أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-6-2020
7456
التاريخ: 4-7-2020
6645
التاريخ: 2-7-2020
11605
التاريخ: 28-6-2020
9121
|
قال تعالى:{ ورَوَدَتْهُ الَّتى هُوفى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأَبْوَب وقَالَت هَيْت لَك قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبى أَحْسنَ مَثْوَاى إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظلِمُونَ} [يوسف: 23]
أخبر سبحانه عن امرأة العزيز وما همت به فقال { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} أي: وطالبت يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها عن نفسه وهي زليخا والمعنى: طلبت منه أن يواقعها { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} على نفسها وعليه بابا بعد باب قالوا : وكانت سبعة أبواب وقيل: أراد باب الدار وباب البيت { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي: هلم لك، عن ابن عباس، والحسن ومعناه: أقبل وبادر إلى ما هو مهيا لك { قال } يوسف { معاذ الله} أي: أعتصم بالله وأستجير به مما دعوتني إليه وتقديره: عياذاً بالله أن أجيب إلى هذا فكان (عليه السلام) أظهر الآباء وسأل الله سبحانه أن يعيذه ويعصمه من فعل ما دعته إليه { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} الهاء: عائدة إلى زوجها عند أكثر المفسرين ومعناه: أن العزيز زوجك مالكي أحسن تربيتي وإكرامي وبسط يدي ورفع منزلتي فلا أخونه وإنما سماه ربا لما كان ثبت له عليه من الرق في الظاهر وقيل: أن الهاء عائد إلى الله سبحانه والمعنى: أن الله ربي رفع من محلي وأحسن إلى وجعلني نبيا فلا أعصيه أبدا { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} دل بهذا على أنه لوفعل ما دعته إليه لكان ظالما وفي هذه الآية دلالة على أن يوسف لم يهم بالفاحشة ولم يردها بقبيح لأن من هم بالقبيح لا يقول مثل ذلك .
_____________________
1- تفسير مجمع البيان،الطبرسي،ج5،ص383-384.
{ وراوَدَتْهُ الَّتِي هُوفِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ } . راودته كلمة تدل على أن المرأة خادعت الرجل وراوغته ليريد منها ما تريده منه، وهذه الكلمة بمفردها غاية في الاحتشام ونزاهة التعبير. . ولكن بعض المفسرين سود في شرحها وتفسيرها صفحات عرض فيها صورا لاغراء امرأة العزيز يوسف بمحاسنها ومفاتنها ، ولا مصدر لذلك إلا الإسرائيليات . قال صاحب المنار ، ونعم ما قال :
« نقل رواة الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة ما يعلم بالضرورة انه كذب ، فان مثله لا يعلم إلا من اللَّه تعالى ، أوبالرواية الصحيحة ، ولا يستطيع أحد ان يدعي هذا » ( 2 ) .
الإنسان والمال والجنس:
{ وغَلَّقَتِ الأَبْوابَ } . وتساءل مصطفى صادق الرافعي : لما ذا قال : وغلقت
الأبواب، ولم يقل : وأغلقت الأبواب ؟ . وأجاب : « بأن هذا يشعر انها لما يئست ورأت منه محاولة الانصراف أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالا عدة ، وتجري من باب إلى باب ، وتضطرب يدها في الاغلاق كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط » .
أما نحن فلا نرى أي فرق بين غلقت وأغلقت ، وان دل تصوير الرافعي على شيء فإنما يدل على مكانته في الأدب ، ومقدرته على إخراج شيء من لا شيء .
ومهما يكن فقد عاش يوسف مع امرأة العزيز تحت سقف واحد أمدا غير قصير ، وكان في ريعان شبابه ، وضيء الطلعة ، فتانا في هيئته ومنظره . . فلا عجب أن تفتتن به ، وتتهالك « امرأة » . وأيضا لا عجب أن يصمد يوسف ( عليه السلام ) لوسائلها ، وينجومن حبائلها على رغم ان الجنس صرع كثيرا من العقول . . فليس الإنسان عبدا لغريزة الجنس فقط ، كما قال فرويد : ولا للرغبة في المال والاقتصاد ، كما قال ماركس : وانما هو مسير بكثير من الدوافع والمحرضات ، منها الجنس والمال ، ومنها الشهرة والسيطرة ، ومنها الدين والعادات ، وحب الخير والوطن ، ونحوذلك .
وقد يتنازع الإنسان عاملان متضادان : خيّر يهديه إلى سبيل النجاة ، وشرير يسوقه إلى طريق الهلاك ، ويتذبذب هو بينهما أمدا يطول أويقصر إلى أن يتغلب أحد العاملين على الآخر ، وقد يستمر التوازن بينهما إلى النهاية ، فيبقى الإنسان حائرا مذبذبا تبعا لهذا التوازن مدى حياته .
وقد تنازع امرأة العزيز عاملان : شهوتها الحيوانية تدعوها إلى مراودة يوسف عن نفسه ، وينهاها العز والكبرياء عن التذلل لمن ابتاعه زوجها بثمن بخس ، وبقيت تتذبذب حائرة بين هذين العاملين أمدا غير قصير ، ثم انهارت أعصابها ، ووقعت فريسة النزوة وشهوة الجنس التي تجسمت في قولها الثائر الفاجر : « هيت لك » . . ولا تقولها أنثى إلا إذا اشتد اهتياجها وغليانها حتى بلغ الجنون .
أما يوسف ( عليه السلام ) فلم يكن له الا دافع واحد ، ورغبة واحدة هي التي تقوده وتسيره ، ولا ذرة لغيرها في قلبه وعقله . . وهي تقوى اللَّه ومرضاته ، فهي هي لذته ومتعته ، ومطلبه وأمنيته : { قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ } . . أعوذ باللَّه أن أعصي له أمرا ، كيف ؟ وقد أفاض علي الكثير من فضله وإحسانه ، إذ أخرجني من البئر ، وسخر لي قلب العزيز الذي أنزلني منه منزلة الأبناء الأبرار . . كيف أظلم نفسي بمعصية اللَّه ، واللَّه لا يهدي القوم الظالمين ؟ . وهكذا يصنع الايمان الصادق بأهله ، يعصمهم من المحرمات ، ويبتعد بهم عن الهفوات إذا خاضوا المعارك مع الشيطان وحزبه .
وقال أكثر المفسرين : ضمير { إِنَّهُ رَبِّي } يعود إلى العزيز زوج المرأة ، وان المعنى قد أكرمني زوجك وأحسن إليّ فكيف أخونه فيك ؟ . . أما السياق فيرجح رجوع الضمير إلى لفظ الجلالة لقربه منه في قوله : { مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي } .
وليس للعزيز ذكر في الآية على الإطلاق . . بالإضافة إلى أن الدافع لامتناع يوسف عنها هو الخوف من اللَّه ، وليس مجرد الوفاء للعزيز . . وعلى افتراض رجوع الضمير إلى العزيز فإن المقصود توبيخها والتعريض بها ، وان الأولى بها أن تكون تقية وفية لزوجها الذي سمت به إلى علوالدرجات .
__________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 299-301.
2-. نقل الشيخ المراغي هذه العبارة بالحرف ، ولم يشر إلى مصدرها ، أويضعها بين قوسين ، وهكذا فعل في الكثير من أقوال صاحب « تفسير المنار » ، ينقلها موهما انه هو القائل . . وللشيخ رأيه .
قوله تعالى:{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} قال في المفردات،: الرود هو التردد في طلب الشيء برفق ومنه الرائد لطالب الكلاء، قال: والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء، قال: والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أوترود غير ما يرود، وراودت فلانا عن كذا، قال تعالى:{هي راودتني عن نفسي} وقال:{تراود فتاها عن نفسه} أي تصرفه عن رأيه، وعلى ذلك قوله:{ولقد راودته عن نفسه}{سنراود عنه أباه} انتهى.
وفي المجمع،: المراودة المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به ومنه المرود لأنه يعمل به، ولا يقال في المطالبة بدين: راوده، وأصله من راد يرود إذا طلب المرعى، وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله، والتغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه، وإنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق أوللمبالغة في الإيثاق، انتهى.
وهيت لك اسم فعل بمعنى هلم، ومعاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.
والآية الكريمة{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} على ما فيها من الإيجاز تنبىء عن إجمال قصة المراودة غير أن التدبر في القيود المأخوذة فيها والسياق الذي هي واقعة فيه وسائر ما يلوح من أطراف قصته الموردة في السورة يجلي عن حقيقة الحال ويكشف القناع عن تفصيل ما خبىء من الأمر.
يوسف: هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد ولعله لم يسأل إلا عن اسمه، ولم يتكلم إلا أن قال: اسمي يوسف أوقيل عنه ذلك ولم يلح من لهجته إلا أنه كان قد نشأ بين العبريين، ولم يسأل عن بيته ونسبه فليس للعبيد بيوت ولم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقاء أنساب وهوساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشيء وكم من حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه إلا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن{واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} ولا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين أولئك الوثنيين إلا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله:{معاذ الله إنه ربي} إلخ.
هواليوم حليف الصمت والسكوت لكن قلبه مليء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهوعلى ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا أن الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وليس ينسى ما فعله به إخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية معني بأمره وسينبأ إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
فكان (عليه السلام) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلا على خير ولا يواجه إلا جميلا.
وهذا هو الذي هون عليه ما نزل به من النوائب، وتواتر عليه من المحن والبلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك ولم يجزع ولم يضل الطريق وقد ذكر ذلك لإخوته حين عرفهم نفسه بقوله:{إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}: الآية 90 من السورة.
فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه ويمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، ويزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية ويشاهد أن ربه هو القائم على كل نفس بما كسبت وهوعلى كل شيء شهيد حتى تمكنت المحبة الإلهية منه واستقر الوله والهيمان في سره فكان همه في ربه لا يشغله عنه شاغل ولا يصرفه عنه صارف ولا طرفة عين، وهذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله:{معاذ الله إنه ربي} وقوله:{ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء} وقوله:{إن الحكم إلا لله} وقوله:{أنت وليي في الدنيا والآخرة} وغير ذلك كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلا محبة إلهية أنسته نفسه وشغلته عن كل شيء، وصورة معناها أنها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد.
ولم يظهر للعزيز منه أول يوم إذ حل في بيته إلا أنه غلام صغير عبري مملوك له غير أن قوله لامرأته:{أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أونتخذه ولدا} يكشف أنه شاهد منه وقارا وتمكينا وتفرس فيه عظمة وكبرياء نفسانية أطمعته في أن ينتفع به أويلحقه بنفسه بالتبني على ما في يوسف من عجيب الجمال والحسن.
امرأة العزيز: امرأة العزيز وهي عزيزة مصر وصاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه وأعلمها أن له فيه إربة وأمنية فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف وتحسن مثواه وتهتم بأمره لا كما يهتم في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أوقطعة كبد وتحبه لبديع جماله وغزير كماله وتزداد كلما مضت الأيام حبا إلى حب حتى إذا بلغ الحلم واستوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه وتذل على ما لها من مناعة الملك والعزة وعصمة العفة والخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الآخذ بمجامع قلبها.
وقد كان يوسف يلازمها في العشرة ولا يفارق بينها من جانب وكانت عزيزة لا يثني أمرها ولا ترد عزيمتها وكانت فيما تزعم سيدة يوسف وهو عبدها المملوك لا يسعه إلا أن يطيعها وينقاد لها، ولبيوت الملوك والأعزة أن تحتال لشتى مقاصدها ومآربها بأنواع الحيل والمكايد فإن عامة الأسباب وإن عزت وامتنعت ميسرة لها، وكانت العزيزة ذات جمال وزينة فإن حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة ولا تحل بها إلا غوان ذوات حسن فتانات.
والعادة تحكم أن هذه الأسباب - وقد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرها كل لهيب، وأججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف وتولهت في غرامه واشتغلت به عن كل شيء، وقد أحاط بقلبها من كل جانب، هو أول منطقها إذا تكلمت وفي ضميرها إذا سكتت فلا هم لها إلا يوسف ولا بغية لها إلا فيه{قد شغفها حبا} وليوسف الجمال الذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محب واله وأدام النظر إليه مهيم ذوغرام.
يوسف وامرأة العزيز: لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها وتمنيها بوصال يوسف والظفر بما تبتغيه منه وتلاطفه في عشرته وتشفع ذلك بما لربات الحسن والزينة من الغنج والدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده، ولعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف وسكوته كان يغرها فيما ترومه ويغريها عليه.
حتى إذا تاقت نفسها له وبلغت بها وأعيتها المذاهب خلت به في بيتها وقد غلقت الأبواب فلم يبق فيه إلا هي ويوسف.
وهي لا تشك أن سيطيعها يوسف في أمرها ولا يمتنع عليها لما كانت ولا تزال تراه بالسمع والطاعة، وتشاهد أن الأوضاع والأحوال الحاضرة تقضي بفوزها ونيلها ما تريده منه.
فتى واله في حبه وفتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها وتتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب ومراودته عن نفسه والاعتماد على ما لها من العزة والملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر{هيت لك} لتقهره على ما تريده منه.
وأما هو فقد استغرق في حب ربه وأخلص وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيه جماله وجلاله وقد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهوعلى خلافها لا يتبجح بالأسباب ولا يركن إلى الأعضاد.
ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب والمراودة والأمر بقولها:{هيت لك} وأما هو فقد قابلها بقوله:{معاذ الله} فلم يجبها بتهديد ولم يقل: إني أخاف العزيز أولا أخونه أوإني من بيت النبوة والطهارة أوإن عفتي أوعصمتي تمنعني من الفحشاء، ولم يقل إني أرجوثواب الله أوأخاف عذابه إلى غير ذلك، ولو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره وبدأ به عند مفاجأة الشدة ونزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.
بل استمسك بعروة التوحيد وأجاب بالعياذ بالله فحسب ولم يكن في قلبه أحد سوى ربه ولا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هوالتوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية وأولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك بالله أوما يؤدي معناه، وإنما قال{معاذ الله} وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا:{ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}: مريم: 18.
وأما قوله لها ثانيا:{إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} فإنه يوضح كلمة التوحيد الذي أفاده بقوله:{معاذ الله} ويجليه، يقول: إن الذي أشاهده أن إكرامك مثواي عن قول العزيز لك{أكرمي مثواه} فعل من ربي وإحسان منه إلي فربي أحسن مثواي وإن انتسب إليك ذلك بوجه فهوالذي يجب علي أن أعوذ به وألوذ إليه، وإنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين وارتكاب هذه المعصية ظلم ولا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.
فقد أفاد (عليه السلام) بقوله:{إنه ربي أحسن مثواي} أولا: أنه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه.
وثانيا: أنه ليس ممن يوحد الله سبحانه قولا ويشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنها هي التي أكرمت مثواه عن وصية العزيز وأنها وبعلها ربان له يتوليان أمره يرى هو أن الله سبحانه هو الذي أحسن مثواه وأنه ربه الذي يتولى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.
وثالثا: أنه إنما تعوذ بالله مما تدعوه إليه لأنه ظلم لا يفلح المتلبس به ولا يهتدي إلى سعادته ولا يتمكن في حضرة الأمن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده إبراهيم (عليه السلام):{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: الأنعام: 82.
ورابعا: أنه مربوب - أي مملوك مدبر - لله سبحانه ليس له من الأمر شيء، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله له أوأحب أن يأتي به ولذلك لم يرد ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله:{معاذ الله} إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به ولم يقل: لا أرتكب كذا، ولم يقل: أعوذ بالله منك، وما يشابه ذلك حذرا من دعوى الحول والقوة، وإشفاقا من وسمة الشرك والجهالة اللهم إلا ما في قوله:{إنه ربي أحسن مثواي} حيث أشار فيه إلى نفسه مرتين وليس فيه إلا تثبيت المربوبية وتأكيد الذلة والحاجة، ولهذه العلة بعينها بدل الإكرام إحسانا فأتى حذاء قول العزيز:{أكرمي مثواه} بقوله:{أحسن مثواي} لما في الإكرام من الإشعار باحترام الشخصية وتعظيمها.
وبالجملة الواقعة وإن كانت مراجعة ومغالبة بين امرأة العزيز ويوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعا بين حب وهيمان إلهي وعشق وغرام حيواني يتشاجران في يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه، وكانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهية ودافعت عنه المحبة الإلهية والله غالب على أمره.
فقوله تعالى:{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} يدل على أصل المراودة، والإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أن الأوضاع والأحوال كانت لها عليه وأن الأمر كان عليه شديدا، وكذا قوله:{وغلقت الأبواب} حيث عبر بالتغليق وهو يدل على المبالغة وعلق الغلق بالأبواب وهو جمع محلى باللام وكذا قوله:{وقالت هيت لك} حيث عبر بالأمر المولوي الدال على إعمال المولوية والسيادة مع إشعاره بأنها هيأت له من نفسها ما ليس بينه وبين طلبتها إلا مجرد إقبال من يوسف ولا بين يوسف - على ما هيأت من العلل والشرائط ونظمتها بزعمها وبين الإقبال عليها شيء حائل غير أن الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه ومن العزيزة امرأة العزيز، ولله سبحانه العزة جميعا.
وقوله:{ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه لأنه ربي الذي تولى أمري وأحسن مثواي وجعلني بذلك سعيدا مفلحا ولو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح وخرجت به من تحت ولايته.
وقد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبودية كله كما تقدم وقد أتى أولا بلفظة{الجلالة} ثم بصفة الربوبية ليدل به على أنه لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
واحتمل عدة من المفسرين أن يكون الضمير في قوله:{إنه ربي أحسن مثواي} للشأن، والمراد أن ربي ومولاي وهو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، ولوأجبتك على ما تسألين لكان ذلك خيانة له وما كنت لأخونه.
ونظير الوجه قول بعضهم: إن الضمير عائد إلى العزيز وهو اسم إن وخبرها قوله: ربي، وقوله: أحسن مثواي، خبر بعد خبر.
وفيه أنه لوكان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول وهو في السجن:{ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ }: الآية - 52 من السورة ولم: يقل إني لم أظلمه بالغيب.
على أنه (عليه السلام) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه، وهو حر غير مملوك له وإن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، وقد قال لأحد صاحبيه في السجن:{اذكرني عند ربك}: الآية 42 من السورة، وقال لرسول الملك:{ارجع إلى ربك}: الآية 51 من السورة ولم يعبر عن الملك بلفظ ربي على عادتهم في ذكر الملوك، وقال أيضا لرسول الملك:{ اسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} حيث يأخذ الله سبحانه ربا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربا للرسول.
ويؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية:{لولا أن رءا برهان ربه}.
______________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص101-107.
العشق الملتهب:
لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب، بل أسر قلب امرأة العزيز كذلك وأصبح متيّماً بجماله!.
وامتدّت مخالب العشق إلى أعماق قلبها، وبمرور الزمن كان هذا العشق يتجذّر يوماً بعد يوم ويزداد إشتعالا ... لكنّ يوسف هذا الشابّ الطاهر التقي، لم يفكّر بغير الله، ولم يتعلّق قلبه بغير عشق الله سبحانه.
وهناك اُمور أُخرى زادت من عشق امرأة العزيز ليوسف .. فمن جهة لم تُرزق الولَد، ومن جهة أُخرى إنغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ ... ومن جهة ثالثة عدم إبتلائها بأيّ نوع من البلاء كما هي حال المتنعّمين، وعدم الرقابة الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة .. كلّ ذلك ترك امرأة العزيز ـ الفارغة من الإيمان والتقوى ـ تهوي في وساوسها الشيطانية إلى الحضيض، بحيث أفضت ليوسف أخيراً عمّا في قلبها وراودته عن نفسه.
واتّبعت جميع الأساليب والطرق للوصول إلى هدفها، وسعت لكي تلقي في قلبه أثراً من هواها وترغيبها وطلبها، كما يقول عن ذلك القرآن الكريم: { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا}.
وجملة «راودته» مأخوذة من مادّة «المراودة» وأصلها البحث عن المرتع والمرعى، وما ورد في المثل المعروف «الرائد لا يكذب أهله» إشارة إلى هذا المعنى، كما يطلق «المرود» على وزن (منبر) على قلم الكحل الذي تكحل به العين، ثمّ توسّعوا في هذا اللفظ فاُطلق على كلّ ما يُطلب بالمداراة والملاءمة.
وهذا التعبير يشير إلى أنّ امرأة العزيز طلبت من يوسف أن ينال منها بطريق المسالمة والمساومة ـ كما يصطلح عليه ـ وبدون أي تهديد، وأبدت محبّتها القصوى له بمنتهى اللين.
وأخيراً فكّرت في أن تخلو به وتوفّر له جميع ما يثير غريزته، من ثياب فضفاضة، وعطور عبقة شذيّة، وتجميلات مرغبة، حتّى تستولي على يوسف وتأسره!.
يقول القرآن الكريم: { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}.
«غلّقت» تدلّ على المبالغة وأنّها أحكمت غلق الأبواب، وهذا يعني أنّها سحبت يوسف إلى مكان من القصر المتشكّل من غرف متداخلة .. وكما ورد في بعض الرّوايات كانت سبعة أبواب، فغلقتها عليه جميعاً .. لئلاّ يجد يوسف أي طريق للفرار .. إضافةً إلى ذلك أرادت أن تُشعر يوسف أن لا يقلق لإنتشار الخبر فإنّه سوف لا يفتضح، حيث لا يستطيع أحد أن ينفذ إلى داخل القصر أبداً.
وفي هذه الحال، حين رأى يوسف أنّ هذه الأُمور تجري نحو الإثم، ولم ير طريقاً لخلاصه منها، توجّه يوسف إلى زليخا و {قال معاذ الله} وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امرأة العزيز غير المشروع .. وأعلمها أنّه لن يستسلم لإرادتها. وأفهمها ضمناً ـ كما أفهم كلّ إنسان ـ أنّه في مثل هذه الظروف الصعبة لا سبيل إلى النجاة من وساوس الشيطان وإغراءاته إلاّ بالإلتجاء إلى الله .. الله الذي لا فرق عنده بين السرّ والعلن، بين الخلوة والإجتماع، فهو مطّلع ومهيمن على كلّ شيء، ولا شيء إلاّ وهو طوع أمره وإرادته!
وبهذه الجملة إعترف يوسف بوحدانية الله تعالى من الناحية النظرية، وكذلك من الناحية العملية أيضاً، ثمّ أضاف { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} .. أليس التجاوز ظُلماً وخيانةً واضحة { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.
المراد من كلمة «ربّي»:
هناك أقوال كثيرة بين المفسّرين في المراد من قوله: {إنّه ربّي} فأكثر المفسّرين، كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان وكاتب المنار في تفسير المنار وغيرهما، قالوا: إنّ كلمة «ربّ» هنا إستعملت في معناها الواسع، وقالوا: إنّ المراد من كلمة «ربّ» هنا هو «عزيز مصر» الذي لم يألُ جهداً في إكرام يوسف، وكان يوصي امرأته من البداية بالإهتمام به وقال لها: {أكرمي مثواه}.
ومن يظنّ أنّ هذه الكلمة لم تستعمل بهذا المعنى فهو مخطىء تماماً، لأنّ كلمة «ربّ» في هذه السورة أطلقت عدّة مرّات على غير الله سبحانه. وأحياناً ورد هذا الإستعمال على لسان يوسف نفسه، وأحياناً على لسان غيره!
فمثلا في قصّة تعبير الرؤيا للسجناء، في الآية 42 طلب يوسف من الذي بشّره بالنجاة أن يذكر حاله عند ملك مصر { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}
كما نلاحظ هذا الإستعمال على لسان يوسف ـ أيضاً ـ حين جاءه مبعوث فرعون مصر، إذ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: {فلمّا جاءه الرّسول قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} (الآية 50).
وفي الآية (41) من هذه السورة، وذيل الآية (42) اُطلقت كلمة «ربّ» في لسان القرآن الكريم بمعنى المالك وصاحب النعمة. فعلى هذا تلاحظون أنّ كلمة «ربّ» استعملت 4 مرّات ـ سوى الآية محلّ البحث ـ في غير الله، وإن كانت قد إستعملت في هذه السورة وفي سور أُخرى من القرآن في خصوص ربّ العالمين (الله) مراراً.
فالحاصل أنّ هذه الكلمة من المشترك اللفظي وهي تستعمل في المعنيين.
ولكن رجّح بعض المفسّرين أن تكون كلمة «ربّ» في هذه الآية { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} يُقصد بها الله .. لأنّها جاءت بعد كلمة {معاذ الله} مباشرةً، وكونها إلى جنب لفظ الجلالة صار سبباً لعود الضمير في {إنّه ربّي} عليه فيكون معنى الآية: إنّني ألتجىء إلى الله وأعوذ به فهو إلهي الذي أكرمني وعظم مقامي وكلّ ما عندي من النعم فهو منه.
ولكن مع ملاحظة وصيّة عزيز مصر لامرأته {أكرمي مثواه} وتكرارها في الآية ـ محل البحث ـ يكون المعنى الأوّل أقرب وأقوى.
جاء في التوراة الفصل 39 رقم 8 و9 و10 ما مؤدّاه: «وبعد هذا وقعت المقدّمات، إنّ امرأة سيّده ألقت نظرتها على يوسف وقالت: إضطجع معي، لكنّه أبى وقال لامرأة سيّده: إنّه سيّدي غير عارف بما معي في البيت، وكلّ ما يملك مودع عندي، ولا أجد أكبر منّي في هذا البيت، ولم يزاحمني شيء سواك لأنّك امرأته، فكيف اُقدم على هذا العمل القبيح جدّاً، وأتجرّأ في الذنب على الله». فهذه الجمل في التوراة تؤيّد المعنى الأوّل.
________________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي ،ج6،ص263-266.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|