المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05
أوجه الاستعانة بالخبير
2024-11-05
زكاة البقر
2024-11-05
الحالات التي لا يقبل فيها الإثبات بشهادة الشهود
2024-11-05
إجراءات المعاينة
2024-11-05
آثار القرائن القضائية
2024-11-05

تعاقب الصحو والمطر
18-5-2016
حالة اختيار جنسية التأسيس العراقية بسبب الولادة في العراق
30-11-2021
Sums: Sigma Notation
2-2-2016
معنى كلمة ريب
31-12-2021
عطا بن ابي رباح
14-11-2014
الفوائد الطبية للخضر
29-5-2016


تفسير الاية (1-18) من سورة النجم  
  
49214   07:39 مساءً   التاريخ: 9-10-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف النون / سورة النجم /

قال تعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوإِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُومِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُو بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوأَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم: 1 - 18].

 تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{والنجم إذا هوى} فقيل في معناه أقوال ( أحدها ) أن الله أقسم بالقرآن إذ أنزل نجوما متفرقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ثلاث وعشرين سنة عن الضحاك ومجاهد والكلبي فسمي القرآن نجما لتفرقه في النزول والعرب تسمي التفريق تنجيما والمفرق منجما ( وثانيها ) أنه أراد بالنجم الثريا أقسم بها إذا سقطت وغابت مع الفجر عن ابن عباس ومجاهد والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة قال أبوذؤيب :

فوردن والعيوق مقعد رابي *** الضرباء فوق النجم لا يتتلع(2)

قال ابن دريد والثريا سبعة أنجم ستة ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم ( وثالثها ) أن المراد به جماعة النجوم إذا هوت أي سقطت وغابت وخفيت عن الحسن وأراد به الجنس كما قال الراعي :

وبات يعد النجم في مستحيرة *** سريع بأيدي الأكلين جمودها(3)

 ثم(4)  قيل أشار بأفول النجم إلى طلوعه لأن ما يأفل يطلع فاستدل بأفوله وطلوعه على وحدانية الله تعالى وحركات النجم وتوصف بالهوي عن الجبائي وقيل إن هويه سقوطه يوم القيامة فيكون كقوله وإذا الكواكب انتثرت عن الحسن ( ورابعها ) أنه يعني به الرجوم من النجوم وهوما يرمي به الشياطين عند استراق السمع عن ابن عباس وروت العامة عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)(5) نزل من السماء السابعة ليلة المعراج ولما نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وطلق ابنته وتفل في وجهه وقال كفرت بالنجم وبرب النجم فدعا (صلى الله عليه وآله وسلّم) عليه وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فخرج عتبة إلى الشام فنزل في بعض الطريق وألقى الله عليه الرعب فقال لأصحابه أنيموني بينكم ليلا(6) ففعلوا فجاء أسد فافترسه من بين الناس وفي ذلك يقول حسان :

سائل بني الأصفر إن جئتهم *** ما كان أنباء بني واسع

لا وسع الله له قبره *** بل ضيق الله على القاطع

رمى رسول الله من بينهم *** دون قريش رمية القاذع(7)

واستوجب الدعوة منه بما *** بين للناظر والسامع

فسلط الله به كلبة *** يمشي الهوينا مشية الخادع(8)

والتقم الرأس بيافوخه *** والنحر منه قفرة الجائع

من يرجع العام إلى أهله *** فما أكيل السبع بالراجع

قد كان هذا لكم عبرة *** للسيد المتبوع والتابع

 {ما ضل صاحبكم وما غوى} يعني النبي أي ما عدل عن الحق وما فارق الهدى إلى الضلال وما غوى فيما يؤديه إليكم ومعنى غوى ضل وإنما أعاده تأكيدا وقيل معناه ما خاب عن إصابة الرشد وقيل ما خاب سعيه بل ينال ثواب الله وكرامته {وما ينطق عن الهوى} أي وليس ينطق بالهوى وهكذا كما يقال رميت بالقوس وعن القوس وقيل معناه ولا يتكلم بالقرآن وما يؤديه إليكم عن الهوى الذي هو ميل الطبع {إن هو إلا وحي يوحى} أي ما القرآن وما ينطق به من الأحكام إلا وحي من الله يوحي إليه أي يأتيه به جبرائيل وهو قوله :

{علمه شديد القوى} يعني جبرائيل (عليه السلام) أي القوي في نفسه وخلقته عن ابن عباس والربيع وقتادة والقوى جمع القوة {ذو مرة} أي ذو قوة وشدة في خلقه عن الكلبي قال ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود فرفعها إلى السماء ثم قبلها ومن شدته صيحته لقوم ثمود حتى هلكوا وقيل معناه ذوصحة وخلق حسن عن ابن عباس وقتادة وقيل شديد القوى في ذات الله ذومرة أي صحة في الجسم سليم من الآفات والعيوب وقيل ذو مرة أي ذو مرور في الهواء ذاهبا وجائيا ونازلا وصاعدا عن الجبائي {فاستوى} جبرائيل على صورته التي خلق عليها بعد انحداره إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم).

 {وهو} كناية عن جبرائيل (عليه السلام) أيضا {بالأفق الأعلى} يعني أفق المشرق والمراد بالأعلى جانب المشرق وهو فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء قالوا إن جبرائيل كان يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في صورة الآدميين فسأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء أما في الأرض ففي الأفق الأعلى وذلك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان بحراء فطلع له جبرائيل (عليه السلام) من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مغشيا عليه فنزل جبرائيل (عليه السلام) في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وهو قوله:

 {ثم دنا فتدلى} وتقديره ثم تدلى أي قرب بعد بعده وعلوه في الأفق الأعلى فدنا من محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الحسن وقتادة ثم دنا جبرائيل (عليه السلام) بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقال الزجاج معنى دنا وتدلى واحد لأن معنى دنا قرب وتدلى زاد في القرب كما تقول قد دنا مني فلان وقرب ولو قلت قرب مني ودنا جاز وقيل إن المعنى استوى جبرائيل (عليه السلام) أي ارتفع وعلا إلى السماء بعد أن علم محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن سعيد بن المسيب وقيل استوى أي اعتدل واقفا في الهواء بعد أن كان ينزل بسرعة ليراه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الجبائي وقيل معناه استوى جبرائيل (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالأفق الأعلى يعني السماء الدنيا ليلة المعراج عن الفراء .

{فكان قاب قوسين} أي كان ما بين جبرائيل ورسول الله قاب قوسين والقوس ما يرمي به عن مجاهد وعكرمة وعطا عن ابن عباس وخصت بالذكر على عادتهم يقال قاب قوس وقيب قوس وقيد قوس وقاد قوس وهو اختيار الزجاج وقيل معناه وكان قدر ذراعين عن عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير وشقيق بن سلمة وروي مرفوعا عن أنس بن مالك قال :  قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين فعلى هذا يكون معنى القوس ما يقاس به الشيء والذراع يقاس به قال ابن السكيت قاس الشيء يقوسه قوسا لغة في قاسه يقيسه إذا قدره وقوله {أو أدنى} قال الزجاج إن العباد قد خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم وقيل لهم في هذا ما يقال للذي يحدد فالمعنى فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك وهو كقوله أو يزيدون وقد مر القول فيه وقال عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى جبرائيل (عليه السلام) وله ستمائة جناح أورده البخاري ومسلم في الصحيح {فأوحى إلى عبده ما أوحى} أي فأوحى الله على لسان جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما أوحى وما يحتمل أن تكون مصدرية ويحتمل أن تكون بمعنى الذي وقيل معناه فأوحى جبرائيل (عليه السلام) إلى عبد الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما أوحى الله تعالى إليه عن الحسن والربيع وابن زيد وهو رواية عطا عن ابن عباس وقال سعيد بن جبير أوحي إليه أ لم يجدك يتيما ف آوى إلى قوله {ورفعنا لك ذكرك} وقيل أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك وقيل أوحى الله إليه سرا بسر وفي ذلك يقول القائل :

بين المحبين سر ليس يفشيه *** قول ولا قلم للخلق يحكيه

سر يمازجه أنس يقابله *** نور تحير في بحر من التيه .

وقوله تعالى : {مَا كَذَب الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11) أَ فَتُمَرُونَهُ عَلى مَا يَرَى(12) ولَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13) عِندَ سِدْرَةِ المُْنتَهَى(14) عِندَهَا جَنَّةُ المْأْوَى(15) إِذْ يَغْشى السدْرَةَ مَا يَغْشى(16) مَا زَاغَ الْبَصرُ ومَا طغَى(17) لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَاياَتِ رَبِّهِ الْكُبرَى}:

ثم بين سبحانه ما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليلة الأسرى وحقق رؤيته فقال {ما كذب الفؤاد ما رأى} أي لم يكذب فؤاد محمد ما رآه بعينه فقوله {ما رأى} مصدر في موضع نصب لأنه مفعول كذب والمعنى أنه ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم يربل صدقه الفؤاد رؤيته قال المبرد معنى الآية أنه رأى شيئا فصدق فيه قال ابن عباس رأى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ربه بفؤاده وروي ذلك عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) وهذا يكون بمعنى العلم أي علمه علما يقينا بما رآه من الآيات الباهرات كقول إبراهيم (عليه السلام) ولكن ليطمئن قلبي وإن كان عالما قبل ذلك وقيل إن الذي رآه هو جبرائيل على صورته التي خلقه الله عليها عن ابن عباس وابن مسعود وعائشة وقتادة وقيل إن الذي رآه هوما رآه من ملكوت الله تعالى وأجناس مقدوراته عن الحسن قال وعرج بروح محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى السماء وجسده في الأرض.

 وقال الأكثرون وه والظاهر من مذهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم أن الله تعالى صعد بجسمه إلى السماء حيا سليما حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه ولم يكن ذلك في المنام وهذا المعنى ذكرناه في سورة بني إسرائيل والفرق بين الرؤية في اليقظة وبين الرؤية في المنام أن رؤية الشيء في اليقظة هو إدراكه بالبصر على الحقيقة ورؤيته في المنام تصوره بالقلب على توهم الإدراك بحاسة البصر من غير أن يكون كذلك وعن أبي العالية قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هل رأيت ربك ليلة المعراج قال ((رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك)).

 وروي عن أبي ذر وأبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سئل عن قوله {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال رأيت نورا وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة وذكر الشعبي عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس أنه قال إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأي ربه قال الشعبي وأخبرني مسروق قال سألت عائشة عن ذلك فقالت إنك لتقول قولا إنه ليقف شعري منه قال مسروق قلت رويدا يا أم المؤمنين وقرأت عليها والنجم إذا هوى حتى انتهيت إلى قوله قاب قوسين أوأدنى فقالت رويدا أنى يذهب بك إنما رأى جبرائيل في صورة من حدثك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى ربه فقد كذب والله تعالى يقول {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ومن حدثك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) يعلم الحس من الغيب فقد كذب والله تعالى يقول إن الله عنده علم الساعة إلى آخره ومن حدثك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) كتم شيئا من الوحي فقد كذب والله تعالى يقول بلغ ما أنزل إليك من ربك ولقد بين الله سبحانه ما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بيانا شافيا فقال {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}.

{أ فتمارونه} أي أ فنجادلونه {على ما يرى} وذلك أنهم جادلوه حين أسري به فقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام وغير ذلك مما جادلوه به ومن قرأ أ فتمرونه فالمعنى أ فتجحدونه يقال مريت الرجل حقه إذا جحدته وقيل معناه أ فتدفعونه عما يرى وعلى في موضع عن عن المبرد والمعنيان متقاربان لأن كل مجادل جاحد {ولقد رآه نزلة أخرى} أي رأى جبرائيل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى وذلك أنه رآه مرتين في صورته على ما مر ذكره.

 {عند سدرة المنتهى} أي رآه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو عند سدرة المنتهى وهي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة انتهى إليها علم كل ملك عن الكلبي ومقاتل وقيل إليها ينتهي ما يعرج إلى السماء وما يهبط من فوقها من أمر الله عن ابن مسعود والضحاك وقيل إليها تنتهي أرواح الشهداء وقيل إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ويقبض منها وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح ويقبض منها والمنتهى موضع الانتهاء وهذه الشجرة حيث انتهى إليه الملائكة فأضيفت إليه وقيل هي شجرة طوبى عن مقاتل والسدرة هي شجرة النبوة.

 {عندها جنة المأوى} أي عند سدرة المنتهى جنة المقام وهي جنة الخلد وهي في السماء السابعة وقيل في السماء السادسة وقيل هي الجنة التي كان آوى إليها آدم وتصير إليها أرواح الشهداء عن الجبائي وقتادة وقيل هي التي يصير إليها أهل الجنة عن الحسن وقيل هي التي يأوي إليها جبرائيل والملائكة عن عطا عن ابن عباس {إذ يغشى السدرة ما يغشى} قيل يغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر عن الحسن ومقاتل وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبح الله تعالى وقيل يغشاها من النور والبهاء والحسن والصفاء الذي يروق الأبصار ما ليس لوصفه منتهى عن الحسن وقيل يغشاها فراش من ذهب عن ابن عباس ومجاهد وكأنها ملائكة على صورة الفراش يعبدون الله تعالى والمعنى أنه رأى جبرائيل (عليه السلام) على ما صورته في الحال التي يغشى فيها السدرة من أمر الله ومن العجائب المنبهة على كمال قدرة الله تعالى ما يغشاها وإنما أبهم الأمر فيما يغشى لتعظيم ذلك وتفخيمه كما قال {فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقوله {ما يغشى} أبلغ لفظ في هذا المعنى.

 {ما زاغ البصر وما طغى} أي ما زاغ بصر محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولم يمل يمينا ولا شمالا وما طغى أي ما جاوز القصد ولا الحد الذي حدد له وهذا وصف أدبه صلوات الله عليه وآله في ذلك المقام إذا لم يلتفت جانبا ولم يمل بصره ولم يمده أمامه إلى حيث ينتهي {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} وهي الآيات العظام التي رآها تلك الليلة مثل سدرة المنتهى وصورة جبرائيل (عليه السلام) ورؤيته وله ستمائة جناح قد سد الأفق بأجنحته عن مقاتل وابن زيد والجبائي ومن للتبعيض أي رأى بعض آيات ربه وقيل إنه رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنة قد سد الأفق عن ابن مسعود وقيل إنه قد رأى ربع بقلبه عن ابن عباس فعلى هذا فيمكن أن يكون المراد أنه رأى من الآيات ما ازداد به يقينا إلى يقينه والكبرى تأنيث الأكبر وهو الذي يصغر مقدار غيره عنده في معنى صفته.

_____________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص286- 293.

2- وبأهم وربألهم أي : صار ربيئة لهم اي : راقبهم . والضرباء : جمع الضريبة بمعنى الضارب ، ولا يتتلع اي : لا يشخص للامر ، ولا يرفع راسه للنهوض . وعن ابن بري صوابه : خلف النجم ، كذا في رواية سيبويه.

3- المستحيرة : الجفنة الدسمة الكبيرة.

4- وفي نسخة : وقيل .

5- وفي مخطوطة ليس لفظة ((رسول الله ).

6- وليس فيها ايضا.

7- قذعه : رماه بالفحش ، وسوء القول .

8- وفي المخطوطة بعد ذلك : حتى أتاه وسط اصحابه ، وقد علاهم سنة الهاجع .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

 { والنَّجْمِ إِذا هَوى } . ذكر صاحب البحر المحيط عشرة أقوال في تفسير {والنَّجْمِ إِذا هَوى} وأقربها ان المراد بالنجم كل نجم لأن الألف واللام للجنس ، وان معنى هوت النجوم انها تسقط وتتناثر في الفضاء يوم القيامة بدليل قوله تعالى :

{وإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ} - 2 الانفطار ،  فإن القرآن ينطق بعضه ببعض . . . وفي هذا القسم إشارة إلى أن من أنكر نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) يلقى جزاءه يوم القيامة {ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وما غَوى وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُو إِلَّا وَحْيٌ يُوحى } . هذا هو المقسم عليه ، وهوان محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينطق ويفعل بالوحي من اللَّه ، لا بالشك والجهل ، ولا بغواية غاو، ولا بدافع من ميوله وأهوائه . . . وكيف ينطق النبي أو يفعل عن الهوى ، وقد جاء ليصلح ويقضي على الفساد والأهواء ؟ .

فكان قاب قوسين :

هذه الآيات من قوله تعالى : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى} إلى قوله : {آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} - تشير إلى حادثة معينة لا سبيل إلى معرفتها إلا الوحي ، لأن موضوع

الحادثة هو ظهور جبريل مرتين لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الصورة التي خلقه اللَّه عليها لا على الصورة التي اعتاد النبي أن يراه فيها حين يبلَّغه الوحي . وقد كثّر المفسرون الكلام حول هذه الآيات ، وأطنب بعضهم في أوصاف جبريل وأجنحته بلا حجة ودليل . . . أما نحن فنقتصر على ما يدل عليه ظاهر اللفظ ولا يأباه العقل غير ملتزمين بقول راو أو مفسر إلا على هذا الأساس ، واللَّه المستعان :

1 – {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى } . علَّمه أي بلَّغه ، والضمير يعود إلى صاحبكم ، وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، والمفعول الثاني لعلمه محذوف أي الوحي ، وشديد القوى فاعل علمه ، وهو جبريل ( عليه السلام ) ، والمراد بالقوى هنا الصفات التي تؤهل جبريل لتبليغ الوحي كالحفظ والأمانة والدقة في الأداء حتى كأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يسمع الوحي من اللَّه مباشرة ، والدليل على ان المراد بالقوى الحفظ والأمانة قوله تعالى في وصف جبريل : {وإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} - 193 الشعراء .

وأيضا كلمة علمه تومئ إلى ذلك . وعليه يكون المعنى ان جبريل القوي الأمين بلَّغ محمدا الوحي على حقيقته تماما كما هو في علم اللَّه .

2 – { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى}  . ذو مرة صفة لجبريل ، والمراد بالمرة بكسر الميم الهيئة والصورة ، واستوى استقام ، والمعنى ان جبريل ظهر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مستويا كما خلقه اللَّه .

3 - ( وهُو بِالأُفُقِ الأَعْلى ) . ضمير هو لجبريل أي ان جبريل حين ظهر على صورته للنبي امتد مرتفعا في الجو، وقال المفسرون : الأفق الأعلى مطلع الشمس أي المشرق ، والأفق الأدنى مغربها ، وعلى أية حال فإن القصد هو الإخبار عن جبريل بأن صورته امتدت في الجو، ولا يهم أن يكون هذا الجو لجهة المشرق أو المغرب .

4 – {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَو أَدْنى}. في كل من دنا وتدلى ضمير يعود إلى جبريل ، ودنا أي قرب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، وتدلى نزل ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والأصل ثم تدلى فدنا ، وألقاب المقدار ، والمعنى ان جبريل بعد أن ظهر للنبي كما خلقه اللَّه ، وارتفع جسمه بالأفق ، بعد هذا عاد إلى الصورة التي كان يلقى النبي بها حين يبلَّغه الوحي ، وقرب منه حتى لم يكن

بينهما سوى مقدار قوسين بل أقل من ذلك . والمعروف ان جبريل كان يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في صورة دحية الكلبي .

5 – { فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى} . الضمير المستتر في أوحى يعود إلى اللَّه لا إلى جبريل ، لأن الضمير البارز في عبده يفسر الضمير المستتر ، والمراد بعبده أي عبد اللَّه هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، والمعنى ان جبريل بعد أن عاد إلى الصورة التي كان يلقى بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودنا منه ، بعد هذا أوحى اللَّه على لسان جبريل إلى عبده محمد أمورا هامة .

6 – {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} . معناه ان رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى جبريل ببصره وقلبه تماما كما خلقه اللَّه ، فلا العين أخطأت فيما رأت ، ولا القلب شك فيما رأت العين بل أيقن وجزم بصدقها {أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى} ؟ . الخطاب للمشركين ، والمعنى أتكذبون محمدا وتجادلونه فيما رأت عيناه وآمن به قلبه وعقله ، وهومن عرفتم صدقه وأمانته ، وعقله واتزانه ؟ .

7 – {ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى} . الضمير المستتر في رآه يعود إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، والهاء إلى جبريل ، والنزلة المرة من النزول ، والمراد بسدرة المنتهى مكان الانتهاء والحد الأقصى الذي يبلغ إليه مخلوق حتى ولوكان من الملائكة .

وقال جماعة من المفسرين : ان في السماء السابعة شجرة تقع عن يمين العرش ، وتسمى هذه الشجرة بسدرة المنتهى ! . . . وهذا القول يفتقر إلى دليل ، ومهما يكن فنحن غير مسؤولين عن معرفتها بالضبط ما دام اللَّه سبحانه قد سكت عن التحديد .

والذي نفهمه من الآية مع ملاحظة ما جاء في سورة الإسراء - ان جبريل ( عليه السلام ) حمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليلة المعراج ، وطاف به في السماوات حتى انتهى به المطاف إلى الحد الأقصى الذي عبّر عنه سبحانه بسدرة المنتهى ، فوقف عنده ولم يتجاوزه إلى غيره لجهة العلو، أما جنة المأوى فقد تضاربت الأقوال في تفسيرها . . . والظاهر انها جنة الخلد التي جعلها اللَّه ثوابا للمتقين بدليل قوله تعالى : {وأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} - 39 النازعات فإن القرآن ينطق بعضه ببعض .

والمعنى المحصل ان رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى جبريل مرتين كما خلقه اللَّه : المرة الأولى هي المشار إليها بقوله سبحانه : {فَاسْتَوى وهُو بِالأُفُقِ الأَعْلى} الخ وتقدم الكلام عنها . والمرة الثانية كانت في ليلة المعراج حيث طاف جبريل في السماء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى بلغ به مكان الانتهاء والحد الأقصى الذي لا يتجاوزه مخلوق كائنا من كان . . هذا كل ما دل عليه ظاهر اللفظ أو ما فهمنا نحن من الظاهر ، وما عداه فهو- في رأينا - من الغيب المحجوب .

{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى} . يغشى فعل يكون بمعنى يغطي ، وبمعنى يأتي ، تقول : يغشى فلان فلانا أي يأتيه ، وتفسير الآية يصح بالمعنيين لأن المراد انه يوجد عند سدرة المنتهى عجائب من آثار قدرة اللَّه وعظمته ما لا يبلغه وصف ولا يحده عقل ، ولذا أبهم سبحانه ، وترك التفصيل { ما زاغَ الْبَصَرُ وما طَغى} . .

كلا ، ما حاد بصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الواقع ولا تجاوز عنه ، وكل ما رآه في جبريل وفي السماء ليلة المعراج هو حق وصدق {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} .

ورؤية الآيات التي شاهدها الرسول في معراجه هي فوق الحساب وفوق الزمان والمكان . . ومستحيل أن يراها إنسان إلا بقدرة اللَّه ومشيئته . وتكلمنا عن الإسراء والمعراج عند تفسير الآية 1 من سورة الإسراء ج 5 ص 8 فقرة : (الإسراء بالروح والجسد) .

____________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص173-176.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

غرض السورة تذكير الأصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته والمعاد والنبوة فتبدأ بالنبوة فتصدق الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصفه ثم تتعرض للوحدانية فتنفي الأوثان والشركاء أبلغ النفي ثم تصف انتهاء الخلق والتدبير إليه تعالى من إحياء وإماتة وإضحاك وإبكاء وإغناء وإقناء وإهلاك وتعذيب ودعوة وإنذار، وتختم الكلام بالإشارة إلى المعاد والأمر بالسجدة والعبادة.

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها ولا يصغي إلى قول بعضهم بكون بعض آياتها أوكلها مدنية، وقد قيل: إنها أول سورة أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقراءتها فقرأها على المؤمنين والمشركين جميعا، ومن غرر الآيات فيها قوله تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى} وقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.

وما أوردناه من الآيات هي الفصل الأول من فصول السورة الثلاثة وهي الآيات اللاتي تصدق الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصفه، لكن هناك روايات مستفيضة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ناصة على أن المراد بالآيات ليس بيان صفة كل وحي بل بيان وحي المشافهة الذي أوحاه الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج فالآيات متضمنة لقصة المعراج وظاهر الآيات لا يخلو من تأييد لهذه الروايات وهو المستفاد أيضا من أقوال بعض الصحابة كابن عباس وأنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم على ما روي عنهم وعلى ذلك جرى كلام المفسرين وإن اشتد الخلاف بينهم في تفسير مفرداتها وجملها.

قوله تعالى: {والنجم إذا هوى} ظاهر الآية أن المراد بالنجم هو مطلق الجرم السماوي المضيء وقد أقسم الله في كتابه بكثير من خلقه ومنها عدة من الأجرام السماوية كالشمس والقمر وسائر السيارات، وعلى هذا فالمراد بهوى النجم سقوطه للغروب.

وقيل: المراد بالنجم القرآن لنزوله نجوما، وقيل: الثريا، وقيل: الشعري، وقيل: الشهاب الذي يرمى به شياطين الجن لأن العرب تسميه نجما، وللهوى ما يناسب لكل من هذه الأقوال من المعنى، لكن لفظ الآية لا يساعد على شيء من هذه المعاني.

قوله تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى{ الضلال الخروج والانحراف عن الصراط المستقيم، والغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع، قال الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد، وهذا النحو الثاني يقال له غي، قال تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى}.

انتهى.

والمراد بالصاحب هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والمعنى: ما خرج صاحبكم عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولا أخطأ في اعتقاده ورأيه فيها، ويرجع المعنى إلى أنه لم يخطىء لا في الغاية المطلوبة التي هي السعادة الإنسانية وهو عبوديته تعالى، ولا في طريقها التي تنتهي إليها.

قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} المراد بالهوى هوى النفس ورأيها، والنطق وإن كان مطلقا ورد عليه النفي وكان مقتضاه نفي الهوى عن مطلق نطقه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنه لما كان خطابا للمشركين وهم يرمونه في دعوته وما يتلو عليهم من القرآن بأنه كاذب متقول مفتر على الله سبحانه كان المراد بقرينة المقام أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ينطق فيما يدعوكم إلى الله أو فيما يتلوه عليكم من القرآن عن هوى نفسه ورأيه بل ليس ذلك إلا وحيا يوحى إليه من الله سبحانه.

قوله تعالى: {علمه شديد القوى} ضمير {علمه} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو للقرآن بما هو وحي أو لمطلق الوحي والمفعول الآخر لعلمه محذوف على أي حال والتقدير علم النبي الوحي أو علم القرآن أو الوحي إياه.

والمراد بشديد القوى - على ما قالوا - جبريل وقد وصفه الله بالقوة في قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] ، وقيل: المراد به هو الله سبحانه.

قوله تعالى: {ذو مرة فاستوى} المرة بكسر الميم الشدة، وحصافة العقل والرأي وبناء نوع عن المرور وقد فسرت المرة في الآية بكل من المعاني الثلاثة مع القول بأن المراد بذي مرة جبريل، والمعنى: هو أي جبريل ذو شدة في جنب الله أو هو ذو حصافة في عقله ورأيه، أو هو ذو نوع من المرور بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الهواء.

وقيل: المراد بذو مرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ذو شدة في جنب الله أو ذو حصافة في عقله ورأيه أو ذو نوع من المرور عرج فيه إلى السماوات.

وقوله: {فاستوى} بمعنى استقام أو استولى وضمير الفاعل راجع إلى جبريل والمعنى: فاستقام جبريل على صورته الأصلية التي خلق عليها على ما روي أن جبريل كان ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صور مختلفة، وإنما ظهر له في صورته الأصلية مرتين أو المعنى: فاستولى جبريل بقوته على ما جعل له من الأمر.

وإن كان الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالمعنى فاستقام واستقر.

قوله تعالى: {وهو بالأفق الأعلى} الأفق الناحية قيل: المراد بالأفق الأعلى ناحية الشرق من السماء لأن أفق المشرق فوق المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء وهوكما ترى والظاهر أن المراد به أفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه أفقا شرقيا.

وضمير هو في الآية راجع إلى جبريل أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والجملة حال من ضمير {استوى}.

قوله تعالى: {ثم دنا فتدلى} الدنو القرب، والتدلي التعلق بالشيء ويكنى به عن شدة القرب، وقيل: الامتداد إلى جهة السفل مأخوذ من الدلو.

والمعنى: على تقدير رجوع الضميرين لجبريل: ثم قرب جبريل فتعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به إلى السماوات، وقيل: ثم تدلى جبريل من الأفق الأعلى فدنا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به.

والمعنى: على تقدير رجوع الضميرين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ثم قرب النبي من الله سبحانه وزاد في القرب.

قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال في المجمع: القاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء انتهى.

والقوس معروفة وهي آلة الرمي، ويقال قوس على الذراع في لغة أهل الحجاز على ما قيل.

والمعنى: فكان البعد قدر قوسين أو قدر ذراعين أو أقرب من ذلك.

وقيل: القاب ما بين مقبض القوس وسيتها ففي الكلام قلب والمعنى: فكان قابي قوس، واعترض عليه بأن قابي قوس وقاب قوسين واحد فلا موجب للقلب.

قوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} ضمير أوحى في الموضعين لجبريل على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى جبريل، والمعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أوحى، قيل: ولا ضير في رجوع الضمير إليه تعالى من عدم سبق الذكر لكونه في غاية الوضوح.

أو الضمائر الثلاث لله والمعنى: فأوحى الله بتوسط جبريل إلى عبده ما أوحى أو الضمير الأول لجبريل والثاني والثالث لله والمعنى فأوحى جبريل ما أوحى الله إليه إلى عبد الله.

والضمائر الثلاث كلها لله على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعنى: فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وهذا المعنى أقرب إلى الذهن من المعنى السابق الذي لا يرتضيه الذوق السليم وإن كان صحيحا.

قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} الكذب خلاف الصدق يقال: كذب فلان في حديثه، ويقال: كذبه الحديث بالتعدي إلى مفعولين أي حدثه كذبا، والكذب كما يطلق على القول والحديث الذي يلفظه اللسان كذلك يطلق على خطاء القوة المدركة يقال: كذبته عينه أي أخطأت في رؤيتها.

ونفي الكذب عن الفؤاد إنما هو بهذا المعنى سواء أخذ الكذب لازما والتقدير ما كذب الفؤاد فيما رأى أو متعديا إلى مفعولين، والتقدير ما كذب الفؤاد - فؤاد النبي - النبي ما رآه أي إن رؤية فؤاده فيما رآه رؤية صادقة.

وعلى هذا فالمراد بالفؤاد فؤاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضمير الفاعل في {ما رأى} راجع إلى الفؤاد والرؤية رؤيته.

ولا بدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد فإن للإنسان نوعا من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواس الظاهرة والتخيل والتفكر بالقوى الباطنة كما إننا نشاهد من أنفسنا أننا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية إبصارا بالبصر ولا معلوما بفكر، وكذا نرى من أنفسنا أننا نسمع ونشم ونذوق ونلمس ونشاهد أننا نتخيل ونتفكر وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواس الظاهرة أو الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد إدراك كل منا لمدركها وليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد.

وليس في الآية ما يدل على أن متعلق الرؤية هو الله سبحانه وأنه لمرئي له (صلى الله عليه وآله وسلم) بل المرئي هو الأفق الأعلى والدنو والتدلي وأنه أوحى إليه فهذه هي المذكورة في الآيات السابقة وهي آيات له تعالى، ويؤيد ذلك ما ذكره تعالى في النزلة الأخرى من قوله: {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى}.

على أنها لو دلت على تعلق الرؤية به تعالى لم يكن به بأس فإنها رؤية القلب ورؤية القلب غير رؤية البصر الحسية التي تتعلق بالأجسام ويستحيل تعلقها به تعالى وقد قدمنا كلاما في رؤية القلب في تفسير سورة الأعراف الآية 143.

وما قيل: إن ضمير {ما رأى} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعنى: ما قال فؤاده (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، ومحصله أن فؤاده صدق بصره فيما رآه.

وكذا ما قيل: إن المعنى أن فؤاده لم يكذب بصره فيما رآه بل صدقه واعتقد به، ويؤيده قراءة من قرأ {ما كذب} بتشديد الذال.

ففيه أن الذي يعطيه سياق الآيات تأييده تعالى صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يدعيه من الوحي ورؤية آيات الله الكبرى، ولوكان ضمير {ما رأى} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان محصل معنى الآية الاحتجاج على صدق رؤيته باعتقاده ذلك بفؤاده وهو بعيد من دأب القرآن وهذا بخلاف ما لو رجع ضمير {ما رأى} إلى الفؤاد فإن محصل معناه تصديقه تعالى لفؤاده فيما رآه ويجري الكلام على السياق السابق الأخذ من قوله: {ما ضل صاحبكم وما غوى إن هو إلا وحي يوحى} إلخ.

فإن قلت: إنه تعالى يحتج في الآية التالية {أ فتمارونه على ما يرى} برؤيته (صلى الله عليه وآله وسلم) على صدقه فيما يدعيه فليكن مثله الاحتجاج باعتقاد فؤاده بما يراه بعينه.

قلت: ليس قوله: {أ فتمارونه على ما يرى} مسوقا للاحتجاج برؤيته على صدقه بل توبيخ على مماراتهم إياه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمر يراه ويبصره ومجادلتهم إياه فيه، والمماراة والمجادلة إنما تصح – لو صحت - في الآراء النظرية والاعتقادات الفكرية وأما فيما يرى ويشاهد عيانا فلا معنى للمماراة والمجادلة فيه، وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان يخبرهم بما يشاهده عيانا لا عن فكر وتعقل.

قوله تعالى: {أ فتمارونه على ما يرى} الاستفهام للتوبيخ والخطاب للمشركين والضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمماراة الإصرار على المجادلة، والمعنى: أ فتصرون في جدالكم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذعن بخلاف ما يدعيه ويخبركم به وهو يشاهد ذلك عيانا.

قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد، وتدل الآية على أن هذه قصة رؤية في نزول آخر والآيات السابقة تقص نزولا آخر غيره.

وقد قالوا: إن ضمير الفاعل المستكن في قوله {رآه} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضمير المفعول لجبريل، وعلى هذا فالنزلة نزول جبريل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به إلى السماوات، وقوله: {عند سدرة المنتهى} ظرف للرؤية لا للنزلة، والمراد برؤيته رؤيته وهو في صورته الأصلية.

والمعنى: أنه نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزلة أخرى وعرج به إلى السماوات وتراءى له (صلى الله عليه وآله وسلم) عند سدرة المنتهى وهو في صورته الأصلية.

وقد ظهر مما تقدم صحة إرجاع ضمير المفعول إليه تعالى والمراد بالرؤية رؤية القلب والمراد بنزلة أخرى نزلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند سدرة المنتهى في عروجه إلى السماوات فالمفاد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل نزلة أخرى أثناء معراجه عند سدرة المنتهى فرآه بقلبه كما رآه في النزلة الأولى.

قوله تعالى: {عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى} السدر شجر معروف والتاء للوحدة والمنتهى - كأنه - اسم مكان ولعل المراد به منتهى السماوات بدليل كون الجنة عندها والجنة في السماء، قال تعالى: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].

ولا يوجد في كلامه تعالى ما يفسر هذه الشجرة، وكان البناء على الإبهام كما يؤيده قوله بعد: {إذ يغشى السدرة ما يغشى{ وقد فسر في الروايات أيضا بأنها شجرة فوق السماء السابعة إليها تنتهي أعمال بني آدم وستمر ببعض هذه الروايات.

وقوله: {عندها جنة المأوى{ أي الجنة التي يأوي إليها المؤمنون وهي جنة الآخرة فإن جنة البرزخ جنة معجلة محدودة بالبعث، قال تعالى: {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 19] ، وقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى- إلى أن قال - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 41] وهي في السماء على ما يدل عليه قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} وقيل: المراد بها جنة البرزخ.

وقوله: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} غشيان الشيء الإحاطة به، و{ما} موصولة والمعنى: إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها، وقد أبهم تعالى هذا الذي يغشى السدرة ولم يبين ما هو كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} الزيغ الميل عن الاستقامة، والطغيان تجاوز الحد في العمل، وزيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، وطغيانه إدراكه ما لا حقيقة له، والمراد بالبصر بصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والمعنى: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية ولا أبصر ما لا حقيقة له بل أبصر غير خاطىء في إبصاره.

والمراد بالإبصار رؤيته (صلى الله عليه وآله وسلم) بقلبه لا بجارحة العين فإن المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله: {ولقد رآه نزلة أخرى} المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الأولى التي يشير إليها بقوله: {ما كذب الفؤاد ما رأى أ فتمارونه على ما يرى} فافهم ولا تغفل.

قوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} {من} للتبعيض، والمعنى: أقسم لقد شاهد بعض الآيات الكبرى لربه، وبذلك تم مشاهدة ربه بقلبه فإن مشاهدته تعالى بالقلب إنما هي بمشاهدة آياته بما هي آياته فإن الآية بما هي آية لا تحكي إلا ذا الآية ولا تحكي عن نفسه شيئا وإلا لم تكن من تلك الجهة آية.

وأما مشاهدة ذاته المتعالية من غير توسط آية وتخلل حجاب فمن المستحيل ذلك قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].

____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19، ص23-29.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

ممّا يجدر بيانه أنّ السورة السابقة «الطور» ختمت بكلمة «النجوم» وهذه السورة بُدئت بـ «والنجم» ـ إذ أقسم به الله قائلا: (والنجم إذا هوى)!

وهناك إحتمالات كثيرة في المراد من «النجم» هنا، فكلّ من المفسّرين يختار تفسيراً. إذ قال بعضهم بأنّ المراد منه هو «القرآن المجيد» لأنّه يتناسب والآيات التي تلي الآية محلّ البحث، وهي في شأن الوحي، والتعبير بالنجم هو لأنّ العرب يستعملون هذا اللفظ في ما يتمّ في مراحل أو فواصل مختلفة ويسمّونها (أي الفواصل) «نجوماً» (وتستعمل كلمة النجوم على أقساط الدين واُمور اُخر من هذا القبيل أيضاً).

وحيث أنّ القرآن نزل خلال 23 سنةً في مراحل ومقاطع مختلفة على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد سمّي نجماً والمراد من «إذا هوى» نزوله على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفسّره آخرون ببعض الكواكب في السماء كالثريا(2) أو الشعرى(3) لأنّ لكلّ منهما أهميّته الخاصّة!.

وقال بعضهم بأنّه الشهاب الثاقب» الذي ترمى به الشياطين لئلاّ تصعد في السماء والعرب يسمّون الشهاب نجماً.

إلاّ أنّه لا دليل مقبول على أيّ من هذه التفاسير الأربعة بل الظاهر من الآية ما يقتضيه إطلاق كلمة «والنجم» القسم بنجوم السماء كافّة التي هي من أدلّة عظمة الله ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة لله تعالى.

وليست هذه هي المرّة الاُولى التي يقسم القرآن فيها بموجودات عظيمة من عالم الخلق والإيجاد، ففي آيات اُخر أيضاً أقسم القرآن بالشمس والقمر وأمثالها!

والتعويل على غروبها واُفولها مع أنّ طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر، هولأنّ غروب النجم دليل على حدوثه كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب كما ورد في قصّة إبراهيم الخليل (عليه السلام) {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76].

وينبغي الإلتفات إلى هذا المعنى، وهو أنّ «الطلوع» في اللغة يعبّر عنه بـ «النجم» لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته: أصل النجم هو الكوكب الطالع، ولذلك فإنّهم يعبّرون عن ظهور النبات على الأرض والسنّ في اللثّة ووضوح النظرية في الذهن بـ نَجَمَ!

وهكذا فإنّ الله أقسم بطلوع الكواكب وغروبها أيضاً، لأنّ ذلك دليل على حدوثها وأسارتها في قبضة قوانين الخلق(4).

لكن لنعرف لِمَ أقسم الله بالنجم؟ الآية التالية توضّح ذلك فتقول: {ما ضلّ صاحبكم وما غوى}.

فهو يخطو في مسير الحقّ دائماً، وليس في أقواله ولا في أعماله أيّ إنحراف!

والتعبير بـ «الصاحب» أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة!

والكثير من المفسّرين لم يفرّقوا بين «ضلّ» و«غوى» بل عدّوا كلاًّ منهما مؤكّداً للآخر، إلاّ أنّ بعضهم يعتقد أنّ بينهما فرقاً وتفاوتاً! فالضلال هو أن لا يجد الإنسان طريقاً إلى هدفه، والغواية هي أن لا يخلو طريقه من إشكال أولا يكون مستقيماً. فالضلال كالكفر مثلا والغواية كالفسق والذنب .. إلاّ أنّ «الراغب» يقول في الغي: انّه الجهل الممزوج بالإعتقاد الفاسد.

فبناءً على ذلك فالضلالة معناها مطلق الجهل وعدم المعرفة، إلاّ أنّ الغواية جهل ممزوج أو مشوب بالعقيدة الباطلة.

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه يريد بهذه العبارة الموجزة أن ينفي كلّ نوع من أنواع الإنحراف والجهل والضلال والخطأ عن نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن يحبط ما وجّهه أعداؤه إليه من التّهم في هذا الصدد.

ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أنّ ما يقوله هومن الله فإنّ القرآن يضيف قائلا: {وما ينطق عن الهوى}.

وهذا التعبير مشابه التعبير الإستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد نفي الضلالة والغواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع

الهوى.

ونقرأ في سورة ص الآية (26) منها: { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

كما ورد في حديث معروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أمير المؤمنين: «أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ»(5).

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ جملة {ما ضلّ صاحبكم} ناظره إلى نفي الجنون عن النّبي وجملة {وما غوى} ناظرة إلى نفي الشعر عنه لأنّه ورد في الآية (224) من سورة الشعراء قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } [الشعراء: 224] (أي الشعراء من أهل الدنيا) وأمّا جملة {وما ينطق عن الهوى} فناظرة إلى نفي الكهانة، لأنّ الكهنة أفراد يعبدون الهوى.

ثمّ تأتي الآية التالية لتصرّح: {إن هو إلاّ وحي يوحى}.

فهولا يقول شيئاً من نفسه، وليس القرآن من نسج فكره! بل كلّ ما يقوله فمن الله، والدليل على هذا الإدّعاء كامن في نفسه. فالتحقيق في آيات القرآن يكشف بجلاء أنّه لن يستطيع إنسان مهما كان عالماً ومفكّراً ـ فكيف بالاُمّي الذي لم يقرأ ولم يكتب في محيط مملوء بالخرافات ـ أن يأتي بكلام غزير المحتوى كالقرآن، إذ ما يزال بعد مضي القرون والعهود ملهماً للأفكار، ويمكنه أن يكون أساساً لبناء مجتمع صالح مؤمن سالم!

وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أنّ هذا القول ليس خاصّاً بآيات القرآن، بل بقرينة الآيات السابقة يشمل سنّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً وأنّها وفق الوحي، لأنّ هذه الآية تقول بصراحة «وما ينطق عن الهوى».

والحديث الطريف التالي شاهد آخر على هذا المدّعى.

يقول العلاّمة السيوطي في تفسيره الدرّ المنثور: أمر رسول الله يوماً أن توصد جميع الأبواب المشرفة على المسجد ـ من بيوت الصحابة ـ سوى باب علي فكان هذا الأمر عزيزاً على المسلمين حتّى أنّ حمزة عمّ النّبي عتب عليه وقال: كيف أوصدت أبواب عمّك وأبي بكر وعمر والعبّاس؟! وتركت باب علي مفتوحاً «وفضّلته على الآخرين؟!» فلمّا علم النّبي أنّ هذا الأمر صعب عليهم دعا الناس إلى المسجد وخطب خطبة عصماء وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أيّها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ثمّ قرأ: {والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى}»(6).

وهذا الحديث الذي يكشف عن علو مقام أمير المؤمنين علي بين جميع الاُمّة الإسلامية بعد الرّسول يدلّ على أنّه ليست أقوال النّبي طبق الوحي فحسب بل حتّى أعماله وأفعاله وتقديره وسيرته أيضاً.

وقوله تعالى : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى (6) وَهُو بِالاْفُقِ الاْعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَو أَدْنَى ( 9 )فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)أَفَتُمَرُونَهُ عَلَى مَا يَرَى }:

أوّل لقاء مع الحبيب:

تعقيباً على الآيات المتقدّمة التي تحدّثت عن نزول الوحي على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يجري الكلام في هذه الآيات عن معلّم الوحي.

ولكن ينبغي قبل كلّ شيء الإلتفات إلى أنّ هذه الآيات تبدو لأوّل وهلة وكأنّها محاطة بهالة من الإبهام ممّا يستلزم أن تبحث في معطياتها ومفاهيمها بدقّة كاملة لإزالة الإبهام عنها، فتتناول أوّلا تفسيرها الإجمالي ثمّ نتناولها بالتفصيل!

تقول الآية: إنّ من له تلك القدرة العظيمة هو الذي علم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (علّمه شديد القوى).

وللتأكيد أكثر تضيف الآية بعدها إنّه ذو قدرة خارقة ومتسلّط على كلّ شيء:

{ذو مرّة فاستوى}.

وقد علّمه هذا التعليم عندما كان بالاُفق الأعلى: {وهو بالاُفق الأعلى}.

ثمّ إقترب وإقترب حتّى كان بفاصلة قوسين من معلّمه أو أقل {ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى} ثمّ أنّ الله تعالى أنزل عليه الوحي {فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى}.

وهناك في تفسير هذه الآيات نظريتان إحداهما مشهورة، والاُخرى مغمورة .. ولكن يلزمنا أن نتناول بعض مفردات الآيات بالإيضاح ثمّ بيان التّفسيرين المختلفين.

«المِرّة» .. كما يقول أرباب اللغة وأهلها معناها الفَتل، وحيث أنّ الحبل كلّما فُتل أكثر كان أشدّ إحكاماً وقوّة .. فإنّ هذه الكلمة إستعملت في الاُمور المادية أو المعنوية المحكمة والقويّة.

وقال بعض المفسّرين: المِرّة مأخوذة من المرور، فمعناها العبور، لكن هذا الرأي لا ينسجم مع ما كتبه أهل اللغة في هذا الصدد.

«تدَلى» فعل مأخوذ من التدلّي على وزن تجلّي، ومعناه كما يقول الراغب في مفرداته الإقتراب، فبناءً على ذلك فهو تأكيد على جملة «دنا» الواردة قبله، وكلا الفعلين بمعنى واحد تقريباً.

على أنّ بعض المفسّرين فَرّق بين الفعلين في المعنى فقال: «التدلّي» معناه التعلّق بالشيء كتعلّق الثمر بالشجر ولذلك يقال في الأثمار المتدلّية من أشجارها «دوالي»(7).

«قاب» بمعنى مقدار ـ و«قوس» (معروف معناه) وهوما يوضع في وترة السهم ليُرمى به فمعنى «قاب قوسين» .. قدر طول قوسين.

وفسّر بعضهم «القوس» بأنّه المقياس فهو مشتقّ من القياس، وحيث انّ مقياس العرب

[الذراع] وهوما بين الزند والمرفق فيكون معنى «قاب قوسين» على هذا الرأي: مقدار ذراعين.

وورد في بعض كتب اللغة لكلمة «قاب» معنى آخر، هو الفاصلة بين محل اليد من القوس إلى نقطة إنتهاء القوس.

فبناءً على هذا فإنّ «قاب قوسين» معناه مجموع إنحناء القوس (فلاحظوا بدقّة)(8).

ـ بعد هذا كلّه لنرجع إلى التّفسيرين ـ

فالنظرية المشهورة الاُولى تقول أنّ معلّم النّبي أمين الوحي جبرئيل الذي له قدرة خارقة.

وكان يأتي النّبي بصورة رجل حسن الطلعة ويبلّغه رسالة الله، وظهر للنّبي بصورته الحقيقيّة مرّتين طوال فترة رسالة النّبي وعمره الشريف.

المرّة الاُولى هي ما تشير إليه الآيات محلّ البحث، إذ ظهر في الاُفق الأعلى فطبق المشرق والمغرب جميعهما، وكان عظيماً حتّى أنّه هال النبي، ثمّ دنا فاقترب من النّبي فلم يكن بينهما مسافة بعيدة إلاّ بمقدار ذراعين، والتعبير بـ «قاب قوسين» كناية عن منتهى الإقتراب.

والمرّة الثانية ـ ظهر له ـ في معراجه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنبيّن ذلك في الآيات المقبلة التي تتحدّث عن هذا الأمر بإذن الله.

ويرى بعض المفسّرين ممّن إختار هذه النظرية بأنّ اللقاء الأوّل الذي ظهر له جبرئيل فيها بصورته الحقيقيّة كان في غار حراء الواقع في جبل النور(9).

إلاّ أنّ هذه النظرية بالرغم ممّا لها من أتباع كثيرين لا تخلو من إشكالات مهمّة:

1 ـ في الآية: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} مرجع الضمير في «عبده» هو الله بلا شكّ، مع أنّه لوكان «شديد القوى» يعني جبرئيل فإنّ جميع الضمائر في الآيات بعده تعود عليه .. صحيح أنّه يمكن أن يعرف أنّ موضوع هذه الآية خارج عن الآيات الاُخر من خلال القرائن الموجودة فيها، إلاّ أنّ إضطراب السياق في الآيات، وعدم تناسق عود الضمائر خلاف الظاهر قطعاً!

2 ـ {شديد القوى}: هذا التعبير الذي يعني من له قوى خارقة إنّما يناسب ذات الله المقدّسة فحسب. صحيح أنّ الآية (20) من سورة التكوير تعبّر عن جبرئيل بـ {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } [التكوير: 20] إلاّ أنّ بين (شديد القوى) الواسع في مفهومه وبين «ذي قوّة» المذكورة فيه كلمة «قوّة» بصيغة التنكير والإفراد فرقاً كبيراً.

3 ـ جاء في الآيات التالية أنّ النّبي رآه «عند سدرة المنتهى» (في السماء العليا) ولوكان المقصود منه جبرئيل فهوكان مع النّبي في معراجه من بداية المعراج إلى المنتهى، ولم يره النّبي عند سدرة المنتهى فحسب .. إلاّ أن يقال رآه في الأرض بصورة بشر وفي السماء بصورته الحقيقيّة .. ولا قرينة على ذلك في الآيات.

4 ـ التعبير بـ «علّمه» ـ وأمثاله لم يرد في القرآن في شأن جبرئيل أبداً، بل هو في شأن تعليم الله نبيّه محمّداً وأنبياءه الآخرين، وبتعبير آخر فإنّ جبرئيل لم يكن معلّم النّبي محمّد، بل أمين وحيه، ومعلّمه الله فحسب.

5 ـ صحيح أنّ جبرئيل ملك له مقام رفيع، إلاّ أنّه من المقطوع به أنّ مقام النّبي أعلى منه شأناً: كما ورد في قصّة المعراج أنّه كان يصعد ـ في المعراج ـ مع النّبي فوصلا إلى نقطة فتوقّف جبرئيل عن الصعود وقال للنبي: «لو دنوت قيد أنملة لاحترقت» إلاّ أنّ النّبي واصل سيره وصعوده!.

فمع هذه الحال فإنّ رؤية جبرئيل في صورته الأصلية لا تتناسب والأهميّة المذكورة في هذه الآيات، وبتعبير أكثر بساطةً: لم تكن رؤية النّبي لجبرئيل على تلك الأهميّة .. فمع أنّ هذه الآيات اهتمّت بهذه الرؤية إهتماماً بالغاً!

6 ـ جملة: {ما كذب الفؤاد ما رأى} هي أيضاً دليل على الرؤية القلبية لا البصرية الحسّية لجبرئيل.

7 ـ ثمّ بعد هذا كلّه فما ورد من الرّوايات عن أهل البيت لا يفسّر هذه الآيات بأنّها في رؤية النّبي لجبرئيل، بل الرّوايات موافقة للتفسير الثاني القائل بأنّ المراد من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات الله المقدّسة التي تجلّت للرسول وتكرّرت في المعراج واهتزّ لها النّبي وهالته(10).

ينقل الشيخ الطوسي في أماليه عن ابن عبّاس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لمّا عُرِج بي إلى السماء دنوت من ربّي عزّوجلّ حتّى كان بيني وبينه قاب قوسين أوأدنى»(11).

وينقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع المضمون ذاته عن هشام بن الحكم عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من حديث طويل أنّه قال: «فلمّا اُسري بالنّبي وكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى رُفِعَ له حجاب من حُجُبهِ»(12).

وفي تفسير علي بن إبراهيم ورد أيضاً: «ثمّ دنا ـ يعني رسول الله ـ من ربّه عزّوجلّ»(13) وقد ورد هذا المعنى في روايات متعدّدة ولا يمكن عدم الإكتراث بهذا المعنى.

كما ورد هذا المعنى في روايات أهل السنّة، إذ نقل صاحب «الدرّ المنثور» ذلك عن ابن عبّاس من طريقين(14).

فمجموع هذه القرائن يدعونا إلى إختيار التّفسير الثاني القائل بأنّ المراد من «شديد القوى» هو الله، وأنّ النّبي كان قد إقترب من الله تعالى أيضاً.

ويبدو أنّ ما دعا أغلب المفسّرين إلى الإعراض عن هذا التّفسير (الثاني) وأن يتّجهوا إلى التّفسير (الأوّل) هو أنّ هذا التّفسير فيه رائحة التجسّم، ووجود مكان لله، مع أنّه من المقطوع به أنّه لا مكان له ولا جسمَ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [الأنعام: 103] { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] .

ولعلّ مجموع هذه المسائل أيضاً جعل بعض المفسّرين يظهر عجزه عن تفسير هذه الآيات ويقول: هي من أسرار الغيب الخفيّة علينا.

قيل أنّهم سألوا بعض المفسّرين عن تفسير هذه الآيات فقال: إذا كان جبرئيل غير قادر على بلوغ ذلك المكان فمن أنا حتّى أدرك معناه(15)؟!

ولكن بملاحظة أنّ القرآن كتاب هداية وهو نازل ليتدبّر الناس ويتفكّروا في آياته فقبول هذا المعنى مشكل أيضاً.

إلاّ أنّنا إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ المراد من هذه الآيات هو نوع من الرؤية الباطنية والقرب المعنوي الخاصّ فلا تبقى أيّة مشكلة حينئذ.

توضيح ذلك: ممّا لا شكّ فيه أنّ الرؤية الحسّية لله غير ممكنة لا في الدنيا ولا في الاُخرى .. لأنّ لازمها جسمانيّته وماديّته، ولازم ذلك أيضاً تغيّره وتحوّله وفساده وأنّه يحتاج إلى الزمان والمكان، وهو مبرّأ عن كلّ ذلك لأنّه واجب الوجود.

إلاّ أنّ الله سبحانه يمكن رؤيته بالرؤية العقلية والقلبية، وهوما أشار إليه أمير المؤمنين في جوابه على «ذعلب اليماني»: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان»(16).

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ الرؤية الباطنية على نحوين: رؤية عقلانية وتحصل عن طريق الإستدلال. واُخرى رؤية قلبية، وهي إدراك فوق إدراك العقل ورؤية وراء رؤيته!

هذا المقام لا ينبغي أن يُدعى بمقام الإستدلال، بل هو المشاهدة، مشاهدة قلبية باطنية، وهذا المقام يحصل لأولياء الله على درجاتهم المتفاوتة وسلسلة مراتبهم .. لأنّ الرؤية الباطنية هي على مراتب أيضاً ولها درجات كثيرة، وبالطبع فإنّ إدراك حقيقتها لمن لم يبلغ ذلك المقام في غاية الصعوبة.

ومن الآيات المتقدّمة بما فيها من قرائن مذكورة يمكن أن يستفاد أنّ نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي كان ذا مقام مشهود وفي مقام الشهود، فإنّه بلغ الأوج في طول عمره مرّتين فنال الشهود الكامل:

الأوّل: يحتمل أنّه كان في بداية البعثة، والثاني في المعراج، فبلغ مقاماً قريباً من الله وتكشّفت عنه الحجب الكثيرة، مقاماً عجز عن بلوغه حتّى جبرئيل الذي هومن الملائكة المقرّبين.

وواضح أنّ تعابير مثل «فكان قاب قوسين أو أدنى» وأمثال ذلك إنّما هو كناية عن شدّة القرب، وإلاّ فإنّ الله ليس بينه وبين عبده فاصلة مكانية لتقاس بالقوس أو الذراع، و«الرؤية» في الآيات ـ هنا ـ ليست رؤية بصرية أيضاً، بل الباطنية القلبية.

وفي البحوث السابقة في تفسير «لقاء الله» الوارد في آيات متعدّدة على أنّه من ميزات يوم القيامة مراراً قلنا إنّ هذا اللقاء على خلاف ما يتصوّره أصحاب الأفكار القصيرة والعقول الضيّقة بأنّه لقاء حسّي ومادّي، بل هو نوع من الشهود الباطني وإن كان في المراحل الدنيا ولا يصل إلى مراحل لقاء الأنبياء والأولياء لله، فكيف بمرحلة شهود النّبي الكامل ليلة المعراج!!

ومع ملاحظة هذا التوضيح تزول الإشكالات على هذا التّفسير، وإذا روعيت بعض التعابير المخالفة للظاهر فلم تعامل بالمنطق الضيّق وفسّرت بما وراء المسائل المادية فما يرد من إشكالات على هذا التّفسير لا يعدّ شيئاً مهمّاً بالقياس إلى ما يرد من إشكالات على التّفسير الأوّل ..

فمع الإلتفات إلى ما قلناه نمرّ مروراً جديداً على الآيات محلّ البحث ونعالج مضمونها من هذا المنطلق والمنظار!

فعلى هذا التّفسير يبيّن القرآن نزول الوحي على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصورة التالية.

إنّ الله الذي هو شديد القوى علّم النّبي في وقت بلغ حدّ الكمال و الإعتدال في الاُفق الأعلى(17).

ثمّ قرب وصار أكثر إقتراباً حتّى كان بينه وبين الله مقدار قاب قوسين أو أقل وهناك أوحى الله إليه ما أوحاه.

وحيث أنّ هذا اللقاء الباطني يصعب تصوّره لدى البعض، فانّه يؤكّد أنّ ما رآه قلب النّبي كان حقّاً وصادقاً ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته.

وكما بيّنا فإنّ تفسير هذه الآيات بشهود النّبي الباطني لله تعالى هو أكثر صحّة وأكثر إنسجاماً وموافقة للرّوايات الإسلامية، وأكرم فضيلة للنبي، ومفهومها أجمل وألطف، والله أعلم بحقائق الاُمور(18).

ونختم هذا البحث بحديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآخر عن علي (عليه السلام).

1 ـ سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «هل رأيت ربّك؟ فأجاب: «رأيته بفؤادي»(19).

2 ـ وفي خطبة الإمام علي (179) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فأجاب: «أفأعبد ما لا أراه ..»

ثمّ أشار سلام الله عليه بتفصيل ما بيّنه آنفاً.

وقوله تعالى : {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ( 14 ) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}

الرّؤية الثّانية:

هذه الآيات هي أيضاً تتمّة للأبحاث السابقة في شأن مسألة الوحي و إرتباط النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله والشهود الباطني.

إذ تقول: {ولقد رآه نزلة اُخرى} أي مرّة ثانية، وكان ذلك {عند سدرة المنتهى} أي عند شجرة سدر في الجنّة تدعى بسدرة المنتهى ومحلّها في جنّة المأوى {عندها جنّة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى}.

هذه حقائق واقعيّة شاهدها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باُمّ عينيه و(ما زاغ البصر وما طغى(20) لقد رأى من آيات ربّه الكبرى).

وكما نلاحظ في هذه الآيات فإنّ البَدو الإبهامي الذي كان يحيط الآيات المتقدّمة يحيط هذه الآيات أيضاً التي تتضمّن ظلالا من المواضيع السابقة، ومن أجل أن نفهم مفاد هذه الآيات لابدّ من الرجوع إلى مفرداتها اللغوية أيضاً.

النزلة: هي النّزول مرّة واحدة، فالنزلة الاُخرى تعني نزولا آخر، ويستفاد من هذا التعبير أنّه حدثت نزلتان، وهذا الموضوع يتعلّق بالنزلة الثانية(21).

والسِدرة: على وزن حِرفة ـ طبقاً لتفسير أغلب علماء اللغة هي شجرة وريقة وريفة الظلال والتعبير بـ (سدرة المنتهى) إشارة إلى شجرة وريقة ذات ظلال وريفة في أوج السماوات في منتهى ما تعرج إليه الملائكة وأرواح الشهداء وعلوم الأنبياء وأعمال الناس. وهي مستقرّة في مكان لا تستطيع الملائكة أن تتجاوزه .. وحين بلغ جبرئيل أيضاً في معراجه مع النّبي إلى ذلك المكان توقّف عنده ولم يتجاوزه!

ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم، إلاّ أنّ الأخبار والرّوايات الإسلامية ذكرت لها أوصافاً كثيرة .. وجميعها كاشف عن أنّ إنتخاب هذا التعبير هو لبيان نوع من التشبيه ولغاتنا قاصرة عن بيان مثل هذه الحقائق الكبرى.

ففي حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكاً قائماً يسبّح الله تعالى»(22).

كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «انتهيت إلى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظلّ اُمّة من الاُمم»(23).

وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبداً، بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة الله وهناك محلّ تسبيح الملائكة ومأوى الاُمم الصالحة.

أمّا (جنّة المأوى) فمعناها الجنّة التي يُسكن فيها(24) وهناك أقوال في ما هو المراد من هذه الجنّة؟! فبعضهم قال بأنّها «جنّة الخلد» التي اُعدّت للمتّقين المؤمنين ومكانها في السماء، والآية (19) من سورة السجدة، دليلهم على مدّعاهم { فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 19] .. فهذه الآية بقرينة ما بعدها تتحدّث عن جنّة الخلد ـ ولا شكّ أنّها تتحدّث عن جنّة الخلد.

إلاّ أنّنا نجد في آية اُخرى قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] فاحتمل بعض المفسّرين أنّ جنّة المأوى التي في السماء غير جنّة الخلد التي عرضها السماوات والأرض.

لذلك فقد فسّر بعضهم «جنّة المأوى» بأنّها مكان خاصّ في جنّة الخلد، وهي قريبة من سدرة المنتهى ومعدّة للمخلصين!

وربّما فسّرها بعضهم بأنّها «جنّة البرزخ» التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة.

ويبدو أنّ التّفسير الأخير أنسب التفاسير وأقربها، وممّا يدلّ عليه بجلاء أنّنا نقرأ في كثير من الرّوايات الواردة في المعراج أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى جماعة متنعّمين في الجنّة، مع أنّنا نعرف أنّه لن يدخل جنّة الخلد أحد قبل يوم القيامة، لأنّ آيات القرآن تشير بوضوح أنّ المتّقين يدخلون الجنان بعد الحِسابِ

[في يوم القيامة]لا بعد الموت مباشرةً وأنّ أرواح الشهداء أيضاً في جنّة برزخية لأنّهم أيضاً لا يدخلون جنّة الخلد قبل يوم القيامة.

والآية: {ما زاغ البصر وما طغى} إشارة إلى أنّ بصر النبي، وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة ولم تجاوزا حدّهما، وما رآه النّبي بعينيه هو عين الواقع، لأنّ «زاغ» من مادّة زيغ معناه الإنحراف يميناً أو شمالا، و«طغى» من الطغيان، معناه التجاوز عن الحدّ، وبتعبير آخر إنّ الإنسان حين يرى شيئاً فيُخطىء رؤيته ولا يلتفت إليه بدقّة فإمّا أنّه يلتفت يمنة ويسرة أو إلى ما ورائه(25).

والآن وحيث فرغنا من تفسير مفردات الآي نعود إلى التّفسير العامّ للآيات.

نعود مرّة اُخرى إلى النظريتين في تفسير الآية ..

فقال جماعة من المفسّرين بأنّ الآيات ناظرة إلى مشاهدة النّبي للمرّة الثانية جبرئيل في صورته الحقيقيّة عند نزوله من المعراج عند سدرة المنتهى ولم يَزغْ بصره في رؤية الملك ولم يُخطىء أبداً.

والنّبي رأى في هذه الحال بعضاً من آيات الله الكبرى، والمقصود بها هي رؤية جبرئيل في صورته الواقعية، أو بعض آيات السماء في عظمتها وعجائبها، أو كلتيهما.

إلاّ أنّ الإشكالات الواردة على التّفسير السابق ما تزال باقية هنا، بل تضاف إلى تلك الإشكالات إشكالات اُخر ومنها:

إنّ التعبير بـ (نزلة اُخرى) حسب هذا التّفسير ليس فيه مفهوم واضح، لكن بحسب التّفسير الثاني يكون المعنى إنّ النّبي رأى الله في شهود باطني عند معراجه في السماء، وبتعبير آخر نزل الله مرّة اُخرى على قلب النّبي وتحقّق الشهود الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى الله من عباده عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار الله.

ورؤية قلب النّبي في هذا الشهود لم تكن بغير الحقّ أبداً، ولم يرَ سواه، ولقد رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضاً وشاهدها بعينيه.

ومسألة الشهود الباطني كما أشرنا إليها من قبل هي نوع من الإدراك أو الرؤية التي لا تشبه الإدراكات العقلية ولا الإدراكات الحسيّة التي يدركها الإنسان بواسطة الحواس الظاهرة، ولعلّه يشبه من بعض الجهات بعلم الإنسان بوجود نفسه وأفكاره وتصوّراته.

توضيح ذلك .. انّنا نوقن بوجود أنفسنا وندرك أفكارنا ونعرف إرادتنا وميولنا النفسيّة، إلاّ أنّ مثل هذه المعرفة لم تحصل لا عن طريق الإستدلال ولا عن طريق المشاهدة الظاهرية بل هي نوع من الشهود الباطني لنا، وعن هذا الطريق وقفنا على وجودنا وروحياتنا.

ولذلك فإنّ العلم الحاصل عن الشهود الباطني لا يقع فيه الخطأ، لأنّه لم يحصل عن طريق الإستدلال الذي قد يقع الخطأ في مقدّماته، ولا عن طريق الحسّ الذي قد يقع الخطأ فيه بواسطة الحواس.

صحيح أنّنا لا نستطيع أن نكشف حقيقة الشهود الذي حصل للنبي ليلة المعراج في رؤيته الله عزّوجلّ إلاّ أنّ المثال الذي ذكرناه مناسب للتقريب .. والرّوايات الإسلامية بدورها خير معين لنا في هذا الموضوع.

________________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص301-315.

2 ـ الثريا مجموعة النجوم السبعة التي ستّة منها واضحة وواحد منها خافت النور وعادةً يختبر بها قوّة البصر فيمتحن الناس بالنظر إليها، والقسم بهذه المجموعة من النجوم لعلّه لمسافتها البعيدة عنّا ..

3 ـ «الشعري»: واحد من نجوم السماء واللامعة وسيأتي البحث عن هذا النجم ذي ذيل الآية (49) من هذه السورة ذاتها بإذن الله، والقسم بهذا النجم لعلّه لإشراقه الشديد ولخصائصه المتميّز بها.

4 ـ وما ورد في بعض الرّوايات من أنّ المراد بالنجم هو شخص النّبي والمراد من هوى هو نزوله من السماء في ليلة المعراج، فهذا التّفسير في الحقيقة يعدّ من بطون الآية لا من ظاهرها!

5 ـ نهج البلاغة، ومن كلام له(عليه السلام) رقم 42.

6 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص122 من شيء من التلخيص.

7 ـ مقتبس من «روح المعاني» ذيل الآيات محلّ البحث.

8 ـ قالوا: هنا قلب في الكلام، وأصله فكان قابي قوس.

9 ـ هذا التّفسير وهو أنّ المراد من «شديد القوى» «جبرئيل» إختاره جماعة كثيرون منهم الطبرسي في مجمع البيان، والبيضاوي في أنوار التنزيل ، والزمخشري في الكشّاف، والقرطبي في تفسيره روح البيان، والفخر الرازي في تفسيره الكبير، وسيّد قطب في تفسيره في ظلال القرآن، والمراغي في تفسيره وتعبيرات العلاّمة الطباطبائي في ميزانه تميل إلى هذا الرأي أيضاً ..

10 ـ في دعاء الندبة تعبير يناسب هذا المعنى أيضاً إذ يقول: يا بن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى دنواً وإقتراباً من الملأ الأعلى وفي ذيل هذا الدعاء ورد بعض القاب الله «شديد القوى» إذ يقول: وأره سيّده يا شديد القوى ..

11 ـ نور الثقلين، ج5، ص149.

12 ـ المصدر السابق.

13 ـ المصدر ذاته، ص148.

14 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص123.

15 ـ روح البيان ، ج9، ص219.

16 ـ نهج البلاغة، الخطبة 179.

17 ـ الضمير في: فاستوى والضمير في: وهو بالاُفق الأعلى يمكن أن يعودا على شخص النبي، كما يمكن أن يعودا على ذات الله المقدّسة.

18 ـ لا بأس بذكر هذه اللطيفة هنا إجمالا وهي أنّ المعراج هل حدث للنبي مرّةً في عمره أو مرّتين؟ هناك كلام بين العلماء. ولعلّ هذه الآيات فيها إشارة إلى شهودين في معراجين ..

19 ـ بحار الأنوار، ج18، ص287 ذيل مبحث المعراج.

20 ـ الفعل «طغى» مضارعه يطغو، وطغي مضارعه يطغى، وباب الأوّل نَصر ينصر، وباب الثاني فرِح يفرح، وكلاهما بمعنى واحد، ومن هذا القبيل صغا يصغو وصغي يصغى.

21 ـ قال بعض أصحاب (اللغة) والمفسّرين معنى النزلة هنا «مرّة» وليس المراد منها النّزول، فالنزلة الاُخرى تعني المرّة الثانية لا غير، لكن لا ندري لِمَ عزفوا عن المادّة الأصلية للنزلة في حين أنّ غيرهم أشاروا إليها وفسّروها بما بيّنا آنفاً

[فلاحظوا بدقّة].

22 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات محلّ البحث.

23 ـ نور الثقلين، ج5، ص155، ح40.

24 ـ المأوى في الأصل معناه الانضمام، وحيث أنّ سكون الأفراد في محلّ ما يسبّب انضمام بعضهم لبعض فقد إستعملت هذه الكلمة «المأوى» على محلّ السكن مطلقاً.

25 ـ جاء في تفسير الميزان أنّ الزيغ هو الخطأ في مشاهدة كيفية الشيء وأنّ الطغيان في البصر هو الخطأ في أصل الرؤية .. إلاّ أنّه لا دليل واضح على هذا التفاوت .. بل ما ورد في اللغة هوما بيّناه في المتن ..

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .