أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-6-2019
4228
التاريخ: 30-4-2019
4874
التاريخ: 6-5-2019
41364
التاريخ: 1-6-2019
4085
|
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف : 40 - 43] .
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 40 - 41] .
عاد الكلام إلى الوعيد ، فقال سبحانه : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها } أي : تكبروا عن قبولها { لا تفتح لهم أبواب السماء } أي : لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم . كما تفتح لأرواح المؤمنين ، عن ابن عباس ، والسدي . وقيل : لا تفتح لأعمالهم ولدعائهم ، عن الحسن ، ومجاهد ، وعن ابن عباس في رواية أخرى .
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، أنه قال : أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء ، فتفتح لهم أبوابها . وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه ، حتى إذا بلغ إلى السماء ، نادى مناد : إهبطوا به إلى سجين وهو واد بحضرموت ، يقال له برهوت وقيل : لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة ، لأن الجنة في السماء ، عن الجبائي .
{ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } أي : حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة . والمعنى : لا يدخلون الجنة أبدا . وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال : هو زوج الناقة ، كأنه استجهل من سأله عن الجمل ! وهذا كما تقول العرب في التبعيد للشيء لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيض القار ، وحتى يؤوب القارظان (2) ، قال الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ، وصار القار كاللبن الحليب
وقال آخر :
فرجي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزي آبا
وتعليق الحكم بما لا يتوهم وجوده ، ولا يتصور حصوله ، تأكيد له ، وتحقيق لليأس من وجوده { وكذلك نجزي المجرمين } أي : ومثل ما جزينا هؤلاء نجزي سائر المجرمين المكذبين بآيات الله تعالى { لهم } أي : لهؤلاء { من جهنم مهاد } أي : فراش ، ومضجع { ومن فوقهم غواش } مثل قوله : { لهم من فوقهم ظلل من النار } . وقيل : المراد به لحف ، والمعنى إن النار محيطة بهم من أعلاهم وأسفلهم {وكذلك نجزي الظالمين} قال ابن عباس : يريد الذين أشركوا به ، واتخذوا من دونه
إلها .
-{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف : 42 - 43] .
لما تقدم وعيد الكفار بالخلود في النيران ، أتبع ذلك بالوعد للمؤمنين بالخلود في الجنان ، فقال : {والذين آمنوا} أي : صدقوا بآيات الله ، واعترفوا بها ، ولم يستكبروا عنها {وعملوا الصالحات} أي : ما أوجبه الله عليهم ، أو ندبهم إليه {لا نكلف نفسا إلا وسعها) التكليف من الله سبحانه هو إرادة ما فيه المشقة ، من الكلفة التي هي المشقة ، أي : لا نلزم نفسا إلا قدر طاقتها وما دونها ، لأن الوسع دون الطاقة . ووجه اتصاله بما قبله بين إذا جعلته خبرا ، لأن معناه : لا نكلف أحدا منهم الطاعات ، إلا ما يقدر عليه . وإذا كان اعتراضا بين الكلامين ، فكأنه لما وعد المؤمنين بالجنان ، والكافرين بالنيران ، بين أنه لا يكلف أحدا منهم إلا ما في وسعه ، وإن من استحق النار فمن نفسه أتي .
{أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} مقيمون {ونزعنا ما في صدورهم من غل} أي : وأخرجنا ما في قلوبهم من حقد ، وحسد ، وعداوة ، في الجنة ، حتى لا يحسد بعضهم بعضا ، وإن رآه أرفع درجة منه {تجري من تحتهم الأنهار} قيل : إنه في موضع الحال أي : يجري ماء الأنهار من تحت أبنيتهم وأشجارهم في حال نزعنا الغل من صدورهم . وقيل : هو استئناف .
{وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا} أي : هدانا للعمل الذي استوجبنا به هذا الثواب بأن دلنا عليه ، وعرضنا له بتكليفه إيانا . وقيل : معناه هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا ، وقيل : لنزع الغل من صدورنا . وقيل : هدانا لمجاوزة الصراط ، ودخول الجنة {وما كنا لنهتدي} لما يصيرنا إلى هذا النعيم المقيم ، والثواب العظيم .
{لولا أن هدانا الله} هذا اعتراف من أهل الجنة بنعمة الله سبحانه إليهم ، ومنته عليهم في دخول الجنة ، على سبيل الشكر والتلذذ بذلك ، لأنه لا تكليف هناك {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} وهذا إقرار منهم بأن ما جاءت به الرسل إليهم من جهة الله تعالى ، فهو حق لا شبهة في صحته {ونودوا} أي : ويناديهم مناد من جهة الله تعالى . ويجوز أن يكون ذلك خطابا منه سبحانه لهم {أن تلكم الجنة} أي : هذه الجنة . وإنما قال {تلكم} لأنهم وعدوا بها في الدنيا ، فكأنه قيل لهم : هذه تلكم التي وعدتم بها . ويجوز أن يكونوا عاينوها ، فيقال لهم قبل أن يدخلوها ، إشارة إليها تلكم الجنة .
{أورثتموها} أي : أعطيتموها إرثا ، وصارت إليكم كما يصير الميراث لأهله .
وقيل : معناه جعلها الله سبحانه بدلا لكم ، كما كان أعده للكفار لو آمنوا . وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : (ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة فلذلك قوله أورثتموها) {بما كنتم تعملون} أي : توحدون الله ، وتقومون بفرائضه .
________________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 254 - 257 .
2 . القار : القير . القارظان : رجلان من قبيلة عنزة ، خرجا يجنيان القرظ ( وهو ورق السلم يدبغ به ويسمى بالفارسية مازو ) فلم يرجعا ، ولا عرف لهما خبر ، فضرب بهما المثل لكل غائب لا يرجى إيابه .
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ} . آيات اللَّه تشمل الدلائل على وجوده ، ونبوة أنبيائه ، وكل ما جاء على ألسنتهم نقلا عن اللَّه تعالى ، والتكذيب بآيات اللَّه معروف ، وعطف الاستكبار عنها من باب عطف التفسير ، وقوله : {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ} كناية عن رفض أعمالهم ، وانها لا تقبل منهم كما تقبل أعمال الصالحين ، قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر - 10] .
{ولا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} . هذا تعليق على محال ، تماما كقوله تعالى : {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} [الزخرف - 81] . ووجود ما علَّق على المحال محال . . والعرب تضرب المثل لما لا يكون بقولهم :
لا أفعله ، حتى يشيب الغراب ، وحتى يدخل الجمل في سم الخياط {وكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} أي نجازيهم بالحرمان من الجنة .
ومع هذا الحرمان {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ومِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . المهاد الفراش ، والغواشي الأغطية ، والمعنى ان جهنم محيطة بالمجرمين من جميع الجهات .
{والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} . لما توعد العاصين بعذاب جهنم وعد المطيعين بنعيم الجنة ، يتمتعون به إلى ما لا نهاية ، وأشار بقوله : {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} إلى أن الجنة على عظمتها يمكن الوصول إليها بغير مشقة وحرج ، وان من دخل جهنم انما دخلها لأنه سلك طريقها بإرادته واختياره .
{ونَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهارُ} . ولماذا الغل ؟
وقد كان في الدنيا غل وحسد ورياء وكذب ونفاق ، لأن فيها فقيرا وغنيا ، وظالما ومظلوما ، وخاملا وشهيرا ، ولا فقر في الجنة ولا ظلم ولا شهرة بعد أن وضع اللَّه كلا في درجته التي يستحقها ، ومرتبته التي عمل لها . . ان كل واحد من أهل الجنة يشعر بالغبطة والسعادة لخلاصه من نار جهنم ، ولا ينظر إلى من فوقه إطلاقا : {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} .
{وقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} أي أرشدنا إلى طريق هذا النعيم {وما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ} هذا شكر للَّه على نعمه {لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} أخبرهم الرسل بالجنة ، فآمنوا بالغيب ، ولما شاهدوها عيانا فرحوا ، حيث أصبح الغيب مشهودا {ونُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وكلمة الإرث بسبب العمل توحي بأن الجنة حق لازم للعاملين ، تماما كالميراث لأهله ، وبكلمة ان الآية تدل على ان الثواب حق لا تفضل .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 328-329 .
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ} [الأعراف : 40] إلى آخر الآية .
السم هو الثقب وجمعه السموم ، والخياط والمخيط الإبرة .
والذي نفاه الله تعالى من تفتيح أبواب السماء مطلق في نفسه يشمل الفتح لولوج أدعيتهم وصعود أعمالهم ودخول أرواحهم غير أن تعقيبه بقوله : {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف : 40] إلخ ، كالقرينة على أن المراد نفي أن يفتح بابها لدخولهم الجنة فإن ظاهر كلامه سبحانه أن الجنة في السماء كما هو في قوله : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات : 22] .
وقوله : {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف : 40] من التعليق بالمحال وإنما يعلق الأمر بالمحال كناية عن عدم تحققه وإياسا من وجوده كما يقال : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض الفأر ، وقد قال تعالى في موضع آخر في هذا المعنى : {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167] ، والآية في معنى تعليل مضمون الآية السابقة ، والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف : 41] إلخ .
جهنم اسم من أسماء نار الآخرة التي بها التعذيب ، وقد قيل : إنه مأخوذ من قولهم (بئر جهنام) أي بعيدة القعر وقيل : فارسي معرب ، والمهاد الوطاء الذي يفترش ، ومنه مهد الصبي والغواشي جمع غاشية وهي ما يغشى الشيء ويستره ومنه غاشية السرج . وقد أفيد بقوله : {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف : 41] أنهم محاطون بالعذاب من تحتهم ومن فوقهم ، والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأعراف : 42] إلخ .
الآية وما يتلوها لتتميم بيان حال الطائفتين الكفار والمؤمنين ، ولتكون كالتوطئة لقوله الآتي : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف : 44] إلخ .
وقوله : {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأعراف : 42] مسوق للتخفيف وتقوية الرجاء في قلوب المؤمنين فإن تقييد الإيمان بعمل الصالحات - والصالحات جمع محلى باللام وهو يفيد الاستغراق - يفيد بظاهره لزوم العمل بجميع الصالحات حتى لا يشذ عنها شاذ ، وما أقل من وفق لذلك من طبقة أهل الإيمان ويسد ذلك باب الرجاء على أكثر المؤمنين فذكر الله سبحانه أن التكليف على قدر الوسع فمن عمل من الصالحات ما وسعه أن يعمله من غير أن يشق على نفسه ويتحمل ما لا طاقة له به بعد الإيمان بالله فهو من أهل هذه الآية ، ومن أصحاب الجنة هم فيها خالدون . قوله تعالى : {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف : 43] الغل هو الحقد وضغن القلوب وعداوتها ، وفي مادتها معنى التوسط باللطف والحيلة ومنه الغلالة وهي الثوب المتوسط بين الدثار والشعار ، وغل الصدور من أعظم ما ينغص عيش الإنسان ، وما من إنسان يعاشر إنسانا ويأتلف به إلا وائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه ويريده فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جأش صدره بالغل وراحت الألفة وتنغصت العيشة فإذا ذهب الله سبحانه بغل الصدور لم يسوء الإنسان ما يشاهده من أليفه على الإطلاق وهي اللذة الكبرى وفي قوله : {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف : 43] إشارة إلى أنهم ساكنون في قصورها العالية .
قوله تعالى : {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا - الى قوله - بالحق} [الأعراف : 43] في نسبة التحميد إليهم دلالة على أن الله سبحانه يخلصهم لنفسه فلا يوجد عندهم اعتقاد باطل ولا عمل سيء كما قال تعالى : {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة : 25 ، 26] ، فيصح منهم تحميد الله سبحانه ويقع توصيفهم موقعه فليس توصيفه تعالى بحيث يصيب غرضه ويقع موقعه بذلك المبتذل حتى يناله كل نائل ، قال تعالى : {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات : 159 ، 160] ، وقد تقدم القول في معنى الحمد وخصوصية حمده تعالى في تفسير سورة الحمد . وفي قولهم : {هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف : 43] إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الإنسان من الأمر شيء .
وفي قولهم : {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف : 43] اعتراف بحقية ما وعدهم الله تعالى بلسان أنبيائه ، وهو الذي يأخذون الاعتراف به من أصحاب النار على ما تقصه الآية التالية ، وفي هذا الاعتراف وسائر الاعترافات المأخوذة من الفريقين يوم القيامة من قبل مصدر العظمة والكبرياء ظهور منه تعالى بالقهر وتمام الربوبية ، ويكون ذلك من أهل الجنة شكرا ، ومن أهل النار تماما للحجة .
واعتراف أهل الجنة بحقية ما وعدهم الله سبحانه بواسطة رسله هو من الحقائق العالية القرآنية وإن كان بحسب ساذج النظر معنى بسيطا مبتذلا ، ولعلنا نوفق لشطر من البحث فيه في ذيل الكلام على هذه الآيات .
قوله تعالى : {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف : 43] في الإشارة بلفظ البعيد - تلكم - إشارة إلى رفعة قدر الجنة وعلو مكانها فإن ظاهر السياق - كما قيل - إن النداء إنما هو حين كونهم في الجنة ، وقد جعلت الجنة إرثا لهم في قبال عملهم .
وإنما يتحقق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره يقال : ورث فلان أباه أي مات وترك مالا بقي له ، والعلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم ، ويرث الله الأرض أي إنه كان خولهم ما بها من مال ونحوه وسوف يموتون فيبقى له ما خولهم .
وعلى هذا فكون الجنة إرثا لهم أورثوها معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعا غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله ، ولو لا عمله لم يرثها ، قال تعالى : {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10 ، 11] .
وقال تعالى : حكاية عن أهل الجنة : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر : 74] .
وهذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات ، إذ قال : الوراثة والإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد ، وسمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثة ميراث وإرث وتراث فقلبت الواو ألفا وتاء قال : وتأكلون التراث ، وقال (عليه السلام) : اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم أي أصله وبقيته .
قال الشاعر :
فنظر في صحف كالرباط فيهن إرث كتاب محي .
قال : ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب : قد ورث كذا ويقال لكل من خول شيئا مهنئا : أورث ، قال تعالى : تلك الجنة التي أورثتموها ، أولئك هم الوارثون الذين يرثون .
وقوله : ويرث من آل يعقوب فإنه يعني وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه بل قلما يقتنون المال ويملكونه أ لا ترى أنه قال (عليه السلام) : (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) نصب على الاختصاص فقد قيل : ما تركناه هو العلم وهو صدقة يشترك فيها الأمة ، وما روي عنه (عليه السلام) من قوله : (العلماء ورثة الأنبياء) فإشارة إلى ما ورثوه من العلم واستعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن ولا منة ، : وقال لعلي رضي الله عنه : أنت أخي ووارثي . قال : وما إرثك ؟ قال : ما ورثت الأنبياء قبلي كتاب الله وسنتي ، ووصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائرة إلى الله تعالى انتهى كلامه .
وإنما كان ما قدمناه أوضح مما ذكره لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادة .
____________________________
1. تفسير الميزان ، ج8 ، ص 116-119 .
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 40-41] .
مرّة أخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين ، يعني أولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق ، فيقول : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ}.
وقد جاء في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين». (2)
وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الطبري وسائر التفاسير ، في ذيل الآية المبحوثة .
من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر ، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي ، كما نقرأ في الآية (9) من سورة فاطر : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .
ثمّ أضاف قائلا : {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} ، أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة .
إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر ، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة ، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الإبرة ، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقا .
و «الجمل» في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثا ، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضا (3) .
وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسبا أقوى وأكثر ، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية ، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل ، وهم على حق في هذا الاتجاه لأمور :
أوّلا : إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل .
ثانيا : إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضا ، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا : إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».
ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب منذ قديم الزمان.
وقد نستعمل هذا المثل أيضا ، في محاوراتنا اليومية الآن ، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّا أحيانا ، والمتساهلين جدّا أحيانا أخرى : (إنّ فلانا تارة لا يدخل من باب المدينة ، وتارة يدخل من ثقب إبرة).
ثالثا : بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر ، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جدا ، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا : {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}.
وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول : {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} (4) .
ثمّ يضيف للتأكيد {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
والملفت للنظر والطريف : أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ «المجرم» ومرّة بـ «الظالم» وثالثة بـ «المكذبين» لآيات الله ، ورابعة بـ «المستكبرين» ، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع .
- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ * وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف : 42-43] .
الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة :
إنّ أسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنبا إلى جنب لتأكيد الموضوع ، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.
ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله ، والمستكبرين والظالمين ، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة (5) . توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول : {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}.
وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله ، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين ، أمر متعسر غير مقدور إلّا لأفراد معدودين ، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها ، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالما كان أو جاهلا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف ، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.
إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح ، وهكذا تفنّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة ، ويقولون : إنّه قربان لخطايا الإنسانية.
إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح ، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.
وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة ، والتي تكون سببا لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية ، إذ قال {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ} .
و (الغل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّا ، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة ، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل) ، وإنّما يطلق «الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّا لارتكاب خيانة . (6)
وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة ، ومصدر الكثير من الصراعات الإجماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافا إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي ، هو الحسد والحقد .
فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة ، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين ، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها ، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم ، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية .
إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية ، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة ، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم ، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معا في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة .
إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه ، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون من فوقهم أبدا ، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي .
ولقد نقل بعض المفسّرين حديثا في المقام عن السدّي قال : «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا» (7) .
إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهما السلام وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأصل ، لأنّ هذه الأمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الاطلاع عليها .
وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية ، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطنا وظاهرا ، جسما وروحا ، فهم يتحلون بالجمال الجسماني ، والجمال الروحاني معا ، ولهذا فهم لا يعانون ، ـ مطلقا ـ من الحسد والحقد .
فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أخرى ، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة .
وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية ، يشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية ، فيقول : {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} .
ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ}.
وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
ومرّة أخرى نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح ، وليسن بالأماني والظنون الخاوية .
و «الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الانتقال عبر مسير طبيعي تلقائي ، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خلفه .
لماذا عبّر بالإرث ؟
وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف يقال لأهل الجنّة : هذه النعم أورثتموها لقاء أعمالكم ؟
والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون» (8) .
فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة ، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين ، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.
ومن البديهي أنّه عند ما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة ، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.
وعلى كل حال ، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر ، وثبوت الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان.
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 368-374 .
2. مجمع البيان ، ج4 ، ص 254 ، ذيل الآية مورد البحث ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج2 ، ص 30 .
3. راجع «تاج العروس» ، و «القاموس» مادة الجمل .
4. المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش ، والغواش في الأصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء ، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضا ، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء .
5. ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض ، بل لا بدّ أنّ هناك ارتباطا ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها ، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاما متصلا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي ، لا من حيث المعنى .
6. للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران .
7. تفسير المنار ، المجلد 8 ، الصفحة 421 .
8. نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 31 ، وتفسير القرطبي ، المجلد الرّابع ، الصفحة 2645 ، وتفاسير أخرى .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|