المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
التركيب الاقتصادي لسكان الوطن العربي
2024-11-05
الامطار في الوطن العربي
2024-11-05
ماشية اللحم في استراليا
2024-11-05
اقليم حشائش السافانا
2024-11-05
اقليم الغابات المعتدلة الدافئة
2024-11-05
ماشية اللحم في كازاخستان (النوع كازاك ذو الرأس البيضاء)
2024-11-05



المفاهيم القرآنية بين الجمود والتأويل  
  
2283   02:15 صباحاً   التاريخ: 1-12-2014
المؤلف : آية الله جعفر السبحاني
الكتاب أو المصدر : مفاهيم القرآن
الجزء والصفحة : ج5 ، ص 15- 29 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / علوم القرآن / مواضيع عامة في علوم القرآن /

إنّ الذكر الحكيم يشتمل على معارف وأُصول كما يشتمل على أحكام وفروع ، والغاية المتوخّاة من المعارف والأُصول ، هي تحصيل العلم والمعرفة أوّلاً ، والإذعان والإيمان ثانياً ، كما أنّ الهدف من تشريع الأحكام والفروع هو الدعوة إلى العمل والتطبيق.

فلو كان شرف كل علم بشرف موضوعه ، فالعلم الأوّل ـ بما أنّه يبحث عن معرفة الله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما ينبغي له وما لا ينبغي له ـ يكون هو الأشرف والفقه الأكبر ، كما أنّ العلم الثاني ـ بما أنّه يبحث عن حكمه سبحانه بما يتعلّق بأفعال العباد ـ يكون هو الفقه الأصغر. ولكلٍّ أئمّةٌ وقادة مفكرّون ، وكثيراً ما يكون الإنسان إماماً في باب المعارف والعقائد ، وفي الوقت نفسه يكون غير رفيع المستوى في باب معرفة الأحكام ، وربّما يكون على العكس ، فالكل إذا تكلموا فيما أحسنوا ، أرشدوا إلى الطريق المهيع والحق المبين ، فإذا نطقوا في غيره أتوا بما تندهش منه العقول ويقضي منه العجب (1).

فاللازم على روّاد العلم حسب ما أمر به الرسول من تنزيل كل أمرئ منزلته (2) والأخذ عنهم فيما برعوا وفاقوا فيه ، وترك الاقتفاء والتبعية فيما لا حذق لهم فيه ولا براعة ، وهذا هو دأب الدين ، وهي السنّة القرآنية الّتي أمر الله سبحانه بها حيث قال : {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة : 189].

وكذلك علم الحديث والسنّة ، فربّما يكون الرجل قدوة في الحفظ ، عارفاً بمتون الأحاديث وأسانيدها ، وليس له مقدرة علمية لتحليل مفادها والغور في أعماقها ، فيكون ذلك من موارد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (3).

فليس كل من روى كلاماً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يقبل رأيه الّذي رأى ، ولا كل من حفظ اللفظ ، كان أهلاً لبيان كنه المعنى ، وما يستنبط منه ، بل لكل من الحفظ والنقد والتحليل رجال متخصّصون ، ولكل فن أهل وأرباب ، فمن خاض في علم بلا كفاءة كان خطاؤه أكثر من صوابه وكان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.

هذا هو الأصل الّذي دعا إليه القرآن ، واستقرّت عليه سيرة العقلاء ، ولكن الغفلة عن هذا الأصل في بدايات القرون الهجرية الأُولى ، أحدثت تخبّطاً في الأوساط الإسلامية فنجمت بين المسلمين بدع يهودية وآراء مسيحية ، من القول بالتشبيه ، وإثبات المحل لله تعالى ، والجهة له سبحانه ، فوصف الباري ـ المنزّه عن كل نقص ـ بالجلوس ، والنزول إلى الأرض ، وأثبتت له الأجزاء والأعضاء كالوجه والعين واليد والرجل ، ونسب إليه الاستعلاء الحسي على العرش ، وكان السبب لهذا التخبّط أمران :

أوّلاً : الاغترار بما وضعه أعداء الإسلام من الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإيمان وأضمروا الكفر تنفيذاً لحقدهم وعدائهم ، ويقف القارئ على نماذج كثيرة من هذه الإسرائيليات فيما روي عن كعب الأحبار ، ووهب من منبه ، وعبد الملك بن جريج ، ومن شاكلهم من المتأسلمين لا المسلمين الحقيقيّين.

ثانياً : الجمود على ظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون تعمّق في أغوارها ، ولا تفحّص في مفاهيمها وأعماقها ، حتّى عاد التفكّر في مفاد الآية والحديث تأويلاً بغيضاً ، فعند ذاك هاجت بحار الفتن وتلاطمت أمواجها بالبدع المهلكة ، فسمّي التفكّر في القرآن والتدبّر في كلمات الرسول « كفراً » و « زندقة » وعدّ إقصاء العقل وعزله عن القضاء في المعارف والأُصول « قداسة » و « نزاهة » !!!

ففي هذه الظروف والأحوال قامت قيامة تأسيس المناهج ، ونجمت فرق كثيرة ، كلٌّ يدّعي الانتساب إلى الوحي والسنّة.

وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى                    وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

 وإليك تسمية بعض هذه الفرق وبيان رؤوسها :

1. مبتدعة السلف :

وهم المغترون بكل حديث وقعت أعينهم عليه ، فجمعوا في حقائبهم كل رطب ويابس ، وأخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن ، وسمّوا كل بحث من أيّ أصل من الأُصول والمعارف « تأويلاً » و « خروجاً عن الدين » وكبحوا العقل بتهمة الزندقة ، واستراحوا لما رووا عن أئمتهم من ذم علم الكلام ، فوصفوا الجمال المطلق والكمال اللامتناهي بالمحل والجسم ، والنزول والصعود ، وخرقوا له كثيراً من الأشباه والنظائر.

ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة ، ونعيم بن حمّاد ، ومقاتل بن سليمان ، ومن لف لفهم ، ففي مروياتهم تلك الآثار المشينة ، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة ، فحسبوها حقائق راهنة وألّفوا فيها الكتب.

وعلى هذا الأساس أُلّف كتاب « التوحيد » لمحمد بن إسحاق بن خزيمة ( المتوفّى عام 321 ه‍ ) ، وكتاب « السنّة » لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وكتاب « النقض » لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فإنّه أول من اجترأ من المجسّمة بالقول : بأنَّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ، فكيف على عرش بعيد (4).

ولقد عزب عن هؤلاء المساكين أنّ التفكّر في آي الذكر الحكيم والغور في أعماقها ممّا أمر به منزّله سبحانه حيث قال : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص : 29]. وليس صرف آيات الاستواء على العرش والوجه واليد والعين وما شابهها ، عن الظاهر المتبادر من مفرداتها ، إلى ما هو المتبادر عند أئمّة البلاغة ، تأويلاً وخروجاً عن ظاهر الكلام ، إذ للكلمة بمفردها حكم ، وللجملة المتكوّنة من بعض الكلمات حكم آخر.

وإن كنت في ريب من هذا فلاحظ لفظ الأسد بمفرده ، ونفس اللفظ في قول القائل : « رأيت أسداً يرمي » ، فحملها في الجملة الثانية على الحيوان المفترس صرف لظاهر الكلام بلا دليل ، وتأويل بلا مسوّغ.

وبهذا يظهر أنَّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد ، ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل ، فلا يصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها ، فإذا قال سبحانه : {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] ، فيحمل على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام ، أعني : الإسراف والتقتير ، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط ، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير ، ولا يعني به بسط اليد بمعنى مدّها ، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.

وعلى هذا يجب أن يفسر قوله سبحانه : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، فالعرش في اللغة هو السرير ، والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنَّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرّفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق                من غير سيف ودم مهراق

 أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم                تركناهم مرعى لنسر وكاسر

 فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة ، لا العلو المكاني الّذي يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الّذي هو كمال الذات.

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات : {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54].

فالتأويل بلا قيد وشرط ، إذا كان ضلالاً ـ كما سيوافيك بيانه ـ فكذلك الجمود على ظهور المفردات ، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر ، فلو حمل القارئ قوله سبحانه : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] على أنّ لله مثلاً ، وليس لهذا المثل مثل ... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله ، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة فراجعه (5).

وما أحسن قول ابن العربي في هؤلاء المجسّمة المشبهة :

قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا        عنها العدول إلى رأي ولا نظر

بينوا عن الخلق لستم منهم أبداً         ما للأنام ومعلوف من البقر

 وهؤلاء سلف المشبهة وأئمّة المجسّمة ، وقد اغتر بقولهم جماعة من البسطاء المحدثين إلى أن طلع إمام الأشاعرة فادّعى في الفترات الأخيرة من حياته أنّه تاب من الاعتزال وصار من شيعة منهج أحمد بن حنبل ، وأنّ مذهبه لا يفترق عنه قيد شعرة ، فقام بتعديله وإصلاحه بشكل خاص خال عمّا يناقض عقول الناس ، إلاّ فيما شذ وندر. وليس مذهب الأشعري إلاّ صورة معدلة من مذهب الحنابلة وأهل الحديث ، كما سيوافيك ، فصار القول بالتشبيه والتجسيم الصريح متروكاً بعده إلى قرون.

ولكن العجب أنّ هذه البدع بعد إخمادها ، أخذت تنتعش في أوائل القرن الثامن بيد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني ( المتوفّى عام 728 ه‍ ) ، فجدّد ما اندرس من آثار تلك الطائفة المشبهة ، وقد وصفه السبكي في السيف الصقيل : « بأنّه رجل جسور يقول بقيام الحوادث بذات الرب » ، ولكنه يقول بأنكر من ذلك ، وقد أتى بنفس ما ذكره الدارمي المجسّم في كتابه « غوث العباد » المطبوع بمصر عام 1351 ه‍ في مطبعة الحلبي.

وعلى ذلك فابن تيمية إذن إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه ، وشيخ أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين ، الذين اهتموا بالحفظ المجرّد ، وغفلوا عن الفهم والتفكير ، ولأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الحراني يرمي المفكرين من المسلمين كإمام الحرمين ، والغزالي ، في كتابيه « منهاج السنّة والموافقة المطبوع على هامش الأوّل » بأنّهما أشدّ كفراً من اليهود والنصارى. مع أنّه ( أي ابن تيمية ) يعتنق عقائد يخالف جمهرة المسلمين وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

2. معطّلة السلفية

وهذه الزمرة من السلفية وإن كانت بريئة ممّا ذهبت إليه المجسّمة فهم لا يقتفون أثر الظواهر ، بل يصرفونها عمّا يتبادر منها في بادئ النظر ، إلاّ أنّهم لا يخوضون في المراد منها حذراً ممّا يسمى ب‍ « وصمة التأويل ».

فعقيدة هؤلاء في الصفات الخبرية أنّ لله سبحانه يداً وعيناً واستواءً على العرش ، لكن لا نعلم كنهها ، وفي مقدم هؤلاء مالك بن أنس ، وقد سئل عن معنى قوله سبحانه : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه : 5] أنّه كيف استوى ؟ فقال في جواب السائل : ما أظنّك إلاّ صاحب بدعة ، فالاستواء مذكور ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب. وفي رواية : والكيف غير معقول.

فلو صحت نسبة هذا الكلام إلى إمام المالكية ، فهو بلا شك من المعطّلة ، خصوصاً إذا كانت الرواية على قوله : « الكيف مجهول » ، فهو يعتقد أنّ لله سبحانه جلوساً على العرش ، لكن مجهولاً كنهه أو محالاً دركه ، فيجب الإيمان به لا السؤال عن حقيقته ، فيتوجه السؤال إلى إمام المذهب المالكي أنّه لماذا هجم على السائل بقوله ما أظنّك إلاّ صاحب بدعة ؟! مع أنّ وظيفة العالم إرشاد الجاهل لا الهجوم عليه بكلمة لاذعة ، كما أنّه يتوجه إليه أنّ الآية ونظائرها تصبح عند ذاك من الألغاز الّتي لا يفهم معناها ، بل يجب الإيمان بها ، ومع ذلك كلّه فقد راج هذا المذهب بعد ما رجع الإمام الأشعري من مذهب الاعتزال إلى مذهب المحدّثين ، وفي مقدمهم أحمد بن حنبل ، يقول ابن خلكان : كان أبو الحسن الأشعري أوّلاً معتزلياً ، ثم تاب من القول بالعدل ، وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ورقى كرسياً ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أُعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن ، وإنّ الله لا تراه الأبصار ، وإنَّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع ، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم (6).

فغاية ما عند الإمام الأشعري وأتباعه أنَّ لله سبحانه صفات خبرية مثل اليدين ، والوجه ، ولكن لا نعرف كنه اللفظ الوارد فيه ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه يقيناً (7).

وهذه الطائفة قد خرجت من مغبة التشبيه والتجسيم ، غير أنّهم تورّطوا في أشراك التعطيل وحبائله ، فعطّلوا العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول كما عطّلوها عن التدبّر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتاباً للتعليم والإرشاد ، قال تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل : 89] ، فإذا كان القرآن مبيّناً لكل شيء فكيف لا يكون مبيّناً لنفسه ؟! وكيف يكون المطلوب منه نفس الاعتقاد من دون فهم معناه ؟ وفي الختام نشير إلى عدّة أُمور :

1. انّ القوم يطلقون عنوان « المعطّلة » على القائلين بوحدة الذات والصفات بمعنى أنّ صفاته سبحانه عين ذاته لا شيء زائد عليه ، وأنّ الذات كلّها علم وكلّها قدرة ، وكلّها حياة ، وليست هذه الصفات أُموراً زائدة على نفس الذات.

والقوم لما لم يصلوا إلى مغزى تلك العقيدة رموا القائلين بها بالتعطيل ، أي تعطيل الذات عن الاتصاف بالصفات ، وهم برآء عن هذه التهمة ، إذ لم يعطّلوها عن الاتصاف بها ، بل نزّهوا الذات عن الاتصاف بالصفات الزائدة ، فكم فرق بين تعطيل الذات عن الصفات ، وبين تنزيهه عن الصفات الزائدة ؟ فتوصيفهم بالتعطيل ظلم واضح ، بل المعطّلة حقيقة هم الذين عطّلوا العقول عن البحث حول المعارف واكتفوا بالإيمان المجرّد الخالي عن التعمّق والتفهم.

2. انّ معطّلة السلف كانوا يحرمون النظر في المعارف بحجة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : عليكم بدين العجائز ، فإنّه الفائز. غير أنّ هذا النص لم يوجد في صحاح القوم ، ولا في مسانيدهم ، بل الصحيح ما روي أنّ « عمرو بن عبيد » لمّا أثبت منزلة بين الكفر والإيمان ، فقالت عجوزة : قال الله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [التغابن : 2] فلم يجعل الله من عباده إلاّ الكافر والمؤمن. فقال سفيان : عليكم بدين العجائز.

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنَّ الرواية صدرت من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما استدلت العجوز على وجود الصانع بحركة دولابها ، وكف اليد عن تحريكها ، على ما هو معروف ، فاستدلت بحركة الأجرام السماوية على أنّ لها محركاً كما أنّ لحركة دولابها محركاً ، وأين هذا من تعطيل العقول عن المعارف ؟!

3. ثم إنّ تعطيل العقول عن البحث والمعرفة أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية مادية بحتة بحجة أنّ مبادئها ومقدماتها ليست في متناول الباحثين ، لأنّها موضوعات وراء الحس والطبيعة ولا تعمل فيها حواس الإنسان ، فهذا هو السيد الندوي يتمسّك بهذا الوجه ويعدّ ترك البحث فضيلة ، والبحث عن المعارف القرآنية كفراناً للنعمة.

يقول : وقد كان الأنبياء (عليهم السلام) أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتاهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدماتها الّتي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيهما حواسّهم ، ولا يؤدي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية.

لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً ، وأبدوا البحث أنفاً ، وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خرّيتاً (8).

إنّ الكاتب حسب ما توحي عبارته متأثر بالفلسفة المادية الّتي تحصر أدوات المعرفة بالحس ، ولا يقيم وزناً للعقل الّذي هو إحدى أدواتها ، وهذا من الكاتب أمر عجيب جداً ، فإنّ الله سبحانه كما دعا إلى الانتفاع بالحس ومطالعة الطبيعة وكشف قوانينها وأنظمتها دعا إلى التعقّل والتفكّر في كل ما ورد في القرآن الكريم حيث قال : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24].

وليست الآية ناظرة إلى التدبّر في خصوص الأنظمة السائدة على النبات والحيوان والإنسان ، بل التدبّر في مجموع ما جاء في القرآن ، فقد جاء في القرآن الكريم معارف دعي إلى التدبّر فيها ، نظير : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11]. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]. {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه : 8]. {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } [الحشر: 23].

{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة : 115].

{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد : 3].

{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر : 21].

{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد : 4].

{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد : 39].

إلى غير ذلك من المعارف العليا الواردة في القرآن الكريم ، ولا يحصل عليها الإنسان إلاّ بالتدبّر والتعقّل ، ولا تكفي في التعرّف عليها العلوم الحسّية وإن بلغت القمة.

ثم إنّ لصدر المتألّهين كلاماً حول هذه الطائفة طوينا الحديث عن ذكره ، كما أنّ للسيد العلاّمة الطباطبائي كلاماً قيماً آخر تركنا ذكره روماً للاختصار (9).

4. انّ العقيدة الأشعرية هي عقيدة حنبلية معدّلة ، وقد تصرّفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُولى ، فلأجل ذلك حلّت محل ذلك المذهب بعد اضطرابات واشتباكات بين معدّل المذهب وأتباع العقائد الحنبلية.

وقد توفق الرجل في تعديل المذهب ، وأوّلَ منه ما يناقض العقول ، ومع ذلك كلّه أبقى من المذهب الحنبلي أُموراً على وجهها ولم يقدر على تأويلها ، وهي عبارة عن : مسألة قدم القرآن أوّلاً ، ورؤية الله سبحانه ثانياً ، والقول بالقضاء والقدر على وجه يجعل الإنسان مكتوف الأيدي ، فلو أغمضنا النظر عن هذه المسائل الثلاث ، فقد توفّق الإمام الأشعري في إصلاح العقائد الحنبلية بعد ثبوتها في نفوس الناس وانتشارها في العالم.

3. المؤوّلة

إنّ المؤوّلة من الباطنية ليسوا بأقل خطراً من أصحاب الجمود ، فقد وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة باطلة لا يوافقها العقل ولا دلّ عليها من الشرع شيء ، قالوا :

للقرآن ظاهر وباطن ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر ، وانّ باطنه يؤدي إلى ترك العمل بظاهره ، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه : {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]. (10)

فإذا كانت تلك الضابطة في فهم الشريعة والعمل بالقرآن صحيحة ، إذن أصبحت الشريعة غرضاً لكل نابل ، وفريسة لكل آكل ، فلا يبقى منها شيء ، وفي هذه الحالة يدّعي كل مؤوّل أنّ الحق معه ، وأنّ المراد ما اختاره من التأويل على الرغم من اختلاف تأويلاتهم ، انظر إلى ما يقولون حول المفاهيم الإسلامية وأنّهم كيف يتلاعبون بها ، فالصلاة عبارة عن الناطق الّذي هو الرسول ، لقوله سبحانه : {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45].

والغسل عبارة عن تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرار الباطنية من غير قصد ، والاحتلام عبارة عن إفشائه ، والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين ، والجنة راحة الأبدان عن التكاليف ، والنار مشقتها بمزاولة التكاليف (11).

فإذا كان ما ذكروه حقيقة الدين والتكاليف فلم يبق بين الديانة والإلحاد حد ولا فصل.

هذه نماذج من تأويلات الباطنية ، وقد ظهرت بوادر هذه الفتنة ونبتت نواتها زمن المأمون العباسي إلى أن صاروا طائفة كبيرة حاقدة على الإسلام والمسلمين ، ومحاربة لهم بغير السيف والنار ، عن طريق الاحتيال الموصل لهم إلى مآربهم وأهوائهم.

ويليهم في التخريب والإضرار التصوّف الّذي جاء به ابن العربي شيخ هذه الطريقة ، فقد قام بتأويل المفاهيم القرآنية على وجه لا دليل عليه ، فيقول : إنّ جبرائيل هو العقل الفعّال ، وميكائيل هو روح الفلك السادس ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع (12).

كما يفسر قوله سبحانه : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] بأنَّ مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الّذي هو الملح الأُجاج ، وبحر الروح المجرّد ، وهو العذب الفرات ، يلتقيان في الموجود الإنساني ، وأنّ بين الهيولى الجسماني والروح المجرّد برزخ ، هو النفس الحيوانية الّتي ليست في صفاء الروح المجرّدة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها.

ولكن مع ذلك لا يبغيان ، أي لا يتجاوز أحدهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته ، فلا الروح المجرّدة تجرّد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه ، ولا البدن يجسّد الروح ويجعله مادياً (13).

تجد نظائر هذا في كتبه ، كالفتوحات المكية ، والفصوص ، فيطبّق كثيراً من الآيات القرآنية على كثير من نظرياته الصوفية ، وقد مني الإسلام بأصحاب الجمود في القرون الأُولى وحتى الآن ، كما مني بالمؤوّلة من الباطنية والمتصوّفة من أوائل القرن الثالث حتى الآن.

__________________

 (1) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « لو سكت من لا يعلم لرفع الاختلاف » لاحظ درر الحكم للآمدي.

(2) روى مسلم في صحيحه : ( 1 / 5 ) عن عائشة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.

(3) سنن الترمذي : 5 / الباب 7 ، كتاب العلم ، الحديث 2657 ; مسند أحمد : 2 / 225.

(4) لاحظ مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي.

(5) مفاتيح الغيب : 8 / 388.

(6) وفيات الأعيان : 3 / 285.

(7) الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 92.

(8) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 97.

(9) لاحظ الأسفار الأربعة : 1 / 5 ; الميزان : 8 / 158.

(10) الفرق بين الفرق : 18.

(11) المواقف : 8 / 390.

(12) تفسير ابن العربي : 1 / 150.

(13) المصدر نفسه : 2 / 280 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .