أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-6-2019
3287
التاريخ: 7-5-2019
18792
التاريخ: 20-6-2019
3546
التاريخ: 8-5-2019
12446
|
قال تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 26 ، 27] .
لما ذكر سبحانه نعمته على بني آدم ، وفي تبوئه الدار والمستقر ، عقبه بذكر النعمة في الملابس والستر ، فقال {يا بني آدم} وهو خطاب عام لجميع أهل الأزمنة من المكلفين كما يوصي الانسان ولده ، وولد ولده ، بتقوى الله . ويجوز خطاب المعدوم إذا كان من المعلوم أنه سيوجد ، ويتكامل فيه شروط التكليف {قد أنزلنا عليكم لباسا} قيل : إنه أنزل ذلك مع آدم وحواء ، حين أمرا بالانهباط ، عن الجبائي ، وهو الظاهر . وقيل : معناه إنه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء ، عن الحسن . وقيل : لأن البركات ينسب إلى أنها تأتي من السماء ، كقوله : {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} ، عن علي بن عيسى .
وقيل : معنى {أنزلنا عليكم} : أعطيناكم ووهبنا لكم ، وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده ، فقد أنزله عليه ، ليس أن هناك علوا وسفلا ، ولكنه يجري مجرى التعظيم ، كما يقال : رفعت حاجتي إلى فلان ، ورفعت قضيتي إلى الأمير ، عن أبي مسلم . وقيل : معناه خلقنا لكم كما قال {وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج} {وأنزلنا الحديد} عن أبي علي الفارسي .
{يواري سوآتكم} أي : يستر عوراتكم {وريشا} أي : أثاثا مما تحتاجون إليه . وقيل : مالا ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي . وقيل : جمالا ، عن ابن زيد . وقيل : خصبا ومعاشا ، عن الأخفش . وقيل : خيرا ، وكل ما قاله المفسرون فإنه يدخل فيه ، إلا أن كلا منهم خص بعض الخير بالذكر {ولباس التقوى} : هو العمل الصالح ، عن ابن عباس . وقيل : هو الحياء الذي يكسيكم التقوى ، عن الحسن . وقيل : هو ثياب النسك والتواضع إذا اقتصر عليه كلباس الصوف ، والخشن من الثياب ، عن الجبائي . وقيل : هو لباس الحرب ، والدرع ، والمغفر ، والآلات التي يتقى بها من العدو ، عن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ، وأبي مسلم .
وقيل : هو خشية الله تعالى عن عروة بن الزبير . وقيل : هو ستر العورة يتقي الله ، فيواري عورته ، عن ابن زيد . وقيل : هو الإيمان ، عن قتادة ، والسدي . ولا مانع من حمل ذلك على الجميع .
{ذلك خير} أي : لباس التقوى خير من جميع ما يلبس {ذلك من آيات الله} أي : ذلك الذي خلقه الله ، وأنزله ، من حجج الله التي تدل على توحيده {لعلهم يذكرون} معناه : لكي يتفكروا فيها ، فيؤمنوا بالله ، ويصيروا إلى طاعته ، وينتهوا عن معاصيه .
ثم خاطبهم سبحانه مرة أخرى ، فقال : {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} أي :
لا يضلنكم عن الدين ، ولا يصرفنكم عن الحق ، بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها النفوس وإنما صح أن ينهى الانسان بصيغة النهي للشيطان ، لأنه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنه يطلبنا بالمكروه ، ويقصدنا بالعداوة . فالنهي له يدخل فيه النهي لنا ، عن ترك التحذير منه {كما أخرج أبويكم من الجنة} نسب الإخراج إليه لما كان بإغوائه ، وإن كان خروجهما بأمر الله تعالى ، وجرى ذلك مجرى ذمه لفرعون ، بأنه يذبح أبناءهم ، وإنما أمر بذلك ، وتحقيق الذم فيها راجع إلى فعل ، المذموم ، ولكنه يذكر بهذه الصفة ، لبيان منزلة فعله في عظم الفاحشة .
{ينزع عنهما} عند وسوسته ودعائه لهما {لباسهما} من ثياب الجنة . وقيل :
كان لباسهما الظفر ، عن ابن عباس ، أي : كان شبه الظفر ، وعلى خلقته . وقيل :
كان لباسهما نورا ، عن وهب بن منبه . {ليريهما سوآتهما} عوراتهما {إنه} يعني الشيطان {يراكم هو وقبيله} أي : نسله ، عن الحسن ، وابن زيد ، يدل عليه قوله {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} وقيل : جنوده وأتباعه من الجن ، والشياطين {من حيث لا ترونهم} قال ابن عباس : إن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم ، مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم ، كما قال : {الذي يوسوس في صدور الناس} فهم يرون بني آدم ، وبنو آدم لا يرونهم . قال قتادة : {والله إن عدوا يراك من حيث لا تراه ، لشديد المؤنة إلا من عصم الله} وإنما قال ذلك ، لأنا إذا كنا لا نراهم ، لم نعرف قصدهم لنا بالكيد ، والإغواء ، فينبغي أن نكون على حذر فيما نجده في أنفسنا من الوساوس ، خيفة أن يكون ذلك من الشيطان .
وإنما لا يراهم البشر لأن أجسامهم شفافة لطيفة ، تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع . وقال أبو الهذيل ، وأبو بكر بن الإخشيد : يجوز أن يمكنهم الله تعالى ، فيتكشفوا ، فيراهم حينئذ من يحضرهم ، وإليه ذهب علي بن عيسى ، وقال : إنهم ممكنون من ذلك ، وهو الذي نصره الشيخ المفيد أبو عبد الله ، رحمه الله ، قال الشيخ أبو جعفر ، قدس الله روحه : وهو الأقوى عندي وقال الجبائي : لا يجوز أن يرى الشياطين والجن . لأن الله عز اسمه قال : {لا ترونهم} وإنما يجوز أن يروا في زمن الأنبياء ، بأن يكشف الله أجسادهم على الأنبياء ، كما يجوز أن يرى الناس الملائكة في زمن الأنبياء {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} أي : حكمنا بذلك ، لأنهم يتناصرون على الباطل ، كما قال : {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} أي : حكموا بذلك حكما باطلا . وإنما خص {الذين لا يؤمنون} تنبيها على أنهم مع اجتهادهم لا يتمكنون من خيار المؤمنين المتيقظين منهم ، وإنما يتمكنون من الكفرة ، والجهال ، والفسقة الأغفال .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 236-239 .
ذكر سبحانه في الآية 141 من الأنعام ما تفضل به على عباده من الطعام ، فقال : {وهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ والنَّخْلَ والزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ} .
وذكر تعالى في الآية التي نحن بصددها ما أنعم به على عباده من اللباس ، فقال :
{يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ورِيشاً} . الخطاب لجميع بني آدم ، وأنزلنا عليكم ، أي أعطيناكم ، قال تعالى : {وأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} . وقال : {وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} . . وقد امتن سبحانه على عباده بما أنعم عليهم من اللباس على اختلاف أنواعه ، من الأدنى الذي يواري السوءة إلى الريش ، وهو ما كان فاخرا من اللباس والأثاث {ولِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} وهو الخوف من اللَّه والعمل الصالح ، وأطلق اللباس على التقوى ، لأنها تقي صاحبها من عذاب اللَّه ، كما يقي اللباس من الحر والبرد ، قال تعالى : {وجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل - 81] {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي ان اللَّه أعطاكم اللباس تفضلا منه لتعملوا بطاعته ، وتنتهوا عن معصيته .
{يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما} . لا يفتننكم الشيطان أي لا تغفلوا عن فتنته وخداعه ، وينزع عنهما لباسهما ، أي كان الشيطان سببا لنزع اللباس عنهما ، وإظهار عورتيهما .
أشار سبحانه في الآية السابقة إلى عداوة الشيطان لآدم ، وكيف كاد له ، حتى أخرجه وزوجه من حياة الراحة والهناء إلى حياة التعب والعناء ، وفي هذه الآية حذر جل ذكره أبناء آدم أن يوقعهم الشيطان في شباكه وفتنته ، ويحملهم على معصية اللَّه ، ليصدهم عن دخول الجنة ، كما خدع أبويهم من قبل ، وكان سببا لكشف عورتيهما ، وإخراجهما من الجنة . . وبديهة ان المنع من دخول الجنة أيسر من الإخراج منها بعد الدخول ، فان طرد المحتل أكثر صعوبة من صد من يحاول الاحتلال ، قال بعض الواعظين : ان ذنبا واحدا أخرج آدم من الجنة بعد أن دخلها آمنا ، فكيف يدخلها أبناؤه ، وقد تراكمت عليهم الذنوب .
{إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} . يرانا الشيطان وجنوده ، ونحن لا نرى واحدا منهم ، بهذا خبر الوحي ، ونحن به من المؤمنين {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} . تومئ هذه الجملة إلى جواب عن سؤال مقدر ، وتقرير السؤال : إذا كان الشيطان يرانا ولا نراه فمعنى هذا انه يقدر علينا ، ونعجز عنه ، وانه يستطيع اغتيالنا متى شاء ، ولا نستطيع التحفظ منه ، فكيف صح الأمر بالحذر منه ، والنهي عن الإصغاء إليه ؟ .
وتقرير الجواب بنحو من التفصيل : أجل ، نحن لا نرى الشيطان بشخصه ، ولكنا نحس بآثاره ، وهي وسوسته ان لا جنة ولا نار ، ونحو ذلك . . فمن آمن باللَّه واليوم الآخر يعرض عن هذه الوسوسة ، ولا يستجيب لها ، ويتعوذ منها وممن يوسوس بها ، فينقلب الشيطان عنه خاسئا خاسرا ، ومن كفر باللَّه واليوم الآخر يندفع مع هذه الوسوسة ، ويستولي الشيطان عليه ، فيقوده حيث شاء ، ومتى شاء ، وهذا معنى قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} أما المؤمنون فلا ولاية للشيطان عليهم ، لأنهم أسلموا قيادهم للَّه وحده : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ} .
وقال بعض المفسرين : ان الشياطين التي لا نراها هي المكروبات يحملها الذباب والبعوض إلى جسم الإنسان ، فتتوالد فيه وتنمو بسرعة ، وتسبّب الأمراض المستعصية . . وهذا تفسير لمراد اللَّه تعالى بالحدس والتخمين . . وما هو من منهجنا في شيء .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 316-317 .
قوله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا } اللباس كل ما يصلح للبس وستر البدن وغيره ، وأصله مصدر يقال : لبس يلبس لبسا - بالكسر والفتح - ولباسا ، والريش ما فيه الجمال مأخوذ من ريش الطائر لما فيه من أنواع الجمال والزينة ، وربما يطلق على أثاث البيت ومتاعه .
وكان المراد من إنزال اللباس والريش عليهم خلقه لهم كما في قوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ} [الحديد : 25] ، وقوله : {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر : 6] ، وقد قال تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر : 21] ، فقد أنزل الله اللباس والريش بالخلق من غيب ما عنده إلى عالم الشهادة وهو الخلق .
واللباس هو الذي يعمله الإنسان صالحا لأن يستعمله بالفعل دون المواد الأصلية من قطن أو صوف أو حرير أو غير ذلك مما يأخذه الإنسان فيضيف إليه أعمالا صناعية من تصفية وغزل ونسج وقطع وخياطة فيصير لباسا صالحا للبس فعد اللباس والريش من خلق الله وهما من عمل الإنسان نظير ما في قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات : 96] ، من النسبة .
ولا فرق من جهة النظر في التكوين بين نسبة ما عمله الإنسان إلى الله سبحانه وما عمله منته إلى أسباب جمة أحدها الإنسان ، ونسبة سائر ما عملته الطبائع ولها أسباب كثيرة أحدها الفاعل كنبات الأرض وصفرة الذهب وحلاوة العسل فإن جميع الأسباب بجميع ما فيها من القدرة منتهية إليه سبحانه وهو محيط بها .
ليست الخلقة منتسبة إلى الأشياء على وتيرة واحدة وإن كانت جميع مواردها متفقة في معنى الانتهاء إليه إلا ما فيه معنى النقص والقبح والشناعة من المعاصي ونحوها فحقيقتها فقدان الخلقة الحسنة أو مخالفة الأمر الإلهي ، وليست بمخلوقة له وإنما هي أوصاف نقص في أعمال الإنسان مثلا في باطنه أو ظاهره ، وقد تكررت الإشارة إلى هذه الحقيقة فيما مر من أجزاء هذا الكتاب.
وتوصيف اللباس بقوله : {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف : 26] للدلالة على أن المراد باللباس ما ترفع به حاجة الإنسان التي اضطرته إلى اتخاذ اللباس وهي مواراة سوآته التي يسوؤه انكشافها وأما الريش فإنما يتخذه لجمال زائد على أصل الحاجة.
وفي الآية امتنان بهداية الإنسان إلى اللباس والريش وفيها - كما قيل - دلالة على إباحة لباس الزينة.
قوله تعالى : {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف : 26] إلى آخر الآية .
انتقل سبحانه من ذكر لباس الظاهر الذي يواري سوآت الإنسان فيتقي به أن يظهر منه ما يسوؤه ظهوره ، إلى لباس الباطن الذي يواري السوآت الباطنية التي يسوء الإنسان ظهورها وهي رذائل المعاصي من الشرك وغيره ، وهذا اللباس هو التقوى الذي أمر الله به.
وذلك أن الذي يصيب الإنسان من ألم المساءة وذلة الهوان من ظهور سوآته روحي من سنخ واحد في السوآتين إلا أن ألم ظهور السوآت الباطنية أشد وأمر وأبقى فالمحاسب هو الله ، والتبعة شقوة لازمة ، ونار تطلع على الأفئدة ، ولذلك كان لباس التقوى خيرا من لباس الظاهر.
وللإشارة إلى هذا المعنى وتتميم الفائدة عقب الكلام بقوله : {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف : 26] فاللباس الذي اهتدى إليه الإنسان ليرفع به حاجته إلى مواراة سوآته التي يسوؤه ظهورها آية إلهية إن تأمله الإنسان وتبصر به تذكر أن له سوآت باطنية تسوؤه إن ظهرت وهي رذائل النفس ، وسترها عليه أوجب وألزم من ستر السوآت الظاهرية بلباس الظاهر واللباس الذي يسترها ويرفع حاجة الإنسان الضرورية هو لباس التقوى الذي أمر الله به وبينه بلسان أنبيائه.
وفي تفسير لباس التقوى أقوال أخر مأثورة عن المفسرين ، فقيل : هو الإيمان والعمل الصالح ، وقيل : هو حسن السمت الظاهر ، وقيل : هو الحياء ، وقيل : هو لباس النسك والتواضع كلبس الصوف والخشن ، وقيل : هو الإسلام ، وقيل : هو لباس الحرب ، وقيل : هو ما يستر العورة ، وقيل : هو خشية الله ، وقيل : هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة هو خير من لباس الدنيا ، وأنت ترى أن شيئا من هذه الأقوال لا ينطبق على السياق ذلك الانطباق.
قوله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف : 27] إلى آخر الآية .
الكلام وإن كان مفصولا عما قبله بتصديره بخطاب { يَا بَنِي آدَمَ} إلا أنه بحسب المعنى من تتمة المفاد السابق ، ولذا أعاد ذكر السوآت ثانيا فيرجع المعنى إلى أن لكم معاشر الآدميين سوآت لا يسترها إلا لباس التقوى الذي ألبسناكموه بحسب الفطرة التي فطرناكم عليها فإياكم أن يفتنكم الشيطان فينزع عنكم ذلك كما نزع لباس أبويكم في الجنة ليريهما سوآتهما فإنا جعلنا الشياطين أولياء لمن تبعهم ولم يؤمن بآياتنا.
ومن هنا يظهر أن ما صنعه إبليس بهما في الجنة من نزع لباسهما ليريهما سوآتهما كان مثالا لنزع لباس التقوى عن الآدميين بالفتنة وإن الإنسان في جنة السعادة ما لم يفتتن به فإذا افتتن أخرجه الله منها.
وقوله : {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف : 27] تأكيد للنهي وبيان لدقة مسلكه وخفاء سربه دقة لا يميزه حس الإنسان وخفاء لا يقع عليه شعوره فإنه لا يرى إلا نفسه من غير أن يشعر أن وراءه من يأمر بالشر ويهديه إلى الشقوة.
وقوله : {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 27] تأكيدا آخر للنهي ، وليست ولايتهم وتصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة والغرور فإذا افتتن واغتر بهم تصرفوا بما شاءوا وكما أرادوا كما قال تعالى مخاطبا لإبليس : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء : 64 ، 65] ، وقال : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل : 99] ، وقال : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر : 42] .
ومن الآيات بانضمامها إلى آيتنا المبحوث عنها يظهر أن لا ولاية لهم على المؤمنين وإن مسهم طائف منهم أحيانا ، وأن لا سلطان له على المتوكلين من المؤمنين وهم الذين عدهم الله عبادا له بقوله : { عِبَادِي } فلا ولاية له إلا على الذين لا يؤمنون .
والظاهر أن المراد به عدم الإيمان بآيات الله بتكذيبها وهو أخص من وجه من عدم الإيمان بالله الذي هو الكفر بالله بشرك أو نفي ، وذلك لأن هذا الكفر هو المذكور في الخطاب العام الذي في ذيل القصة من سورة البقرة حيث قال تعالى : {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى - إلى أن قال - وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 38 ، 39] ، وفي ذيل هذه الآيات من هذه السورة حيث قال : {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف : 36] .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج8 ، ص 68-71 .
إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويرا واقعيا عن حياة جميع أفراد البشر على الأرض ، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم ، وهي تعتبر في الحقيقة استمرارا لبرامج آدم في الجنّة.
ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سوءات البدن التي كان لها دور مهم في قصّة آدم ، إذ يقول : {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ} .
ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءات ، بل للتجمل والزينة أيضا حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه . {وَرِيشاً} .
وكلمة «ريش» في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور ، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها ، لهذا أطلق على نوع من أنواع الألبسة ، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها ، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال ، هذا مضافا إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سرج الفرس أو جهاز البعير .
وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضا ، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان ، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة .
ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري ، عن حدّ اللباس المعنوي تبعا لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي ، الظاهري والباطني إذ قال : {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} .
وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة ، معبّر جدّا ، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار ، ويستر العيوب الجسمانية ، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان ، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية ، تعدّ زينة كبرى له ... زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّوا ، وتزيدها جلالا وبهاء .
ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى ، وأنّه ما هو ؟
فبعض فسّره بـ «العمل الصالح» وبعض بـ «الحياء» وبعض بـ «لباس العبادة» ، وبعض بـ «لباس الحرب» مثل الدرع والخوذة (2) ، وحتى الترس ، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية» بمعنى الحفظ والحماية ، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضا ، كما نقرأ في سورة النحل الآية (81) : {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ...} .
ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مرارا ـ معنى واسعا في الغالب ، ولها مصاديق متعددة ومختلفة ، وفي الآية الحاضرة ـ أيضا ـ يمكن استفادة جميع هذه المعاني منها.
وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن ، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان ، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و «العمل الصالح» وأمثالهما .
ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية : {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم ، سواء الألبسة المادية أو المعنوية ، اللباس الجسماني أو لباس التقوى ، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى .
نزول اللباس :
نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر : «وأنزلنا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل ، إذ يقول : {قَد أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً} في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يتّخذ من الصوف ، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.
كما أننا نقرأ في الآية (6) من سورة الزمر {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} وفي سورة الحديد الآية (35) {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ}. فما ذا يعني هذا ؟
يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من فوق إلى تحت ، مثلا يقولون : إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات ، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.
وفي مجال الحديد أيضا يقولون : إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض .
ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي ، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيرا ، فيقال مثلا : أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه ، أو يقال : رفعت شكواي إلى القاضي ، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني .
فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر ، لهذا عبّر عن هذا المفهوم بهذا اللفظ ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.
ويشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضا ، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا ، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّع بمقام مهمّ رفيع ، فإنّنا نشير إليه باسم الإشارة البعيد ، فنقول في محاوراتنا مثلا : تلك الشّخصية ، ونحن نقصد رجلا حاضرا قريبا ، وقد جاء في القرآن الكريم : {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ} . والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر ، ولكن تعظيما له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة .
لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب ، ولكن الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعا بالغا عبر الزمن ، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ وفي الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ والقرّ وكذا للزينة والتجمل ، والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة ، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأولى من الأهمية في كثير من الحقول ، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء ، وعمال المعادن والمناجم والغواصون ، وغيرهم كثيرون ، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار .
لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطورا هائلا ، واتسع نطاقها اتساعا كبيرا ، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى .
يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا : «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان ، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم ، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه ، وأراد الخروج قدّموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة ، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله ، فهم قد نظفوه في الآلات المنظّفة ، فغزلوه بآلات الغزل ، فنسجوه بآلات النسج ، ففصّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة ، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور» . (3)
ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية ، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيرا إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس .
لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر ، وإشاعة الفساد ، وتحريك الشهوات ، والتكبر والإسراف والتبذير ، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابعها الجنوني على الطابع العقلاني ، وتكون أشبه بكل شيء إلّا باللباس والثوب.
والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة ، هو أنّ للعقد النفسية دورا مهمّا في ارتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة ، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم وملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الأسلوب ويحاولون بارتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم ، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة ، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من ارتداء مثل هذه الثياب.
وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّا تهدر وتبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها وتبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية بها ، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.
هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفدا من النصارى قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جدا ، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها ، فلما حضروا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلموا عليه ، لم يردّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سلامهم ، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة ، وأعرض عنهم ، فلمّا سألوا عليّا عليه السلام عن سبب إعراض النّبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، قال عليه السلام لهم : أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكن ثمّ تعودون إليه.
ففعل النصارى ما قاله لهم الإمام عليه السلام ، ثمّ دخلوا على النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرّة الأولى وإنّ إبليس لمعهم» . (4)
الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره ، ويدعو إلى مراقبته ، والحذر منه ، لأنّ الشّيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم ، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى ، ولهذا يقول تعالى : {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما}.
وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى) ، وهذه الآية تضمنت تحذيرا ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.
على أنّ ظاهر عبارة {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ} هو نهي الشيطان عن هذا العمل ، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب ، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقا نحبه قائلين : لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة ، أي راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.
ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فلا بدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدوّ.
وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد ، فإنّه من الممكن أن يكون حاضرا معك ، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت ، ولا بدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.
وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال مهم ، فقد يتساءل أحد : كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّا بهذه القوة على الإنسان ... عدوّا لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان ... عدوا يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته ، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه ، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟! الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول : {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينقذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.
وبعبارة أخرى : إنّ الخطوات الأولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه ، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع اجتياز حدود الروح ويعبرها إلّا بعد موافقة من الإنسان نفسه ، فإذا أغلق الإنسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة ، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.
إن الآيات القرآنية الأخرى شاهدة أيضا على هذه الحقيقة ، ففي سورة النحل في الآية (100) نقرأ {إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} ، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.
وفي الآية (47) من سورة الحجر نقرأ {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ} .
وبعبارة أخرى : صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه ، إلّا أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم ، ففي كل مجلس معصية ، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب ، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها ، وعند طغيان الغرائز ، وعند اشتعال لهيب الغضب ، يكون حضور الشيطان حتميا ومسلّما ، وكأنّ الإنسان يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه ، ويرى آثار قدمه بأمّ عينيه .
وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقر عليه السلام إذ يقول : «لما دعا نوح ربّه عز وجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال : يا نوح إنّ لك عندي يدا! أريد أن أكافئك عليها .
فقال نوح : إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد ، فما هي ؟
قال : بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم ، فلم يبق أحد أغويه ، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم .
فقال نوح : ما الذي تريد أن تكافيني به ؟
قال : أذكرني في ثلاثة مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن :
أذكرني إذا غضبت ؟
واذكرني إذا حكمت بين اثنين !
واذكرني إذا كنت مع امرأة خاليا ليس معكما أحد ! » (5) .
النقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا ، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غير قابل للرؤية للإنسان مطلقا ، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحيانا .
ولكن الظاهر أنّ هذين الاتجاهين غير متعارضين ، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يرى ، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات ، فلا تناف .
_________________________
1. تفسير الامثل ، ج4 ، ص 337-334 .
2. بحار الأنوار ، ج34 ، ص 66 ، و 67 ؛ أصول الكافي ، ج5 ، ص 4 .
3. المنار ، ج 8 ، ص 359 .
4. سفينة البحار ، المجلد الثاني ، ص 4 ـ 5 ، مادة لبس.
5. بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، الجزء 11 ، الصفحة 318.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|