أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-10-2020
4632
التاريخ: 6-10-2020
2925
التاريخ: 6-10-2020
3424
التاريخ: 5-10-2020
3734
|
قال تعالى : {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُو أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص : 44 -51] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال تعالى : {وما كنت بجانب الغربي} أي وما كنت يا محمد حاضرا بجانب الجبل الغربي أي في الجانب الغربي من الجبل الذي كلم الله فيه موسى عن قتادة والسدي وقيل بجانب الوادي الغربي عن ابن عباس والكلبي .
{إذ قضينا إلى موسى الأمر} أي عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه وقيل معناه أخبرناه بأمرنا ونهينا وقيل أراد كلامه معه في وصف نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ونبوته {وما كنت من الشاهدين} أي الحاضرين لذلك الأمر وبذلك المكان فتخبر قومك عن مشاهدة وعيان ولكنا أخبرناك به ليكون معجزة لك {ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر} أي خلقنا قرنا بعد قرن فطال عهدهم بالمهلكين قبلهم وفترة النبوة فحملهم ذلك على الاغترار وأنكروا بعثة الله رسله لجهلهم بأمر الرسل فأرسلناك للناس رسولا وجعلناك رحمة للناس كما جعلنا موسى رحمة لا يتم الكلام إلا بهذا التقدير وقيل إن المعنى خلقنا خلقا كثيرا عهدنا إليهم في نعتك وصفتك وأمرنا الأول بالإبلاغ للناس إلى الثاني فامتد بهم الزمان فنسوا عهدنا إليهم فيك .
{وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا} معناه وما كنت مقيما في قوم شعيب تتلوعليهم آياتنا قال مقاتل معناه ولم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم {ولكنا كنا مرسلين} أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك لما علمتها قال الزجاج المعنى إنك لم تشاهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك ولكنا أوحيناها إليك وقصصناها عليك حتى تخبر قومك بهذا فيدل ذلك على صحة نبوتك وقيل معناه إنك لم تشهد إحساننا إلى عبادنا في إرسال الرسل ونصب الآيات وإنزال الكتب بالبينات والهدى وهذا كما يقال لم تدر أي شيء كان هناك تفخيما للأمر ولولا الوحي لما علمت من ذلك ما علمت ولم تهتد له .
{وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} أي ولم تك حاضرا بناحية الجبل الذي كلمنا عليه موسى وناديناه يا موسى خذ الكتاب بقوة وقيل أراد بذلك المرة الثانية التي كلم الله فيها موسى (عليه السلام) حين اختار من قومه سبعين رجلا ليسمعوا كلام الله تعالى {ولكن رحمة من ربك} أي ولكن الله تعالى أعلمك ذلك وعرفك إياه نعمة من ربك أنعم بها عليك وهوأن بعثك نبيا واختارك لإيتاء العلم بذلك معجزة لك .
{لتنذر قوما ما أتيهم من نذير من قبلك} أي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول قبلك {لعلهم يتذكرون} أي لكي يتفكروا ويعتبروا وينزعوا عن المعاصي وفي هذا دلالة على وجوب فعل اللطف فإن الإنذار والدعوة لطف من الله تعالى مؤثر في القبول ومقرب منه {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين} معناه لولا أن لهم أن يحتجوا لو أصابتهم عقوبة بأن يقولوا هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى ما يجب الإيمان به فنتبع الرسول ونأخذ بشريعته ونصدق به لما أرسلنا الرسل ولكنا أرسلنا رسلا لقطع حجتهم وهو في معنى قوله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقيل إن جواب لولا هاهنا لعجلنا لهم العقوبة وقيل المراد بالمصيبة هاهنا عذاب الاستئصال وقيل عذاب الدنيا والآخرة عن أبي مسلم .
{فلما جاءهم الحق من عندنا} أي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن والإسلام {قالوا لولا أوتي} أي هلا أعطي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) {مثل ما أوتي موسى} من فلق البحر واليد البيضاء والعصا وقيل معناه هلا أوتي كتابا جملة واحدة وإنما قاله اليهود أو قريش بتعليم اليهود فاحتج الله عليهم بقوله {أ ولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} أي وقد كفروا ب آيات موسى كما كفروا ب آيات محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) {وقالوا سحران تظاهرا} يعنون التوراة والقرآن عن عكرمة الكلبي ومقاتل ومن قرأ ساحران تظاهرا فمعناه أنهم قالوا تظاهر موسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن عباس .
{وقالوا إنا بكل كافرون} من التوراة والقرآن قال الكلبي وكانت مقالتهم هذه حين بعثوا الرهط منهم إلى رءوس اليهود بالمدينة في عيد لهم فسألوهم عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود فقالوا عند ذلك سحران تظاهرا {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} معناه قل يا محمد لكفار قومك فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن حتى أتبعه إن صدقتم إن التوراة والقرآن سحران وقيل معناه فأتوا بكتاب من عند الله يؤمن معه التكذيب أي لم يكذب به طائفة من الناس .
ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {فإن لم يستجيبوا لك} أي فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن وقيل فإن لم يستجيبوا لك إلى الإيمان مع ظهور الحق {فاعلم إنما يتبعون أهواءهم} أي ما تميل إليه طباعهم لأن الهوى ميل الطبع إلى المشتهى قال الزجاج أي فاعلم إنما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه وإنما آثروا فيه الهوى ثم ذمهم فقال {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} أي لا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير رشاد ولا بيان جاءه من الله {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} إلى طريق الجنة وقيل معناه لا يحكم الله بهدايتهم وقيل إنهم إذا لم يهتدوا بهدى الله فكأنه لم يهدهم .
ثم بين سبحانه صفة القرآن فقال {ولقد وصلنا لهم القول} أي فصلنا لهم القول وبينا عن ابن عباس ومعناه أتينا ب آية بعد آية وبيان بعد بيان وأخبرناهم بأخبار الأنبياء والمهلكين من أممهم {لعلهم يتذكرون} أي ليتذكروا ويتفكروا فيعلموا الحق يتعظوا .
_______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص442-445 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{وما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الأَمْرَ وما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
الخطاب لمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، والمراد بجانب الغربي المكان الواقع غربي الجبل ، كما في تفسير الطبري ، وهو المكان الذي كلم اللَّه فيه موسى ، أما الجانب الأيمن الذي ورد في الآية 52 من سورة مريم فالمراد به الجانب الذي يلي يمين موسى ، والمراد بالأمر الذي قضاه إلى موسى اختياره للرسالة والنبوة ، والمعنى ان إخبار محمد (صلى الله عليه واله وسلم) عما حدث لموسى في غربي جبل الطور هو دليل قاطع على أنه وحي من اللَّه ، والا فمن أين لمحمد العلم بتلك الحقائق والدقائق ، ولم يقرأها في كتاب ، ولا سمعها من أحد ، ولا شاهدها بنفسه .
{ولكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} . المراد بالقرون الأمم التي مرت وانقرضت بين عهد موسى وعهد محمد ، وبين هذين العهدين حوالي ألفي عام .
انظر ما نقلناه عن قاموس الكتاب المقدس عند تفسير الآية 7 من هذه السورة ، والمعنى ان الأمم التي أنشأها اللَّه بين العهدين المذكورين لم يبق منها أحد يخبّر عنها ، وهذا دليل واضح على أن علم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بها انما هو بوحي من اللَّه ، هذا إلى أن الناس قد طال الأمد بينهم وبين الأنبياء ، وأصبحوا في جاهلية جهلاء ، واحتاجوا إلى نبي يرشدهم ويهديهم إلى سواء السبيل ، فأرسل اللَّه محمدا بشيرا ونذيرا ، وأخبر الناس عن أحوال الأمم الماضية وأنبيائهم بوحي منه تعالى للدلالة على نبوته من جهة ، وليتعظوا بمن كان قبلهم من جهة ثانية .
{وما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ولكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} . مدين بلد شعيب ، وقد أخبر محمد (صلى الله عليه واله وسلم) عنه وعن قومه أهل مدين ، تماما كما لو أخبر شعيب نفسه الذي كان يتلو على قومه آيات اللَّه مع أن محمدا لم يكن نبيا لأهل مدين يتلو عليهم الآيات ويأتيهم بالمعجزات ، ولكن اللَّه هو الذي أخبره بذلك لأنه رسول اللَّه إلى عباده وأمينه على وحيه {وما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا} أي لم تكن حاضرا يا محمد حين نادى اللَّه موسى بجانب الطور . وتسأل :
لا فرق بين قوله تعالى : وما كنت بجانب الطور ، وبين قوله في الآية السابقة :
وما كنت بجانب الغربي ، فما هو القصد من هذا التكرار في كلام واحد ؟ .
الجواب : ان اللَّه سبحانه كلم موسى وناداه بجانب الطور أكثر من مرة ، فمن الجائز أن تكون الآية الأولى إشارة إلى النداء الأول ، والآية الثانية إلى النداء الثاني ، هذا إلى أن التكرار طريقة متبعة في القرآن . انظر ما كتبناه بعنوان : {التكرار في القرآن ج 1 ص 96 وج 2 ص 440 .
{ولكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
أرسل اللَّه محمدا رحمة للعالمين ينذر ويبشر الناس ليسلكوا الطريق الذي يؤدي بهم إلى سعادة الدارين .
وتسأل : كيف تجمع بين قوله تعالى : {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} ، وبين الآية 24 من سورة فاطر : وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ؟ .
الجواب : ذكرنا أكثر من مرة ان آيات القرآن يفسر بعضها بعضا لأن مصدره واحد ، وقد جاء في الآية 19 من سورة المائدة : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي بعد انقطاع الوحي فترة من الزمن ، وعليه فليس المراد بقوله : {ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} ان اللَّه لم يرسل إليهم رسولا قبل محمد على الإطلاق ، بل المراد انه لم يرسل رسولا في فترة معينة من الزمن .
{ولَولا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ ونَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . المراد بالمصيبة عذاب اللَّه في الدنيا ، والمعنى ان اللَّه سبحانه أرسل الرسل لكيلا يكون للناس على اللَّه الحجة إذا حل بهم العذاب بسبب كفرهم وطغيانهم . وتقدم مثله في الآية 165 من سورة النساء ج 2 ص 495 والآية 19 من سورة المائدة ج 3 ص 40 .
{فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَولا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى} . إذا لم يأتهم الرسول قالوا : لوجاء لاتبعناه ، وإذا جاء الرسول تعللوا بالأباطيل . .
ولا يختص هذا التمحك والروغان بالذين كذبوا محمدا (صلى الله عليه واله وسلم)وقالوا له : لو جئت بعصا كعصا موسى ، ويد كيده البيضاء لآمنا بك . كلا ، انه دأب المترفين الطغاة في كل زمان ومكان ، دأب الذين لا يؤمنون إلا بمنافعهم ومصالحهم ، ومن أجلها يتلونون بكل لون ، ويتحالفون مع الشيطان ضد كل صلاح ومصلحة .
{أَولَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ} . طلبوا من رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) أن يأتيهم بمثل ما جاء به موسى من المعجزات ، فأجابهم سبحانه بأن من طلب الحق لوجه الحق يستجيب له ، ويؤمن به متى استبانت حجته وظهرت دلائله أيا كان نوعها وشكلها ، أما الذين لا يؤمنون إلا بأهوائهم ، ويتخذونها قائدا ودليلا في جميع تصرفاتهم - أما هؤلاء فلا تغني معهم الدلائل والمعجزات ، سواء أتى بها موسى ، أم أتى بها محمد ، أم الأنبياء مجتمعين . . ودليل هذه الحقيقة ان الطغاة كفروا بما جاء به موسى تماما كفر الطغاة من قريش بما جاء به محمد ، ولوكان محمد بمعجزاته مكان موسى ، وكان موسى بمعجزاته مكان محمد لقالت قريش :
لولا أوتي موسى مثل ما أوتي محمد . . وهذا هو شأن المبطلين في كل زمان ومكان .
{قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ} . المراد بالسحرين هنا التوراة والقرآن ، وتظاهرا أي ان كلا منهما يصدق الآخر ، والمعنى الجملي ان قريشا قالت :
التوراة سحر ، وموسى الذي جاء بها ساحر ، وأيضا القرآن سحر ، ومحمد الذي جاء به ساحر ، ونحن نكفر بهما وبسحرهما .
{قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُو أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} .
قالوا : التوراة سحر ، ومثلها القرآن . . فقال سبحانه لنبيه الكريم : قل لهم :
ان كان لديكم كتاب هو خير للإنسانية من التوراة والقرآن فأتوا به ، وأنا على أتم الاستعداد لاتباعه والعمل به ، وهذا مثل قوله تعالى : قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ - 81 الزخرف .
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} . لقد تحدى القرآن أهل الفصاحة والبلاغة بفصاحته وبلاغته ، وتحدى البشرية كلها بمبادئه وتعاليمه ، وقال : انها تهدي الإنسان للتي هي أقوم في عقيدته وشريعته ، وهذا هوبين أيدي الناقدين والدارسين فليأتوا بما هو أهدى منه للناس ، أو بمثله ويدعوا من شاؤوا وما شاؤوا ، فإن عجزوا ولم يؤمنوا فلا دليل لهم الا العمى والضلال يقودهم إلى كل سوء ، وهذا هو المعنى المراد بقوله تعالى : {ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهً لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بعد أن جنوا على أنفسهم ، وسلكوا بها سبيل الهلاك والضلال .
{ولَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . المراد بالقول هنا القرآن الذي أعذر بما أنذر ، والمعنى ان اللَّه سبحانه أرشد العباد إلى ما لهم وما عليهم ليطيعوا ويعملوا ، فمن عمل وأصلح فهو في أمن وأمان ، والعذاب على من كذب وتولى .
______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 70-73 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والغربي صفة محذوفة الموصوف والمراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي .
وقوله : {إذ قضينا إلى موسى الأمر} كان القضاء مضمن معنى العهد ، والمراد بعهد الأمر إليه - على ما قيل - أحكام أمر نبوته بإنزال التوراة إليه وأما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد : {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} وقوله : {وما كنت من الشاهدين} تأكيد لسابقه .
والمعنى : وما كنت حاضرا وشاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل .
قوله تعالى : {ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر} تطاول العمر تمادي الأمد والجملة استدراك عن النفي في قوله : {وما كنت بجانب الغربي} ، والمعنى : ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه ولكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته وخبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه .
قوله تعالى : {وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين} الثاوي المقيم يقال : ثوى في المكان إذا أقام فيه ، والضمير في {عليهم} لمشركي مكة الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى (عليه السلام) في مدين زمن كونه فيه .
وقوله : {ولكنا كنا مرسلين} استدراك من النفي في صدر الآية .
والمعنى : وما كنت مقيما في أهل مدين - وهم شعيب وقومه - مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك ولكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم .
قوله تعالى : {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك} إلى آخر الآية ، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق : {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا} إلخ ، إن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا .
وقوله : {ولكن رحمة من ربك} إلخ ، استدراك عن النفي السابق ، والظاهر أن {رحمة} مفعول له ، والالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله : {من ربك} للدلالة على كمال عنايته تعالى به (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقوله : {لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أوهم ومن يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود وصالح وشعيب وإسماعيل (عليهما السلام) .
والمعنى : وما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى وكلمناه واخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد ولكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون .
قوله تعالى : {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا} إلخ ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد والعمل بدليل ذيل الآية ، والمراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا والآخرة فإن الإعراض عن الحق بالكفر والفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة ، وقد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [الأعراف : 96] وغيره .
وقوله : {فيقولوا ربنا لولا أرسلت} متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول وجواب لولا محذوف لظهوره والتقدير : لما أرسلنا رسولا .
ومحصل المعنى : أنه لولا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول وأخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر والفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا ونكون من المؤمنين .
قوله تعالى : {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} إلخ ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق وأنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا والظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول وهو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
والمراد بقولهم : {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} أي لولا أوتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل التوراة التي أوتيها موسى (عليه السلام) ، وكأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان : 32] .
وقد أجاب الله عن قولهم بقوله : {أ ولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} يعنون القرآن والتوراة {وقالوا إنا بكل كافرون} .
والفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين والثاني كفر بأصل النبوة ولعله الوجه لتكرار {قالوا} في الكلام .
قوله تعالى : {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} تفريع على كون القرآن والتوراة سحرين تظاهرا ، ولا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم ويجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما ، وهو كذلك على ما تبين بقوله : {ولولا أن تصيبهم مصيبة} إلخ ، إن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب ويرسل إليهم الرسول ، ولذلك أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه .
ثم الكتابان لوكانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف - لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما .
والقرآن الكريم وإن كان يصرح بتسرب التحريف والخلل في التوراة الحاضرة وذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى (عليه السلام) وهي التي يصدقها القرآن .
على أن موضوع الكلام هما معا والقرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما .
وقوله : {إن كنتم صادقين} أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا .
قوله تعالى : {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} إلى آخر الآية ، الاستجابة والإجابة بمعنى واحد ، قال في الكشاف : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال : استجاب الله دعاءه أو استجاب له ، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه . انتهى .
فقوله : {فإن لم يستجيبوا لك} تفريع على قوله : {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه} أي فإن قلت لهم كذا وكلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن والتوراة وتعين أن لا هدى أتم وأكمل من هداهما وهم مع ذلك يرمونها بالسحر ويعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق ولا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل وإنما يتبعون أهواءهم ويدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل : {سحران تظاهرا} {إنا بكل كافرون} .
ويمكن أن يكون المراد بقوله : {إنما يتبعون أهواءهم} إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وهم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء ولا يعتقدون بأصل النبوة وأن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي وعليهم أن يتبعوه ويسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم ، وربما أيد هذا المعنى قوله بعد : {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} إلخ .
وقوله : {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} استفهام إنكاري والمراد به استنتاج أنهم ضالون ، وقوله : {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتباع الهوى إعراض عن الحق وانحراف عن صراط الرشد وذلك ظلم والله لا يهدي القوم الظالمين وغير المهتدي هو الضال .
ومحصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى ، ومتبع الهوى ظالم والظالم غير مهتد وغير المهتدي ضال فهم ضالون .
قوله تعالى : {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} التوصيل تفعيل من الوصل يفيد التكثير كالقطع والتقطيع والقتل والتقتيل ، والضمير لمشركي مكة والمعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض : الآية بعد الآية ، والسورة إثر السورة من وعد ووعيد ومعارف وأحكام وقصص وعبر وحكم ومواعظ لعلهم يتذكرون .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص40-43 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
يبيّن القرآن الكريم الحقيقة ، وهي أنّ ما ذكرناه لك «يا رسول الله ، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه ، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن ، لأنّك لم تكن «حاضراً» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك . . بل هومن الطاف الله عليك ، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس . . يقول القرآن : {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} أي الأمر بالنبوّة {وما كنت من الشاهدين} .
الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسى(عليه السلام) حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء ، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب .
وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء ، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق . . ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية «60» {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء : 60] في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل ، هو إشارة إلى هذا المعنى!
ثمّ يضيف القرآن {ولكنّا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر} وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس ، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نوراً وهدى للناس .
ثمّ يضيف القرآن الكريم {وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم [أي على أهل مكّة] آياتنا (2) ولكنا كنا مرسلين} . . وأوحينا إليك هذه ا لأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية . . لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين (3) .
وتأكيداً على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا : {وما كنت بجانب الطور (4) إذ نادينا} اي نادينا موسى بأمر النبوّة ، ولكننا أنزلنا اليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك {ولكن رحمةً من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} .
وخلاصة الكلام : أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين ، ولم تكن فيهم من الشاهدين ، لتتلو كل ذلك على قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون .
هنا ينقدح هذا السؤال : كيف يقول القرآن : {لتنذر قوماً ما اتاهم من نذير من قبلك}
[أي العرب المعاصرين للنبي محمّد (صلى الله عليه وآله)] في حين أنّنا نعرف أن الأرض لا تخلو من حجّة لله ، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسى (عليه السلام)) .
وفي الجواب على ذلك نقول : المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتاباً سماويّاً بيّناً . . لأنّ بين عصر عيسى (عليه السلام) وظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) قروناً مديدة ، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّ من أولي العزم ، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين .
يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا الصدد «إن الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة ، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم» (5) .
وقوله تعالى : {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُو أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
ذريعة للفرار من الحق :
حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبي (صلى الله عليه وآله) لينذر قومه ، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في قومه فيقول : إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا ا ذا أردنا انزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا : لماذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا احكامك لنؤمن به {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين} (6) .
هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق ، وهو أن طريق الحقّ واضحٌ وبيّن . . . وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام . . وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل ، وحتى مع عدم إرسال الرسل ، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأُمور ممكنة .
ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة ، إتماماً للحجّة ونفياً للعذر ، لئلا يقول أحد : إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل ، إذ لوكان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين .
وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها ، ونقرأ في سورة النساء الآية (65) أيضاً {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء : 165] .
ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك ، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية ، واستمروا على طريق الإنحراف ، فتقول الآية : {فلما جاءهم الحقّ من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} .
فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى ؟! ولِمَ لِمَ . . . الخ .
فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج ، ويقول : {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} أي موسى وهارون ، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق {وقالوا إنا بكلّ كافرون} .
والتعبير بـ «سحران» بدلا عن «ساحران» هو لشدة التأكيد ، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول : هو العدل بعينه ، أو بعينه ، أو السحر وهكذا .
كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضاً ـ وهو : إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسى (عليه السلام) وهما عصاه ويده البيضاء !
وإذا قيل : ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة ، فهذه الأُمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين ؟
فالجواب على ذلك واضح . . وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمراً جديداً . . فجميعهم من نسيج واحد ، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماماً ، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة .
التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفاً ، إلاّ أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيراً آخر وقالوا : إنّ المقصود بقوله تعالى : {سحران تظاهرا} هو «النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّد (صلى الله عليه وآله)» لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون : إن كليهما ساحران . . . وإنّا بكلّ كافرون .
وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية ، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم ، وسألوهم عن نبي الإسلام «محمّد»(صلى الله عليه وآله) أهو نبيّ حقّاً؟! فأجابوا : إنّهم وجدوا مكتوباً عندهم في التوراة «بأوصافه»! . فرجع المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود ، فقالوا : {سحران تظاهرا وإنّا بكل كافرون} .
ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيداً جدّاً :
الأولى : أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحراً .
الثّانية : كيف يمكن لأحد أنْ يدعي أن موسى ومحمّداً(صلى الله عليه وآله) ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام .
ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل ؟! وماذا سيقول ؟!
وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لِمَ لَم يأت النّبي (صلى الله عليه وآله) بمعاجز كمعاجز موسى ، ومن جهة أُخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة . . . لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداً (صلى الله عليه وآله) ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن !! {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} .
وبتعبير آخر : إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز !!
فأي كتاب هداية أعظم من القرآن ؟! وأية معجزة أسمى منه ؟!
ولولم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافياً في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونو طلاّب حق ، بل أصحاب حجج واهية فحسب !
ثمّ يضيف القرآن {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنّما يتبعون أهواءهم} لأنّ أي إنسان إذا لم يتّبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح ، لكن أُولئك لم يكونوا على صراط مستقيم ، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة! .
ولكن من أضيعُ منهم {ومن أضلُّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين} .
ولو كانوا طلاّب حقّ وقد أضلوا سبيلهم ، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه ، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد . . . فكيف يهديهم الله ويعينهم ؟!
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَولَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن :
حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم ، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها .
يقول القرآن في هذا الصدد : لقد انزلنا لهم آيات القرآن تباعاً {ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يذكرون} (7) .
هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة ، وكيفيات متفاوتة ، فتارة تحمل الوعد بالثواب ، وتارة الوعيد بالنّار ، وأُخرى الموعظة والنصيحة ، وأُخرى تنذر وتهدد . وأحياناً تحمل استدلالات عقلية ، وأحياناً تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر ، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان ، حيث أنّها تجذب القلوب إليها . . . إلاّ أن عمي القلوب لم يذعنوا لها .
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص585-594 .
2 ـ «ثاوي» مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالإستقرار ، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى .
3 ـ كان بين ظهور موسى (عليه السلام) وظهور النّبي (محمّد) (صلى الله عليه وآله) حدود ألفي عام .
4 ـ قال بعض المفسّرين : يحتمل أن يكون المراد من «نادينا» هنا هو النداء الثّاني عندما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور ، فجاءه النداء من الله ، ولكن هذا الإحتمال بعيد جداً; لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضراً هناك ولم يكن من الشاهدين ، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر ، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور «فلاحظوا بدقة» .
5 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 33 .
6 ـ يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب «لولا» الأُولى محذوف وتقديره «لما أرسلنا رسولا» أو «لما وجب إرسال الرسل» . . وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحاً . . وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا . . وإلاّ فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أُخرى ، على أنّ واحداً من فوائد إرسال الرسل ـ أيضاً ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد . . «فلاحظوا بدقّة» .
7 ـ «وصّلنا» مأخوذ من مادة «وصل» أي ربط ، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل ، فهي تدل على الكثرة ، ويستفاد منها التأكيد أيضاً . .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|