أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-7-2020
4775
التاريخ: 10-7-2020
14964
التاريخ: 8-7-2020
11224
التاريخ: 12-7-2020
3658
|
قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [يوسف: 3- 6]
ابتدأ سبحانه بقصة يوسف (عليه السلام) فقال: { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} يعقوب (عليهم السلام) وهو إسرائيل الله ومعناه: عبد الله الخالص ابن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله وفي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم { يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} أي: رأيت في منامي قال: ابن عباس إن يوسف (عليه السلام) رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجدا له قال: فالشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر وقال: السدي الشمس أبوه والقمر خالته وذلك أن أمه راحيل قد ماتت وقال: ابن عباس الشمس أمه والقمر أبوه وقال: وهب كان يوسف رأى وهوابن سبع سنين أن أحد عشر عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال له إياك أن تذكر هذا لإخوتك ثم رأى وهوابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدت لها فقصها على أبيه فقال: له { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} الآية وقيل: أنه كان بين رؤياه وبين مصير أبيه وإخوته إلى مصر أربعون سنة عن ابن عباس وأكثر المفسرين وقيل: ثمانون سنة عن الحسن.
ولما طال الكلام كرر رؤيتهم وأعاده للتأكيد وقيل: أراد بالرؤيا الأولى رؤية الأعيان والأشخاص وبالرؤية الثانية رؤية سجودهم واختلف في معنى هذا السجود فقيل: إنه السجود المعروف على الحقيقة لتكرمته لا لعبادته وقيل: معناه الخضوع له عن الجبائي كما قال الشاعر :
(ترى الأكم فيه سجدا للحوافر)(2) وهذا ترك الظاهر ويقال: إن إخوته لما بلغهم رؤياه قالوا : ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه { قال } يعقوب { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك } أي: لا تخبرهم بذلك { فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} أي: فيحسدوك أويقابلوك بما فيه هلاكك وذلك أن رؤيا الأنبياء وحي وعلم يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها ويخافون علو يوسف عليهم فيحسدونه ويبغونه الغوائل { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي: ظاهر العداوة فيلقي بينهم العداوة ويحملهم على إنزال المكروه بك.
{وكذلك} أي: كما أراك هذه الرؤيا تكرمة لك وبين أن إخوتك يخضعون لك أويسجدون لك { يجتبيك ربك} أي: يصطفيك ربك ويختارك للنبوة عن الحسن وقيل: الحسن: الخلق والخلق { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} قيل: معناه ويعلمك من تعبير الرؤيا لأن فيه أحاديث الناس عن رؤياهم وسماه تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في المنام عن قتادة وقال ابن زيد: كان أعبر الناس للرؤيا وقيل: معناه ويعلمك عواقب الأمور بالنبوة والوحي إليك فتعلم الأشياء قبل كونها معجزة لك لأنه أضاف التعليم إلى الله وذلك لا يكون إلا بالوحي عن أبي مسلم وقيل: تأويل أحاديث الأنبياء والأمم يعني كتب الله ودلائله على توحيده والمشروع من شرائعه وأمور دينه عن الحسن والجبائي والتأويل في الأصل هو المنتهى الذي يؤول إليه المعنى وتأويل الحديث فقهه الذي هو حكمه لأنه إظهار ما يؤول إليه أمره مما يعتمد عليه وفائدته { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبوة لأنها منتهى نعيم الدنيا وقيل :إتمام النعمة هو أن يحكم بدوامها على تخليصها من شائب بها فهذه النعمة التامة وخلوصها مما ينقصها ولا يطلب ذلك إلا من الله تعالى لأنه لا يقدر عليها سواه وقيل: معناه ويتم نعمته عليك بأن يحوج إخوتك إليك حتى تنعم عليهم بعد إساءتهم إليك.
{وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي: وعلى إخوتك بأن يثبتهم على الإسلام ويشرفهم بمكانك ويجعل فيهم النبوة وقيل: يتم نعمته عليهم بإنقاذهم من المحن على يديك { كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي: كما أتم النعمة على إبراهيم بالخلة والنبوة والنجاة من النار وعلى إسحاق بأن فداه عن الذبح بذبح عظيم عن عكرمة وقال: إنه الذبيح وقيل بإخراج يعقوب وأولاده من صلبه عن أكثر المفسرين قالوا: وليس هو الذبيح وإنما الذبيح إسماعيل { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بمن يصلح للرسالة { حَكِيمٌ} في اختيار الرسل وقيل: عليم بأحوال خلقه حكيم في قضاياه .
_____________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج5،ص359-361.
{ إِذْ قالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ } . يوسف هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، ويسمى يعقوب إسرائيل أيضا ، وكان معناه آنذاك عبد اللَّه ، أما اليوم فإن إسرائيل عبد الاستعمار وقاعدته .
وفي ذات يوم رأى يوسف رؤيا قصها على أبيه يعقوب ، وهي انه رأى في منامه 11 كوكبا والشمس والقمر سجدا له ، فعلم أبوه ان هذه رؤيا صادقة ، واستبشر بمستقبل ولده الذي كان يعزه ويؤثره . وفي جملة من التفاسير ان عمر يوسف كان إذ ذاك سبع سنين . ولا نعرف مصدرا صحيحا لهذا التحديد ، ولكنه كان غلاما يافعا بهي الطلعة ، جميل الهيئة ، يضرب المثل بحسنه وجماله ، كما يظهر من مجرى القصة وحوادثها ، أما الكواكب فهم إخوته في التأويل ، والشمس والقمر أبواه ، ويشعر بذلك قوله : « هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا » ويأتي التفصيل .
{ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } . خاف عليه أبوه من إخوته ان هم سمعوا منه ما سمع ، وفهموا ما فهم ، لأنه يعرف غيرتهم مما خصه به من الحب والاعزاز ، فنصحه أن لا يحدثهم برؤياه خشية أن يثير حقدهم وكراهيتهم ، وان يغريهم الشيطان بالكيد له ، ونصب الحبائل لهلاكه . وسنتكلم عن الأحلام فيما يأتي من المناسبات .
{ وكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحادِيثِ } . يجتبيك أي يصطفيك على غيرك ، ويفيض عليك بأنواع الكرامات ، وقيل : المراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤيا ، لأن يوسف قد بلغ الغاية في تفسيرها ومعرفة مآلها . . ولكن ظاهر اللفظ أعم من ذلك ، والأنسب بنبوة يوسف أن يكون تأويل الأحاديث كناية عن معرفة الحقائق ، وان اللَّه سبحانه سيعلمه ما لم يكن يعلم .
{ ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وإِسْحاقَ } . ان نعم اللَّه سبحانه لا تعد ولا تحصى ، وأكملها إطلاقا النبوة والرسالة ، وقد أنعم اللَّه بها على إبراهيم جد يعقوب ، وعلى اسحق جد يوسف ، وعلى يعقوب نفسه ، وسينعم بها على يوسف بعد هذه الرؤيا ، وعلى أكثر من واحد من أحفاد يعقوب { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . عليم بمن يجتبيه ويصطفيه للنبوة والرسالة ، حكيم في هذا الاصطفاء وفي جميع قضاياه
________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، ج4،صفحه288-289.
تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف وقصها على أبيه يعقوب (عليهما السلام) فعبرها أبوه له ونهاه أن يقصها على إخوته، وهذه الرؤيا بشرى بشر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادة روحية لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية والقرب من ربه، وهي بمنزلة المدخل في قصته (عليه السلام).
قوله تعالى:{إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} لم يذكر يعقوب (عليه السلام) باسمه بل كنى عنه بالأب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة والرأفة والشفقة كما يدل عليه ما في الآية التالية:{قال يا بني لا تقصص} إلخ.
وقوله:{رأيت} و{رأيتهم} من الرؤيا وهي ما يشاهده النائم في نومته أوالذي خمدت حواسه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه، ويشهد به قوله في الآية التالية:{لا تقصص رؤياك على إخوتك} وقوله في آخر القصة:{يا أبت هذا تأويل رؤياي}.
وتكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله{رأيت} وقوله {لي ساجدين} ومن فائدة التكرير الدلالة على أنه إنما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى.
على أن ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة أشخاص الكواكب والشمس والقمر مشاهدة أمر صوري ومشاهدة سجدتهم وخضوعهم وتعظيمهم له مشاهدة أمر معنوي.
وقد عبر عن الكواكب والنيرين في قوله:{رأيتهم لي ساجدين} بما يختص بأولى العقل - ضمير الجمع المذكر وجمع المذكر السالم - للدلالة على أن سجدتهم كانت عن علم وإرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر.
وقد افتتح سبحانه قصته (عليه السلام) بذكر هذه الرؤيا التي أراها له وهي بشرى له تمثل له ما سيناله من الولاية الإلهية ويخص به من اجتباء الله إياه وتعليمه تأويل الأحاديث وإتمام نعمته عليه، ومن هناك تبتدىء التربية الإلهية له لأن الذي بشر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، ولا ينتقل من شأن إلى شأن، ولا يواجه نائبة، ولا يلقى مصيبة، إلا وهو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطن نفسه على الصبر عليها.
وهذه هي الحكمة في أن الله سبحانه يخص أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب ومنزلة الزلفى كما في قوله:{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - إلى أن قال - لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}: يونس: 64.
قوله تعالى:{قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} ذكر في المفردات،: أن الكيد ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموما وممدوحا وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وكذلك الاستدراج والمكر.
انتهى. وقد ذكروا أن الكيد يتعدى بنفسه وباللام.
والآية تدل على أن يعقوب لما سمع ما قصة عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدل عليه أن يوسف (عليه السلام) سيتولى الله أمره ويرفع قدره، يسنده على أريكة الملك وعرش العزة، ويخصه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فأشفق على يوسف (عليه السلام) وخاف من إخوته عليه وهم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا - وهي ظاهرة الانطباق على يعقوب (عليه السلام) وزوجه وأحد عشر من ولده غير يوسف، وظاهرة الدلالة على أنهم جميعا سيخضعون ويسجدون ليوسف - حملهم الكبر والأنفة أن يحسدوه فيكيدوا له كيدا ليحولوا بينه وبين ما تبشره به رؤياه.
ولذلك خاطب يوسف (عليه السلام) خطاب الإشفاق كما يدل عليه قوله:{يا بني} بلفظ التصغير، ونهاه عن اقتصاص رؤياه على إخوته قبل أن يعبرها له وينبئه بما تدل عليه رؤياه من الكرامة الإلهية المقضية في حقه، ولم يقدم النهي على البشارة إلا لفرط حبه له وشدة اهتمامه به واعتنائه بشأنه، وما كان يتفرس من إخوته أنهم يحسدونه وأنهم امتلئوا منه بغضا وحنقا.
والدليل على بلوغ حسدهم وظهور حنقهم وبغضهم قوله:{ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} فلم يقل: إني أخاف أن يكيدوا، أولا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم وأكد تحقق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال:{فيكيدوا لك كيدا} ثم أكد ذلك بقوله ثانيا في مقام التعليل:{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إن لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيد ما عندهم من السبب الذي هو الحسد ويثيره ويهيجه ليؤثر أثره السيىء وهو الشيطان الذي هو عدو للإنسان مبين لا خلة بينه وبينه أبدا يحمل الإنسان بوسوسته وتسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة والسعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه وآخرته فيفسد ما بين الوالد وولده وينزع بين الشقيق وشقيقه ويفرق بين الصديق وصديقه ليضلهم عن الصراط.
فكأن المعنى: قال يعقوب ليوسف (عليهما السلام): يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنهم يحسدونك ويغتاظون من أمرك فيكيدونك عندئذ بنزغ وإغراء من الشيطان وقد تمكن من قلوبهم ولا يدعهم يعرضوا عن كيدك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين.
قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية وهي الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، ومنه جباية الخراج أي جمعه قال تعالى:{ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}: القصص: 57 ففي معنى الاجتباء جمع أجزاء الشيء وحفظها من التفرق والتشتت، وفيه سلوك وحركة من الجابي نحو المجبي فاجتباه الله سبحانه عبدا من عباده هوأن يقصده برحمته ويخصه بمزيد كرامته فيجمع شمله ويحفظه من التفرق في السبل المتفرقة الشيطانية المفرقة للإنسان ويركبه صراطه المستقيم وهو أن يتولى أمره ويخصه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (عليه السلام) إذ قال:{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}: الآية 24 من السورة.
وقوله:{ويعلمك من تأويل الأحاديث} التأويل هو ما ينتهي إليه الرؤيا من الأمر الذي تتعقبه، وهو الحقيقة التي تتمثل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه ومشاعره كما تمثل سجدة أبوي يوسف وإخوته الأحد عشر في صورة أحد عشر كوكبا والشمس والقمر وخرورها أمامه ساجدة له، وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى.
{ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} الآية: آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب.
والأحاديث جمع الحديث وربما أريد به الرؤى لأنها من حديث النفس فإن نفس الإنسان تصور له الأمور في المنام كما يصور المحدث لسماعه الأمور في اليقظة فالرؤيا حديث مثله ومنه يظهر ما في قول بعضهم: إن الرؤى سميت أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها وهو كما ترى.
وكذا ما قيل: إنها سميت أحاديث لأنها من حديث الملك إن كانت صادقة ومن حديث الشيطان إن كانت كاذبة.
انتهى، وفيه أنها ربما لم تستند إلى ملك ولا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ ونحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء ونزول الثلج ونحوهما.
ورده بعضهم بأنه يخالف الواقع فإن رؤيا يوسف ليس فيها حديث وكذا رؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر انتهى. وقد اشتبه عليه معنى الحديث وظن أن المراد بقولهم: إن الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان، الحديث على نحو التكليم باللفظ، وليس كذلك بل المراد أن المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أن تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الأصل المراد وهذا كما يقال لمن يقصد أمرا ويعزم على فعل أو ترك أنه حدثه نفسه أن يفعل كذا أو يترك كذا أي أنه يصوره فأراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بأنه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا، وبالجملة معنى كون الرؤيا من الأحاديث أنها من قبيل تصور الأمور للنائم كما يتصور الأنباء والقصص بالتحديث اللفظي فهي حديث إما ملكي أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق أنها من أحاديث النفس بالمباشرة، وسيجيء استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى. هذا.
لكن الظاهر المتحصل من قصته (عليه السلام) المسرودة في هذه السورة أن الأحاديث التي علمه الله تعالى تأويلها أعم من أحاديث الرؤيا، وإنما هي الأحاديث أعني الحوادث والوقائع التي تتصور للإنسان أعم من أن تتصور له في يقظة أو منام فإن بين الحوادث والأصول التي تنشأ هي منها والغايات التي تنتهي إليها اتصالا لا يسع إنكاره، وبذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن أن يهتدي عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الأحاديث والحقائق التي تنتهي هي إليها.
ويؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف (عليه السلام)، وتأويل يوسف لرؤيا نفسه ورؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا عزيز مصر وفيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله:{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}: الآية 37 من السورة، وكذا قوله:{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}: الآية 15 من السورة وسيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى.
وقوله:{ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} قال الراغب في المفردات،: النعمة بالكسر فالسكون الحالة الحسنة، وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة، والنعمة بالفتح فالسكون التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة، والنعمة للجنس تقال للقليل والكثير.
قال: والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه، قال تعالى:{أنعمت عليهم}{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} والنعماء بإزاء الضراء.
قال: والنعيم النعمة الكثيرة قال تعالى:{في جنات النعيم} وقال تعالى:{جنات النعيم}، وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش، يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي لين عيش وخصب قال تعالى:{فأكرمه ونعمه} وطعام ناعم وجارية ناعمة انتهى.
ففي الكلمة - كما ترى شيء - من معنى اللين والطيب والملاءمة فكأنها مأخوذة من النعومة وهي الأصل في معناها، وقد اختص استعمالها بالإنسان لأن له عقلا يدرك به النافع من الضار فيستطيب النافع ويستلئمه ويتنعم به بخلاف غيره الذي لا يميز ما ينفعه مما يضره، كما أن المال والأولاد وغيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد ونقمة لآخر ونعمة للإنسان في حال ونقمة في أخرى.
ولذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الإلهية كالمال والجاه والأزواج والأولاد وغير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلا إذا وقعت في طريق السعادة ومنصبغة بصبغة الولاية الإلهية تقرب الإنسان إلى الله زلفى، وأما إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فإنما هي نقمة وليست بنعمة، والآيات في ذلك كثيرة.
نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه وفضل ورحمة لأنه خير يفيض الخير ولا يريد في موهبته شرا ولا سوء، وهو رءوف رحيم غفور ودود، قال تعالى:{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}: إبراهيم: 34 والخطاب في الآية لعامة الناس، وقال تعالى:{ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}: المزمل: 11، وقال تعالى:{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}: الزمر: 49 فهذه وأمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}: إبراهيم: 7.
وبالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب التي يتسبب بها في استبقاء الحياة والتوصل إلى السعادة نعما إلهية بالنسبة إليه، وإن كان في ولاية الشيطان تبدلت الجميع نقما وهي جميعا من الله سبحانه نعم وإن كانت مكفورا بها.
ثم إن وسائل الحياة إن كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن أوتي مالا وسلب الأمن والسلام فلا يتمكن من أن يتمتع به كما يريده ومتى وأينما يريده، وإذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة.
فقوله:{ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك وفي حق آل يعقوب وهم يعقوب وزوجه وسائر بنيه كما كان رآه في رؤياه.
وقد جعل يوسف (عليه السلام) أصلا وآل يعقوب معطوفا عليه إذ قال:{عليك وعلى آل يعقوب} كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له ورأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر وأحد عشر كوكبا سجدا له.
وقد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف (عليه السلام) أنه آتاه الحكم والنبوة والملك والعزة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين وعلمه من تأويل الأحاديث، ومما أتم به النعمة على آل يعقوب أنه أقر عين يعقوب بابنه يوسف (عليهما السلام)، وجاء به وبأهله جميعا من البدو ورزقهم الحضارة بنزول مصر.
وقوله:{كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق} أي نظير ما أتم النعمة من قبل على إبراهيم وإسحاق وهما أبواك فإنه آتاهما خير الدنيا والآخرة فقوله:{من قبل} متعلق بقوله:{أتمها} وربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله{أبويك} والتقدير كما أتمها على أبويك الكائنين من قبل.
و{إبراهيم وإسحاق} بدل أو عطف بيان لقوله{أبويك} وفائدة هذا السياق الإشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمها الله على إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف (عليه السلام) وسائر آل يعقوب.
ومعنى الآية: وكما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بإنقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، ويعلمك من تأويل الأحاديث وهو ما يئول إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة ويتم نعمته هذه وهي الولاية الإلهية بالنزول في مصر واجتماع الأهل والملك والعزة عليك وعلى أبويك وإخوتك وإنما يفعل ربك بك ذلك لأنه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجري عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك وما يستحقونه من غضبه.
والتدبر في الآية الكريمة يعطي: أولا: أن يعقوب أيضا كان من المخلصين وقد علمه الله من تأويل الأحاديث فإنه (عليه السلام) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف وما كان ليخبر عن خرص وتخمين دون أن يعلمه الله ذلك.
على أن الله بعد ما حكى عنه لبنيه{يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} إلخ قال في حقه:{وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.(يوسف:68)
على أنه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه أنه قال:{ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} فأخبر أنه من تأويل الحديث وقد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله:{ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} إلخ فأخبر أنه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب نقي الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا ولذلك علمه ربه فيما علمه تأويل الأحاديث، والاشتراك في العلة - كما ترى - يعطي أن آباءه الكرام إبراهيم وإسحاق ويعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الأحاديث.
ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر:{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}: ص: 46 ويعطي أن العلم بتأويل الأحاديث من فروع الإخلاص لله سبحانه.
وثانيا: أن جميع ما أخبر به يعقوب (عليه السلام) منطبق على متن ما رآه يوسف (عليه السلام) من الرؤيا وهو سجدة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا له وذلك أن سجدتهم له وفيهم يعقوب الذي هو من المخلصين ولا يسجد إلا لله وحده تكشف عن أنهم إنما سجدوا أمام يوسف لله ولم يأخذوا يوسف إلا قبلة كالكعبة التي يسجد إليها ولا يقصد بذلك إلا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف ولا له إلا الله تعالى، وهذا هو كون العبد مخلصا - بفتح اللام - لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شيء كما يومىء إليه يوسف بقوله:{ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء} وقد تقدم آنفا أن العلم بتأويل الأحاديث متفرع على الإخلاص.
ومن هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه:{وكذلك - أي كما رأيت نفسك مسجودا لها - يجتبيك ربك - أي يخلصك لنفسه - ويعلمك من تأويل الأحاديث}.
وكذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا وهي أجرام سماوية رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدل على أنهم سترتفع مكانتهم ويعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانية السعيدة، وهي الحياة الدينية العامرة للدنيا والآخرة ويمتازون في ذلك من غيرهم.
ومن هنا مضى يعقوب في حديثه وقال:{ويتم نعمته عليك - أي وحدك متميزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك - وعلى آل يعقوب - أي علي وعلى زوجي وولدي جميعا كما رأيتنا مجمتمعين متقاربي الصور - كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم}.
وثالثا: أن المراد بإتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة وضم الدنيا إلى الآخرة، ولا تنافي بين نسبة إتمام النعمة إلى الجميع وبين اختصاص الاجتباء وتعليم تأويل الأحاديث بيعقوب ويوسف (عليهما السلام) من بينهم لأن النعمة وهي الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب، وحيث نسبت إلى الجميع يأخذ كل منهم نصيبه منها.
على أن من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر كما في قوله:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: الجاثية: 16 وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة مختص ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيبات.
ورابعا: أن يوسف كان هو الوسيلة في إتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب ولذلك جعله يعقوب أصلا في الحديث وعطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله وأفرده بالذكر حيث قال:{ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب}.
ولذلك أيضا نسب هذه العناية والرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة:{ربك} ولم يقل:{يجتبيك الله} ولا{أن الله عليم حكيم فهذا كله يشهد بأنه هو الأصل في إتمام النعمة على آل يعقوب، وأما أبواه إبراهيم وإسحاق فإن التعبير بما يشعر بالتنظير:{ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.
_____________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص66-73.
بارقة الأمل وبداية المشاكل:
بدأ القرآن بذكر قصّة يوسف من رؤياه العجيبة ذات المعنى الكبير، لأنّ هذه الرؤيا في الواقع تعدّ أوّل فصل من فصول حياة يوسف المتلاطمة.
جاء يوسف في أحد الأيّام صباحاً الى أبيه وهوفي غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه، وليكشف ستاراً عن حادثة جديدة لم تكن ذات أهمية في الظاهر، ولكنّها كانت إِرهاصاً لبداية فصل جديد من حياته { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
يقول ابن عباس: (إِنّ يوسف رأى رؤياه ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر) (ليلة تعيين الأقدار والآجال).(2)
ولكن كم كان ليوسف من العمر حين رأى رؤياه؟!
هناك من يقول: كان ابن تسع سنوات، ومن يقول: ابن سبع، ومنهم من يقول: ابن اثنتي عشرة سنة، والقدر المسلم به أنّه كان صبيّاً.(3)
وممّا يستلفت الإِنتباه الى جملة «رأيت» جاءت مكررة في الآية للتأكيد والقاطِعية، وهي إِشارة الى أن يوسف(عليه السلام) يريد أن يقول: إِذا كان كثير من الناس ينسون رؤياهم ويتحدثون عنها بالشك والتردّد، فلست كذلك. بل أقطع بأنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين لي دون شك.
واللطيفة الأُخرى هي أنّ ضمير «هم» الذي يأتي لجمع المذكر السالم العاقل، قد استعمل للكواكب والشّمس والقمر، ومثل هذا الإستعمال «ساجدين» أيضاً إشارة إلى أنّ سجود الكواكب لم يكن من قبيل الصدفة بل كان أمراً مدروساً ومحسوباً كما يسجد الرجال العقلاء!
وواضح ـ طبعاً ـ أنّ السجود المقصود منه هنا هوالخضوع والتواضع، وإِلاَّ فإنّ السجود المعروف عند الناس لا مفهوم له بالنسبة للكواكب والشمس والقمر.
إِن هذه الرؤيا المثيرة ذات المغزى تركت يعقوب النّبي غارقاً في التفكير ... فالقمر والشمس والكواكب، وأي الكواكب! إِنّها أحد عشر يسجدون جميعاً لولدي يوسف، كم هي رؤيا ذات مغزى! لا شك أنّ الشمس والقمر «أنا وأُمه أوخالته» والكواكب الأحد عشر إِخوته، هكذا يرتفع قدر ولدي حتى تسجد له الشمس والقمر وكواكب السّماء.
إِن ولدي «يوسف» عزيز عند الله إِذا رأى هذه الرؤيا المثيرة!
لذلك توجه الى يوسف بلهجة يشوبها الإِضطراب والخوف المقرون «بالفَرحة» و{ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} وأنا أعرف { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وهو منتظر الفرصة ليوسوس لهم ويثير نار الفتنة والحسد وليجعل الإِخوة يقتتلون فيما بينهم.
الطريف هنا أنّ يعقوب لم يقل «أخاف من إِخوتك أن يقصدوا إِليك بسوء» بل أكّد ذلك على أنّه أمر قطعي، وخصوصاً بتكرار «الكيد» لأنّه كان يعرف نوازع أبنائه وحساسيّاتهم بالنسبة لأخيهم يوسف، وربّما كان إِخوته يعرفون تأويل الرؤيا، ثمّ إِنّ هذه الرؤيا لم تكن بشكل يعسر تعبيرها.
ومن جهة أُخرى لا يُتصور أن تكون هذه الرؤيا شبيهة برؤيا الأطفال، إِذ يمكن احتمال رؤية الأطفال للشمس والقمر والكواكب في منامهم، ولكن أن تكون الشمس والقمر والكواكب موجودات عاقلة وتنحني بالسجود لهم، فهذه ليست رؤيا أطفال ... ومن هذا المنطلق خشي يعقوب على ولده يوسف نائرة الحسد من إِخوته عليه.
ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب، بل تدل على مقام النبوّة التي سيصل إِليها يوسف في المستقبل.
ولذلك فقد أضاف يعقوب ـ لولده يوسف ـ قائلا: { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ(4) الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}.
أجل فإنّ الله على كل شيء قدير و{ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
_________________
1- تفسير الامثل ، مكارم الشيرازي ،ج6،ص221-223.
2-تفسير مجمع البيان ،ذيل الآية مورد البجث ،. بحار الانوار ،ج12،ص218.
3- بحار الانوار ،ج12،ص217و219.
4- «التأويل» في الأصل إِرجاع الشيء، وكل عمل أوكل حديث يصل الى الهدف النهائي يطلق عليه «تأويل» وتحقق الرؤيا في الخارج مصداق للتأويل ... و«الأحاديث» جمع الحديث، وهونقل ما يجري، والحديث هنا كناية عن الرؤيا لأن الإِنسان ينقلها للمعبرين.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|