المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17751 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
من هم المحسنين؟
2024-11-23
ما هي المغفرة؟
2024-11-23
{ليس لك من الامر شيء}
2024-11-23
سبب غزوة أحد
2024-11-23
خير أئمة
2024-11-23
يجوز ان يشترك في الاضحية اكثر من واحد
2024-11-23



تفسير الاية (1-5) من سورة الفتح  
  
10959   02:12 مساءً   التاريخ: 8-10-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الفاء / سورة الفتح /

قال تعالى : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُو الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ- يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 1 - 5].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{إنا فتحنا لك فتحا مبينا} أي قضينا لك قضاء ظاهرا عن قتادة وقيل معناه يسرنا لك يسرا بينا عن مقاتل وقيل معناه أعلمناك علما ظاهرا فيما أنزلناه عليك من القرآن وأخبرناك به من الدين وقيل معناه أرشدناك إلى الإسلام وفتحنا لك أمر الدين عن الزجاج ثم اختلف في هذا الفتح على وجوه (أحدها) أن المراد به فتح مكة وعدها الله ذلك عام الحديبية عند انكفائه منها عن أنس وقتادة وجماعة من المفسرين قال قتادة نزلت هذه الآية عند مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الحديبية بشر في ذلك الوقت بفتح مكة وتقديره إنا فتحنا لك مكة أي قضينا لك بالنصر على أهلها وعن جابر قال ما كنا نعلم فتح مكة إلا يوم الحديبية ( وثانيها ) إن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية وكان فتحا بغير قتال قال الفراء الفتح قد يكون صلحا ومعنى الفتح في اللغة فتح المنغلق والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله وقال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير فكثر بهم سواد الإسلام وقال الشعبي بويع بالحديبية وذلك بيعة الرضوان وأطعم نخيل خيبر وظهرت الروم على فارس وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب وهم الروم على المجوس إذ كان فيه مصداق قول الله تعالى إنهم سيغلبون و{ يبلغ الهدي محله} والحديبية بئر روي أنه نفذ ماؤها فظهر فيها من أعلام النبوة ما اشتهرت به الروايات.

قال البراء بن عازب تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي (صلى الله  عليه وآله وسلّم) أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فما ترك منها قطرة فبلغ ذلك إلى النبي (صلى الله  عليه وآله وسلّم) فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها وتركها ثم إنها أصدرتنا نحن وركابنا وفي حديث سلمة بن الأكوع إما دعا وإما بزق فيها فجاشت فسقينا وأسقينا.

 وعن محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة (2) أن رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) خرج لزيارة البيت لا يريد حربا فذكر الحديث إلى أن قال(3) رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) انزلوا فقالوا يا رسول الله ما بالوا ذي ماء فأخرج رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) من كنانته سهما فأعطاه رجلا من أصحابه فقال له أنزل في بعض هذه القلب فأغرزه في جوفه ففعل فجاش بالماء الرواء حتى ضرب الناس بعطن.

 وعن عروة وذكر خروج النبي (صلى الله  عليه وآله وسلّم) قال وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح وإلى الماء فنزلوا عليه فلما رأى رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) أنه قد سبق نزل على الحديبية وذلك في حر شديد وليس فيها إلا بئر واحدة فأشفق القوم من الظمأ والقوم كثير فنزل فيها رجال يمتحونها ودعا رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) بدلو من ماء فتوضأ(4) ومضمض فاه ثم مج فيه وأمر أن يصب في البئر ونزع سهما من كنانته وألقاه في البئر فدعا الله تعالى ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها.

وروى سالم بن أبي الجعد قال قلت لجابر كم كنتم يوم الشجرة قال كنا ألفا وخمسمائة وذكر عطشا أصابهم قال فأتى رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) بماء في تور فوضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنه العيون قال فشربنا وسعنا وكفانا قال قلت كم كنتم قال لوكنا مائة ألف كفانا كنا ألفا وخمسمائة.

 ( وثالثها ) أن المراد بالفتح هنا فتح خيبر عن مجاهد والعوفي وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري كان أحد القراء قال شهدنا الحديبية مع رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزؤون الأباعر فقال بعض الناس لبعض ما بال الناس قالوا أوحي إلى رسول الله (صلى الله  عليه وآله وسلّم) فخرجنا نوجف فوجدنا النبي (صلى الله  عليه وآله وسلّم) واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع الناس إليه قرأ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا} السورة فقال عمر أ فتح هويا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل فيها أحد إلا من شهدها.

 ( ورابعها ) أن الفتح الظفر على الأعداء كلهم بالحجج والمعجزات الظاهرة وإعلاء كلمة الإسلام { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قد قيل فيه أقوال كلها غير موافق لما يذهب إليه أصحابنا أن الأنبياء معصومون من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها قبل النبوة وبعدها ( فمنها ) أنهم قالوا معناه ما تقدم من معاصيك قبل النبوة وما تأخر عنها ( ومنها ) قولهم ما تقدم الفتح وما تأخر عنه ( ومنها ) قولهم ما وقع وما لم يقع على الوعد بأنه يغفره له إذا وقع ( ومنها ) قولهم ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك والكلام في ذنب آدم كالكلام في ذنب نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم)  ومن حمل ذلك على الصغائر التي تقع محبطة عندهم فالذي يبطل قولهم إن الصغائر إذا سقط عقابها وقعت مكفرة فكيف يجوز أن يمن الله سبحانه على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم)  بأن يغفرها له وإنما يصح الامتنان والتفضل منه سبحانه بما يكون له المؤاخذة به لا بما لو عاقب به لكان ظالما عندهم فوضح فساد قولهم.

 ولأصحابنا فيه وجهان من التأويل ( أحدهما ) أن المراد ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر بشفاعتك وأراد بذكر التقدم والتأخر ما تقدم زمانه وما تأخر كما يقول القائل لغيره صفحت عن السالف والآنف من ذنوبك وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال والسبب بينه وبين أمته ويؤيد هذا الجواب ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال سأله رجل عن هذه الآية فقال والله ما كان له ذنب ولكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي (عليه السلام) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر وروى عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) عن قول الله سبحانه { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قال ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له.

 ( والثاني ) ما ذكره المرتضى قدس الله روحه أن الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول والمراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك عن مكة وصدهم لك عن المسجد الحرام ويكون معنى المغفرة على هذا التأويل الإزالة والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه أي يزيل الله تعالى ذلك عنك ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فستدخلها فيما بعد ولذلك جعله جزاء على جهاده وغرضا في الفتح ووجها له قال ولو أنه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن قوله { إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله } معنى معقول لأن المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح فلا يكون غرضا فيه وأما قوله { ما تقدم } و{ ما تأخر } فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح بك وبقومك.

 وقيل أيضا في ذلك وجوه أخر ( منها ) إن معناه لوكان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك ( ومنها ) أن المراد بالذنب هناك ترك المندوب وحسن ذلك لأن من المعلوم أنه ممن لا يخالف الأوامر الواجبة فجاز أن يسمى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسم ذنبا لعلو قدره ورفعة شأنه ( ومنها ) أن القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما قيل في قوله عفا الله عنك وهذا ضعيف لأن العادة جرت في مثل هذا أن يكون على لفظ الدعاء.

 وقوله { ويتم نعمته عليك } معناه ويتم نعمته عليك في الدنيا بإظهارك على عدوك وإعلاء أمرك ونصرة دينك وبقاء شرعك وفي الآخرة برفع محلك فإن معنى إتمام النعمة فعل ما يقتضيها وتبقيتها على صاحبها والزيادة فيها وقيل يتم نعمته عليك بفتح خيبر ومكة والطائف { ويهديك صراطا مستقيما } أي ويثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة { وينصرك الله نصرا عزيزا } النصر العزيز هوما يمتنع به من كل جبار عند وعات مريد وقد فعل ذلك بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم)  إذ صير دينه أعز الأديان وسلطانه أعظم السلطان.

 { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } وهي أن يفعل الله بهم اللطف الذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحق ما تسكن إليه نفوسهم وذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلة الدالة عليه فهذه النعمة التامة للمؤمنين خاصة وأما غيرهم فتضطرب نفوسهم لأول عارض من شبهة ترد عليهم إذ لا يجدون برد اليقين وروح الطمأنينة في قلوبهم وقيل هي النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك قلوبهم ويثبتوا في القتال وقيل هي ما أسكن قلوبهم من التعظيم لله ولرسوله.

 {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح وعلو كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا وقيل ليزدادوا تصديقا بشرائع الإسلام وهو أنهم كلما أمروا بشيء من الشرائع والفرائض كالصلاة والصيام والصدقات صدقوا به وذلك بالسكينة التي أنزلها الله في قلوبهم عن ابن عباس والمعنى ليزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم {ولله جنود السموات والأرض} يعني الملائكة والجن والإنس والشياطين عن ابن عباس والمعنى أنه لوشاء لأعانكم بهم وفيه بيان أنه لوشاء لأهلك المشركين لكنه عالم بهم وبما يخرج من أصلابهم فأمهلهم لعلمه وحكمته ولم يأمر بالقتال عن عجز واحتياج لكن ليعرض المجاهدين لجزيل الثواب.

 { وكان الله عليما حكيما } فكل أفعاله حكمة وصواب { ليدخل المؤمنين والمؤمنات } تقديره إنا فتحنا لك ليغفر لك الله إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات {جنات} ولذلك لم يدخل واو العطف في ليدخل إعلاما بالتفصيل {تجري من تحتها الأنهار} أي من تحت أشجارها الأنهار {خالدين فيها} أي دائمين مؤبدين لا يزول عنهم نعيمها {ويكفر عنهم سيئاتهم} أي عقاب معاصيهم التي فعلوها في دار الدنيا {وكان ذلك عند الله فوزا عظيما} أي ظفرا يعظم الله به قدره .

____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9، ص182-186.

2- [قال].

3- وفي بعض النسخ : فتوضأ من الدلو.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} . للفتح معان ، والمراد به هنا النصر لأنه أول ما يتبادر إلى الافهام ، ولأن النبي ( صلى الله عليه واله ) قال : نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها ، ثم تلا : إنا فتحنا لك فتحا مبينا . وعليه يكون المعنى إنا

نصرناك يا محمد نصرا ظاهرا ، واختلف المفسرون في نوع هذا النصر وتحديده على أقوال أنهاها الطبرسي إلى أربعة والرازي إلى خمسة . وأكثر المفسرين أو الكثير منهم على ان المراد بالنصر هنا صلح الحديبية لأن هذه السورة نزلت بعد الهدنة التي عقدها النبي ( صلى الله عليه واله ) مع أهل مكة في الحديبية . . ومع هذا فأرجح الأقوال عندنا ان المراد بالنصر هنا إعلاء كلمة الإسلام وقوة المسلمين ، وخذلان أعدائه المنافقين والمشركين ، لأن الفتح في الآية مطلق غير مقيد بصلح الحديبية أو بفتح مكة أو النصر على الروم والفرس أو غير ذلك ، وعليه تكون هذه الآية مرادفة للآية 33 من سورة التوبة : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . وبكلمة واحدة المراد بالنصر الجنس لا الفرد .

{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ } . وتسأل : متى أذنب النبي حتى يصفح اللَّه عن ذنبه ؟ وما هو ذنبه المتقدم والمتأخر ؟ وأين عصمة الأنبياء الرادعة عن الذنب ؟ وكيف يكون الفتح سببا للمغفرة ؟ وما هي العلاقة بينهما ؟.

الجواب : ليس المراد بالذنب هنا ذنب الرسول حقيقة وواقعا ، كيف وهو معصوم عن الخطيئة والخطأ ؟ وإنما المراد ان المشركين كانوا يعتقدون بأن النبي مذنب في دعوته إلى التوحيد ونبذ الشرك وفي محاربته الأوضاع السائدة والتقاليد الموروثة ، أما المغفرة فالمراد بها ان هؤلاء المشركين اكتشفوا مؤخرا ومع الأيام والأحداث ان محمدا ( صلى الله عليه واله ) بريء من كل ذنب وانه رسول اللَّه حقا وصدقا ، وانهم كانوا هم المذنبين في اتهامه والطعن برسالته . . وتوضيح ذلك ان الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) دعا إلى التوحيد وندد بالأصنام وأهلها ، وحارب الظلم والاستغلال ، وما إلى ذلك من مفاسد الجاهلية وتقاليدها . . وأي شيء أعظم ذنبا وجرما - عند الجاهلي وغيره - من الطعن بمقدساته الدينية وعادات آبائه وأجداده التي هي جزء من طبيعته وكيانه ، ولكن بعد أن أظهر اللَّه دينه ونصر نبيه بالدلائل والبينات ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا ، ومنهم المشركون الذين كانوا ينظرون إلى النبي ( صلى الله عليه واله ) نظرتهم إلى من تجرم عليهم وعلى آلهتهم وآبائهم ، بعد هذا كله تبين لهم ان محمدا هو المحق ، وانهم هم المخطئون .

والخلاصة ان المراد بذنب الرسول ذنبه في زعم أعدائه المشركين لا ذنبه في الواقع ، والمراد بالمغفرة مغفرتهم له هذا الذنب المزعوم أي توبتهم مما كانوا يظنون بنبي الرحمة ، أما نسبة الذنب إلى الرسول في ظاهر الكلام ، ونسبة المغفرة إلى اللَّه ، أما هذه فأمرها سهل لأن المجاز يتسع لها ولأكثر منها . . أما وجه الصلة بين الفتح وهذه المغفرة فواضح لأن الفتح هو السبب الموجب للكشف عن صدق الرسول وبراءته من الذنب المزعوم الذي رماه به المشركون من قبل الفتح .

{ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بانتصارك على أعداء اللَّه وأعدائك وبعلو شأنك دنيا وآخرة {ويَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} وهو الشريعة الإلهية التي تضمن للناس خيرهم وصلاحهم في كل زمان ومكان { ويَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } . والنصر العزيز هو الذي يكون بالحق وللحق ، وبالجهاد المشروع لا بالغدر والمؤامرات ، ولا بمساندة أهل البغي والانقلابات .

{هُو الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ} .

المراد بالسكينة هنا الرضا والاطمئنان عن وعي ، لأن الحوادث علمتنا بأن اطمئنان الجاهل ينتهي به إلى أسوأ العواقب ، والمعنى ان اللَّه أعز دينه ونصر نبيه ليفرح المؤمنون وتطمئن قلوبهم ويزدادوا يقينا بربهم ، وثقة بنبيهم ، وقوة في دينهم .

{ولِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ والأَرْضِ} . هذا كناية عن عظمة اللَّه في قدرته وإلا فهو غني عن العالمين لأنه يقول للشيء : كن فيكون . وفيه إيماء إلى أنه لوشاء سبحانه لأهلك المشركين من غير جهاد وقتال ، ولكن ليبلو عباده أيهم أحسن عملا {وكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } في خلقه وتدبيره.

{ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ويُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } . قال الطبري : حين نزل قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا الخ . قال المؤمنون لرسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ): هنيئا لك يا رسول اللَّه ، فلقد بيّن اللَّه لك ما ذا يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا نحن ؟

فنزل قوله : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات الخ . وليس من شك - وان لم تصح هذه الرواية - ان اللَّه يكفر سيئات التائبين ويدخل المؤمنين في رحمته وجنته ، ومن دخل الجنة فقد فاز بالسهم الأوفر.

__________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7، ص82-84.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصة صلح الحديبية الواقعة في السنة السادسة من الهجرة وما وقع حولها من الوقائع كقصة تخلف الأعراب وصد المشركين، وبيعة الشجرة على ما تفصله الآثار وسيجيء شطر منها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

فغرض السورة بيان ما امتن الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما رزقه من الفتح المبين في هذه السفرة، وعلى المؤمنين ممن معه، ومدحهم البالغ، والوعد الجميل للذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات، والسورة مدنية.

قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} كلام واقع موقع الامتنان، وتأكيد الجملة بإن ونسبة الفتح إلى نون العظمة وتوصيفه بالمبين كل ذلك للاعتناء بشأن الفتح الذي يمتن به.

والمراد بهذا الفتح على ما تؤيده قرائن الكلام هوما رزق الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفتح في صلح الحديبية.

وذلك أن ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، ومدحهم والرضا عن بيعتهم ووعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة وآجلة وفي الآخرة بالجنة وذم المخلفين من الأعراب إذ استنفرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يخرجوا معه، وذم المشركين في صدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه، وذم المنافقين، وتصديقه تعالى رؤيا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله: {فعلم ما لم تعلموا وجعل من دون ذلك فتحا قريبا} - وكاد يكون صريحا - كل ذلك معان مرتبطة بخروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة للحج وانتهاء ذلك إلى صلح الحديبية.

وأما كون هذا الصلح فتحا مبينا رزقه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فظاهر بالتدبر في لحن آيات السورة في هذه القصة فقد كان خروج النبي والمؤمنين إلى هذه البغية خروجا على خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا} والمشركون من صناديد قريش ومن يتبعهم على ما لهم من الشوكة والقوة والعداوة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين لم يتوسط بينهم منذ سنين إلا السيف ولم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر وأحد والأحزاب، ولم يخرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا شرذمة قليلون - ألف وأربعمائة - لا قدر لهم عند جموع المشركين وهم في عقر دارهم.

لكن الله سبحانه قلب الأمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين على المشركين فرضوا بما لم يكن مطموعا فيه متوقعا منهم فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين، وعلى تأمين كل من القبيلين أتباع الآخر ومن لحق به، وعلى أن يرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة عامة هذا ثم يقدم إلى مكة العام القابل فيخلوا له المسجد والكعبة ثلاثة أيام.

وهذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان من أمس الأسباب بفتح مكة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح وفتح مكة، وفتح في أوائل سنة سبع خيبر وما والاه وقوي به المسلمون واتسع الإسلام اتساعا بينا وكثر جمعهم وانتشر صيتهم وأشغلوا بلادا كثيرة، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح مكة في عشرة آلاف أوفي اثني عشر ألفا، وقد كان خرج إلى حديبية في ألف وأربعمائة على ما تفصله الآثار.

وقيل: المراد بالفتح فتح مكة فالمراد بقوله: {إنا فتحنا لك} إنا قضينا لك فتح مكة، وفيه أن القرائن لا تساعده.

وقيل: المراد به فتح خيبر، ومعناه - على تقدير نزول السورة عند مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية إلى المدينة - أنا قضينا لك فتح خيبر، وحال هذا القول أيضا كسابقه.

وقيل : المراد به الفتح المعنوي وهو الظفر على الأعداء بالحجج البينة والمعجزات الباهرة التي غلب بها كلمة الحق على الباطل وظهر الإسلام على الدين كله، وهذا الوجه وإن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الآيات لا يلائمه.

قوله تعالى : {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا} اللام في قوله : {ليغفر} للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أن الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ومن المعلوم أن لا رابطة بين الفتح وبين مغفرة الذنب ولا معنى معقولا لتعليله بالمغفرة.

وقول بعضهم فرارا عن الإشكال : أن اللام المكسورة في {ليغفر} لام القسم والأصل ليغفرن حذفت نون التوكيد وبقي ما قبلها مفتوحا للدلالة على المحذوف غلط لا شاهد عليه من الاستعمال.

وكذا قول بعض آخر فرارا عن الإشكال : (أن العلة هو مجموع المغفرة وما عطف عليه من إتمام النعمة والهداية والنصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علة للفتح) كلام سخيف لا يغني طائلا فإن مغفرة الذنب لا هي علة أو جزء علة للفتح ولا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتى يوجه دخولها في ضمن علله فلا مصحح لذكرها وحدها ولا مع العلل وفي ضمنها.

وبالجملة هذا الإشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف وهو مخالفة التكليف المولوي، ولا المراد بالمغفرة معناها المعروف وهو ترك العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، والمغفرة هي الستر على الشيء، وأما المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب والمغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الأمر المولوي المستتبع للعقاب وترك العقاب عليها فإنما لزماهما بحسب عرف المتشرعين.

وقيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة ونهضته على الكفر والوثنية فيما تقدم على الهجرة وإدامته ذلك وما وقع له من الحروب والمغازي مع الكفار والمشركين فيما تأخر عن الهجرة كان عملا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذا تبعة سيئة عند الكفار والمشركين وما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة ومقدرة، وما كانوا لينسوا زهوق ملتهم وانهدام سنتهم وطريقتهم، ولا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه وإمحاء اسمه وإعفاء رسمه غير أن الله سبحانه رزقه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الفتح وهو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الذنب وآمنه منهم.

فالمراد بالذنب - والله أعلم - التبعة السيئة التي لدعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الكفار والمشركين وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } [الشعراء: 14] ، وما تقدم من ذنبه هوما كان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة، وما تأخر من ذنبه هوما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالى لذنبه هي سترة عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم، ويؤيد ذلك ما يتلوه من قوله: {ويتم نعمته عليك - إلى أن قال - وينصرك الله نصرا عزيزا}.

وللمفسرين في الآية مذاهب مختلفة أخر: فمن ذلك: أن المراد بذنبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما صدر عنه من المعصية، والمراد بما تقدم منه.

وما تأخر ما صدر عنه قبل النبوة وبعدها، وقيل : ما صدر قبل الفتح وما صدر بعده.

وفيه أنه مبني على جواز صدور المعصية عن الأنبياء (عليهم السلام) وهو خلاف ما يقطع به الكتاب والسنة والعقل من عصمتهم (عليهم السلام) وقد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من الكتاب وغيره.

على أن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.

ومن ذلك: أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما وقع من معصيته وما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلا يرد الإشكال بأن مغفرة ما لم يتحقق من المعصية لا معنى له.

وفيه مضافا إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أن مغفرة ما سيقع من المعصية قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عامة، ويدفعه نص كلامه تعالى في آيات كثيرة كقوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] ، وقوله: { وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [الزمر: 12] ، إلى غير ذلك من الآيات التي تأبى بسياقها التخصيص.

على أن من الذنوب والمعاصي مثل الشرك بالله وافتراء الكذب على الله والاستهزاء بآيات الله والإفساد في الأرض وهتك المحارم، وإطلاق مغفرة الذنوب يشملها ولا معنى لأن يبعث الله عبدا من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق ويصلح به الأرض فإذا فتح له ونصره وأظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره وهدم ما بناه وإفساد ما أصلحه بمغفرة كل مخالفة ومعصية منه والعفو عن كل ما تقوله وافتراه على الله، وفعله تبليغ كقوله، وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46].

ومن ذلك: قول بعضهم: إن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه مغفرة ما تقدم من ذنب أبويه آدم وحواء (عليهما السلام) ببركته (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد بمغفرة ما تأخر منه مغفرة ذنوب أمته بدعائه.

وفيه ورود ما ورد على ما تقدم عليه.

ومن ذلك: أن الكلام في معنى التقدير وإن كان في سياق التحقيق والمعنى: ليغفر لك الله قديم ذنبك وحديثه لوكان لك ذنب.

وفيه أنه أخذ بخلاف الظاهر من غير دليل.

ومن ذلك: أن القول خارج مخرج التعظيم وحسن الخطاب والمعنى: غفر الله لك كما في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43].

وفيه أن العادة جرت في هذا النوع من الخطاب أن يورد بلفظ الدعاء.

كما قيل.

ومن ذلك : أن المراد بالذنب في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك الأولى وهو مخالفة الأوامر الإرشادية دون التمرد عن امتثال التكاليف المولوية، والأنبياء على ما هم عليه من درجات القرب يؤاخذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ومن ذلك : ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما تقدم من ذنوب أمته وما تأخر منها بشفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ضير في إضافة ذنوب أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه للاتصال والسبب بينه وبين أمته.

وهذا الوجه والوجه السابق عليه سليمان عن عامة الإشكالات لكن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.

ومن ذلك: ما عن علم الهدى رحمه الله إن الذنب مصدر، والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول، والمراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك من مكة وصدهم لك عن المسجد الحرام، ويكون معنى المغفرة على هذا الإزالة والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين أي يزيل الله تعالى ذلك عنك ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فتدخلها فيما بعد.

وهذا الوجه قريب المأخذ مما قدمنا من الوجه، ولا بأس به لولم يكن فيه بعض المخالفة لظاهر الآية.

وفي قوله: {ليغفر لك الله} إلخ، بعد قوله: {إنا فتحنا لك} التفات من التكلم إلى الغيبة ولعل الوجه فيه أن محصل السورة امتنانه تعالى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بما رزق من الفتح وإنزال السكينة والنصر وسائر ما وعدهم فيها فناسب أن يكون السياق الجاري في السورة سياق الغيبة ويذكر تعالى فيها باسمه وينسب إليه النصر بما يعبده نبيه والمؤمنون وحده قبال ما لا يعبده المشركون وإنما يعبدون آلهة من دونه طمعا في نصرهم ولا ينصرونهم.

وأما سياق التكلم مع الغير المشعر بالعظمة في الآية الأولى فلمناسبته ذكر الفتح فيها ويجري الكلام في قوله تعالى الآتي: {إنا أرسلناك شاهدا} الآية.

وقوله: {ويتم نعمته عليك} قيل: أي يتمها عليك في الدنيا بإظهارك على عدوك وإعلاء أمرك وتمكين دينك، وفي الآخرة برفع درجتك، وقيل: أي يتمها عليك بفتح خيبر ومكة والطائف.

وقوله: {ويهديك صراطا مستقيما} قيل: أي ويثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة، وقيل: أي ويهديك إلى مستقيم الصراط في تبليغ الأحكام وإجراء الحدود.

وقوله: {وينصرك الله نصرا عزيزا} قيل: النصر العزيز هوما يمتنع به من كل جبار عنيد وعات مريد، وقد فعل بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إذ جعل دينه أعز الأديان وسلطانه أعظم السلطان، وقيل: المراد بالنصر العزيز ما هو نادر الوجود قليل النظير أو عديمه ونصره تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك كما يظهر بقياس حاله في أول بعثته إلى حاله في آخر أيام دعوته.

والتدبر في سياق الآيتين بالبناء على ما تقدم من معنى قوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} يعطي أن يكون المراد بقوله: {ويتم نعمته عليك} هو تمهيده تعالى له (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمام الكلمة وتصفيته الجو لنصره نصرا عزيزا بعد رفع الموانع بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وبقوله: {ويهديك صراطا مستقيما} هدايته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد تصفية الجولة إلى الطريق الموصل إلى الغاية الذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية من فتح خيبر وبسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتى انتهى إلى فتح مكة والطائف.

وبقوله: {وينصرك الله نصرا عزيزا} نصره له (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك النصر الظاهر الباهر الذي قلما يوجد - أولا يوجد - له نظير إذ فتح له مكة والطائف وانبسط الإسلام في أرض الجزيرة وانقلع الشرك وذل اليهود وخضع له نصارى الجزيرة والمجوس القاطنون بها، وأكمل تعالى للناس دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا.

قوله تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} إلخ، الظاهر أن المراد بالسكينة سكون النفس وثباتها واطمئنانها إلى ما آمنت به، ولذا علل إنزالها فيها بقوله: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} وقد تقدم البحث عن السكينة في ذيل قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] في الجزء الثاني من الكتاب وذكرنا هناك أنها تنطبق على روح الإيمان المذكور في قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].

وقيل: السكينة هي الرحمة، وقيل: العقل، وقيل: الوقار والعصمة لله ولرسوله، وقيل: الميل إلى ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: ملك يسكن قلب المؤمن، وقيل: شيء له رأس كرأس الهرة، وهذه الأقاويل لا دليل على شيء منها.

والمراد بإنزال السكينة في قلوبهم إيجادها فيها بعد عدمها فكثيرا ما يعبر في القرآن عن الخلق والإيجاد بالإنزال كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] ، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ } [الحديد: 25] ، وقوله: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر: 21].

وإنما عبر عن الخلق والإيجاد بالإنزال للإشارة إلى علو مبدئه.

وقيل: المراد بالإنزال الإسكان والإقرار من قولهم: نزل في مكان كذا أي حط رحله فيه وأنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.

وهو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه، ولعل الباعث لهم على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة {في} إذ قال: {أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} لكنه عناية كلامية لوحظ فيها تعلق السكينة بالقلوب تعلق الاستقرار فيها كما لوحظ تعلقها تعلق الوقوع عليها من علو في قوله الآتي: {فأنزل السكينة عليهم} الآية وقوله: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} الآية.

والمراد بزيادة الإيمان اشتداده فإن الإيمان بشيء هو العلم به مع الالتزام بحيث يترتب عليه آثاره العملية، ومن المعلوم أن كلا من العلم والالتزام المذكورين مما يشتد ويضعف فالإيمان الذي هو العلم المتلبس بالالتزام يشتد ويضعف.

فمعنى الآية: الله الذي أوجد الثبات والاطمئنان الذي هو لازم مرتبة من مراتب الروح في قلوب المؤمنين ليشتد به الإيمان الذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل مما كان قبله.

كلام في الإيمان وازدياده:

الإيمان بالشيء ليس مجرد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [محمد: 25] ، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 32] ، وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] ، وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [الجاثية: 23] ، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد والكفر والجحود والضلال مع العلم.

فمجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقا لا يكفي في حصول الإيمان واتصاف من حصل له به، بل لا بد من الالتزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحيث يترتب عليه آثاره العملية ولوفي الجملة، فالذي حصل له العلم بأن الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه وهو عبوديته وعبادته وحده كان مؤمنا ولو علم به ولم يلتزم فلم يأت بشيء من الأعمال المظهرة للعبودية كان عالما وليس بمؤمن.

ومن هنا يظهر بطلان ما قيل: إن الإيمان هو مجرد العلم والتصديق وذلك لما مر أن العلم ربما يجامع الكفر.

ومن هنا يظهر أيضا بطلان ما قيل: إن الإيمان هو العمل، وذلك لأن العمل يجامع النفاق فالمنافق له عمل وربما كان ممن ظهر له الحق ظهورا علميا ولا إيمان له على أي حال.

وإذ كان الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به بحيث يترتب عليه آثاره العملية، وكل من العلم والالتزام مما يزداد وينقص ويشتد ويضعف كان الإيمان المؤلف منهما قابلا للزيادة والنقيصة والشدة والضعف فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات التي لا يشك فيها قط.

هذا ما ذهب إليه الأكثر وهو الحق ويدل عليه من النقل قوله تعالى: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} وغيره من الآيات، وما ورد من أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الدالة على أن الإيمان ذو مراتب.

وذهب جمع منهم أبو حنيفة وإمام الحرمين وغيرهما إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واحتجوا عليه بأن الإيمان اسم للتصديق البالغ حد الجزم والقطع وهو مما لا يتصور فيه الزيادة والنقصان فالمصدق إذا ضم إلى تصديقه الطاعات أوضم إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا.

وأولوا ما دل من الآيات على قبوله الزيادة والنقصان بأن الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجددة يزيد وينقص كوقوعه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا على التوالي من غير فترة متخللة وفي غيره بفترات قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلا أو بفترات قليلة.

وأيضا للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، وشرائع الدين لما كانت تنزل تدريجا والمؤمنون يؤمنون بما ينزل منها وكان يزيد عدد الأحكام حينا بعد حين كان إيمانهم أيضا يزيد تدريجا، وبالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عددا.

وهوبين الضعف، أما الحجة ففيها أولا: أن قولهم: الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الذي معه الالتزام كما تقدم بيانه اللهم إلا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.

وثانيا: أن قولهم: إن هذا التصديق لا يختلف بالزيادة والنقصان دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب وبناؤه على كون الإيمان عرضا وبقاء الأعراض على نحو تجدد الأمثال لا ينفعهم شيئا فإن من الإيمان ما لا تحركه العواصف ومنه ما يزول بأدنى سبب يعترض وأوهن شبهة تطرأ، وهذا مما لا يعلل بتجدد الأمثال وقلة الفترات وكثرتها بل لا بد من استناده إلى قوة الإيمان وضعفه سواء قلنا بتجدد الأمثال أم لا.

مضافا إلى بطلان تجدد الأمثال على ما بين في محله.

وقولهم: إن المصدق إذا ضم إليه الطاعات أوضم إليه المعاصي لم يتغير حاله أصلا ممنوع فقوة الإيمان بمزاولة الطاعات وضعفها بارتكاب المعاصي مما لا ينبغي الارتياب فيه، وقوة الأثر وضعفه كاشفة عن قوة مبدأ الأثر وضعفه، قال تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10] ، وقال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } [الروم: 10].

وأما ما ذكروه من التأويل فأول التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان وهو الذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه مؤمنا وكافرا حقيقة وهذا مما لا يساعده ولا يشعر به شيء من كلامه تعالى.

وأما قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف: 106] ، فهو إلى الدلالة على كون الإيمان مما يزيد وينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإن مدلوله أنهم مؤمنون في حال أنهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض وشرك بالنسبة إلى الإيمان المحض، وهذا معنى قبول الإيمان للزيادة والنقصان.

وثاني التأويلين يفيد أن الزيادة في الإيمان وكثرته إنما هي بكثرة ما تعلق به وهو الأحكام والشرائع المنزلة من عند الله فهي صفة للإيمان بحال متعلقه والسبب في اتصافه بها هو متعلقه، ولوكان هذه الزيادة هي المرادة من قوله: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} كان الأنسب أن تجعل زيادة الإيمان في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة وإنزالها لا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين هذا.

وحمل بعضهم زيادة الإيمان في الآية على زيادة أثره وهو النور المشرق منه على القلب.

وفيه أن زيادة الأثر وقوته فرع زيادة المؤثر وقوته فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الآخر.

وذكر بعضهم أن الإيمان الذي هو مدخول مع في قوله: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلالي، والمعنى: ليزدادوا إيمانا استدلاليا على إيمانهم الفطري.

وفيه أنه دعوى من غير دليل يدل عليه.

على أن الإيمان الفطري أيضا استدلالي فمتعلق العلم والإيمان على أي حال أمر نظري لا بديهي.

وقال بعضهم كالإمام الرازي: إن النزاع في قبول الإيمان للزيادة والنقص وعدم قبوله نزاع لفظي فمراد النافين عدم قبول أصل الإيمان وهو التصديق ذلك وهو كذلك لعدم قبوله الزيادة والنقصان، ومراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان وهو الأعمال للزيادة والنقصان وهو كذلك بلا شك.

وفيه أولا: أن فيه خلطا بين التصديق والإيمان فالإيمان تصديق مع الالتزام وليس مجرد التصديق فقط كما تقدم بيانه.

وثانيا: أن نسبة نفي الزيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنما يثبتون الزيادة في أصل الإيمان، ويرون أن كلا من العلم والالتزام المؤلف منهما الإيمان يقبل القوة والضعف.

وثالثا: أن إدخال الأعمال في محل النزاع غير صحيح لأن النزاع في شيء غير النزاع في أثره الذي به كماله ولا نزاع لأحد في أن الأعمال والطاعات تقبل العد وتقل وتكثر بحسب تكرر الواحد.

وقوله: {ولله جنود السماوات والأرض} الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا جمعهم غرض يعملون لأجله ولذا أطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به أميرهم، والسياق يشهد أن المراد بجنود السماوات والأرض الأسباب الموجودة في العالم مما يرى ولا يرى من الخلق فهي وسائط متخللة بينه تعالى وبين ما يريده من شيء تطيعه ولا تعصاه.

وإيراد الجملة أعني قوله: {ولله جنود} إلخ، بعد قوله: {هو الذي أنزل السكينة} إلخ، للدلالة على أن له جميع الأسباب والعلل التي في الوجود فله أن يبلغ إلى ما يشاء بما يشاء ولا يغلبه شيء في ذلك، وقد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم.

وقوله: {وكان الله عزيزا حكيما} أي منيعا جانبه لا يغلبه شيء متقنا في فعله لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته والجملة بيان تعليلي لقوله: {ولله جنود} إلخ، كما أنه بيان تعليلي لقوله: {هو الذي أنزل السكينة} إلخ، كأنه قيل: أنزل السكينة لكذا وله ذلك لأن له جميع الجنود والأسباب لأنه العزيز على الإطلاق والحكيم على الإطلاق.

قوله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} إلى آخر الآية، تعليل آخر لقوله: {أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} على المعنى كما أن قوله: {ليزدادوا إيمانا} تعليل له بحسب اللفظ كأنه قيل: خص المؤمنين بإنزال السكينة وحرم على غيرهم ذلك ليزداد إيمان هؤلاء مع إيمانهم وحقيقة ذلك أن يدخل هؤلاء الجنة ويعذب أولئك فيكون قوله: {ليدخل} بدلا أو عطف بيان من قوله.

{ليزدادوا} إلخ.

وفي متعلق لام {ليدخل} إلخ، أقوال أخر كالقول بتعلقها بقوله: {فتحنا} أو قوله: {يزدادوا} أو بجميع ما تقدم إلى غير ذلك مما لا جدوى لإيراده.

وضم المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهم اختصاص الجنة وتكفير السيئات بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، والجهاد والفتح واقعان على أيديهم فصرح باسم المؤمنات لدفع التوهم كما قيل.

وضمير {خالدين} و{يكفر عنهم سيئاتهم} للمؤمنين والمؤمنات جميعا على التغليب.

وقوله: {وكان ذلك عند الله فوزا عظيما} بيان لكون ذلك سعادة حقيقية لا ريب فيها لكونه عند الله كذلك وهو يقول الحق.

____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص206-216.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

الفتح المبين:

في الآية الأولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بشرى هي عند النّبي طبقاً لبعض الرّوايات أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها إذ تقول الآية: {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً}.

{... فتحاً مبيناً} تظَهرُ آثاره في حياة المسلمين في فترة وجيزة، وفي فترة مديدة أيضاً.. وذلك في انتشار الإسلام.. فتحاً يقل نظيرهُ أو ينعدم نظيره في طول تاريخ الإسلام وعلى امتداده.

وهنا كلام عريض وبحث طويل بين المفسّرين.. حول المراد من هذا الفتح أيُّ فتح هو؟!

فأكثر المفسّرين يرون أنّه إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح الكبير على أثر (صلح الحديبية)(2).

وبعض ذهبوا إلى أنّه (فتح مكّة).

وآخرون قالوا بأنّه (فتح خيبر).

وآخرون أنّه إشارة إلى انفتاح أسرار العلوم على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

غير أنّ قرائن كثيرة لدينا ترجح أنّ هذا الفتح هوما يتعلّق بموضوع صلح الحديبية.

ومن الأفضل وقبل الولوج في تفسير الآيات أن نعرض ولو بشكل مضغوط قصة صُلْح الحديبيّة ليتّضح {المقام} وليكون هذا العرض الموجز بمثابة شأن نزول الآيات أيضاً.

قصّة (صلح الحديبية):

في السنة السادسة للهجرة وفي شهر ذي القعدة منها تحرّك النّبي نحو مكّة لأداء مناسك العُمرة ورغب المسلمين جميعاً في هذا الأمر.. غير أنّ قسماً منهم امتنع عن ذلك، في حين أنّ معظم المهاجرين والأنصار وجماعة من أهل البادية عزموا على الاعتمار(3) مع النّبي فساروا نحو مكّة!...

فأحرم هؤلاء المسلمون الذين كانوا مع النّبي وكان عددهم في حدود (الألف والأربعمائة) ولم يحملوا من أسلحة الحرب شيئاً سوى السيوف التي كانت تعدّ أسلحةً للسفر فحسب!.

ولمّا وصل النّبي إلى (عسفان) التي لا تبعد عن مكّة كثيراً أُخبر أنّ قريشاً تهيّأت لصدّه وصمّمت على منعه من الدخول إلى مكّة. ولمّا بلغ النّبي الحديبيّة

[وهي قرية على مسافة عشرين كيلومتراً من مكّة وسمّيت بذلك لوجود بئر فيها أو شجرة ]أ مر أصحابه أن يحطّوا رحالهم فيها. فقالوا: يا رسول الله ليس هنا ماء ولا كلأ، فهيّأ النّبي عن طريق الاعجاز لهم ماءً من البئر الموجودة في تلك المنطقة.. وبدأ التزاور بين سفراء النّبي وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتُحلّ المشكلة على أي نحو كان، وأخيراً جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلاً حازماً عند النّبي فقال له النبي: (إنّا لم نجيء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين...). وهذا وقد لاحظ عروة الثقفي، ضمناً حالة الأصحاب وهم يكتنفون نبيّهم عند وضوئه فلا يَدَعُون قطرةً تهوي إلى الأرض منه.

وحين رجع عروة إلى قريش قال: لقد ذهبت إلى قصور كسرى وقيصر والنجاشي فلم أرَ قائداً في قومه في عظمته كعظمة محمّد بين أصحابه.. وقال عروة لرجال قريش أيضاً إذا كُنتم تتصورون أنّ أصحاب محمّد يتركونه فأنتم في خطأ كبير.. فأنتم في مواجهة أمثال هؤلاء الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم فاعرفوا كيف تواجهونهم!؟

ثمّ أنّ النّبي أمرَ عمرَ أن يمضي إلى مكّة ليطلع أشراف قريش على الهدف من سفر النّبي فاعتذر عمر وقال إنّ بينه وبين قريش عداوة شديدة وهو منها على حذر فالأفضل أن يرسل عثمان بن عفان ليبادر إلى هذا العمل، فمضى عثمان إلى مكّة ولم تمضِ فترة حتى شاع بين المسلمين خبر مفاده أنّ عثمان قُتل، فاستعد النّبي لأن يواجه قريشاً بشدّة! فطلب بتجديد البيعة من أصحابه فبايعوه تحت الشجرة بيعةَ سُمّيت (بيعة الرضوان) وتعاهدوا على مواصلة الجهاد حتى آخر نفس; إلاّ أنّه لم يمضِ زمن يسير حتى عاد عثمان سالماً وأرسلت قريش على أثره سهيل بن عمرو للمصالحة مع النّبي غير أنّها أكّدت على النّبي أنّه لا يدخل مكّة في عامه هذا أبداً.

وبعد كلام طويل تمّ عقد الصلح بين الطرفين وكان من موادّه ما بيّناه آنفاً وهو أن يغض المسلمون النظر عن موضوع العمرة لذلك العام وأن يأتوا في العام القابل الى مكّة شريطة أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيّام وأن لا يحملوا سلاحاً غير سلاح السفر كما كان من مواد العقد أُمور أُخرى تدور حول سلامة الأرواح والأموال التي تعود للمسلمين والذين يأتون مكّة منهم

[من قِبَل المدينة] ومن مواد العقد أيضاً إيقاف القتال بين المسلمين والمشركين لعشر سنين وأن يكون مسلمو مكّة أحراراً في أداء مناسكهم وفرائضهم الإسلامية.

وكان هذا العقد[أو هذه المعاهدة] بمثابة عدم التعرض لكلا الجانبين ولحسم المعارك المستمرّة بين المسلمين والمشركين بصورة مؤقتة.

وكان مؤدّى هذه المعاهدة وما يتضمّنه عقد الصلح بالنحو التالي:

(قال النّبي لعلي اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: فقال سهيل بن عمرو الذي كان سفير المشركين لا أعرف هذه العبارة بل ليُكتبْ بسمِكَ اللّهمّ! فقال النّبي لعلي اكتب: بسمك اللّهمّ: ثمّ قال النّبي لعلي اُكتبْ: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لوكنّا نعرفك رسول الله لما حاربناك فاكتب اسمك واسم أبيك فحسب. فقال النبيّ: لا مانع من ذلك اُكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو أن يترك القتال عشر سنين ليجد الناس مأمنهم ثانية، وإضافة إلى ذلك من يأتِ محمّداً من قريس مسلماً دون إذن وليّه فيجب إعادته الى أهله ومن جاء قريشاً من أصحاب محمّد فلا يجب إعادته إلى محمّد!

والجميع أحرار فمن شاء دخل في عهد محمّد ومن شاء دخل في عهد قريش!

ويتعهّد الطرفان أن لا يخون كلّ منهما[صاحبه] الآخرَ وأن يحترم ماله ونفسه!

ثمّ بعد هذا ليس لمحمّد هذا العام أن يدخل مكّة، لكن في العام المُقبل تخرج قريش من مكّة لثلاثة أيّام ويأتي محمّد وأصحابه إلى مكّة على أن لا يمكثوا فيها أكثر من ثلاثة أيّام ويؤدّوا مناسك العمرة ثمّ يعودوا إلى أهلهم شريطة أن لا يحملوا معهم سلاحاً سوى السيف الذي هومن عُدة السفر وأن يكون في الغمد وشهد على هذه المعاهدة جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين وأملى المعاهدة علي بن أبي طالب (عليه السلام))(4).

وذكر العلاّمة المجلسي في (بحار الأنوار) مواد أُخرى منها:

(ينبغي أن يكون الإسلام في مكّة غير خفي وأن لا يُجبر أحد في اختيار مذهبه وأن لا ينالَ المسلمين أذى من المشركين)(5).

وهذا المضمون كان موجوداً في التعبير السابق بصورة إجمالية.

وهنا أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنحر الإبل التي جيء بها مع المسلمين وأن يحلق المسلمون رؤوسهم وأن يتحلّلوا من احرامهم!..

لكن هذا الأمر كان على بعض المسلمين عسيرة للغاية وغير مستساغ أيضاً.. لأنّ التحلل من الإحرام في نظرهم دون أداء العمرة غير ممكن!! لكنّ النّبي تقدّم بنفسه ونحر (هديه) وتحلّل من إحرامه وأشعرَ المسلمين أنّ هذا (استثناءٌ) في قانون الإحرام أمر به الله سبحانه نبيّه!

ولمّا رأى المسلمون ذلك من نبيّهم اذعنوا للأمر الواقع ونفذوا أمر النّبي بدقة وعزموا على التوجّه نحو  المدينة من هناك، غير أنّه كان بعضهم يحسّ كأنّ جبلاً من الهم والحزن يجثم على صدره لأنّ ظاهر القضية أنّ هذا السفر كان غير موفّق بل مجموعة من الهزائم! لكنّ مثل هذا وأضرابه لم يعلموا ما ينطوي وراء صلح الحديبية من انتصارات للمسلمين ولمستقبل الإسلام. وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين(6).

الآثار السياسية والاجتماعية والمذهبية لصلح الحديبية:

يتّضح بمقايسة إجمالية بين حال المسلمين في السنة السادسة للهجرة (أي عند صلح الحديبية) وحالهم بعدها بسنتين حيث تحرّك المسلمون لفتح مكّة بعشرة آلاف مقاتل ليردّوا على نقض العهد بشدّة، وقد فتحوا مكّة دون أية مواجهة عسكرية لأنّ قريشاً لم تجد في نفسها القدرة على المقاومة أبداً.

يتّضح بهذه المقايسة الإجمالية ـ سعة ردّ الفعل ـ التي أحدثتها معاهدة صلح الحديبية!..

وباختصار فإنّ المسلمين حصلوا على إمتيازات عديدة من وراء هذا الصلح وفتحاً كبيراً نذكرها على النحو التالي:

1 ـ بيّنوا عملياً للمضللين من أهل مكّة أنّهم ليس لديهم نيّة للحرب وسفك الدماء وأنّهم يحترمون مكّة وكعبتها المقدسة وكان هذا الأمر سبباً لاكتساب قلوب الكثيرين نحو الإسلام.

2 ـ اعترفت قريش لأوّل مرّة بالإسلام والمسلمين (بصورة رسمية) وكان ذلك سبباً لتثبيت موقعهم في جزيرة العرب!..

3 ـ استطاع المسلمون بعد صلح الحديبيّة أن يمضوا حيث يشاؤون وأن تبقى أرواحهم وأموالهم في مأمن من الخطر واتصلوا بالمشركين من قريب اتصالاً أثمر نتيجته، فكان أن عرف المشركون الإسلام بصورة أكثر واسترعى أنظارهم نحوه!.

4 ـ انفتح الطريق بعد صلح الحديبيّة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية. وأثار موقف النّبي الإيجابي من الصلح القبائل العربية وأصلح نظرتها إلى الإسلام ورسوله الكريم. وحصل المسلمون على مجال إعلامي واسع في هذا الصدد.

5 ـ هيّأ صلح الحديبيّة الطريق لفتح (خيبر) واستئصال هذه الغدة السرطانية (المتمثلة باليهود) والتي كانت تشكل خطراً مهمّاً (بالفعل والقوّة) على الإسلام والمسلمين!

6 ـ وأساساً فإنّ استيحاش قريش من مواجهة الجيش الذي كان يتألّف من ألف وأربعمائة مسلم فحسب ولا يحمل أي منهم سلاحاً سوى سلاح السفر وقبول قريش بمعاهدة الصلح كان بنفسه أيضاً عاملاً مهماً على تقوية المعنويات عند المسلمين وهزيمة أعداء الإسلام إلى درجة أنّهم كانوا يتهيّبون من مواجهة المسلمين!.

7 ـ وبعد صلح الحديبيّة كتب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتباً و(رسائل) متعددة إلى رؤساء الدول الكبرى (إيران والروم والحبشة) وملوك العالم البارزين يدعوهم فيها إلى الإسلام، وهذا بنفسه يدل على أن صلح الحديبيّة أعطى المسلمين الثقة بأنفسهم وأن ينفتحوا لا على الجزيرة العربية فحسب بل على آفاق العالم قاطبة!

والآن لنعد ثانية إلى تفسير الآيات!..

نستطيع أن ندرك ممّا ذكر آنفاً ـ بشكل جيد ـ أنّ صلح الحديبيّة كان بحق انتصاراً للإسلام وفتحاً للإسلام والمسلمين فلا غرابة أن يعبِّر عنه القرآن بالفتح المبين!.

ثمّ بعد هذا كله فإنّ هناك قرائن كثيرة تؤيد هذا التّفسير..

1 ـ جملة ـ فتحنا ـ التي جاءت بصيغة الفعل الماضي تدل على أنّ هذا الأمر قد تحقق عند نزول الآيات في حين أنّه لم يكن وقتئذ أي شيء سوى صلح الحديبية!.

2 ـ زمان نزول الآيات المشار إليها آنفاً والآيات الأُخرى المذكورة في هذه السورة التي تمدح المؤمنين وتذم المنافقين والمشركين في صلح الحديبيّة كلّ ذلك شاهد آخر على هذا المعنى، والآية (27) من سورة الفتح التي تؤكّد على تحقق رؤيا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27] هي شاهد بليغ على أنّ هذه السورة نزلت بعد الحديبيّة وقبل فتح مكّة!.

3 ـ هناك روايات كثيرة تعبّر عن صلح الحديبيّة بأنّه (الفتح المبين)! ومن ضمنها ما ورد في تفسير (جوامع الجامع) أنّه حين كان النّبي راجعاً من الحديبيّة ونزلت عليه سورة الفتح.. قال أحد أصحابه: ما هذا الفتح؟! لقد صُددنا عن البيت وصُدّ هديُنا!.

فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (بئس الكلام (هذا) بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراع ويسألوكم القضيّة! ورغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا..)(7).

ثمّ ذكّرهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما تحمل المشركون من مساءة يوم بدر ويوم الأحزاب فصدّق المسلمون رسولهم على أنّ هذا أعظم الفتوح وأنّهم قضوا عن عدم إطلاعهم بما قالوا(8).

يقول (الزهري) وهومن التابعين: لم يكن فتح أعظم من الحديبيّة وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثيرٌ كثر بهم سواد الإسلام(9).

ففي هذه الأحاديث إشارة إلى جانب من الإمتيازات التي حصل عليها المسلمون ببركة صلح الحديبية.

إلاّ أنّ حديثاً واحداً ورد عن الإمام الرضا (علي بن موسى) (عليه السلام) يقول {إنّا فتحنا} نزلت بعد (فتح مكّة)(10).

بيد أنّه يمكن توجيه هذه الرواية ببساطة بالقول بأنّ صلح الحديبيّة كان مقدمةً لفتح مكّة بعد سنتين، فيرتفع الإشكال.

أو بتعبير آخر أنّ (صلح الحديبية) كان سبباً لفتح خيبر في فترة وجيزة (في السنة السابعة للهجرة) وأوسع من ذلك كان سبباً لفتح مكّة (السنة الثامنة للهجرة) وانتصارات الإسلام في مجالات شتى من حيث النفوذ في قلوب العالمين!.

وبهذا يمكن الجمع بين التفاسير الأربعة مع هذا القيد وهو أنّ صلح الحديبيّة يشكل المحور الأصلي لهذه التفاسير!.

وقوله تعالى : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } [الفتح: 2، 3]:

نتائج الفتح المبين الكبرى:

في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من (الفتح المبين)

[صلح الحديبية ]والتي ورد ذكره في الآية السابقة فتقول الآيتان: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً، وينصرك الله نصراً عزيزاً}.

وبهذا فإنّ الله منح نبيّه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي (المغفرة)، و(إتمام النعمة)، و(الهداية) و(النصر).

وقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]:

نزول السكينة على قلوب المؤمنين:

ما قرأناه في الآيات السابقة هوما أعطاه الله من مواهب عظيمة لنبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بالفتح المبين {صلح الحديبية}، أمّا في الآية أعلاه فالكلام عن الموهبة العظيمة التي تلطف الله بها على جميع المؤمنين إذ تقول الآية:{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}.

ولمَ لا تنزل السكينة والإطمئنان على قلوب المؤمنين؟ {ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً).

ماذا كانت هذه السكينة؟!

من الضروري هنا أن نعود إلى قصة (صلح الحديبيّة) وأن نتصوّر أنفسنا في فضاء الحديبيّة وفي جوّها لنطّلع على عمق هذه الآية.

لقد كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى رؤيا (رحمانية وإلهية) أنّه دخل المسجد الحرام مع أصحابه، وعلى أثر رؤياه تحرّك نحو زيارة بيت الله مع أصحابه وكان أغلب أصحابه يتوّقّعون أنّ هذه الرؤيا الصالحة سيتحقّق تعبيرها في هذا السفر نفسه، لكنّ الذي قدّره الله كان شيئاً آخر! هذا كلّه من جانب.

ومن جانب آخر كان المسلمون قد أحرموا وجاءوا بالإبل ليهدوها أو ينحروها، ولكنّهم وعلى خلاف ما توقّعوا لم يوفّقوا لزيارة بيت الله، وأمر النّبي أن ينحروا الإبل في الحديبيّة التي توقّفوا فيها هناك. وأن يحلّوا من إحرامهم، وكان ذلك أمراً صعباً عليهم ولا يمكن تصديقُه، لأنّ آدابهم وسننهم وتعليمات الإسلام أيضاً تنصّ على عدم الخروج والإحلال من الإحرام ما لم يتمَّ أداء المنَاسك الخاصة بالعمرة.

ومن جانب ثالث كان من مواد معاهدة الصلح في الحديبية، مادة تقضي بإعادة المسلمين من يلجأ إليهم من قريش ويعلن إسلامه ويدخل المدينة! ولا يلزم العكس، وكان هذا الموضوع صعباً على المسلمين للغاية.

ومن جانب رابع، فإنّ قريشاً لم ترغبْ أن تكتب كلمة (رسول الله) التي كان يدعى بها النّبي محمّد وأصرّ ممثلها سهيل بن عمرو على حذف الكلمة من معاهدة الصلح، ولم يوافق حتى على كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، وأصرّ أن يكتب مكانها (بسمك اللّهمَّ)، التي كانت تنسجم مع سنّة أهل مكّة، فهذه الأُمور كلّ واحد منها كان غير مرغوب فيه، فكيف بجميعها؟ ولذلك تزلزلت قلوب بعض ضعاف الإيمان من أصحاب النّبي إلى درجة أنّه حين نزلت سورة (إنّا فتحنا) قالوا أي فتح هذا؟!

هنا ينبغي أن يشمل لطف الله حال المسلمين وأن يُنزل عليهم السكينة والإطمئنان وأن لا يوجد في قلوبهم الضعف والفتور فحسب، بل {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} وتنطبق مصداقية الآية عليهم، فإنّ الآية نزلت في مثل هذه الظروف.

(السكينة) في الأصل مشتقة من (السكون)، ومعناها الأطمئنان والدعة وما يزيل كل أنواع الشك والتردّد والوحشة من الإنسان ويجعله ثابت القدم في طوفان الحوادث!

وهذه السكينة يمكن أن يكون لها جانب عقائدي فيزيلُ ضعف تزلزل العقيدة أو يكون لها جانب عملي بحيث يهب الإنسان ثبات القدم والمقاومة والاستقامة والصبر.

وبالطبع فإنّ البحوث السابقة وتعبيرات الآية نفسها تتناسب مع استعمال السكينة في معناها الأوّل أكثر.

في حين أنّها في الآية (248) من سورة البقرة في قصة (طالوت وجالوت) تعوّل على الأسس العملية أكثر!

وقد ذكر جماعة من المفسّرين معاني أُخرَ للسكينة وترجع في نهايتها إلى هذا التّفسير أيضاً.

الطريف أنّ (السكينة) في بعض الرّوايات فسّرت بالإيمان(11) كما فُسّرت في بعضها بنسيم الجنّة الذي يبدو في هيئة الإنسان ويمنح المؤمنين الاطمئنان(12)!

وكل هذه التفاسير تأييد لما قلناه، لأنّ السكينة وليدة الإيمان، وهي تهب الإطمئنان كنسيم الجنّة!

وينبغي الإلتفات أيضاً إلى هذه اللطيفة في شأن السكينة، إذ عُبّر عنها بالإنزال {هو الذي أنزل السكينة} ونعلم أنّ هذا التعبير في القرآن قد يعني الخلق والإيجاد وإيلاء النعمة أحياناً.. وحيث أنّها من عال إلى دان فقد ورد في شأنها التعبير بالإنزال!.

نتيجة أُخرى من الفتح المُبين :

قال تعالى : {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } [الفتح: 5].

نقل جماعة من مفسّري الشيعة وأهل السنّة أنّه حين بشّر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(بالفتح المبين) و(إتمام النعمة) و(الهداية) و(النصرة).. قال بعض المسلمين ممّن كان مستاءً من صلح الحديبيّة: هنيئاً لك يا رسول الله! لقد بيّن لك الله ماذا يفعل بك!

فماذا يفعل بنا فنزلت الآية {ليُدخل المؤمنين والمؤمنات}(13).

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآيات تتحدّث عن علاقة صلح الحديبيّة وآثاره وردّ الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة، وكذلك عاقبة كلّ من الفريقين اللذينِ أُمتحنا في هذه {البوتقة} والمختبر ـ فتقول الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث {ليُدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}. فلا تُسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبداً..

وإضافة إلى ذلك فإنّ الله يعفو عنهم {ويكفّر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً}(14).

وبهذا فإنّ الله قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عُظُمَييْن هما {الجنّة خالدين فيها} و{التكفيرُ عن سيّئاتهم} بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزاً عظيماً لأولئك الذين خرجوا من الامتحان بنجاح وسلامة!.

وكلمة (الفوز) التي توصف في القرآن غالباً بـ (العظيم) وأحياناً توصف بـ(المبين) أو(الكبير) بناءً على ما يقول (الراغب) في (مفرداته) معناها الانتصار ونيل الخيرات المقرون بالسلامة، وذلك في صورة ما لوكان فيه النجاة في الآخرة وإن اقترن مع زوال بعض المواهب الدنيوية.

وطبقاً للرواية المعروفة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين ضربه اللعين عبد الرحمن بن ملجم في محراب العبادة بالسيف على أمّ رأسه قال هاتفاً {فزت وربِّ الكعبة} وكأنّه يقول فزت بأنّي أمضيت خَتم صحيفتي بدم رأسي.

أجلْ قد تبلغ الامتحانات الإلهية درجةً أن تضعضع الإيمان الضعيف وتغيّر القلوب، وإنّما يثبت المؤمنين الصادقون الذين تحلّوا بالسكينة والإطمئنان وسينعمون في يوم القيامة بنتائجه، وذلك هو الفوز العظيم حقّاً!.

_______________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص10-28.

2 ـ اختار هذا التّفسير جماعة منهم أبو الفتوح الرازي في تفسيره، والآلوسي في روح المعاني، والفيض الكاشاني في تفسير الصافي والعلاّمة الطباطبائي في الميزان.. في حين أنّ بعض المفسّرين يرجحون أنّ المراد من هذا الفتح هو فتح مكّة كما هو في تفسير التبيان للطوسي، والكشاف للزمخشري وتفسير الفخر الرازي وغيرهم.. أمّا العلاّمة الطبرسي فقد جمع بين القولين في مجمع البيان مع أقوال أُخرى إلاّ أنّه يميل إلى تفسير الطائفة الثانية..

3 ـ الإعتمار مصدر من: اعتمر والعمرة أواسم مصدر من عمر وكلا المصدرين بمعنى واحد

وهو الزيارة مطلقاً (لغةً) غير أنّه اصطلح عليهما في زيارة بيت الله خاصّة.

4 ـ منقول بتصرّف يسير عن تأريخ الطبري، ج2، ص281.

5 ـ بحار الأنوار، الجزء العشرون، ص352.

6 ـ راجع سيرة ابن هشام، ج3، ص321 ـ 324، تفسير مجمع البيان وتفسير في ظلال القرآن

والكامل لابن الأثير، ج2 ومصادر أخرى [مع شيء من التلخيص طبعاً].

7 ـ جوامع الجامع (طبقاً لنور الثقلين، ج5، ص48، الحديث التاسع).

8 ـ الدر المنثور، ج6، ص68.

9 ـ المصدر السابق ، ص109.

10 ـ نور الثقلين، ج5، ص48.

11 ـ تفسير البرهان، ج2، ص114.

12 ـ المصدر السابق.

13 ـ تفسير المراغي، ج26، ص85 وتفسير أبو الفتوح الرازي، ج10، ص26 وتفسير روح المعاني للآلوسي، ج26، ص86.

14 ـ طبقاً لهذا البيان فإنّ جملتي {ليدخل} وكذلك {ويعذّب} اللتين هما في الآية التالية معطوفان على جملة ليغفر، وقد اختار جماعة من المفسّرين هذا الرأي كالشيخ الطوسي في {التبيان} والطبرسي في {مجمع البيان} وأبو الفتوح الرازي في تفسيره، غير أنّ جماعة آخرين قالوا أنّ ما سبق آنفاً معطوف على جملة ليزدادوا إيماناً وهذا لا ينسجم مع شأن النّزول ولا مجازاة الكفّار.

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .