أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-09-2014
12903
التاريخ: 17-12-2015
5102
التاريخ: 3-12-2015
5187
التاريخ: 9-7-2022
1391
|
أنّ للقرآن
حقيقة شامخة ومضامين راقية عالية قد كتُبت بالقلم في اللوح المحفوظ بأمر الله .
ويعبّر عن المكتوب في اللوح المحفوظ باُمّ الكتاب .
هذه الأمور حقايق قطعية ثابتة ، قد
أشير الى أصل وجودها في القرآن الكريم ، وجاءَ بعض خصوصياتها في نصوص أهل البيت
(عليهم السلام) .
وها هنا عناصر ثلاثة تكون محالٌ
حقيقة القرآن ومقارٌ معارفه العالية قبل نزوله ، وهي :
1. أمّ الكتاب ، 2. القلم ، 3. اللوح
المحفوظ .
أمّ
الكتاب مكتوب فيه جميع المقدّرات
وأما أمّ الكتاب ، فيستفاد من نصوص
متظافرة ، بل متواترة ، أنّه ما كتب فيه جميع مقدرات العالم الى يوم القيامة ، من
الأرزاق والآجال وعواقب اُمور جميع أبناء البشر ، وساير الموجودات .
من هذه النصوص قول الامام السجاد
(عليه السلام) في دعائه : " اللهم إن كنت عندك في اُم الكتاب كتبتني شقياً ،
فإني أسالك بمعاقد العزّ من عرشك والكبرياء والعظمة - التي لا يتعاظمها عظيمُ ولا
متكبّر - أن تصلّي على محمد وآله ، وأن تجعلني سعيداً ؛ فإنّك تُجري الأمور على
إرادتك وتُجير ولا يُجار عليك يا قدير، وأنت رؤوف رحيم خبير ، تعلم ما في نفسي ولا
أعلم ما في نفسك ؛ إنّك أنت علّام الغيوب " (1) .
وقوله (عليه السلام) : " يا ذا
المن لا منّ عليك ، يا ذا الطول لا اله إلا أنت ، يا أمان الخائفين وظهر اللاجين
وجار المستجيرين ، إن كان في أمّ الكتاب عندك أني شقي أو محروم او مقترّ عليّ رزقي
، فامحُ من أمّ الكتاب شقائي وحرماني واقتار رزقي واكتُبني عندك سعيداً موفقاً
للخير ، موسّعاً عليّ في رزقي ؛ فإنك قلتَ في كتابك المنزل على نبيك المرسل (صلى
الله عليه وآله) : {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد
: 39] وقلت : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
[الأعراف : 156] وأنا شيءٌ ، فلتسعني رَحمتُك يا أرحم الراحمين " (2) .
وقد رواه الشيخ بسنده عن الصادق
(عليه السلام) في التهذيب (3) .
وجاء في تفسير الإمام العسكري (عليه
السلام) في تفسير قوله تعالى : {خَتَمَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}
[البقرة : 7] : " ختماً يكون علامة لملائكته المقرّبين القرّاءِ لما في
اللوح المحفوظ من أخبار هؤلاء " (4) وقد
أثبتنا في كتابنا " مقياس الرواة " اعتبار هذا التفسير بوجوهٍ عديدة ،
فراجع .
ومن هذه النصوص ما دلّ على أنّ اُمّ
الكتاب ما كُتب فيه علم الله المكنون المكتوم عن جميع خلقه .
مثل ما رواه محمد بن الحسن الصفار ،
قال حدّثنا أحمد بن محمد ، عن البرقي ، عن الربيع الكاتب ، عن جعفر بن بشير ، قال
: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : إنّ لله علمين ، علم مبذول وعلم
مكنون ، فأما المبذول ، فإنه ليس من شيء تعلمه الملائكة والرسل إلا نحن نعلمه ،
وأما المكنون ، فهو الذي عند الله تبارك وتعالى في اُمّ الكتاب ، إذا خرج نفذ
" (5).
وقد رواه أيضاً محمد بن يعقوب ، عن
علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن ضريس عن أبي جعفر
(عليه السلام) (6). وعبارته تطابق عبارة رواية الصفار
، إلا أن فيه لفظ المكفوف بدلاً عن المكنون .
حاصل مفاد هذه الرواية : أن أمّ
الكتاب ما كتب فيه علم الله المكنون المستور عما سوى ذاته المقدسة . ومن الواضح أن
علم الله مطلق يشمل جميع أُمور العالم من الشرايع والآجال والأرزاق والحوادث وساير
مقدرات جميع المخلوقات .
قوله : " إذا خرج نفذ " أي
إذا أمر الله باخراجه يخرج وينفذ ويجري في حق المخلوقات .
ونفوذ كل شيءٍ بحسبه ، فإن كان
الخارج من الشرايع ، يكون نفوذه بتشريعه في حق العباد وتكليفهم بها . وإن كان من
التكوينيات يجري ويتحقق في العالم ولا يقدر أحدٌ على منع جريانه وقوعه ، كما نشاهد
ذلك في القوانين التكوينية الجارية في نظام الوجود وعالم التكوين .
هذا فقه الحديث .
وأما من جهة السند ، فهي معتبرة
بطريق الكليني ؛ إذ لا كلام في رجاله إلا صالح بن السندي . والأقوى اعتبار رواياته
؛ إذ له أصل روائي كما ذكره الشيخ . وقد روى روايات كثيرة تتجاوز عن ثمانين ، فهو
من مشاهير الرواة ، ومع ذلك لم يرد فيه أيّ قدح . فلو كان في مثله قدح لبان ، بل
وقع في أسناد كامل الزيارات ، فهو مشمول للتوثيق العام من ابن قولويه .
ومنها : ما رواه العياشي في
تفسيره عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) سُئل عن قول الله : {يَمْحُو
اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال
: إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله فيه ما يشاء ويُثبت ، فمن ذلك الذي يَرُدّ الدّعاء
القضاء ، وذلك الدعاء مكتوبٌ عليه : الذي يُردّ به القضاء ، حتى إذا صار الى اُمّ
الكتاب لم يُغنِ الدّعاء فيه شيئاً " (7) .
يستفاد من هذه الرواية أن امّ الكتاب
قد ثبت فيه ما لا يتغيّر من المقدّرات .
قال الشيخ الطوسي :
" وإنّه ؛ يعني القرآن . في اُمِّ الكتاب لدينا ؛ يعني اللوح المحفوظ الذي
كتب الله فيه ما يكون الى يوم القيامة ؛ لما فيه من صلحة ملائكته بالنظر فيه
وللخلق فيه من اللطف بالإخبار عنه . " وأم الكتاب : أصله ؛ لأنّ أصل
كلِّ شيءٍ اُمّه " (8) .
وقال في مجمع البيان : " اُمّ
الكتاب أصل الكتاب الذي اُثبت فيه الحوادث والكائنات . وروى أبو قلابه عن ابن
مسعود أنّه كان يقول : اللهم إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء
واثبتني في السعداء ؛ فانك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك اُم الكتاب . وروي مثل ذلك عن
ائمتنا (عليهم السلام) في دعواتهم المأثورة .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال
: هما كتابان : كتاب سوى اُمِّ الكتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت ، واُمّ الكتاب لا
يغيّر منه شيءٌ ، رواه عمران بن حصين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) . وروى
محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن ليلة القدر ، فقال : ينزل
الله فيها الملائكة والكتبة الى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون من أمر السنة وما
يصيب العباد وأمر ما عنده موقوف له فيه المشيئة فيقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء
ويمحو ويثبت وعنده اُم الكتاب ، وروى الفضيل قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام)
يقول : العلم علمان ؛ علم علّمه ملائكته ورسله وأنبيائه وعلم عنده مخزون لم يطلع
عليه أحد يحدث فيه ما يشاءُ . وروى زرارة عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال : هما أمران موقوف ومحتوم ، فما كان من محتوم أمضاه وما كان من موقوف فله فيه
المشيئة يقضي فيه ما يشاءُ " (9) .
والروايات المشار إليها في كلام الطبرسي قد
رواها العياشي في
تفسيره ذيل آية : {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (10) .
ولا يخفى أنّ الروايات التي رواها العياشي في
تفسيره مرسلاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحد المعصومين (عليهم
السلام) لا حجية لها ؛ نظراً الى الجهل برواتها في بعض الطبقات واحتمال عدم وثاقتهم
. ونفي هذا الاحتمال لا مجال له بعد ما رأينا من أجلاء الأصحاب ، من الرواية عن
غير الثقة ، بل علمنا بوقوع بعض الكذابين في طرق أحاديثهم ، مثل وهب بن وهب أبي
البختري ومفضّل بن صالح وعمرو بن شمر .
فاذا كان هذا حال مراسيل العياشي فمراسيل الطبرسي في
تفسيره (مجمع البيان) ومثله أوضح ضعفاً ؛ نظراً الى تأخره عن االعياشي بأكثر
من قرنين . وقد بحثنا عن معيار الحديث المرسل ووجه ضعفه ، وعن مرسلات من ادُّعي
تسوية الطائفة بين مراسيلهم ومسانيدهم في كتابنا " مقياس الرواية " ،
فراجع .
ولا يخفى أنّ " اُم
الكتاب " أيضاً جاء في القرآن بمعنى
محكمات القرآن ، كما دلّ عليه قوله تعالى :{مِنْهُ
آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل
عمران : 7] . وأيضاً جاءَ في أحاديث أهل البيت بمعنى سورة الحمد . وسيأتي
البحث عن ذلك في محله إن شاء الله .
حلّ تعارض
نصوص المقام
ثم إن ما سبق من الروايات الواردة في
اُم الكتاب ، يوجد بينها تعارض . وذلك أنّ ظاهر دعاءِ الصحيفة كون مافي اُمّ
الكتاب - من المقدرات - قابلاً للتغيير بالدعاء ؛ لأن طلب الامام والاقتار ، بقوله
(عليه السلام) " فامحُ من أُمّ الكتاب شقائي وحرماني وإقتار رزقي " (11) ظاهر في
كون المقدرات الثابتة المكتوبة في اُم الكتاب قابلة للتغيير بالدعاء .
وهذا المعنى مناقض لما جاء في خبر
عمّار المروي في تفسير العياشي عن
أبي عبد الله (عليه السلام) : " حتى إذا صار الى اُمّ الكتاب ، لم يُغنِ
الدعاءُ فيه شيئاً " (12) .
مقتضى القاعدة استقرار هذا التعارض ؛
نظراً الى عدم إمكان الجمع بينهما ، فلابد إمّا من الترجيح بالسند ، أو الحكم
بتساقطهما ن وتحكيم معتبرة جعفر بن بشير والالتزام بمفادها ، وهو كون اُمّ الكتاب
ما كُتب فيه علم الله المكنون المكتوم الذي لا يعلمه غيره ، من جميع مقدّرات عالم
الوجود وما كان ويكون الى يوم القيامة من دون أخذ الثبات وعدم الردّ والتغيير فيه
بالدعاء ، مع أنّ هذا المعنى لا ينافي ما ورد في دعاءِ الصحيفة .
هذا على فرض التساقط وعدم الترجيح
بالسند .
وأما أنّه هل يمكن ترجيح
احدهما سنداً ؟ فنقول : رواية العياشي ضعيفةُ
بالارسال ؛ لما بيّناه آنفاً يف وجه ضعف رواياته بالارسال .
وأما روايات الصحيفة فقد بحثنا عن
أسنادها في كتابنا " مقياس الرواة " ، فراجع (13) .
وحاصل الكلام في سندها : أنّها قد
رويت بطرق عديدة مستفيضة ، ولكن كلّها منتهية الى عمير بن المتوكّل بن هارون ، كما
في طريق محمد بن الوارث ، وابن عيّاش الجوهري - يروي عنه الفقيه ابن شاذان - وأبي
القاسم عليّ بن محمد بن عليّ الخرّاز القمي الرازي ، وأبي الحسين محمد بن هارون
التلعكبري ، والنجاشي ، والشيخ الطوسي .
وهذه الطرق الستة هي عمدة الطرق
الأصلية المنتهية الى عمير بن المتوكّل وساير الطرق - المذكورة في البحار وغيره -
متأخّرة عن طبقة النجاشي وشيخ الطائفة ومتفرّعة على الطرق المذكورة ومنتهية الى
إحداها ، وهي كثيرة جدّاً بالغة حدّ التواتر ، كما نبّه على ذلك المحدث المجلسي
بقوله : " الى غير ذلك من الطرق الكثيرة التي تزيد على الآلاف والألوف "
(14) .
ولكن هذه الأسناد المتواترة كلّها
متأخرة عن زمان شيخ الطائفة . وأمّا أسنادها الموجودة من زمان الشيخ الى زمان
المعصومين (عليهم السلام) لا تتجاوز عن الطرق الستة المذكورة ، بل طريق الشيخ في
الفهرست أيضاً ينتهي الى التلعكبري ، إلا أنّ الطريق المذكور فيه من التلعكبري الى
الامام (عليه السلام) غير المذكور في السند المنقول عن التلعكبري نفسه (15) .
وهذه الطرق الستة يروى عمير بن
المتوكّل في اثنين منها عن أبيه عن الامام الصادق (عليه السلام) .أحدهما : طريق
ابن شاذان ، وهو الفقيه ابو الحسين محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان .
ثانيهما : طرق
التلعكبري .
وفي الأربعة الباقية يروي عمير بن
المتوكل عن يحيى بن زيد ، وعمدة الكلام في سند الصحيفة إنّما تكون في عمير بن
المتوكّل وأبيه متوكل بن هارون ، وقال الشيخ في ترجمة أبيه : " المتوكل بن
عمير بن المتوكل " ولم يذكر النجاشي الشيخ وغيرهما في ترجمته ما يدل على
وثاقته ، بل ولم يتعرّضوا لحاله غير نقله الصحيفة عن يحيى بن زيد أو عن أبي عبد
الله (عليه السلام) .
وعلى أيّ حال : فالابن والأب كلاهما
لم تثبت وثاقتهما .
أللّهم إلّا أن يُدّعى انجبار ضعف
سندها بعمل المشهور ، لكن قاعدة انجبار ضعف السند بعمل المشهور لا تأتي هنا ؛
لاختصاصها باستناد المشهور من قدماء الأصحاب الى رواية ضعيفة في فتواهم .
ولكن الأمر في السند سهل في الأدعية
المأثورة من أجل قاعدة التسامح في أدلّة السنن . بل الظاهر أن عدم مناقشة المحققين
من الفقهاء ومشايخ الرجال في سندها ، لعلّه من أجل هذه القاعدة . وأما إثبات
العقائد الدينية والأحكام الشرعية بالمرويات في الصحيفة مشكل ، ومن هنا لا ترى
أحداً من فحول المحققين أن يستند إليها في هذه المقامات .
هذا ، ولكن بقي في المقام وجه لتقوية
سند الصيحفة ، وحاصله : أنّ أدعية الصحيفة قد اُنشئت بتعابير راقية واسلوب بديع
وقد استُشهدت في مطاويها بآيات قرآنية ، مع مالها من مضامين عالية شامخة محيطة
بجهات ضعف البشر ومزالّ قدمه ومهالك نفسه ، واشتملت على أحسن وأجمل تعابير يمكن
بها إظهار العبودية . والتذلّل والخشوع الى ساحة الله عزوجل ، وإنشاء هذه التعابير
العجيبة بما لها من التنسيق الجميل والتركيب البديع والمضامين الشامخة البالغة
غاية الفصاحة والبلاغة ، خارج عن حدّ فهم البشر العادي وقدرته .
ولا سيما أنّ لهذه الأدعية تأثيراً
عميقاً عجيباً في النفس ، بحيث ينكسر القلب وينحدر الدمع بمجرد التأمّل في مضامينها
من غير اختيار ، بل تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم
الى ذكر الله ، كما وصف الله تعالى (16) كتابه
المجيد بذلك .
ولكن مقتضى التحقيق عدم كون ذلك
معياراً ولا دليلاً على صحة سند الروايات والجوامع الروائية ؛ بحيث يُستند متن
الروايات بألفاظها الى المعصوم ، بل غاية ما يلزم من ذلك إتقان متن الرواية
الواجدة لهذه الخصوصيات ومطابقة مضمونها للحق وصدورها من بليغ عالم عارف بالغ الى
الدرجة العالية من البلاغة والفصاحة والعلم والمعرفة . وأما صدورها بألفاظها من
الإمام المعصوم ، فلا يلزم من ذلك .
فالذي انتهينا إليه في نهاية الشوط
بعد التحقيق ، عدم صلاحية الأدعية المروية في الصحيفة للاستدلال بها في المقام .
وأما بناء على اعتبار سند الصحيفة ،
فمقتضى القاعدة في المقام ترجيح روايتي الصحيفة ، وتحكيم مقادهما ، بل رواية العياشي لا
تصلح للمعارضة ؛ نظراً الى ضعف سندها بالارسال وعلى هذا الأساس يمكن الاستناد الى
نصوص أهل البيت (عليهم السلام) أنّ أمّ الكتاب ما ثبت فيه علم الله المكنون
المكتوم عن غير ذاته المقدسة ، الذي لا يعلمه غيره ، من جميع المقدرات ، لكنه قابل
للتغيير بالدعاء؛ نظراً الى دلالة كلام الامام السجاد في دعائه المروية في الصحيفة
، والى ما دلّ على جريان سنة الله على ردّ القضاء بالدعاء ، ولن تجد لسنة الله
تبديلاً .
ولكن مقتضى التحقيق - كما عرفت - عدم
صلاحية روايات الصحيفة للاستناد والدليلية في العقائد الدينية والأحكام الشرعية .
ولكن لا يخفى أنّ كثيراً من أدعية
الصحيفة قد رُويت بطريق معتبرة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ولا ريب في
حجيتها ومعاملة الحجة معها .
مقتضى
التحقيق في المقام
فتحصّل مما ذكرناه أن اُم الكتاب
مقرُّ ثبت فيه علم الله المكنون المستور عن غير ذاته المقدسة ، مكتوب فيه جميع
مقدرات عالم الوجود .
وأما هل تعلقت إرادة الله بتغييره
بعلل وأسباب قدّرها تعالى وجرت على تأثيرها سنته تعالى ؟ يظهر ذلك من إطلاق ما دلّ
من النصوص المعتبرة المستفيضة على تغيير قضاء الله ورده بالدعاء وصلة الرحم
والصدقة .
كقول الباقر (عليه السلام) "
الدعاء ترد القضاء وقد اُبرم ابراماً " في صحيحة زرارة (17) وقد ورد
هذا المضمون في نصوص معتبرة مستفيضة (18) .
وقول أبي عبد الله (عليه السلام) :
" صلة الرحم تنسى في الأجل " في صحيحة أبي حمزة الثمالي (19) وقوله
(عليه السلام) : " ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلا صلة الرحم ، حتى أن الرجل
يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها
ثلاثاً وثلاثين سنة ، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة ، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه
الله ثلاثين سنة ويجعل أجله الى ثلاث سنين " (20) .
والنصوص الدالة على هذا المضمون
متظافرة بالغة حد التواتر (21) .
وقوله (عليه السلام) : " الصدقة
تزيد في العمر ، وأن الله لا إله إلا هو ليدفع بالصدقة الداءَ والدبيلة والحرق
والغرق والهدم والجنون وعدّ سبعين باباً من السوء " (22) .
وإطلاق هذه النصوص يدل على تغيير
قضاء الله وقدره بهذه الأمور ولو ثبت في اُم الكتاب ، كما لعلّه يشعر بذلك قوله :
" ولو اُبرم ابراماً " .
وحينئذٍ نقول ويؤيد ذلك ما ورد في
دعاءِ الصحيفة المزبورة . وإذا يبقى مرسل العياشي فريداً
، مضافاً الى إرساله . فالذي يقتضيه التحقيق تغيّر ما ثبت في اُمّ الكتاب بالدعاء
.
ماهيّة
القلم من منظر النصوص
وأما القلم : فيستفاد من عدّة نصوص
أنّه وجودٌ نوراني كتب الله به جميع مقدرات العالم في اللوح المحفوظ .
وقد ورد في هذه النصوص أن القلم أوّل
ما خلقه الله وبه كتب مقدّرات الاُمور الى يوم القيامة . كما صرّح بذلك في صحيح
هشام رواه علي بن إبراهيم بقوله : " حدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ،
عبن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : " أول ما خلق الله القلم . فقال له :
اُكتب . فكتب ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة " (23).
وروى سُلَيمُ بن قيس الهلالي في
كتابه عن علي (عليه السلام) - في حديث في شأن نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) عن نصّ كتاب عيسى (عليه السلام) : " وباسمه جرى القلم في اللوح المحفوظ
في اُم الكتاب ، وبذكره ؛ محمدٌ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (24).
وقد اثبتنا وجود هذا الكتاب واعتباره
بقرائن في خاتمة كتابنا " مقياس الرواة " ، فراجع .
وفي رواية الشيخ المفيد في الاختصاص
- في حديث عبد الله بن سلام - عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، انّه قال في
وصف القلم : " والقلم نورٌ ساطع" (25) .
والروايات في ذلك كثيرة ليس هاهنا
محل البحث عنها ، ومحلّه إنّما علم الكلام .
تحقيق
روائي في اللوح المحفوظ
وأما اللوح - المستقر فيه حقيقة
القرآن - فقد قال في المفردات : " اللّوح واحد ألواح السفينة ، قال تعالى : {وَحَمَلْنَاهُ
عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر
: 13] وما يكتب فيه من الخشب وغيره . قوله تعالى {فِي لَوحٍ
مّحْفُوظٍ} فكيفيته تخفى علينا ، إلاّ بقدر ما روي لنا في الأخبار
، وهو المعبَّر عنه بالكتاب في قوله : إنّ ذلك في كتاب إنّ ذلك على الله يسير
" (26) .
وقال المحدث الطبرسي في
كتاب الاحتجاج : " اللوح المحفوظ وهو اللوح المطابق لعلمه تعالى ، لا يحدث
فيه أيُّ تبديل أو تغيير . الثاني : لوح المحو والاثبات : وهو الذي يتغيّر ويتبدل
ما فيه حسب ما تقتضيه الحكمة الالهية قبل وقوعه وتحققه في الخارج . وهذا اللوح
المحفوظ - أعني - لوح المحو والاثبات تتطلع عليه الرسل والأنبياء والأوصياء
والملائكة ، وقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : إنّ لله علمين :
علم مكنون ومخزون لا يعلمه إلّا هو من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته
وأنبياؤه ورسله ، فنحن نعلمه " (27).
وقد وردت في بيان ما هيته عدّة
روايات :
فمن هذه الروايات : ما رواه الشيخ
المفيد في كتاب الاختصاص في مسائل عبد الله بن سلام أنّه سأل النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بقوله : " فأخبرني عن أربعة أشياء خلقهن الله بيده ؟ قال (صلى
الله عليه وآله وسلم) : خلق الله جنات عدن بيده ، ونصب شجرة طوبى في الجنة بيده ،
وخلق آدم (عليه السلام) بيده ، وكتب التوراة بيده ، قال : صدقت يا محمد ، قال :
فمن أخبرك بهذا ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل . قال : جبرائيل عمّن ؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : عن ميكائيل . قال : ميكائيل عمّن ؟ قال (صلى الله
عليه وآله وسلم) : عن إسرافيل ، قال : اسرافيل عمّن ؟ قال (صلى الله عليه وآله
وسلم) : عن اللوح المحفوظ ، قال : اللوح عمّن ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) :
عن القلم . قال : القلم عمّن ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : عن ربّ العالمين .
قال : صدقت يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (28) .
ومنها : ما رواه في تفسير عليّ بن
إبراهيم بقوله : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) ، بقوله : في
قوله ذا العرش المجيد حدّثني أبي عن أحمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال : " بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
جالس وعنده جبرائيل إذا حانت من جبرئيل نظرة قبّل السماء - الى أن قال - : قال
جبرائيل (عليه السلام) : إنّ هذا اسرافيل حاجب الرب وأقرب خلق الله منه ، واللوح
بين عينيه من ياقوته حمراء ، فاذا تكلّم الرب تبارك وتعالى بالوحي ، ضرب اللوح
جبينه ، فنظر فيه ، ثم يلقيه إلينا فنسعى إلينا نسعى به في السماوات والأرض "
(29) .
قوله : يا قوتة حمراء ، ليس المراد
منه الياقوت المادّي الذي نوعٌ من الأحجار ، بل من باب التمثيل والتشبيه ؛ أي وجود
نوراني شبيه بالياقوتة الحمراء وقوله : ضرب اللوح جبينه ، لعلّ المقصود نوعُ
التقاءٍ وقرعٍ حاصل بين اللوح وبين مركز نور وجود اسرافيلٌ ، فيشاهد بهذا الطريق
كلام الله ويتلقيه ثم يلقية الى جبرائيل (عليه السلام) .
قوله : " حاجب الربّ " أي
بوّأب الرب ، يعبّر عنه في الفارسية بـ " دربان " . وهو الذي يصدر به
أمر الرب وإذنه ، ولا يُقدّر لأحد من المخلوقات من جانب الله تعالى إلّا بواسطته .
ونقل بعض المفسرين عن تفسير القمي " صاحب الرب " ، ولكن الموجود في
المطبوع من هذا التفسير " حاجب الرب " وهو الأصح الأنسب .
ومنها : رواه ابن شهر آشوب في
المناقب عن الامام زين العابدين (عليه السلام) قال في حديث : " إن لله لوحاً
محفوظاً يلحظه في كل يومٍ ثلاثمائة لحظة ليس منها لحظة واحدة ، إلاّ يحيى فيها
ويميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء " (30).
ومنها : ما عن علي بن إبراهيم في
تفسير آية : { بلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ
مَّحْفُوظٍ} [البروج : 21-22] . قال : " اللوح المحفوظ له
طرفان طرف عن يمين العرش وطرف على جبهة إسرافيل ، فإذا تكلّم الرب جل ذكره بالوحي
ضرب اللوح جبين اسرافيل ، فينظر في اللوح فيوحي بما في اللوح الى جبرائيل " (31) .
وقال العلامة - بعد نقل هذه الرواية
ورواية اُخرى عن أهل العامة - : " والرويات في صفة اللوح كثيرة مختلفة ، وهي
على نوعٍ من التمثيل " (32).
وحاصل ما يستفاد من النصوص الواردة
في اللوح انه موجود نوراني غير مادي ثبت فيه مقدرات عالم الوجود والكائنات
والشرايع ، وهو المطابق لعلم الله المكتوم عن غيره المصون المحفوظ من أيّ تغيير
وتبديل .
ثم إن الروايات الواردة في بيان
خصوصيات اللوح ، لم أجد فيها رواية صحيحة معتبرة من حيث السند ولم أجد مجموعها
بالغة حدّ التظافر . ومن هنا يشكل الالتزام بمضمونها من جانب الشارع وإسناد إليه .
فإن رواية الشيخ المفيد عن ابن عباس مرسلةٌ
، ووقوع عمرو بن شمر في طريق رواية أبي الجارود المروية في تفسير القمي يكفي في
ضعفه .
وأما رواية ابن شهرآشوب فهي
أيضاً ضعيفة بالارسال ؛ حيث رواه ابن شهرآشوب مرسلاً
عن أبي حمزة الثمالي بقوله
: وسأله أبو حمزة الثمالي زين
العابدين (عليه السلام) ... فقال عليّ بن الحسين : " إنّ الله ... الخ "
(33).
وأما المروي الثالث ، فهو قول علي بن
إبراهيم نفسه .
نعم لا إشكال في أصل وجود اللوح
المحفوظ وأنه قد كتب فيه مقدرات جميع الأمور . فإن هذا مما ثبت بالكتاب والسنة
القطعية .
حاصل
التحقيق
حاصل التحقيق في المقام : أن اُم
الكتاب ما كُتب فيه علم الله المكنون المكتوم عن جميع خلقه ، من جميع مقدرات
الموجودات والشرايع . وأن اللوح المحفوظ أيضاً كذلك . والظاهر اتحاد هذين
العنوانين في الوجود . وإنما عبر باُم الكتاب بلحاظ أنه أصل كتاب المجيد - وهو
القرآن - بل جميع الكتب السماوية ، وباللوح المحفوظ ؛ نظراً الى كون ما ثبت فيه من
مقدرات عالم الوجود وعلم الله المكنون مصوناً ومحفوظاً عن أيّ تبديل وتغيير ، ولا
فلا يظهر من النصوص فرق أساسي في ماهيتهما .
____________________
1. الصحيفة السجادية الجامعة : ص
552-553 .
2. المصدر : ص 580 .
3. تهذيب الأحكام : ج3 ، ص 72 ، ح4 .
ورجال كلّهم من الثقات ؛ إلاّ أنّ طريقة الى علي ابن حاتم ضعيف ؛ حيث وقع فيه أبو
عبد الله الحسين بن علي بن شيبان القزويني ؛ حيث لم يوثقه أحدٌ ، إلّا أنه من
مشايخ المفيد وأحمد بن عبدون ، ولم يعرف بقدح .
4. تفسير الإمام العسكري (عليه
السلام) : ص 99 .
5. بصائر الدرجات / طبع مطبعة
الأحمدي : ص 132 ، ح18 .
6. اُصول الكافي : ج1 ، ص 255 - 256
، ح3 .
7. تفسير العياشي ،
ج2 ، ص 400 ، ح74 .
8. تفسير التبيان : ج9 ، ص 178-179 .
9. تفسير مجمع البيان : ج5-6 ، ص 298
.
10. راجع تفسير العياشي :
ج2 ، ص 395-400 ، ح59-62 و 71-73 .
11. الصحيفة السجادية الجامعة : ص
580 .
12. تفسير العياشي :
ج2 ، ص 400 ، ح 74 .
13. مقياس الرواة : ص 374 .
14. بحار الأنوار : ج110 ، ص 45 .
15. راجع الصحيفة السجادية الجامعة :
ص 630-633 .
16. الزمر : 23 .
17. اُصول الكافي : ج2 ، ص470 ، ح6 .
18. المصدر : ص 469-470 .
19. المصدر : ص 151 ، ح6 .
20. المصدر : ص 152 ، ح 17 .
21. المصدر : ص 150-157 .
22. الوسائل : ب9 ، من أبواب الصدقة
ح 1و2 .
23. تفسير عليّ بن إبراهيم : ج2 ، ص
198 / ذيل قوله تعالى : لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ...
24. كتاب سُلّيم بن قيس : ص 253 .
25. الاختصاص : ص 43 / صفة القلم
واللوح المحفوظ .
26. المفردات في غريب القرآن : ص 456
.
27. احتجاج الطبرسي :
ج2 ، ص179 .
28. الاختصاص : ص38-39 وص 42 .
29. تفسير القمي : ج2 ، ص 27-28 ،
تفسير نور الثقلين : ج5 ، ص 548 ، ح32 .
30. تفسير نور الثقلين : ج5 ، ص 549
، ح 35 .
31. تفسير القمي : ج2 ، ص 415 .
32. تفسير الميزان ، ج2 ، ص 257 .
33. مناقب ابن شهرآشوب :
ج3 ، ص 299 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|