( عليه السّلام ) : « أكلّكم على مثل ما قال عمرو ؟ قالوا : نعم .
فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) واحتج عليهم بحجج ثم أقبل على عمرو ، وقال : إتّق اللّه يا عمرو ، وأنتم أيها الرهط ، فاتّقوا اللّه فإنّ أبي حدّثني - وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب اللّه وسنّة رسوله - : أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) قال : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف »[29].
فهؤلاء مع اعترافهم بفضل الإمام ( عليه السّلام ) وتقدّمه على من سواه كيف كانوا يفكّرون في مبايعة غيره ويتوقّعون تأييد الإمام ( عليه السّلام ) لهم ؟ ! وقد دعاهم إلى أمر معقول ومشروع فلا بدّ لهم من إعادة النظر فيما يريدون الإقدام عليه .
الإمام ( عليه السّلام ) يحذّر الشيعة من المواقف الانفعالية
ولإيضاح هذه النقطة نطالع بعض النماذج التالية :
النموذج الأوّل : ويتضمّن تأكيد الإمام ( عليه السّلام ) على التثبّت والتحقيق وعدم التسرّع في الاستجابة لكل من يرفع شعار الثورة حتى ولو كان هذا الشعار هو شعار أهل البيت ( عليهم السّلام ) ؛ لأن الانسان إن لم يتثبّت لكان هو الخاسر ولكانت الخسارة عظيمة جدّا ؛ لأنه سوف يخسر الحياة التي سيحاسب على صغيرها وكبيرها وسوف لا ينفعه الندم والتوبة إن قتل ؛ لا على بيّنة أو دليل قوي .
وفي هذا خير تحذير من الاختراقات السياسية التي كانت تحاول توظيف الوجود الشيعي لصالحها وتدّعي بأن لها صلة بالإمام لكنها في الحقيقة كانت تريد الاستغفال .
لنقرأ ما جاء عن عيص بن القاسم حين قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السّلام ) يقول : عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له ، انظروا لأنفسكم فو اللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي ، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الّذي هو فيها ، يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها . واللّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية فعمل على ما قد استبان لها . ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت ، فقد واللّه ذهبت التوبة ، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم . إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون[30].
النموذج الثاني : وفيه يشير الإمام ( عليه السّلام ) إلى أن المرحلة أحوج ما تكون إلى النماذج الصالحة والقدوة الحسنة لترفد المجتمع بسلوكها الصالح وفكرها الصائب .
فعن عمر بن أبان قال : سمعت أبا عبد اللّه يقول : « يا معشر الشيعة إنكم نسبتم إلينا ، كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا ، ما يمنعكم أن تكونوا مثل أصحاب علي رضوان اللّه عليه في الناس ؟ ! إن كان الرجل منهم ليكون في القبيلة ، فيكون إمامهم ومؤذّنهم ، وصاحب أماناتهم وودائعهم . عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم وصلّوا في مساجدهم ولا يسبقوكم إلى خير ، فأنتم - واللّه - أحقّ منهم به »[31].
[1] حياة الإمام محمّد الباقر ، دراسة وتحليل : 1 / 72 .
[2] تيسير المطالب : 108 - 109 .
[3] راجع كتاب زيد الشهيد للسيد عبد الرزاق المقرم حيث تجد قائمة بأسماء الشخصيات التي شاركت مع زيد في ثورته .
[4] الكناسة اسم محلة بالكوفة . راجع الاحتجاج : 2 / 135 ، بحار الأنوار : 46 / 174 ، مسند الإمام الرضا : 2 / 505 .
[5] كشف الغمة : 2 / 198 - 199 ، بحار الأنوار : 47 / 148 .
[6] تاريخ الأمم والملوك : 8 / 277 .
[7] أنساب الأشراف : 3 / 439 و 446 ، والنزاع والتخاصم للمقريزي : 31 .
[8] أمالي الطوسي : 2 / 672 ، بحار الأنوار : 46 / 201 .
[9] أمالي الصدوق : 286 .
[10] أمالي الصدوق : 275 .
[11] أي من اتباع زيد فان بعضهم قتل وبعضهم هرب .
[12] الكافي : 8 / 250 - 251 ح 351 .
[13] الأنفال ( 8 ) : 72 .
[14] المناقب لأبن شهرآشوب : 1 / 321 ، وبحار الأنوار : 47 / 176 ح 22 .
[15] حياة الحيوان : 1 / 72 .
[16] مروج الذهب : 3 / 216 .
[17] تاريخ الإسلام للذهبي : 5 / 178 .
[18] الكافي : 8 / 161 ، وتفسير العياشي : 1 / 325 .
[19] تاريخ اليعقوبي : 2 / 391 ، والطبري : 8 / 122 ، وابن الأثير : 5 / 127 .
[20] الحور العين : 188 .
[21] السرائر ، الحاوي لابن إدريس الحلّي : ( المستطرفات ) 3 / 550 فما بعدها .
[22] زيد بن علي ، للسيد عبد الرزاق المقرم : 176 .
[23] الكامل لأبن الأثير : 5 / 127 .
[24] المصدر السابق .
[25] المصدر السابق : 5 / 127 .
[26] شاغرة : شغر البلد شغورا : إذا خلى من حافظ يمنعه .
[27] اختيار معرفة الرجال : 353 ح 662 وعنه في بحار الأنوار : 47 / 351 .
[28] بصائر الدرجات : 264 / ح 5 ، وبحار الأنوار : 47 / 72 .
[29] بحار الأنوار : 47 / 213 - 216 عن الكافي : 3 / 554 ، والاحتجاج : 2 / 118 - 122 ، والتهذيب : 67 / 148 .
[30] الكافي : 8 / 264 .
[31] أصول الكافي : 2 / 293 ، ومشكاة الأنوار : 67 ، ووسائل الشيعة : 1 / 52 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|