قال تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 1 - 8].
خوف الله سبحانه عباده أهوال يوم القيامة فقال {إذا زلزلت الأرض زلزالها} أي إذا حركت الأرض تحريكا شديدا لقيام الساعة زلزالها التي كتب عليها ويمكن أن يكون إنما أضافها إلى الأرض لأنها تعم جميع الأرض بخلاف الزلازل المعهودة التي تختص ببعض الأرض فيكون في قوله {زلزالها} تنبيها على شدتها {وأخرجت الأرض أثقالها} أي أخرجت موتاها المدفونة فيها تخرجها أحياء للجزاء عن ابن عباس ومجاهد والجبائي وقيل معناه لفظت ما فيها من كنوزها ومعادنها فتلقيها على ظهرها ليراها أهل الموقف وتكون الفائدة في ذلك أن يتحسر العصاة إذا نظروا إليها لأنهم عصوا الله فيها ثم تركوها لا تغني عنهم شيئا وأيضا فإنه تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
{وقال الإنسان ما لها} أي ويقول الإنسان متعجبا ما للأرض تتزلزل يعني ما لها حدث فيها ما لم يعرف منها عن أبي مسلم وقيل إن المراد بالإنسان الكافر لأن المؤمن معترف بها لا يسأل عنها أي يقول الكافر الذي لم يؤمن بالبعث أي شيء زلزلها وأصارها إلى هذه الحالة {يومئذ تحدث أخبارها} أي تخبر بما عمل عليها وجاء في الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أ تدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم قال أخبارها أن تشهد على كل عبد وأنه بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا وهذا أخبارها وعلى هذا فيجوز أن يكون الله تعالى أحدث الكلام فيها وإنما نسبه إليها توسعا ومجازا ويجوز أن يقلبها حيوانا يقدر على النطق ويجوز أن يظهر فيها ما يقوم مقامه الكلام فعبر عنه بالكلام كما يقال عيناك تشهدان بسهرك وكقول الشاعر((وقالت له العينان سمعا وطاعة))(2) وقد مر أمثاله.
وقوله {بأن ربك أوحى لها} معناه أن الأرض تحدث بها فتقول إن ربك يا محمد أوحى لها أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها وقيل بأن تلقي الكنوز والأموات على ظهرها يقال أوحى له وإليه أي ألقي إليه من جهة تخفي قال الفراء تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها وقال ابن عباس إذن لها لتخبر بما عمل عليها وروى الواحدي بإسناده مرفوعا إلى ربيعة الحرشي قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((حافظوا على الوضوء وخير أعمالكم الصلاة وتحفظوا من الأرض فإنها أمكم وليس فيها أحد يعمل خيرا وشرا إلا وهي مخبرة)) وقال أبوسعيد الخدري إذا كنت بالبوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول ((لا يسمعه جن ولا إنس ولا حجر إلا يشهد له)). {يومئذ يصدر الناس أشتاتا} أي يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض متفرقين أهل الإيمان على حدة وأهل كل دين على حدة وهذا كقوله {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} وقوله {يومئذ يصدعون}.
{ليروا أعمالهم} أي ليروا جزاء أعمالهم عن ابن عباس والمعنى أنهم يرجعون عن الموقف فرقا لينزلوا منازلهم من الجنة والنار وقيل معنى الرؤية هنا المعرفة بالأعمال عند تلك الحال وهي رؤية القلب ويجوز أن يكون التأويل على رؤية العين بمعنى ليروا صحائف أعمالهم فيقرءون ما فيها لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} أي فمن يعمل وزن ذرة من الخير ير ثوابه وجزاءه {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} أي ير ما يستحق عليه من العقاب ويمكن أن يستدل بها على بطلان الإحباط لأن الظاهر يدل على أنه لا يفعل أحد شيئا من طاعة أو معصية إلا ويجازي عليها وما يقع محبطا لا يجازي عليه وليس لهم أن يقولوا إن الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة وذلك لأن الآية مخصوصة بالإجماع فإن التائب معفو عنه بلا خلاف وعندهم أن من شرط المعصية التي يؤاخذ بها أن لا تكون صغيرة فجاز لنا أيضا أن نشرط فيها أن لا يكون مما يعفو الله عنه وقال محمد بن كعب معناه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا وهو كافر ير ثوابه في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ومن يعمل مثقال ذرة شرا وهو مؤمن ير عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر وقال مقاتل فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به وكذلك من الشر يراه في كتابه فيسؤه ذلك قال وكان أحدهم يستقل أن يعطي اليسير ويقول إنما نوجر على ما نعطي ونحن نحبه وليس اليسير مما يحب ويتهاون بالذنب اليسير ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير ويحذرهم اليسير من الشر.
وعن أبي عثمان المازني عن أبي عبيدة قال قدم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في وفد بني تميم فقال بأبي أنت يا رسول الله أوصيني خيرا فقال أوصيك بأمك وأبيك وأدانيك قال زدني يا رسول الله قال احفظ ما بين لحييك ورجليك ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما شيء بلغني عنك فعلته فقال يا رسول الله رأيت الناس يمرجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب غير أني علمت أنهم ليسوا عليه فرأيتهم يئدون بناتهم فعرفت الله عز وجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون وفديت ما قدرت وفي رواية أخرى أنه سمع {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فقال حسبي ما أبالي أن لا أسمع من القرآن غير هذا وقال عبد الله بن مسعود أحكم آية في القرآن {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} إلى آخر السورة وكان (صلى الله عليه وآله وسلّم) يسميها الجامعة وتصدق سعد بن أبي وقاص بتمرتين فقبض السائل يده فقال سعد ويحك يقبل الله منا مثقال الذرة والخردلة وكان فيها مثاقيل .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص418-420.
2- مر البيت بتمامه في هذا الجزء.
{إِذا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزالَها} . هذا تخويف من أهوال يوم القيامة الذي تضطرب فيه الأرض وتهتز اهتزازا شديدا ، ومثله {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - 1 الحج} ج 5 ص 308 {وأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقالَها} .
أخرجت كل ما طوته في جوفها من أموات وكنوز ومدن وحضارات {وقالَ الإِنْسانُ ما لَها} ؟ ما لهذه الأرض تموج على غير عادتها ؟ ما الذي جرى لها ؟
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها} . حديث الإنسان أن يظهر ما يكنه في نفسه ، وحديث الأرض يوم القيامة أن تبرز للعيان ما ابتلعته من عجائب وغرائب مدى الدهور والعصور . . ولست أدري : هل يشاهد يومئذ علماء الآثار هذا المعرض المذهل المدهش ؟ .
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} . كل ما يحدث للأرض يوم القيامة هو بأمر اللَّه تعالى . وقال الشيخ محمد عبده : {ولا مانع من أن يكون خراب الأرض في آخر عمرها بسبب من الأسباب التي تهدم بناءها وتجعلها هباء منثورا} . وكأنه يشير بقوله هذا إلى التفجيرات النووية على سطح الأرض وجوفها مع العلم بأنها لم تكن في أيامه . . وقوله قريب جدا لأن عمر الأرض لا ينتهي بمرور الزمن كما هو شأن الكائنات الحية ، بل بخلل يعرض لها أو لجزء من أجزائها الرئيسية .
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ} . يوم القيامة يبدل اللَّه الكون غير الكون ، ويلحق آخر الخلق بأوله ، ويذهبون بقضّهم وقضيضهم إلى حيث يرى كل واحد منهم جزاء عمله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . في تفسير الرازي وغيره : ان الذرة أصغر النمل . وفي كتاب {القرآن والعلم الحديث} لنوفل {الذرة هي أقل جزء يمكن أن يصل إليه تقسيم المادة ، ولا يزيد حجمها على جزء من عشرة ملايين من المليمتر} .
ويقال أيضا : ان الذرة لا ترى أبدا حتى بأعظم المجاهر ، وانما تعرف بآثارها ، والمعنى واضح ، وهوان الإنسان يجد غدا عند اللَّه جزاء عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ بالغا ما بلغ العمل من الصغر . . وبديهة ان جزاء كل شيء بحسبه كما وكيفا .
وتسأل : هل المؤمن والكافر في ذلك سواء ، أم ان من كفر باللَّه لا يقبل منه عمل الخير ولا يثاب عليه حتى ولو أتى به لوجه الخير والإنسانية ؟
الجواب : كل شيء بحسابه ، فإذا فعل الكافر خيرا يعذب عذاب الكفر ، ويجزى على عمل الخير بما تستدعيه الحكمة الإلهية من ثواب الدنيا أو التخفيف من عذاب الآخرة . وتكلمنا عن هذا الموضوع مفصلا في ج 2 ص 211 بعنوان :
الكافر وعمل الخير .
سؤال ثان : لقد دل كثير من الآيات ان الكفر يحبط الأعمال ، وإن كانت كلها حسنات ؟ .
وقد أجاب عن هذا بعض العلماء بأن معنى الإحباط ان حسنات الكافر لا تنجيه من عذاب الكفر ، وليس معناه ان اللَّه سبحانه لا يثيبه عليها إطلاقا حتى في الدنيا .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص597-599.
ذكر للقيامة وصدور الناس للجزاء وإشارة إلى بعض أشراطها وهي زلزلة الأرض وتحديثها أخبارها.
والسورة تحتمل المكية والمدنية.
قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} الزلزال مصدر كالزلزلة، وإضافته إلى ضمير الأرض تفيد الاختصاص، والمعنى إذا زلزلت الأرض زلزلتها الخاصة بها فتفيد التعظيم والتفخيم أي أنها منتهية في الشدة والهول.
قوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} الأثقال جمع ثقل بفتحتين بمعنى المتاع أو خصوص متاع المسافر أو جمع ثقل بالكسر فالسكون بمعنى الحمل، وعلى أي حال المراد بأثقالها التي تخرجها، الموتى على ما قيل أو الكنوز والمعادن التي في بطنها أو الجميع ولكل قائل وأول الوجوه أقربها ثم الثالث لتكون الآية إشارة إلى خروجهم للحساب، وقوله: {يومئذ يصدر الناس} إشارة إلى انصرافهم إلى الجزاء.
قوله تعالى: {وقال الإنسان ما لها} أي يقول مدهوشا متعجبا من تلك الزلزلة الشديدة الهائلة: ما للأرض تتزلزل هذا الزلزال، وقيل: المراد بالإنسان الكافر غير المؤمن بالبعث، وقيل غير ذلك كما سيجيء.
قوله تعالى: {يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} فتشهد على أعمال بني آدم كما تشهد بها أعضاؤهم وكتاب الأعمال من الملائكة وشهداء الأعمال من البشر وغيرهم.
وقوله: {بأن ربك أوحى لها} اللام بمعنى إلى لأن الإيحاء يتعدى بإلى والمعنى تحدث أخبارها بسبب أن ربك أوحى إليها أن تحدث فهي شاعرة بما يقع فيها من الأعمال خيرها وشرها متحملة لها يؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تحدث أخبارها وتشهد بما تحملت، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44] ، وقوله: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] أن المستفاد من كلامه سبحانه أن الحياة والشعور ساريان في الأشياء وإن كنا في غفلة من ذلك.
وقد اشتد الخلاف بينهم في معنى تحديث الأرض بالوحي أ هو بإعطاء الحياة والشعور للأرض الميتة حتى تخبر بما وقع فيها أو بخلق صوت عندها وعد ذلك تكلما منها أو دلالتها بلسان الحال بما وقع فيها من الأعمال، ولا محل لهذا الاختلاف بعد ما سمعت ولا أن الحجة تتم على أحد بهذا النوع من الشهادة.
قوله تعالى: {يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم} الصدور انصراف الإبل عن الماء بعد وروده، وأشتات كشتى جمع شتيت بمعنى المتفرق، والآية جواب بعد جواب لإذا.
والمراد بصدور الناس متفرقين يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنة والنار وأهل السعادة والفلاح منهم متميزون من أهل الشقاء والهلاك، وإراءتهم أعمالهم إراءتهم جزاء أعمالهم بالحلول فيه أو مشاهدتهم نفس أعمالهم بناء على تجسم الأعمال.
وقيل: المراد به خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرقين متميزين بسواد الوجوه وبياضها وبالفزع والأمن وغير ذلك لإعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب والتعبير عن العلم بالجزاء بالرؤية وعن الإعلام بالإراءة نظير ما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30] ، والوجه الأول أقرب وأوضح.
قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} المثقال ما يوزن به الأثقال، والذرة ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، وتقال لصغار النمل.
تفريع على ما تقدم من إراءتهم أعمالهم، فيه تأكيد البيان في أنه لا يستثني من الإراءة عمل خيرا أوشرا كبيرا أو صغيرا حتى مثقال الذرة من خير أوشر، وبيان حال كل من عمل الخير والشر في جملة مستقلة لغرض إعطاء الضابط وضرب القاعدة.
ولا منافاة بين ما تدل عليه الآيتان من العموم وبين الآيات الدالة على حبط الأعمال، والدالة على انتقال أعمال الخير والشر من نفس إلى نفس كحسنات القاتل إلى المقتول وسيئات المقتول إلى القاتل، والدالة على تبديل السيئات حسنات في بعض التائبين إلى غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه في بحث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب وكذا في تفسير قوله: { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الأنفال: 37].
وذلك لأن الآيات المذكورة حاكمة على هاتين الآيتين فإن من حبط عمله الخير محكوم بأنه لم يعمل خيرا فلا عمل له خيرا حتى يراه وعلى هذا القياس في غيره فافهم.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص314-316.
يوم يرى النّاس أعمالهم:
هذه السّورة تبدأ ـ كما ذكرنا في محتواها ـ ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور. تقول:
{إذا زلزلت الأرض زلزالها}(2).
{وأخرجت الأرض أثقالها}.
عبارة «زلزالها» تعني أنّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم (خلافاً للزلازل العادية الموضعية عادة) أو أنّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة، أي زلزلة يوم القيامة(3).
و«الأثقال» ذكر لها المفسّرون معاني متعددة. قيل إنّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال. كما جاء في قوله سبحانه: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 4].
وقيل إنّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج، وتبعث الحسرة في قلوب عبّاد الدنيا(4).
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض، وهوما يحدث أثناء البراكين والزلازل، فإنّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم.
يومكن الجمع بين هذه التفاسير.
في ذلك الجو المليء بالرهبة والفزع، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر: ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟
{وقال الإنسان ما لها}.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الإنسان في الآية هو الكافر الذي كان شاكاً في المعاد والبعث، ولكن الظاهر أنّ الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر. فالدهشة من وضع الأرض في ذلك اليوم لا يختص بالكافرين.
وهل هذا السؤال التعجبي يرتبط بالنفخة الاُولى أو الثّانية؟ أي هل يرتبط بنهاية الأرض أم بالبعث؟
الظاهر أنّها النفخة الاُولى حيث تحدث الزلزلة الكبرى وينتهي فيها هذا العالم.
ويحتمل أيضاً أن تكون نفخة البعث والنشور، وإخراج النّاس من الأجداث والآيات التالية ترتبط بالنفخة الثّانية.
ولما كان القرآن يتحدث في مواضع مختلفة عن أحداث النفختين معاً، فالتّفسير الأوّل أنسب لما ورد من ذكر الزلزال المرعب في نهاية العالم. وفي هذه الحالة يكون المقصود من أثقال الأرض معادنها وكنوزها والمواد المذابة فيها.
وأهم من ذلك أنّ الأرض:
{يومئذ تحدث أخبارها}.
تحدّث بالصالح والطالح، وبأعمال الخير والشر، ممّا وقع على ظهرها. وهذه الأرض واحد من أهم الشهود على أعمال الإنسان في ذلك اليوم. وهي إذن رقيبة على ما نفعله عليها.
وفي حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عملوا على ظهرها. تقول عمل كذا وكذا، يوم كذا، فهذا أخبارها»(5).
وفي حديث آخر عن النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «حافظوا على الوضوء وخير أعمالكم الصلاة، فتحفظوا من الأرض فإنّها اُمّكم، وليس فيها أحد يعمل خيراً أوشرّاً إلاّ وهي مخبرة به»(6).
وعن أبي سعيد الخدري قال: متى كنت في بيداء فارفع صوتك بالأذان لأنّي سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «لا يسمعه جن ولا إنس ولا حجر إلاّ يشهد له»(7).
وهل إن تحديث الأرض يعني أنّها تتكلم في ذلك اليوم بأمر اللّه، أم إن المقصود ظهور آثار أعمال الإنسان على ظهر الأرض؟
واضح أنّ كل عمل يقوم به الإنسان يترك آثاره حتماً على ما حوله، وإن خفيت علينا هذه الآثار اليوم، تماماً مثل آثار أصابع اليد التي تبقى على مقبض الباب، وفي ذلك اليوم تظهر كل هذه الآثار، وحديث الأرض ليس سوى هذا الظهور الكبير; تماماً كما نقول لشخص نعسان: عينك تقول إنّك كنت سهراناً أمس. أي إنّ آثار السهر عليها واضحة.
وليس هذا الموضوع بغريب اليوم بعد الإكتشافات العلمية والإختراعات القادرة في كلّ مكان وفي لحظة أن تسجل صوت الإنسان وتصور أعماله وحركاته في أشرطة يمكن طرحها في المحكمة كوثائق إدانة لا تقبل الإنكار.
لو كانت شهادة الأرض فيما مضى عجيبة، فليست اليوم بعجيبة ونحن نرى شريطاً رقيقاً يمكن أن يكون بحجم أزرار اللباس قادراً على أن يحتفظ بكثير من الأعمال والأقوال.
وفي حديث عن علي(عليه السلام) قال: «صلوا المساجد في بقاع مختلفة، فإنّ كلّ بقعة تشهد للمصلّي عليها يوم القيامة»(8).
وعنه(عليه السلام) أيضاً حينما كان يفرغ من تقسيم بيت المال يصلي ركعتين ويقول: «إشهدي أنّي ملأتك بحق وفرغتك بحق»(9).
{بأنّ ربّك أوحى لها}.(10)
فما فعلته الأرض إنّما كان بوحي ربّها، وهي لا تتواني في تنفيذ أمر الرّب.
وعبارة «اُوحى» إنّما هي لبيان أنّ حديث الأرض خلاف طبيعتها، ولا يتيسر ذلك سوى عن طريق الوحي الإلهي.
قيل: إنّ المقصود هو أنّ اللّه يوحي للأرض أن تخرج أثقالها.
والتّفسير الأوّل أصح وأنسب، {يومئذ يصدر النّاس أشتاتاً ليروا أعمالهم}.
«أشتات» جمع «شتّ» ـ على وزن شط ـ وهو المتفرق والمبعثر. أي إنّ النّاس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين. وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كلّ دين منفصلين عن الآخرين.
أوقد يكون لورود أهل كلّ نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل.
أوقد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر.
أو إن كلّ اُمّة ترد مع إمامها وقائدها كما في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء: 71]
أو أنّ يحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين.
الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماماً لأنّ مفهوم الآية واسع.
«يصدر» من الصدور، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة وعكسه الورود. وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب.
ويحتمل أيضاً أن يكون صدور النّاس في الآية من المحشر والتوجه نحو مستقرهم في الجنّة أو النّار.
المعنى الأوّل أكثر تناسباً مع الآيات السابقة.
المقصود من عبارة (ليروا أعمالهم) هل هو: ليروا جزاء أعمالهم.
أو ليروا صحيفة أعمالهم وما سجل فيها من حسنات وسيئات أو المشاهدة الباطنية، بمعنى المعرفة بكيفية الأعمال.
أو أنّها تعني «تجسم الأعمال» ورؤية الأعمال نفسها؟!
التّفسير الأخير أنسب مع ظاهر الآية. وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال. حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالاً تتناسب مع طبيعتها وتنتصب أمام صاحبها. وتكون رفقتها سروراً وانشراحاً أو عذاباً وبلاءً.
ثمّ ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة، الصالحة والطالحة.
{ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}.
{فمن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره}.
وهنا أيضاً تفسيرات مختلفة لرؤية الأعمال هل هي رؤية جزاء الأعمال، أم صحيفة الأعمال، أو العمل نفسه.
ظاهر الآية يدل أيضاً على مسألة «تجسم الأعمال» ومشاهدة العمل نفسه، صالحاً أم سيئاً، يوم القيامة. حتى إذا عمل ما وزنه ذرة من الذرات يره مجسماً يوم القيامة.
«مثقال» في اللغة بمعنى الثقل، وبمعنى الميزان الذي يقاس به الثقل والمعنى الأوّل هو المقصود في الآية.
و«الذرة» ذكروا لها معاني متعددة من ذلك، النملة الصغيرة، والغبار الذي يلصق باليد عند وضعها على الأرض، وذرات الغبار العالقة في الجو التي تتّضح عندما تدخل حزمة ضوء من ثقب داخل غرفة مظلمة.
والذرة تطلق اليوم على أصغر جزء من أجزاء المادة والتي منها تصنع «القنبلة الذرية»، مع احتفاظه بخواص المادة الأصلية. ولا ترى بأقوى المجاهر، وتشاهد آثارها فقط، وتعرف خواصها بالمحاسبات العلمية..
مهما كان مفهوم الذرة فهو هنا أصغر وزن.
هذه الآية على أي حال تهزّ كيان الإنسان الواعي من الأعماق، وتشير إلى أنّ حساب اللّه في ذلك اليوم دقيق وحساس للغاية. وميزان أعمال النّاس دقيق إلى درجة يحصي أقلّ أعمال الإنسان.
_________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص460-464.
2 ـ إذا شرطية، يحتمل أن يكون جزاء شرطها «يومئذ تحدث أخبارها» أو «يومئذ يصدر النّاس أشتاتاً»، أو أنّ الجزاء محذوف والجملة جاءت جواباً لسؤال: متى الساعة؟ والتقدير: إذا زلزلت الأرض زلزالها تقوم الساعة.
3 ـ بالمعنى الأوّل الإضافة لها معنى العموم، وفي الحالة الثّانية معنى العهد. ثمّ إنّ الزلزال بكسر الزاي مصدر، والزلزال بفتح الزاي اسم مصدر، وهذه القاعدة جارية في الفعل الرباعي المضاعف مثل (صلصال) و(وسواس).
4 ـ «أثقال» جمع ثقل ـ على وزن فكر ـ بمعنى الحمل، وقيل إنّه جمع ثَقَل، على وزن عمل، وهو متاع البيت أو المسافر. والمعنى الأوّل أنسب.
5 ـ نور الثقلين، ج5، ص649.
6 ـ مجمع البيان، ج10، ص526.
7 ـ المصدر السابق.
8 ـ لئاليء الأخبار، ج5، ص 79 (الطبعة الجديدة).
9 ـ المصدر السابق.
10 ـ الباء في (بأنّ) للسببية واللام في (لها) بمعنى إلى كما ورد في قوله تعالى: (وأوحى ربّك إلى النحل) (النحل، الآية68).
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|