أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-6-2020
7453
التاريخ: 8-7-2020
9753
التاريخ: 2-7-2020
13960
التاريخ: 28-6-2020
14254
|
قال تعالى {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُوعِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 67، 68]
{ و} لما تجهزوا للمسير { قال} يعقوب { يا بني لا تدخلوا } مصر مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي الجمال وهيئة وكمال وهم إخوة أولاد رجل واحد عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبي مسلم وقيل: خاف عليهم حسد الناس إياهم وإن يبلغ الملك قوتهم وبطشهم فيحبسهم أو يقتلهم خوفا على ملكه عن الجبائي وأنكر العين وذكر أنه لم يثبت بحجة وجوزه كثير من المحققين ورووا فيه الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): أن العين حق والعين تستنزل الحالق والحالق: المكان المرتفع من الجبل وغيره فجعل (عليه السلام) العين كأنها تحط ذروة الجبل من قوة أخذها وشدة بطشها وورد في الخبر أنه (عليه السلام) كان يعوذ الحسن والحسين (عليهماالسلام) بأن يقول أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لأمة. وروي أن إبراهيم (عليه السلام) عوذ ابنيه وإن موسى عوذ ابني هارون بهذه العوذة وروي أن بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا فقالت أسماء بنت عميس :يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أ فأسترقي لهم من العين فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): نعم وروي أن جبرائيل (عليه السلام) رقى رسول الله وعلمه الرقية وهي بسم الله أرقيك من كل عين حاسد الله يشفيك وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لوكان يسبق القدر لسبقته العين .
ثم اختلفوا في وجه الإصابة بالعين: فروي عن عمروبن بحر الجاحظ أنه قال: لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة فتتصل به وتؤثر فيه فيكون هذا المعنى خاصية في بعض الأعين كالخواص في الأشياء وقد اعترض على ذلك بأنه لوكان كذلك لما اختص ذلك ببعض الأشياء دون بعض ولأن الأجزاء تكون جواهر والجواهر متماثلة ولا يؤثر بعضها في بعض وقال أبوهاشم: أنه فعل الله بالعادة لضرب من المصلحة وهو قول القاضي.
ورأيت في شرح هذا للشريف الأجل الرضي الموسوي قدس الله روحه كلاما أحببت إيراده في هذا الموضع قال إن الله تعالى يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها فغير ممتنع أن يكون تغييره نعمة زيد مصلحة لعمرووإذا كان يعلم من حال عمروأنه لولم يسلب زيدا نعمته أقبل على الدنيا بوجهه ونأى عن الآخرة بعطفه وإذا سلب نعمة زيد للعلة التي ذكرناها عوضه فيها وأعطاه بدلا منها عاجلا أوآجلا فيمكن أن يتأول قوله (عليه السلام) العين حق على هذا الوجه على أنه قد روي عنه (عليه السلام) ما يدل على أن الشيء إذا عظم في صدور العباد وضع الله قدره وصغر أمره وإذا كان الأمر على هذا فلا ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعظمه في صدره وفخامته في عينه كما روي أنه قال لما سبقت ناقته العضباء وكانت إذا سوبق بها لم تسبق ما رفع العباد من شيء إلا وضع الله منه ويجوز أن يكون ما أمر به المستحسن للشيء عند رؤيته من تعويذه بالله والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قائما في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن فلا يغير عند ذلك لأن الرائي لذلك قد أظهر الرجوع إلى الله تعالى والإعاذة به فكأنه غير راكن إلى الدنيا ولا مغتر بها انتهى كلامه رضي الله عنه.
{ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي وما أدفع من قضاء الله من شيء أن كان قد قضي عليكم الإصابة بالعين أوغير ذلك { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فهو القادر على أن يحفظكم من العين أومن الحسد ويردكم علي سالمين { وعليه فليتوكل المتوكلون } أي: وليفوضوا أمورهم إليه وليثقوا به { ولما دخلوا } مصر { من حيث أمرهم أبوهم } أي من أبواب متفرقة كما أمرهم يعقوب وقيل كان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها الأربعة متفرقين.
{ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أي: لم يكن دخولهم مصر كذلك يغني عنهم أويدفع عنهم شيئا أراد الله تعالى إيقاعه بهم من حسد أوإصابة عين وهو(عليه السلام) كان عالما أنه لا ينفع حذر من قدر ولكن كان ما قاله لبنيه حاجة في قلبه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه لأن لا يحال على العين مكروه يصيبهم وقيل: معناه أن العين لوقدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين عن الزجاج قال وحاجة استثناء ليس من الأول بمعنى لكن حاجة { وإنه لذوعلم } أي: ذويقين ومعرفة بالله { لما علمناه } أي: لأجل تعليمنا إياه عن مجاهد مدحه الله سبحانه بالعلم والمعنى أنه حصل له العلم بتعليمنا إياه وقيل: وأنه لذوعلم لما علمناه أي يعلم ما علمناه فيعمل به لأن من علم شيئا ولا يعمل به كان كمن لا يعلم فعلى هذا يكون اللام في قوله { لما علمناه } كاللام في قوله { للرؤيا تعبرون } { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} مرتبة يعقوب في العلم عن الجبائي وقيل لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه عن ابن عباس .
_____________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص428-430.
{ وقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } . بعد أن أعطوا أباهم الميثاق المؤكد أذن لهم بصحبة أخيهم ، وأوصاهم بوصيته هذه ، ويظهر منها انه قد كان للمدينة أبواب ، لا باب واحد ، وفي بعض التفاسير انها كانت أربعة . واختلف المفسرون في الغرض من وصية يعقوب أبناءه ان يدخلوا من أبواب متفرقة ، وما أتى واحد منهم بما تركن إليه النفس . . وقد يكون الغرض انهم ان دخلوا مجتمعين ، وهم أحد عشر رجلا ترامت نحوهم الأنظار ، وكثرت التساؤلات والإشارات ، أوان الغرض ان يعرفوا أخبار المدينة ، ويطلعوا على أحوالها لعلهم يقفون على ما يومئ إلى يوسف وأخباره ، ومهما يكن فنحن غير مكلفين بالبحث عن السبب ما دامت الآية لم تشر إليه . . وفي تفسير « البحر المحيط » ان يعقوب أمر بنيه أن يبلغوا تحياته لعزيز مصر ، ويقولوا له : ان أبانا يصلي عليك ، ويدعولك ، ويشكر صنيعك معنا ، وان يوسف بكى حين سمع هذه الرسالة . . وليس هذا ببعيد عن الموضوع وطبيعته .
{ وما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } . عند تفسير الآية 40 من هذه السورة ، فقرة « لا حكم الا للَّه » بيّنا ان حكمه تعالى يطلق على حلاله وحرامه المعبّر عن كل منهما بالحكم الشرعي ، وأيضا يطلق على قضائه وقدره الذي لا مفر منه للإنسان ، وسياق الآية يدل ان هذا هو المراد بحكم اللَّه هنا ، وعليه يكون المعنى اني حريص عليكم ، ناصح لكم ، ولكن حرصي ونصحي لا يغني عن قضاء اللَّه وقدره . . وغرضه من ذلك أن يبين لأبنائه ان على الإنسان ان لا يعتمد على العمل وحده ، ولا على الايمان وحده ، بل عليه أن يعمل ويجتهد متوكلا على اللَّه ، ومعتقدا بأنه هو الذي يمده ويعينه ، ولذا قال : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } أي أنا مؤمن باللَّه متوكل عليه ، لا على غيره ، وعلى كل من آمن باللَّه أن يكون كذلك .
{ ولَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ } من الأبواب المتفرقة { ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } . اسم كان ضمير مستتر يعود إلى الدخول المستفاد من قوله : { ولَمَّا دَخَلُوا } والمعنى ان أولاد يعقوب دخلوا المدينة من أبواب متفرقة امتثالا لأمر والدهم ، ولكن دخولهم لم يجد نفعا ، ولم يرد بلاء كما قال يعقوب :
{ وما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } ، حيث اتهموا بالسرقة ، وأخذ منهم بنيامين ، ورجعوا إلى أبيهم منكسرين كما يأتي . { إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها } . اختلف المفسرون في تحديد هذه الحاجة التي قضاها اللَّه ليعقوب ، فمن قائل : ان لا يصاب أولاده بالعين عند دخولهم إلى مصر . وقائل : ان لا ينالهم العزيز بسوء الخ . . والذي نراه - استنادا إلى طبيعة الحال ، والى الآيات الدالة على حرصه ولهفته على يوسف وأخيه - ان الحاجة الأولى والأخيرة ليعقوب من هذه الحياة كانت سلامة يوسف وأخيه ، واجتماعه بهما قرير العين ، وقد أتم اللَّه له ما أراد على أحسن حال .
{ وإِنَّهُ لَذُوعِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ } . ضمير انه وعلمناه يعودان إلى يعقوب . وهو نبي ، وكل نبي يؤدبه اللَّه بآدابه ، ويعلمه من لدنه علما ، ومن تأدب يعقوب بآداب اللَّه صبره على البلاء ، وتوكله على اللَّه ، وعدم يأسه من رحمته ، ومن علمه مما علمه اللَّه إيمانه بأن فوق تدبير العباد للَّه تدبيرا { ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ان الحكم للَّه ، وان تدبيرهم من غير عناية اللَّه وتوفيقه لا يجديهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا .
_________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 337-339.
قوله تعالى:{ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله وتجهزوا واستعدوا للرحيل، ومن المعلوم من سياق القصة أنه خاف على بنيه وهم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لأنه كان من المعلوم أنه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفا واحدا وهم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أويحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة أخرى.
وقوله بعده:{ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} لا يخلو من دلالة أوإشعار بأنه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (عليه السلام) - والله أعلم - أحس حينما تجهزوا للسفر واصطفوا أمامه للوداع إحساس إلهام أن جمعهم وهم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق وينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك وحذرهم عن الدخول من باب واحد وعزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم والنقص في عددهم.
ثم رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلا مستقلا - ولا مؤثر في الوجود بالحقيقة إلا الله سبحانه - فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم:{وما أغنى عنكم من الله من شيء} ثم علله بقوله{إن الحكم إلا لله} أي لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتقون به نزول النازلة وتتوسلون به إلى السلامة والعافية ولا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإن هذه الأسباب لا تغني من الله شيئا ولا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا إلا لله بل هذه أسباب ظاهريه إنما تؤثر إذا أراد الله لها أن تؤثر.
ولذلك عقب كلامه هذا بقوله:{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي إن هذا سبب أمرتكم باتخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء وتوكلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب وفي سائر الأسباب التي أخذتها في أموري، وعلى هذا المسير يجب أن يسير كل رشيد غير غوي يرى أنه لا يقوى باستقلاله لإدارة أموره ولا أن الأسباب العادية باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجىء في أموره إلى وكيل يصلح شأنه ويدبر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذي لا يقهره شيء الغالب الذي لا يغلبه شيء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وقد تبين بالآية أولا معنى التوكل وأنه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكل والموكل.
وثانيا: أن هذه الأسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها ولا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير ويكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد والصواب لا أن يهمل الأسباب التي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنه من الغي والجهل.
وثالثا: أن ذاك السبب الذي يجب التوكل عليه في الأمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنه الله لا إله إلا هو رب كل شيء وهذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه قوله:{وعلى الله فليتوكل المتوكلون}.
قوله تعالى:{ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} إلى آخر الآية.
الذي يعطيه سياق الآيات السابقة واللاحقة والتدبر فيها - والله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنهم دخلوا مصر أودار العزيز فيها من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم حينما ودعوه للرحيل، وإنما اتخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم وتنقص من عددهم كما أشير إليه في الآية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة وهي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء وكان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم وأخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع وانفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر وأدى ذلك إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم فلم يغن يعقوب أوالدخول من حيث أمرهم من الله من شيء.
لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنه جعل هذا السبب الذي تخلف عن أمره وأدى إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإن يوسف أخذ أخاه إليه ورجع سائر الإخوة إلا كبيرهم إلى أبيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه ويتذللون لعزته فعرفهم نفسه وأشخص أباه وأهله إلى مصر فاتصلوا به.
فقوله:{ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي لم يكن من شأن يعقوب أوهذا الأمر الذي اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئا البتة ويدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل أخذ منهم واحد وفارقهم ولزم أرض مصر آخر وهو كبيرهم.
وقوله:{إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} قيل: إن{إلا} بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذي فقده وهو يوسف.
ولا يبعد أن يكون{إلا} استثنائية فإن قوله:{ما كان يغني عنهم من الله من شيء} في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أولم ينفعهم جميعا شيئا ولم يقض الله لهم جميعا به حاجة إلا حاجة في نفس يعقوب، وقوله:{قضاها} استئناف وجواب سؤال كان سائلا يسأل فيقول: ما ذا فعل بها؟ فأجيب بقوله:{قضاها}.
وقوله:{وإنه لذو علم لما علمناه} الضمير ليعقوب أي إن يعقوب لذوعلم بسبب ما علمناه من العلم أوبسبب تعليمنا إياه وظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنه علم موهبي غير اكتسابي وقد تقدم أن إخلاص التوحيد يؤدي إلى مثل هذه العناية الإلهية، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى بعده:{ولكن أكثر الناس لا يعلمون} إذ لوكان من العلم الاكتسابي الذي يحكم بالأسباب الظاهرية ويتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس واهتدوا إليه.
والجملة:{ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، والعلم الموهبي لا يضل في هدايته ولا يخطىء في إصابته والكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء وتوسل به من الوسيلة وحاجته في يوسف في نفسه لا ينساها ولا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أن في قوله:{ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} إلخ، تصديقا ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه وتصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر وتوكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات وللمفسرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله:{ما كان يغني عنهم - إلى قوله - قضاها} إنه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أويدفع عنهم شيئا أراد الله إيقاعه بهم من حسد أوأصابه عين وكان يعقوب (عليه السلام) عالما بأن الحذر لا يدفع القدر ولكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه وأذهب به القلق عن نفسه.
وقول بعضهم: إن المعنى أن الله لو قدر أن تصيبهم العين لإصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين.
وقول بعضهم: إن معنى قوله:{وإنه لذوعلم لما علمناه} إلخ إنه لذويقين ومعرفة بالله لأجل تعليمنا إياه ولكن أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.
وقول بعضهم: إن اللام في{لما علمناه} للتقوية والمعنى أنه يعلم ما علمناه فيعمل به لأن من علم شيئا وهو لا يعمل به كان كمن لا يعلم.
إلى غير ذلك من أقاويلهم.
___________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص181-183.
وأخيراً توجّه إخوة يوسف صوب مصر للمرّة الثانية بعد إذن أبيهم وموافقته على إصطحاب أخيهم الصغير معهم، وحينما أرادوا الخروج ودعهم أبوهم موصياً إيّاهم بقوله: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} ثمّ أضاف: إنّه ليس في مقدوري أن أمنع ما قد قدّر لكم في علم الله سبحانه وتعالى {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ولكن هناك بعض الأُمور التي يمكن للإنسان أن يجتنب عنها حيث لم يثبت في حقّها القدر الإلهي المحتوم، وما أسديته لكم من النصيحة هو في الواقع لدفع هذه الأُمور الطارئة والتي بإمكان الإنسان أن يدفعها عن نفسه ثمّ قال: أخيراً {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
لا شكّ في أنّ عاصمة مصر في تلك الأيّام شأنها شأن جميع البلدان، كانت تمتلك سوراً عالياً وأبواباً متعدّدة وكان يعقوب قد نصح أولاده بأن يتفرّقوا إلى جماعات صغيرة، وتدخل كلّ جماعة من باب واحد، لكن الآية السابقة لم تبيّن لنا فلسفة هذه النصيحة.
ذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ سبب هذه النصيحة هو أنّ إخوة يوسف كانوا يتمتّعون بقسط وافر من الجمال (وإن لم يكونوا كيوسف لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا إخوته) وبأجسام قويّة رشيقة، وكان الأب الحنون في قلق شديد من أنّ الفات نظر الناس إلى هذه المجموعة المكوّنة من 11 شخصاً ويدلّ سيماهم على أنّهم غرباء وإنّهم ليسوا من أهل مصر، فيصيبهم الحسد من تلك العيون الفاحصة.
ثمّ بعد هذا التّفسير ـ دخل المفسّرون في بحث طويل ونقاش مستمر حول موضوع تأثير العين في حياة الإنسان واستدلّوا على ذلك بشواهد عديدة من الرّوايات والتاريخ. ونحن بحول الله وقوّته سوف نبحث عن هذا الموضوع عند حديثنا عن قوله تعالى: { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ}.(القلم 51) ونثبت إنّه برغم الخرافات الكثيرة التي لفّها العوام حوله إلاّ أنّ مقداراً من هذا الأمر له حقيقة موضوعية حيث ثبت علمياً أنّ أمواج سيّالة تخرج من العين وتمتلك بعض المواصفات المغناطيسيّة.
وهناك سبب آخر ذكره المفسّرون وهو أنّ دخول هذه المجموعة إلى مصر بوجوههم المشرقة وأجسامهم الرشيقة القويمة والسير في شوارعها، قد يثير الحسد والبغضاء في بعض النفوس الضعيفة فيسعون ضدّهم عند السلطان ويظهرونهم كمجموعة أجنبية تحاول العبث بأمن البلد ونظامه، فحاول يعقوب(عليه السلام)أن يجنبهم بنصيحته عن هذه المشاكل.
وأخيراً حاول بعض المفسّرين(2) تأويل الآية بمعنىً قد يعد ذوقياً ... قال: إنّ يعقوب بنصيحته تلك أراد أن يعلم أولاده دستوراً إجتماعياً هامّاً، وهو أنّ على الإنسان أن يبحث عن ضالّته بطرق عديدة وسبل شتّى بحيث لو سُدّ طريق بوجهه لكان بمقدوره البحث عنها من طرق أُخرى حيث سيكون النصر حليفه في النهاية، أمّا إذا حاول الوصول إلى هدفه بإنتهاجه طريقاً واحداً فقط، فقد يصطدم في أوّل الطريق بعائق يمنعه عن الوصول فعند ذاك يستولي عليه اليأس ويترك السعي إليه.
واصل الاُخوة سيرهم نحو مصر، وبعد أن قطعوا مسافة طويلة وشاسعة بين كنعان ومصر دخلوا الأراضي المصرية، وعند ذاك { وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فهم برغم تفرّقهم إلى جماعات صغيرة ـ طبقاً لما وصّاهم به أبوهم ـ فإنّ الفائدة والثمرة الوحيدة التي ترتّبت على تلك النصيحة ليس { إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهذه إشارة إلى أنّ أثرها لم يكن سوى الهدوء والطمأنينة التي إستولت على قلب الأب الحنون الذي بعد عنه أولاده، وبقي ذهنه وفكره مشغولا بهم وبسلامتهم وخائفاً عليهم من كيد الحاسدين وشرور الطامعين، فما كان يتسلّى به في تلك الأيّام لم يكن سوى يقينه القلبي بأنّ أولاده سوف يعملون بنصيحته.
ثمّ يستمرّ القرآن في مدح يعقوب ووصفه بقوله: { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وهذه إشارة إلى أنّ كثيراً من الناس يتيهون في الأسباب وينسون قدرة الله سبحانه وتعالى ويتصوّرون أنّ ما يصيب الإنسان من الشرور إنّما هو من الآثار الملازمة لبعض العيون فيتوسلّون بغير الله سبحانه وتعالى لدفع هذه الشرور ويغفلون عن التوكّل على الله سبحانه وتعالى والإعتماد عليه، إلاّ أنّ يعقوب كان عالماً بأنّه بدون إرادة الله سبحانه وتعالى لا يحدث شيء، فكان يتوكّل في الدرجة الأُولى على الله سبحانه وتعالى ويعتمد عليه، ثمّ يبحث عن عالم الأسباب ومن هنا نرى في الآية (102) من سورة البقرة إنّ القرآن يصف سحرة بابل وكهنتها بأنّهم { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وهذه إشارة إلى أنّ القادر الوحيد هو الله سبحانه وتعالى، فلابدّ من الإعتماد والإتّكال عليه لا على سواه.
______________________
1- تفسير الامثل ، ناصرمكارم الشيرازي،ج6،ص329-331.
2- العالم الجليل والخطيب الكبير ،المرحوم الاشراقي.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|