أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-7-2020
2544
التاريخ: 15-11-2016
4549
التاريخ: 2023-04-17
1211
التاريخ: 12-7-2020
4538
|
صورة كلية لفتح إيران
تم فتح إيران من ثلاث جبهات :
الأولى : جبهة تحرير العراق الذي كان أكثره تحت احتلال النظام الفارسي ، وكانت عاصمتهم المدائن التي تبعد عن بغداد نحو ستين كيلو متراً ، ولذلك تعتبر معارك فتح العراق جزءاً أساسياً من فتح فارس .
وقد صارت الكوفة قاعدة عسكرية ومدينة كبيرة ، تجتمع فيها قوات المسلمين وتنطلق إلى أنحاء العراق وإيران ، وآذربيجان وما وراءها .
والثانية : جبهة البصرة ، وصارت قاعدة لانطلاق قوات المسلمين إلى الأهواز وتستر ونهاوند وأصفهان وبقية إيران . وكانت أهم معارك المسلمين مع الفرس بعد تحرير العراق ، معركة تستر « شوشتر » ثم معركة نهاوند الكبرى ، التي كان النصر فيها مدخلاً لفتح كل إيران . وكانت قواتها من الكوفة والبصرة .
والثالثة : جبهة البحرين ، التي بدأت بحملة العلاء الحضرمي وبني عبد القيس بالسفن من البحرين ، وبقيت البحرين قاعدة لفتح شيراز وكرمان وبلوشستان وقسم من الهند وقسم من خراسان ، لأن البحرين تقابل هذه المناطق ، ويبعد عنها ميناء سيراف « بندر جم » نحو 200 كيلو متر . بينما يبعد ساحل شيراز عن الأهواز نحو 700 كيلو متراً .
وعندما توغل المسلمون في هذه الجبهات انفتحت جبهات أخرى، كجبهة خراسان، لفتح بقية مناطقها وما وراء النهر، من شرق آسيا. وجبهة آذربيجان لفتح أرمينيا وجهتها. وجبهة مكران لفتح الباكستان والهند .
بدأ فتح إيران من البحرين
كان اسم البحرين يشمل البحرين الفعلية والقطيف والأحساء. وقد وَفَدَ أهلها إلى النبي (صلى الله عليه وآله ) وأسلموا طوعاً ، فعيَّن العلاء بن الحضرمي والياً عليهم .
قال البلاذري : 1 / 95 : « فلما كانت سنة ثمان وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العلاء بن عبد الله بن عماد الحضرمي حليف بنى عبد شمس ، إلى البحرين ليدعو أهلها إلى الإسلام أو الجزية ، وكتب معه إلى المنذر بن ساوى والى سيبخت مرزبان هجر يدعوهما إلى الإسلام أو الجزية ، فأسلما وأسلم معهما جميع العرب هناك وبعض العجم . فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى ، فإنهم صالحوا العلاء . . .
عن قتادة قال : لم يكن بالبحرين في أيام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قتال ، ولكن بعضهم أسلم ، وبعضهم صالح العلاء على أنصاف الحب والتمر » .
ثم اشتكى أهل البحرين على العلاء لشدته في استيفاء الخراج، فعزله النبي (صلى الله عليه وآله) وولى مكانه أبان بن سعيد بن العاص. ثم تولاها العلاء ثانيةً في زمن أبي بكر.
قال ابن سعد في الطبقات: 4 / 260 : « وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد كتب إلى العلاء بن الحضرمي أن يقدم عليه بعشرين رجلاً من عبد القيس ، فقدم عليه منهم بعشرين رجلاً رأسهم عبد الله بن عوف الأشج ، واستخلف العلاء على البحرين المنذر بن ساوى ، فشكا الوفد العلاء بن الحضرمي ، فعزله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وولى أبان بن سعيد بن العاص وقال له : استوص بعبد القيس خيراً وأكرم سراتهم . . . فلم يزل أبان بن سعيد عاملاً على البحرين حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وارتد ربيعة بالبحرين ، فأقبل أبان بن سعيد إلى المدينة وترك عمله ، فأراد أبو بكر الصديق أن يرده إلى البحرين فأبى وقال : لا أعمل لأحد بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأجمع أبو بكر بعثة العلاء بن الحضرمي، فدعاه فقال: إني وجدتك من عمال رسول الله الذين ولَّى، فرأيت أن أوليك ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولاك ، فعليك بتقوى الله . فخرج العلاء بن الحضرمي من المدينة في ستة عشر راكباً معه فرات بن حيان العجلي دليلاً، وكتب أبو بكر كتاباً للعلاء بن الحضرمي أن ينفر معه كل من مر به من المسلمين إلى عدوهم، فسار العلاء فيمن تبعه منهم، حتى نزل بحصن جواثا فقاتلهم فلم يفلت منهم أحد. ثم أتى القطيف وبها جمع من العجم فقاتلهم فأصاب منهم طرفاً وانهزموا، فانضمت الأعاجم إلى الزارة فأتاهم العلاء فنزل الخط على ساحل البحر، فقاتلهم وحاصرهم إلى أن توفي أبو بكر وولي عمر بن الخطاب، وطلب أهل الزارة الصلح فصالحهم العلاء .
ثم عبر العلاء إلى أهل دارين فقاتلهم، فقتل المقاتلة وحوى الذراري .
وبعث العلاء عرفجة بن هرثمة إلى أسياف فارس فقطع في السفن، فكان أول من فتح جزيرة بأرض فارس، واتخذ فيها مسجداً، وأغار على باريخان والأسياف، وذلك في سنة أربع عشرة».
هكذا روى ابن سعد بداية فتح إيران من جهة البصرة ، فقد بدأ به العلاء وأرسل القائد الأزدي عرفجة ، الذي كان رئيس بجيلة وتركهم ، وعاد إلى قومه الأزد .
وعبر عرفجة بجنوده من بني عبد القيس ومن انضم إليهم من الأزد في سفنهم إلى الساحل الفارسي الذي يقابل البحرين ، ويظهر أنه ميناء سيراف الذي يسمى الآن ميناء جم ، ويبعد عن البحرين في البحر نحو 200 كيلومتر ، ويبعد عن إصطخر وشيراز نحو 300 كيلومتر ، كما يفهم من الخرائط .
والأمر المنطقي أن يتخذ عرفجة الميناء معسكراً ويغير منه على القرى والمدن داخل إيران فإن لم يحقق نصراً مهماً ، رجع إلى معسكره .
وكانت هذه الغزوة الأساس والركيزة لما بعدها من عمليات لفتح تلك المناطق . كما يظهر أيضاً أن غضب الخليفة عمر على العلاء الحضرمي ، قد سبَّبَ تأخير فتح تلك المناطق إلى أواخر خلافة عمر ، وأوائل خلافة عثمان !
وتقول الرواية الرسمية عن تلك الحملة إن العلاء بن الحضرمي وأهل البحرين أخطأوا، لأنهم ركبوا البحر وهو محرم شرعاً ، فغضب عمر وأمرهم بالإنسحاب !
وقد رواها الطبري، وابن خياط، والحموي، والكلاعي، والنويري، وابن خلدون، وغيرهم، وأضافت الرواية أن عمر حكم على نية العلاء الحضرمي بأنها لغير الله تعالى وأنه أراد أن ينافس سعد بن أبي وقاص لنجاحه في معركة القادسية، فارتكب جريمة تعريض المسلمين للخطر بإرسالهم في البحر، فعاقبه عمر وأمره أن يكون تحت إمرة خصمه اللدود سعد بن أبي وقاص، ثم رأينا أن العلاء مات فجأة في تلك السنة!
وأضافت روايتهم أن القائد الذي أرسله العلاء هو خليد بن المنذر العبدي، وأنه غزا إصطخر وهي عاصمة قديمة لإيران تقع قرب شيراز، ثم رجع فوجد أن الفرس أغرقوا سفنه وحاصروه، فظل مع جنده محاصرين حتى أمر عمر عامله على البصرة عتبة بن غزوان، فأرسل لهم جيشاً من اثني عشر ألفاً وأنقذهم من الحصار!
وهذا نصها من الطبري : 3 / 176 : « وكان العلاء بن الحضرمي على البحرين أزمان أبي بكر فعزله عمر ، وجعل قدامة بن المظعون مكانه ، ثم عزل قدامة ورد العلاء . وكان العلاء يبارى سعداً لصدع صدعه القضاء ( والقدر ) بينهما ، فطار العلاء على سعد في الردة بالفضل ، فلما ظفر سعد بالقادسية وأزاح الأكاسرة عن الدار ، وأخذ حدود ما يلي السواد واستعلى وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به ، أسَرَّ العلاء أن يصنع شيئاً في الأعاجم رجاء أن يدال كما قد كان أديل ، ولم يقدر العلاء ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجد ، وكان أبو بكر قد استعمله وأذن له في قتال أهل الردة ، واستعمله عمر ونهاه عن البحر ، فلم يقدر في الطاعة والمعصية وعواقبهما ، فندب أهل البحرين إلى فارس فتسرعوا إلى ذلك ، وفرقهم أجناداً على أحدهما الجارود بن المعلى ، وعلى الآخر السوار بن همام ، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى ، وخليد على جماعة الناس ، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر ، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوبه غازياً ، يكره التغرير بجنده ، استناناً بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وبأبي بكر لم يُغْزِ فيه النبي ولا أبو بكر ، فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس ، فخرجوا في إصطخر وبإزائهم أهل فارس ، وعلى أهل فارس الهربذا ، اجتمعوا عليه فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم ، فقام خليد في الناس فقال : أما بعد فإن الله إذا قضى أمراً جرت به المقادير حتى تصيبه ، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم ، وإنما جئتم لمحاربتهم ، والسفن والأرض لمن غلب ، فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .
فأجابوه إلى ذلك، فصلوا الظهر، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالاً شديداً في موضع من الأرض يدعى طاووس، وجعل السوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه ويقول:
- - - - - - - - - - [ ابتداء شعر ]
يا آل عبد القيس للقراعِ *** قد حَفِلَ الأمداد بالجِراعِ
وكلهم في سَنَن المَصاع *** يحُسْنُ ضربَ القوم بالقِطاع
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
حتى قُتل . وجعل الجارود يرتجز ويقول :
- - - - - - - - - - [ ابتداء شعر ]
لو كان شيئاً أمما أكلته *** أو كان ماء سادما جهرته
لكن بحراً جاءنا أنكرته
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
حتى قتل يومئذ. وولى عبد الله بن السوار، والمنذر بن الجارود حياتهما، إلى أن ماتا ، وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول :
- - - - - - - - - - [ابتداء شعر]
يال تميمٍ أجمعوا النزولْ *** وكاد جيش عُمَرٍ يزولْ
وكلكم يعلم ما أقولْ
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
إنزلوا فنزلوا ، فاقتتل القوم فقُتِل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها ، ثم خرجوا يريدون البصرة ، وقد غرقت سفنهم ، ثم لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلاً ، ثم وجدوا شهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق ، فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم . ولما بلغ عمر الذي صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقى في روعه نحو من الذي كان ، فاشتد غضبه على العلاء وكتب إليه يعزله ، وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه وأبغض الوجوه إليه ، بتأمير سعد عليه ! وقال : إلحق بسعد بن أبي وقاص فيمن قبلك . فخرج بمن معه نحو سعد .
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان أن العلاء بن الحضرمي حمل جنداً من المسلمين فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا وأن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يُجتاحوا . فندب عتبة الناس وأخبرهم بكتاب عمر، فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة ، وحذيفة بن محصن ، ومجزأة بن ثور ، ونهار بن الحارث ، والترجمان بن فلان ، والحصين بن أبي الحر ، والأحنف بن قيس ، وسعد بن أبي العرجاء ، وعبد الرحمن بن سهل ، وصعصعة بن معاوية ، فخرجوا في اثنى عشر ألفاً على البغال ، يجنبون الخيل ، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمة ، وهم ردء للغازي والمقيم ، فسار أبو سبرة بالناس وساحَلَ لا يلقاه أحد ولا يعرض له ، حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غبَّ وقعة القوم بطاوس وإنما كان ولى قتالهم أهل إصطخر وحدهم والشذاذ من غيرهم ، وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا على المسلمين بالطرق وأنشبوهم ، استصرخوا عليهم أهل فارس كلهم ، فضربوا إليهم من كل وجه وكورة ، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس ، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم ، وعلى المشركين شهرك ، فاقتتلوا ففتح الله على المسلمين وقتل المشركين ، وأصاب المسلمون منهم ما شاؤوا . وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة ( ناشئتهم وأولادهم ) وكانوا أفضل نوابت الأمصار ، فكانوا أفضل المصريْن نابتةً . ثم انكفؤوا بما أصابوا وقد عهد إليهم عتبة وكتب إليهم بالحث وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة فخرج أهلها إلى منازلهم منها، وتفرق الذين تنقذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقذوا من عبد القيس إلى موضع سوق البحرين.
ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس، استأذن عمر في الحج فأذن له، فلما قضى حجه استعفاه فأبى أن يعفيه وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا الله ثم انصرف فمات في بطن نخلة فدفن! وبلغ عمر فمر به زائرا لقبره وقال أنا قتلتك لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم وأثنى عليه بفضله ولم يختط فيمن اختط من المهاجرين ، وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان ، وكانت تحت عثمان بن عفان ، وكان خباب مولاه قد لزم سمته فلم يختط .
ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن ، وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبي رهم ، وعماله على حالهم ومسالحه على نهر تيري ومناذر وسوق الأهواز وسرق والهرمزان برامهرمز ، مصالح عليها . وعلى السوس والبنيان وجندي سابور ومهرجانذق ، وذلك بعد تنقذ الذين كان حمل العلاء في البحر إلى فارس ونزولهم البصرة ، وكان يقال لهم أهل طاووس نسبوا إلى الوقعة ، وأقر عمر أبا سبرة بن أبي رهم على البصرة بقية السنة ثم استعمل المغيرة بن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة ، فعمل عليها بقية تلك السنة والسنة التي تليها لم ينتقض عليه أحد في عمله ، وكان مرزوقاً السلامة ولم يحدث شيئاً إلا ما كان بينه وبين أبي بكرة .
ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة ثم صرفه إلى الكوفة ، ثم استعمل عمر بن سراقة ، ثم صرف عمر بن سراقة إلى الكوفة من البصرة ، وصرف أبا موسى إلى البصرة من الكوفة ، فعمل عليها ثانية » . انتهى . وقد روت نحوه أكثر المصادر .
نقد هذه الرواية في مسائل
المسألة الأولى
ذكرت رواية ابن سعد أن قائد الجيش كان عرفجة بن هرثمة وهو فارس شجاع ، من قبيلة الأزد ، سكن في بجيلة فرأَّسوه عليهم ، حتى رأِّس عليهم عمر جريراً ، فتركهم عرفجة وعاد إلى قومه الأزد ففرحوا به ، وصارت له رئاسة نسبية فيهم ، وكانت منازل الأزد في البصرة والبحرين ، وجمهرتهم في عُمان .
لكن رواية الطبري والأكثرية، ذكرت أن قائد الحملة خليد بن المنذر بن ساوي: « فندب أهل البحرين إلى فارس فتسرعوا إلى ذلك ، وفرقهم أجناداً ، على أحدهما الجارود بن المعلى ، وعلى الآخر السوار بن همام ، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى ، وخليد على جماعة الناس » .
وخليد هذا من عبد القيس ، وهو صحابي ، قال في الإصابة : 2 / 342 : « وقد تقدم أنهم كانوا لا يؤمرون إلا الصحابة ، فدل على أن لخليد وفادة » .
كما أن وقت غزوة العلاء في رواية الطبري السنة السابعة عشرة ، وفي رواية ابن سعد السنة الرابعة عشرة ، أي قبل القادسية بسنة أو سنتين . وهذا ينفي القول بأن العلاء أراد أن ينافس سعداً بعد انتصاره في القادسية!
على أن سعداً لم يكن سعد في المعركة، وقد ذكرنا في ترجمته هروبه حتى اتهمته زوجته بالجبن ، ونظم المسلمون فيه الشعر ، فلا يقاس به العلاء الحضرمي !
المسألة الثانية
لا تصح رواية الطبري جغرافياً ، فإن الأمر المعقول في فتح فارس من البحرين أو البصرة ، أن يتخذ الجيش قاعدته في سيراف ، التي تقع مقابل البحرين ، وهي ميناء جم الإيراني الفعلي ، ويتجه منها إلى إصطخر وشيراز .
وقد ذكرت رواية أن جيش العلاء فتح جزيرة وبنى فيها مسجداً، ولعلها كاوان، ثم توغل صعوداً في الجبال إلى إصطخر، التي تقع قرب شيراز على بعد نحو 180 كيلومتراً من البحر، حسب خرائط إيران، فلقيهم القائد الفارسي شهراك ملك منطقة كرمان، فوقعت بينهم معركة في تخت طاووس قرب شيراز وتسمى اليوم تخت جمشيد ، وانتصر المسلمون لكنهم قرروا أن يرجعوا إلى الساحل ليصلهم المدد ، فيهاجموا شيراز أو كرمان .
وعندما رجعوا وجدوا أن الفرس أغرقوا سفنهم فأرسلوا إلى العلاء ليمدهم ، لكن عمر غضب عليه ، وأرسل لهم أن يعودوا !
أما مقولة إنهم علقوا وحاصرهم الفرس، وإن أبا سبرة جاء باثني عشر ألفاً فأنقذهم، فلا تصح، لأن الذي خاض معركة مع القائد شهراك أو شهرك أو سهرك، في طاووس هو خليد، وليس أبا سبرة .
ففي معجم البلدان ( 4 / 8 ) وفي الأربعين البلدانية لابن عساكر ( 4 / 8 ) أيضاً : « طاووس : موضع بنواحي بحر فارس ، كان العلاء الحضرمي أرسل إليه جيشاً في البحر من غير إذن عمر ، فسخط عليه وعزله ، وراح إلى الكوفة إلى سعد بن أبي وقاص لأنه كان يعضده فمات في ذي قار ، وقال خليد بن المنذر في ذلك :
[ ابتداء شعر ]
بطاووس ناهبنا الملوك وخيلنا *** عشية شهراكٍ علون الرواسيا
أطاحت جموع الفرس من رأس حالق *** تراه لبوَّار السحاب مناغيا
فلا يبعدنَّ الله قوماً تتابعوا *** فقد خضبوا يوم اللقاء العواليا
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
فقد كانت المعركة مع شهراك في طاووس على بعد 180 كلم من سيراف ، وجاء جيش أبي سبرة بزعمهم على الساحل إلى سيراف ، ولا وجود لقوات فارسية ، ولا لعمران مهم في ذلك الساحل .
ومما يوجب الشك في أصل جيش أبي سبرة ، أنه لا توجد رواية أخرى عنه ، مع أنه حدث كبير نسبياً ، وأنهم لم يسموا قائد المعركة من العدو ، ولا حددوا مكانها ولا من قتل فيها ! وهذه عادة الراوي عندما يخترع معركة لا وجود لها !
ولعلهم تعصبوا لأبي سبرة لأنه صهر سهيل بن عمرو ، ونائب عتبة بن غزوان ، ضد خليد بن المنذر العبدي الشيعي ، كما فعل ابن كثير فأضاف من عنده عبارات مديح لأبي سبرة وجيشه ، لا توجد في أي مصدر ذكر الحادثة !
قال في النهاية ( 7 / 96 ) : « فساروا على الساحل لا يلقون أحداً ، حتى انتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب العلاء ، وبين أهل فارس بالمكان المسمى بطاووس ، وإذا خليد بن المنذر ومن معه من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب وقد تداعت عليهم تلك الأمم من كل وجه ، وقد تكاملت أمداد المشركين ولم يبق إلا القتال . فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم ، فالتقوا مع المشركين رأساً ، فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة ، وقتل منهم مقتلة عظيمة جداً ، وأخذ منهم أموالاً جزيلة باهرة ، واستنقذ خليداً ومن معه من المسلمين من أيديهم ، وأعز به الإسلام وأهله ، ودفع الشرك وذله ولله الحمد والمنة ، ثم عادوا إلى عتبة بن غزوان إلى البصرة » .
فكيف يصح هذا الكلام الذي يزعم أن جيش خليد علق في الساحل الفارسي طول هذه المدة ، أي في سيراف التي تبعد عن البحرين 200 كيلو متراً في البحر ، بينما تبعد عن البصرة نحو 800 كيلو متراً .
فهل كان خليد وجيشه عاجزين عن السيطرة على سفن من الساحل الفارسي والرجوع بها إلى البحرين ، أو عن إحضار سفن من البحرين ؟
وهل كانوا عاجزين عن سلوك الطريق الساحلي إلى البصرة ، وقد سلكه أبو سبرة بجيشه ( المنقذ ) ولم يكن في طريقه أحد من العدو كما قالت الرواية ؟ !
فالصحيح ما رواه البلاذري، وهو أن عمر سحب جيش العلاء الحضرمي ، وأمدَّ به واليه على الموصل ، فلم يعلق الجيش ، ولا أنقذه أبو سبرة !
قال البلاذري ( 2 / 476 ) ، وجعل قائد الجيش هرثمة بن بن عرفجة : « كان العلاء بن الحضرمي ، وهو عامل عمر بن الخطاب على البحرين ، وجه هرثمة بن عرفجة البارقي ، من الأزد ، ففتح جزيرة في البحر مما يلي فارس . ثم كتب عمر إلى العلاء أن يمد به عتبة بن فرقد السلمي ففعل » .
وفي الأربعين البلدانية لابن عساكر : 4 / 227 : « وأما فتح فارس فكان بدؤه أن العلاء الحضرمي عامل أبي بكر ثم عامل عمر على البحرين ، وجه عرفجة بن هرثمة البارقي في البحر ، فعبره إلى أرض فارس ففتح جزيرة مما يلي فارس . فأنكر عمر ذلك لأنه لم يستأذنه، وقال غررت المسلمين! وأمره أن يلحق بسعد بن أبي وقاص بالكوفة، لأنه كان واجداً على سعد فأراد قمعه بتوجيهه إليه على أكره الوجوه، فسار نحوه فلما بلغ ذا قار مات العلاء الحضرمي! وأمر عمر عرفجة أن يلحق بعتبة بن فرقد السلمي بناحية الجزيرة ففتح الموصل» .
المسألة الثالثة
لا تصح روايتهم الرسمية زمنياً ، لأنها جعلت وقت إرسال العلاء جيشه إلى فارس في ولاية عتبة بن غزوان على البصرة ، وقد نص كثير من المؤرخين على أن ولايته كانت سنة 14 هجرية ، وأن مدة ولايته بضعة شهور فقط .
ثم فرضت أن ذلك كان بعد معركة القادسية قالت : « فلما ظفر سعد بالقادسية وأزاح الأكاسرة عن الدار . . أسَرَّ العلاء أن يصنع شيئاً في الأعاجم » .
والقادسية وقعت بعد ذلك بنحو سنتين ! على أن رواية البلاذري ذكرت أن إرسال عتبة كان بعد معركة البويب التي قتل فيها القائد الفارسي مهران ، وهي قبل القادسية بأكثر من سنة !
قال البلاذري ( 2 / 418 ) : « فلما بلغ عمر بن الخطاب خبر سويد بن قطبة وما يصنع بالبصرة ، رأى أن يوليها رجلاً من قبله فولاها عتبة بن غزوان . . وقال له : إن الحيرة قد فتحت وقتل عظيم من العجم يعنى مهران ، ووطأت خيل المسلمين أرض بابل . فصر إلى ناحية البصرة واشغل من هناك من أهل الأهواز وفارس وميسان عن إمداد إخوانهم على إخوانك . فأتاها عتبة وانضم إليه سويد بن قطبة ومن معه من بكر بن وائل وبنى تميم » .
وبهذا يتضح أن عمل العلاء كان فعلاً طبيعياً ، وأنه بعد أن قضى على الردة في البحرين ، توجه إلى فتح المنطقة المقابلة لها من إيران وهي شيراز وكرمان .
فلم يكن فعله منافسة لانتصار سعد في القادسية ، لأنها لم تكن وقعت ، ولا لانتصار المسلمين في معركة البويب التي قتل فيها قائد الفرس مهران ، لأنها كانت بقيادة المثنى بن حارثة قبل مجيئ سعد إلى العراق .
وينبغي أن نعلق هنا على مطلع رواية البلاذري الذي يقول : « فلما بلغ عمر بن الخطاب خبر سويد بن قطبة ، وما يصنع بالبصرة ، رأى أن يوليها رجلاً من قبله فولاها عتبة بن غزوان » فهو يعني أن سويداً العجلي الذي هو من قادة المثنى ، ومن بني عجل حلفاء بني شيبان ، كان حقق انتصارات مهمة في البصرة ، فقرر عمر أن يكون مكانه رجل « من قبله » يقطف تلك الانتصارات !
وبالفعل عزل قطبة الذي كان والياً من قبل أبي بكر بدل أن يكافئه ويرقيه ، ونصب عتبة الذي لم يستطع الإدارة باعتراف عمر !
قال اليعقوبي ( 2 / 138 ) : « وكان عمال أبي بكر لما توفي : عتاب بن أسيد على مكة . . . والمثنى بن حارثة الشيباني على الكوفة ، وسويد بن قطبة على البصرة » .
وقد عزلهما عمر ونصب بدلهما جريراً ثم سعداً وعتبة فأخر حركة فتح العراق ! وقد بينا خشونة تعامل عمر مع المثنى بن حارثة في ترجمته .
المسألة الرابعة
بدأت جبهة فتح إيران من جهة سيراف وكرمان إلى مكران أي بلوشستان ، والى شيراز وطبس وخراسان ، ببني عبد القيس على يد العلاء الحضرمي ، وبقيت في عهدة البحرينيين ، فهم الذين بدؤوا في فتحها ، وخاضوا معاركها ، لكن عمر غضب على أميرهم العلاء لحاجة في نفسه وأوقف عملهم !
قال اليعقوبي : 2 / 134 : « وبعث أبو بكر عثمان بن أبي العاص ، وندب معه عبد القيس ، فسار في جيش إلى توج فافتتحها وسبى أهلها ، وافتتح مكران وما يليها » وهذه شهادة مهمة من ابن واضح اليعقوبي وهو مؤرخ دقيق ، بأن أهل البحرين فتحوا في زمن أبي بكر « توج » وهي كرمان ، و « مكران » وهي بلوشستان الإيرانية . ومعناه أن عمر غضب عليهم وأمرهم بالإنسحاب من مناطق واسعة كانوا فتحوها !
لكن بني عبد القيس فرضوا على الخلافة عملهم ، ووصلوا عملياتهم ، وتعرف ذلك من أسماء قادة معارك فتح إيران ، ومن ولاء المسلمين من أهل تلك المناطق إلى عبد القيس ، كأبي الهذيل العلاف مولى عبد القيس شيخ المعتزلة والمؤلف على مذهبهم ( لسان الميزان : 5 / 413 ) وابن شقيق المروزي مولى عبد القيس ( الأنساب للسمعاني : 4 / 143 ) والعشرات بل المئات من موالي عبد القيس أو موالي العبديين ، وهم من أهل المناطق التي فتحها بنو عبد القيس أو عملوا فيها في مطلع الفتح الإسلامي . ولا يتسع المجال لسرد العديد منهم من كتب رجال الحديث .
قال البلاذري ( 2 / 476 ) : « ثم ولى عمر عثمان بن أبي العاص الثقفي البحرين وعمان فدوخهما ، واتسقت له طاعة أهلهما ، وجه أخاه الحكم بن أبي العاص في البحر إلى فارس ، في جيش عظيم من عبد القيس والأزد وتميم وبنى ناجية وغيرهم ، ففتح جزيرة أبركاوان ، ثم صار إلى توج ( كرمان ) وهي من أرض أردشير خرَّه ، ومعنى أردشير خرة بهاء أردشير ، وفى رواية أبى مخنف أن عثمان بن أبي العاص نفسه قطع البحر إلى فارس فنزل توج ففتحها وبنى بها المساجد ، وجعلها داراً للمسلمين ، وأسكنها عبد القيس وغيرهم ، فكان يغير منها على أرجان وهي متاخمة لها » .
ومن المعروف أن عبد القيس كانوا من شيعة علي ( عليه السلام ) المخلصين ، وكانوا عصباً قوياً في حروبه ضد طلحة والزبير وعائشة ومعاوية ، وقدموا شهداء وحققوا انتصارات ، فمن الطبيعي أن ينتقص الرواة من دورهم في الفتوحات ويعطوه إلى غيرهم .
يضاف إلى ذلك أن السلطة لها ثأرٌ على عبد الله بن سوار بن همام العبدي ، لأنه قتل عبيد الله بن عمر في صفين ، عندما طلب عبيد الله المبارزة .
قال ابن الأعثم في الفتوح : 3 / 128 : « وأقبل معاوية على عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقال له : يا ابن أخي هذا يوم من أيامك ، فلا عليك أن يكون منك اليوم بما يسر به أهل الشام ، قال : فخرج عبيد الله بن عمر وعليه درعان سابغان ، وعلى رأسه بيض وعمامة حمراء ، وهو متقلد سيف أبيه عمر بن الخطاب حتى وقف بين الجمعين ودعا إلى البراز قال : فذهب محمد بن الحنفية ليخرج إليه فصاح به علي : مكانك يا بني ! لا تخرج إليه ، فقال له : ولمَ ذلك يا أمير المؤمنين ، فوالله إن لو دعاني إلى البراز أبوه لخرجت إليه ، فقال علي : مَه يا بني لا تقل في أبيه إلا خيراً . ونظر عبيد الله بن عمر أنه ليس يخرج إليه أحد فحمل على ميسرة علي ، وفي الميسرة يومئذ ربيعة بن القيس وغيرهم من الناس فجعل يطعن في خيلهم وهو يقول :
- - - - - - - - - - [ ابتداء شعر ]
أنا عبيد الله سماني عمر *** خير قريش من مضى ومن عبر
إلا رسول الله والشيخ الأغر *** قد أبطأت عن نصر عثمان مضر
وسارع الحيُّ اليمانون الغرر *** والخير في الناس قديما يبتدر
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
قال : فخرج إليه عبد الله بن سوار العبدي ، وهو يقول :
- - - - - - - - - - [ ابتداء شعر ]
قد سارعت في حربها ربيعهْ *** في الحق والحق لهم شريعهْ
ما نهتك الأستار كالقطيعهْ *** في العصبة السامعة المطيعهْ
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
حتى تذوقَ كأسها القطيعهْ
ثم طعنه العبدي طعنة في خاصرته جدَّله قتيلاً ، فأنشأ الصلتان العبدي يقول :
- - - - - - - - - - [ ابتداء شعر ]
ألا يا عبيد الله ما زلتَ مولعاً *** بنكرٍ لها تُهدي اللقا وتهددا
كأن حماة الحيِّ بكرَ بن وائل *** بذي الرمْثِ نيرانٌ تُحرقن غرقدا
وكنتَ سفيهاً قد تعودتَ عادةً *** وكل امرئ جارٍ على ما تعودا
فأصبحت مسلوباً على شرِّ حالة *** صريعاً يُرى وسط العجاجة مفردا
تشقُّ عليك الدرعَ عرسٌ فجيعةٌ *** مفجعةٌ تُبدي الشجا والتلددا . . » .
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
وعبد الله بن سوار صحابي جليل رضي الله عنه ، قال عنه ابن حجر في الإصابة : 5 / 71 : « عبد الله بن سوار من عمال النبي ( صلى الله عليه وآله ) على البحرين ذكره وثيمة في كتاب الردة عن بن إسحاق ، وأنه كان ممن وفى لأبان بن سعيد بن العاص » .
وكان عبد الله هذا من قادة الفتح المميزين . قال عنه ابن الأثير في الكامل : 3 / 437 ، وابن حبيب في المحبر / 154 : « وكان كريماً لم يوقد أحد في عسكره ناراً . وكان في ثغر السند ومعه أربعة آلاف رجل ، فلم تكن توقد مع ناره نار ، فنظر ليلة فإذا رجل يطبخ فسأل عن النار فقالوا : لرجل وَلدت امرأته في هذه الليلة ، فعمل لها خبيصاً . فأمر صاحب طعامه أن يطعم الناس مع الطعام الخبيص ثلاثة أيام » !
فمن الطبيعي أن يغمطه الرواة حقه فيقولوا : « ثم سار بن عامر نحو مرو الروذ فوجه إليها عبد الله بن سوار بن همام العبدي فافتتحها » . ( الطبقات : 5 / 46 ) .
وفي تاريخ خليفة / 156 : « وفيها بعث ابن عامر عبد الله بن سوار العبدي فافتتح القيقان وأصاب غنائم وقاد منها خيلاً . فالبراذين القيقانية من نسل تلك الخيل » .
وقيقان كما في معجم البلدان : 4 / 423 : « بلاد قرب طبرستان ، وفي كتاب الفتوح : في سنة 38 وأول سنة 39 في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، توجه إلى ثغر السند الحارث بن مرة العبدي متطوعاً بإذن علي رضي الله عنه فظفر وأصاب مغنماً وسبياً ، وقسم في يوم واحد ألف رأس ، ثم إنه قتُل ومن معه بأرض القيقان إلا قليلاً وكان مقتله في سنة 42 . . ثم ولَّى عبد الله بن عامر في سنة 45 في زمن معاوية عبد الله بن سوار العبدي . . ثغر الهند فغزا القيقان فأصاب مغنماً ، ثم وفد إلى معاوية وأهدى إليه خيلاً قيقانية ، وأقام عنده ثم رجع وغزا القيقان فاستجاش الترك فقتلوه » .
وفي تاريخ خليفة / 155 ، و 157 : « وفيها ( سنة 45 ) وليَ معاوية عبد الله بن سوار العبدي بلاد مكران ( منطقة بلوشستان الإيرانية ) سنة سبع وأربعين ، فيها غزا عبد الله بن سوار العبدي القيقان ، فجمع له الترك فقتل عبد الله بن سوار » .
أقول : وقد ورث عبد الله بن سوار هذا المجد الجهادي عن أبيه سوار رضي الله عنه .
قال البلاذري : 2 / 476 : « إن شهرك مرزبان فارس وواليها أعظمَ ما كان من قدوم العرب فارس واشتد عليه ، وبلغته نكايتهم وبأسهم وظهورهم على كل من لقوه من عدوهم . فجمع جمعاً عظيماً وسار بنفسه حتى أتى راشهر من أرض سابور ، وهي بقرب توج ، فخرج إليه الحكم بن أبي العاص وعلى مقدمته سوار بن همام العبدي ، فاقتتلوا قتالاً شديداً . وهناك واد قد وكل به شهرك رجلاً من نقابه في جماعة ، وأمره أن لا يجتازه هارب من أصحابه إلا قتله ! فأقبل رجل من شجعاء الأساورة مولياً من المعركة فأراد الرجل قتله فقال له : لا تقتلني فإنما نقاتل قوماً منصورين ، الله معهم ، ووضع حجراً فرماه ففلقه ثم قال : أترى هذا السهم الذي فلق الحجر ؟ والله ما كان ليخدش بعضهم لو رميَ به . قال : لا بد من قتلك ، فبينا هو في ذلك إذ أتاه الخبر بقتل شهرك ، وكان الذي قتله سوار بن همام العبدي ، حمل عليه فطعنه فأذراه عن فرسه ، وضربه بسيفه حتى فاضت نفسه ، وحمل ابن شهرك على سوار فقتله . وهزم الله المشركين وفتحت راشهر عنوة ، وكان يومها في صعوبته وعظيم النعمة على المسلمين فيه كيوم القادسية . وتوجه بالفتح إلى عمر بن الخطاب عمرو بن الأهتم التيمي ، فقال :
- - - - - - - - - - [ ابتداء شعر ]
جئت الإمام بإسراع لأخبره *** بالحق من خبر العبدي سوار
أخبار أروع ميمون نقيبته *** مستعمل في سبيل الله مغوار » .
- - - - - - - - - - [ انتهاء شعر ]
المسألة الخامسة
حرَّم عمر في خلافته ركوب جنود المسلمين البحر، ولو استطاع لحرم على غير الجنود أيضاً، والسبب أنه كان يخاف من البحر إلى حد العقدة، كما كان يكره البكاء على الميت إلى حد العقدة!
وتقدم أنه غضب على أن العلاء الحضرمي لأنه أرسل جيشاً من البحرين في سفن مسافة 200 كيلو متر إلى ميناء سيراف الفارسي . . . وقد وجه الرواة عمله بأنه اتبع سنة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي لم يركب البحر ، ولم يبعث المسلمين فيه !
قال الكتاني في التراتيب الإدارية : 1 / 370 : « وفي الخطط للمقريزي لم يكن البحر يركب للغزو في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخلافة أبي بكر وعمر وأول من ركب البحر للغزو العلاء بن الحضرمي وكان على البحرين من قبل أبي بكر وعمر فأحب أن يؤثر في الأعاجم أثراً يعز الله به الإسلام على يديه ، فندب أهل البحرين إلى فارس فبادروا إلى ذلك ، وفرقهم أجناداً . . . فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر بن الخطاب ، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازياً كراهية للتغرير بجنده . . . وكان أول من غزا فيه معاوية بن أبي سفيان » .
أقول : يريد رواة السلطة أن ينكروا غزو العلاء الحضرمي وأهل البحرين في البحر ، ويثبتوا السبق إلى هذه الفضيلة لمعاوية ، لأنهم رتبوا حديثاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إن أول من يغزو في البحر مغفور له ، وأول من يغزو القسطنطينية مغفور له .
فمعاوية هو أول من غزا في البحر ، فمغفور له خروجه على إمامه الشرعي وسفكه دماء مئة ألف مسلم وفيهم عشرات الصحابة !
ويزيد أول من غزا القسطنطينية فهو مغفورٌ له ولا يضره بعدها قتله للحسين ( عليه السلام ) وأهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) واستباحته المدينة في وقعة الحرة ، ثم ضربه الكعبة بالمنجنيق !
فقد روى بخاري في صحيحه : 3 / 233 ، عن : « أم حرام أنها سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا . قالت أم حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم ! ثم قال النبي : أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ! فقلت : أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : لا » .
قال ابن حجر وهو منظر محترف لبني أمية ، قال في فتح الباري : 6 / 74 : « قال المهلب : في هذا الحديث منقبة لمعاوية ، لأنه أول من غزا البحر ، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر » ! وزعموا أن معاوية أول من غزا في البحر لفتح قبرص ، وكان معه عبادة بن الصامت ، وزوجته أم حرام ، أم أنس بن مالك !
وفرح ابن تيمية بهذه المنقبة ليزيد ، وأسقط بها عنه جرائمه في سفك دماء أهل البيت ( عليهم السلام ) والصحابة ، ومهاجمة الكعبة ، فكرر الغفران ليزيد في كتبه !
قال في منهاج السنة : 4 / 544 : « فإنه غزا القسطنطينية في حياة أبيه معاوية ، وكان معهم في الجيش أبو أيوب الأنصاري ، وذلك الجيش أول جيش غزا القسطنطينية ، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم » .
وقال في منهاج السنة : 4 / 571 : « وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد ، والجيش عدد معين لا مطلق ، وشمول المغفرة لآحاد هذا الجيش أقوى من شمول اللعنة لكل واحد واحد من الظالمين ، فإن هذا أخص والجيش معينون ، ويقال إن يزيد إنما غزا القسطنطينية لأجل هذا الحديث » .
وقال في مجموع الفتاوى : 3 / 413 : « ومع هذا فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة . وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية » . ( ونحوه في : 4 / 486 ، و : 18 / 352 وفي كتابه رأس الحسين ( عليه السلام ) / 207 ، وكتابه الجواب الصحيح : 6 / 117 ) .
أقول : لقد كذبوا في وجود غزوة لمعاوية لقبرص ، وغزوة ليزيد للقسطنطينية ، ثم كذبوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لإثبات منقبة لمعاوية وابنه !
وقد كشفنا في المجلد الثاني من جواهر التاريخ، تزويرهم غزوة معاوية وغزوة يزيد معاً ، وذكرنا نصوصاً في أن معاوية لم يذهب إلى قبرص ، وأن يزيداً تخلف عن الجيش الذي كان ينتظره في « الغذقذونة » القريبة من أنطاكية ، حتى وقع في الجيش مرض فتوفي منه كثيرون، ومنهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، وأوصاهم أن يحملوا جنازته ويدفنوه في أقرب نقطة من القسطنطينية ، وأنهم ساروا بجنازته ودفعوا إلى الروم مالاً ، حتى سمحوا لهم بدفنه !
فقد روى عبد الرزاق : 5 / 279 ، أن أبا أيوب أوصى في مرضه : « إذا أنا متُّ فسرْ بي في أرض العدو ما استطعت ، ثم ادفني » !
المسألة السادسة
يظهر لك تحيُّز المصادر ورواة السلطة إذا قايست طمسهم لدور عبد القيس وأبطالهم مثل سوار بن همام وابنه عبد الله رضي الله عنهما ، وتضخيمهم لعتبة بن غزوان ووصفه بأنه قائد كبير ، مصَّر البصرة ، وفتح ميسان ، وغيرها !
قال ابن حجر في الإصابة : 4 / 363 : « عتبة بن غزوان . . بن وهب المازني حليف بني عبد شمس أو بني نوفل ، من السابقين الأولين وهاجر إلى الحبشة ، ثم رجع مهاجراً إلى المدينة ، رفيقاً للمقداد وشهد بدراً وما بعدها ، وولاه عمر في الفتوح فاختط البصرة وفتح فتوحاً . وكان طويلاً جميلاً روى له مسلم وأصحاب السنن . وفي مسلم من حديثه : لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما لنا طعام إلا ورق الشجر . . قدم على عمر يستعفيه من الإمرة فأبى ، فرجع فمات في الطريق بمعدن بني سليم . . وعاش سبعاً وخمسين سنة ودعا الله فمات » !
وفي تاريخ خليفة / 85 : « فبعث عمر عتبة بن غزوان ، أحد بني مازن بن منصور ، في شهر ربيع سنة أربع عشرة ، فمكث أشهراً لا يغزو » .
وفي الطبقات : 7 / 7 : « وكان سعد يكتب إلى عتبة وهو عامله ، فوجد من ذلك عتبة ( أي كان يأمره سعد فاستنكف ، لأنه يرى نفسه أكبر منه ) فاستأذن عمر أن يقدم عليه فأذن له ، واستخلف على البصرة المغيرة بن شعبة ، فقدم عتبة على عمر فشكا إليه تسلط سعد عليه ، فسكت عنه عمر فأعاد ذلك عتبة مراراً ، فلما أكثر على عمر قال : وما عليك يا عتبة أن تقر بالإمرة لرجل من قريش له صحبة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشرف ؟ فقال له عتبة: ألستُ من قريش، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : حليف القوم منهم ، ولي صحبة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قديمة لا تنكر ولا تدفع !
فقال عمر : لا ينكر ذلك من فضلك . قال عتبة : أما إذ صار الأمر إلى هذا ، فوالله لا أرجع إليها أبداً ، فأبى عمر إلا أن يرده إليها ، فرده فمات بالطريق ! وكان عمله على البصرة ستة أشهر ، أصابه بَطَنٌ فمات بمعدن بني سليم ، فقدم سويد غلامه بمتاعه وتركته على عمر بن الخطاب » !
وفي تاريخ بغداد : 1 / 168 : « وكان قد استعفى عمر فأبى أن يعفيه ، وكان من دعائه : اللهم لا تردني إلى البصرة والياً لعمر ، فمات قبل أن يصل إليها . . وقَصَتْ به ناقته فسقط عنها فمات » .
أقول : مع أن عتبة بن غزوان لم يكن له دور مهم في الفتوحات ، لكنه اصطدم بعمر ورفض أن يكون تحت إمرة صاحبه الحميم سعد بن أبي وقاص !
والذي يتأمل في سياسة عمر ، ويقرأ أنه دعا على شخص فمات ، أو دعا على بلال وأصحابه المعترضين عليه فماتوا جميعاً ، أو يقرأ أن الشخص المغضوب عليه من عمر دعا على نفسه فمات ، أو أن شخصاً أغضب عمر فمات ، كالمثنى بن حارثة ، والعلاء بن الحضرمي ، وعتبة بن غزوان . . لا بد أن يدخل في حسابه الشك في موت أولئك !
والعجيب أن عمر عندما غضب على العلاء وعاقبه بجعله تحت إمرة سعد بن أبي وقاص تكلم عن عمره وموته ! وعندما أصرَّ عتبة بن غزوان على رفضه أن يكون تحت إمرة سعد ، تكلم عمر عن عمره وموته !
قال ابن سعد في الطبقات : 4 / 260 : « كتب عمر بن الخطاب إلى العلاء بن الحضرمي وهو بالبحرين أن سر إلى عتبة بن غزوان فقد وليتك عمله . . وقد وليت قبلك رجلاً فمات قبل أن يصل، فإن يرد الله أن تلي وليت، وإن يرد الله أن يلي عتبة، فالخلق والأمر لله رب العالمين»!
ولعل أكبر ذنوب عتبة عند عمر أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي كان يرويها وفيها تعريضٌ به وبأبي بكر ، وأنهما ملكان دنيويان لا خليفتان !
فقد روى عنه في فتن ابن حماد / 58: « لم تكن نبوة قط إلا كانت بعدها ملكاً » !
وكان عمر يسأل دائماً: هل أنا ملك من ملوك الدنيا، أم خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ ( الطبري : 3 / 279 ، وتاريخ المدينة : 2 / 702 ) فحديث عتبة جوابٌ له !
وقد حاول الرواة أن يُلطفوا حديثه فيبعدوه ، ولو بالظن ، عن أبي بكر وعمر ! فرواه مسلم : 8 / 216 ، بلفظ : « لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكاً ، فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا » .
وفي تاريخ بغداد : 6 / 181 : « وإنها لم تكن نبوة إلا تناسخت حتى تكون ملكاً ، فأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً ، وعند الله صغيراً » .
وقد يقال : إن كان عمر غضب عليه ، فكيف عظم الرواة دوره ومناقبه في ولايته على البصرة وفتوحاته المدعاة ؟ !
والجواب : أن أبا هريرة عَوَّضَ عتبة عن غضب عمر ، وأبو هريرة يومها بمثابة وكالة أنباء ! فقد كان أجيراً عند أخت عتبة ، ثم تزوجها .
قال ابن حجر في الإصابة ( 8 / 51 ) : « بسرة بنت غزوان التي كان أبو هريرة أجيرها ثم تزوجها . . وقصة أبي هريرة معها صحيحة وكانت استأجرته في العهد النبوي ثم تزوجها بعد ذلك ، لما كان مروان يستخلفه في إمرة المدينة » .
كما أن قرابة عتبة بزياد بن أبيه وأخويه نافع وأبي بكرة وأمهم سمية ، نفعته ، فزوجته أروى بنت الحارث بن كلدة سيدتهم ، لأنهم أبناء سمية الفارسية جارية أبيها الحارث بن كلدة الطبيب . وقد جاءت أروى مع زوجها عتبة إلى البصرة : « ومن أجلها قدم أبو بكرة وأخواه من أمه نافع وزياد » . ( الإصابة : 8 / 6 ) .
وكفى بأبي هريرة وآل زياد أداةً لنشر مناقب عتبة ، واختراعها إذا لزم الأمر ! ولذلك صرت ترى ولاية عتبة للبصرة مملوءة أعمالاً ومناقب ، لا تتسع لها مدة ولايته القصيرة ولا ظرف شخصيته ! فقالوا إنه صاحب كرامات ومعجزات ، وإنه مَصَّرَ البصرة وأسسها ، وفتح الأبِلَّة ، وفتح ميسان ، ومناطق من العراق وإيران ، وأرسل جيشاً من اثني عشر ألفاً إلى جيش خليد ، العالق في إيران فأنقذه . . الخ .
قال في تاريخ بغداد : 1 / 168 : « وهو الذي افتتح الأبُلَّة » . وتضحك عندما تقرأ أن معركته كانت مع فلاحيها المساكين بمساحيهم !
قال الطبري ( 3 / 92 ) : « قدم عتبة بن غزوان البصرة في ثلاث مائة » .
وقال في معجم البلدان : 4 / 242 : « لما فتح عتبة بن غزوان الأبلة عنوة عبر الفرات فخرج لهم أهل الفرات بمساحيهم فظفر بهم المسلمون وفتحوا الفرات ، وقيل إن ما بين الفهرج والفرات فتح صلحاً وسائر الأبلة عنوة ، ولما فرغ من الأبلة أتى المذار . وقال عوانة بن الحكم : كانت مع عتبة بن غزوان لما قدم البصرة امرأته أزدة بنت الحارث بن كلدة ، ونافع وأبو بكر وزياد إخوتها ، فلما قاتل عتبة أهل مدينة الفرات جعلت امرأته أزدة تحرض المؤمنين على القتال وهي تقول : إن يهزموكم يولجوا فينا الغُلَف ! ففتح الله على المسلمين تلك المدينة» .
وروى البلاذري: 2 / 419، 421، وقال: «وأصابوا غنائم كثيرة، ولم يكن فيهم أحد يكتب ويحسب إلا زياد، فولى قسم ذلك المغنم وجعل له كل يوم درهمان، وهو غلام في رأسه ذوابة».
فهذا هو دور ابن غزوان ، وهو دورٌ صغير قصير لكنهم ضخموه ! وفي المقابل انتقصوا أو طمسوا أدوار كثير من أبطال الفتح وقادته الحقيقيين !
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|