أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
17034
التاريخ: 17-10-2017
5579
التاريخ: 28-2-2017
15077
التاريخ: 28-2-2017
17649
|
قال تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة : 27 - 31].
قال تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة : 27] .
{وَاتْلُ} أي : واقرأ {عَلَيْهِمْ} يا محمد {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} أي : خبرهما {بِالْحَقِّ} أي : بالصدق ، وأجمعوا على أنهما كانا ابني آدم لصلبه ، إلا الحسن فإنه قال : كانا رجلين من بني إسرائيل . {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} أي : فعلا فعلا يتقرب به إلى الله تعالى {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} تقبل الطاعة : إيجاب الثواب عليها . قالوا : وكانت علامة القبول في ذلك الزمان نارا تأتي فتأكل المتقبل ، ولا تأكل المردود . وقيل : كانت النار تأكل المردود ، عن مجاهد ، والأول أظهر {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} في الكلام حذف . التقدير : قال الذي لم يتقبل منه للذي تقبل منه :
لأقتلنك ، فقال له : لم تقتلني {قَالَ} إنه تقبل قربانك ، ولم يتقبل قرباني ، قال له : وما ذنبي ! {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} للمعاصي ، فأطلق للعلم بأن المراد أنها أحق ما يجب أن يخاف منه . قال ابن عباس : أراد إنما يتقبل الله ممن كان زاكي القلب ، ورد عليك ، لأنك لست بزاكي القلب ، واستدل بهذا على أن طاعة الفاسق غير مقبولة ، لكنها تسقط عقاب تركها ، وهذا لا يصح لأن المعنى : إن الثواب إنما يستحقه من يوقع الطاعة ، لكونها طاعة ، فأما إذا فعلها لغير ذلك ، فلا يستحق عليها ثوابا ، ولا يمتنع على هذا أن يقع من الفاسق طاعة يوقعها على الوجه الذي يستحق عليه الثواب فيستحقه .
{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28} إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29} فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة : 28-30] .
ثم أخبر سبحانه عن هابيل أنه قال لأخيه حين هدده بالقتل ، لما تقبل قربانه ، ولم يتقبل قربان أخيه : {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} ومعناه : لئن مددت إلي يدك {لِتَقْتُلَنِي} أي : لان تقتلني {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} أي : لان أقتلك . قال أهل التفسير إن القتل على سبيل المدافعة ، لم يكن مباحا في ذلك الوقت ، وكان الصبر عليه هو المأمور به ، ليكون الله تعالى هو المتولي للانتصاف ، عن الحسن ، ومجاهد ، واختاره الجبائي . وقيل : إن معنى الآية : {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} على سبيل الظلم والابتداء لتقتلني ، ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والابتداء ، عن ابن عباس ، وجماعة ، قالوا : إنه قتله غيلة ، بأن ألقى عليه ، وهو نائم ، صخرة ، شدخه بها .
قال المرتضى : والظاهر بغير الوجهين أشبه ، لأنه تعالى أخبر عنه أنه وإن بسط إليه أخوه يده ليقتله (2) أي : وهو مريد لقتله ، لان اللام بمعنى كي ، وهي منبئة عن الإرادة والغرض ، ولا شبهة في قبح ذلك ، لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم ، طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله ، فكأنه قال : لئن ظلمتني ، لم أظلمك .
{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (3) في مدي إليك يدي لقتلك {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} معناه : إني لا أبدؤك بالقتل ، ولاني أريد أن ترجع بإثم قتلي ، إن قتلتني ، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، عن ابن عباس ، والحسن ، وابن مسعود ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك . وقال الجبائي ، والزجاج : وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك . وقيل : معناه بإثم قتلي ، وإثمك الذي هو قتل جميع الناس ، حيث سننت القتل . ومعنى {تَبُوءَ بِإِثْمِي} : تبوء بعقاب إثمي ، لأنه لا يجوز لأحد أن يريد معصية الله من غيره ، ولكن يجوز أن يريد عقابه المستحق عليه بالمعصية .
ومتى قيل : كيف يحسن إرادة عقاب لم يقع سببه ، فإن القتل على هذا لم يكن واقعا ؟ فجوابه : إن ذلك بشرط وقوع ما يستحق به العقاب ، فهابيل لما رأى من أخيه العزم على قتله ، وغلب على ظنه ذلك ، جاز أن يريد عقابه ، بشرط أن يفعل ما عزم عليه .
{فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي فتصير بذلك من الملازمين النار {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} أي : عقاب العاصين ، ويحتمل أن يكون هذا إخبار عن قول هابيل ، ويحتمل أن يكون ابتداء حكم من الله تعالى . {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} فيه أقوال أحدها :
إن معناه شجعته نفسه {على قتل أخيه} أي : على أن يقتل أخاه ، عن مجاهد .
وثانيها : إن المراد زينت له نفسه قتل أخيه وثالثها : إن المراد ساعدته نفسه ، وطاوعته نفسه على قتله أخاه ، فلما حذف حرف الجر ، نصب قتل أخيه .
ومن قال : إن معناه زينت له ، فيكون قتل أخيه مفعولا به . {فَقَتَلَهُ} قال مجاهد : لم يدر قابيل كيف يقتله حتى ظهر له إبليس في صورة طير ، فأخذ طيرا آخر ، وترك رأسه بين حجرين ، فشدخه ، ففعل قابيل مثله . وقيل : هو أول قتيل كان في الناس {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي : صار ممن خسر الدنيا والآخرة ، وذهب عنه خيرهما ، واستدل بعضهم بقوله : {فَأَصْبَحَ} ، على أنه قتله ليلا ، وهذا ليس بشيء ، لان من عادة العرب أن يقولوا : أصبح فلان خاسر الصفقة : إذا فعل أمرا كانت ثمرته الخسران ، يعنون حصوله كذلك ، لا أنه تعلق بوقت دون وقت .
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة : 31] .
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ} قالوا : كان هابيل أول ميت من الناس ، فلذلك لم يدر قابيل كيف يواريه ، وكيف يدفنه ، حتى بعث الله غرابين أحدهما حي ، والآخر ميت . وقيل : كانا حيين ، فقتل أحدهما صاحبه ، ثم بحث الأرض ودفنه فيها ، ففعل قابيل به مثل ذلك ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وجماعة . وفي ذلك دلالة على فساد قول الحسن ، والجبائي ، وأبي مسلم : إن ابني آدم كانا من بني إسرائيل . وقيل : معناه بعث الله غرابا يبحث التراب على القتيل ، فلما رأى قابيل ما أكرم الله به هابيل ، وأنه بعث طيرا ليواريه ، وتقبل قربانه ، {قال يا ويلتي} ، عن الأصم . وقيل : كان ملكا في صورة الغراب . وفي هذا دلالة على أن الفعل من الغراب ، وإن كان المعني بذلك الطير كان مقصودا ، ولذلك أضاف سبحانه بعثه إلى نفسه ، ولم يقع اتفاقا كما قاله أبو مسلم ، ولكنه تعالى ، ألهمه . وقال الجبائي : كان ذلك معجزا مثل حديث الهدهد ، وحمله الكتاب ، ورده الجواب إلى سليمان ، ويجوز أن يزيد الله في فهم الغراب حتى يعرف هذا القدر كما نأمر صبياننا فيفهمون عنا .
{ليريه} أي : ليري الغراب قابيل {كَيْفَ يُوَارِي} أي : كيف يغطي ، ويستر {سَوْءَةَ أَخِيهِ} أي : عورة أخيه . وقال الجبائي : يريد جيفة أخيه ، لأنه كان تركه حتى أنتن ، فقيل لجيفته : سوأة . {قال يا ويلتي أَعَجَزْتُ} ههنا حذف ، فإن التقدير ليريه كيف يواري سوأة أخيه ، فواراه ، فقال القاتل أخاه : يا ويلتي أعجزت {أن أكون} في هذا العلم {مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ} أي : أستر {سوأة أخي} والسوأة : عبارة عما يكره . وعما ينكر { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } على قتله ، ولكن لم يندم على الوجه الذي يكون توبة ، كمن يندم على الشرب ، لأنه يصدعه ، فلذلك لم يقبل ندمه ، عن الجبائي . وقيل : من النادمين على حمله ، لا على قتله ، وقيل من النادمين على موت أخيه ، لا على ارتكاب الذنب .
_____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص314-319 .
2 . [لا يبسط يده ليقتله] .
3 . [معناه إني أخاف الله] .
لقد حاك القصاص ، وكثير من المفسرين الأساطير من قصة ابني آدم هذين . .
ولا مصدر إلا الإسرائيليات . ونحن نلخص ما دل عليه ظاهر الآيات بما يلي : لقد كان المتنازعان ابني آدم من صلبه مباشرة ، كما هو الظاهر ، ولكن اللَّه سبحانه لم يصرح باسمهما ، وقال المفسرون والمؤرخون : ان اسم القاتل قابيل ، واسم المقتول هابيل . . وسبب النزاع والشقاق ان كلا منهما قرب قربانا للَّه سبحانه ، فتقبله جل ثناؤه من هابيل ، ولم يتقبل من قابيل . . ولم تذكر الآيات نوع القربان ، ولا كيفية التقبل من ذاك ، والرفض من هذا .
فثارت حفيظة قابيل ، وهدد أخاه بالقتل . فقال له هابيل : أنت الجاني على نفسك ، ولا لوم عليّ ، لأن اللَّه تعالى يتقبل من المتقين ، ولست منهم ، وان أردت قتلي فلا أقابلك بالمثل ، وكفاك جرما إن فعلت أن ترجع بإثم قتلي ، وإثمك الذي كان السبب في عدم قبول قربانك .
ولكن هذه الكلمات لم تترك أثرا في نفس قابيل ، بل على العكس زادت من نقمته ، ونفّذ الخطة عامدا ، وبعد أن صار أخوه جثة هامدة لم يعرف كيف يواريها ، فبعث اللَّه غرابا ، فحفر برجليه ومنقاره حفرة ، فلما رآها القاتل زالت حيرته واهتدى إلى دفن أخيه من عمل الغراب . . ولكنه عض يده ندامة بعد أن أدرك فداحة الخطب ، كما أدرك انه دون الغراب معرفة وتصرفا .
هذا هو موجز القصة ، كما دلت عليها الآيات . . وبهذه المناسبة نشير إلى خلاف معروف بين علماء الأخلاق منذ القديم ، وهو ، هل الإنسان شرير بالطبع ، أو خيّر بالطبع ؟ . وحاول كثير من المفسرين أن يستدلوا بهذه القصة على انه شرير بالطبع .
والصحيح ان في كل إنسان استعدادا للخير والشر بفطرته ، حتى خير الأخيار ، وشر الأشرار ، والفرق ان في بعض الأفراد مناعة من عقل رصين ، أو دين متين يكبح نزواتهم إلى الشر ، ويندفع البعض الآخر مع شهواته لضعف في دينه ، أو عقله .
________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 45-46 .
الآيات تنبئ عن قصة ابني آدم ، وتبين أن الحسد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالما فيصبح من الخاسرين ويندم ندامة لا يستتبع نفعا ، وهي بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام على بني إسرائيل واستنكافهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله فإن إباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن إلا حسدا وبغيا ، وهذا شأن الحسد يبعث الإنسان إلى قتل أخيه ثم يوقعه في ندامة وحسرة لا مخلص عنها أبدا ، فليعتبروا بالقصة ولا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الإلحاح .
قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } (الآية) التلاوة من التلو وهي القراءة سميت بها لأن القارئ للنبأ يأتي ببعض أجزائه في تلو بعض آخر . والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع . والقربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره ، وهو في الأصل مصدر لا يثنى ولا يجمع . والتقبل هو القبول بزيادة عناية واهتمام بالمقبول والضمير في قوله { عَلَيْهِمْ } لأهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام .
والمراد بهذا المسمى بآدم هو آدم الذي يذكر القرآن أنه أبو البشر ، وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان رجلا من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الآخر ، وهو قابيل أو قايين قتل هابيل ولذلك قال تعالى بعد سرد القصة : { مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ } .
وهو فاسد أما أولا : فلأن القرآن لم يذكر ممن سمي بآدم إلا الذي يذكر أنه أبو البشر ، ولو كان المراد بما في الآية غيره لكان من اللازم نصب القرينة على ذلك لئلا يبهم أمر القصة .
وأما ثانيا فلأن بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله : { فَبَعَثَ اللهُ غُراباً } إنما يلائم حال الإنسان الأولي الذي كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الإدراك ، يأخذ باستعداده الجبلي في ادخار المعلومات بالتجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئية حادثة بعد حادثة ، فالآية ظاهرة في أن القاتل ما كان يدري أن الميت يمكن أن يستر جسده بمواراته في الأرض ، وهذه الخاصة إنما تناسب حال ابن آدم أبي البشر لا حال رجل من بني إسرائيل ، وقد كانوا أهل حضارة ومدنية بحسب حالهم في قوميتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الأمور قطعا .
وأما ثالثا فلأن قوله : ولذلك قال تعالى بعد تمام القصة ـ ( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) ، يريد به الجواب عن سؤال أورد على الآية ، وهو أنه ما وجه اختصاص الكتابة ببني إسرائيل مع أن الذي تقتضيه القصة ـ وهو الذي كتبه الله ـ يعم حال جميع البشر ، من قتل منهم نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحيا منهم نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا .
فأجاب القائل بقوله ولذلك قال تعالى (إلخ) إن القاتل والمقتول لم يكونا ابني آدم أبي البشر حتى تكون قصتهما مشتملة على حادثة من الحوادث الأولية بين النوع الإنساني فيكون عبرة يعتبر بها كل من جاء بعدهما ، وإنما هما ابنا رجل من بني إسرائيل وكان نبأهما من الأخبار القومية الخاصة ولذلك أخذ عبرة مكتوبة لخصوص بني إسرائيل .
لكن ذلك لا يحسم مادة الإشكال فإن السؤال بعد باق على حاله فإن كون قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع وإحياء الواحد بمنزلة إحياء الجميع معنى يرتبط بكل قتل وقع بين هذا النوع من غير اختصاصه ببعض دون بعض ، وقد وقع ما لا يحصى من القتل قبل بني إسرائيل ، وقبل هذا القتل الذي يشير إليه ، فما باله رتب على قتل خاص وكتب على قوم خاص؟
على أن الأمر لو كان كما يقول كان الأحسن أن يقال : من قتل منكم نفسا (إلخ) ليكون خاصا بهم ، ثم يعود السؤال في هذا التخصيص مع عدم استقامته في نفسه .
والجواب عن أصل الإشكال أن الذي يشتمل عليه قوله : { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } (الآية) حكمة بالغة وليس بحكم مشرع فالمراد بالكتابة عليهم بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم ولغيرهم كالحكم والمواعظ التي بينت في القرآن لأمة النبي صلى الله عليه وآله مع عدم انحصار فائدتها فيهم . وإنما ذكر في الآية أنه بينه لهم لأن الآيات مسوقة لعظتهم وتنبيههم وتوبيخهم على ما حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وأصروا في العناد وإشعال نار الفتن والتسبيب إلى القتال ومباشرة الحروب على المسلمين ، ولذلك ذيل قوله : { مَنْ قَتَلَ نَفْساً } (إلخ) بقوله : { وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } على أن أصل القصة على النحو الذي ذكره لا مأخذ له رواية ولا تاريخا .
فتبين أن قوله : { نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } يراد به قصة ابني آدم أبي البشر ، وتقييد الكلام بقوله : { بِالْحَقِّ } ـ وهو متعلق بالنبإ أو بقوله { وَاتْلُ } ـ لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أن المعروف الدائر بينهم من النبإ لا يخلو من تحريف وسقط ، وهو كذلك فإن القصة موجودة في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة ، وليس فيها خبر بعث الغراب وبحثه في الأرض ، والقصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وقوله : { إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ } ظاهر السياق أن كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئا يتقرب به وإنما لم يثن لفظ القربان لكونه في الأصل مصدرا لا يثنى ولا يجمع .
وقوله : { قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } القائل الأول هو القاتل والثاني هو المقتول ، وسياق الكلام يدل على أنهما علما تقبل قربان أحدهما وعدم تقبله من الآخر ، وأما أنهما من أين علما ذلك؟ أو بأي طريق استدلوا عليه؟ فالآية ساكتة عن ذلك .
غير أنه ذكر في موضع من كلامه تعالى : أنه كان من المعهود عند الأمم السابقة أو عند بني إسرائيل خاصة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه قال تعالى : { الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ } : ( آل عمران : 183 ) والقربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم (2) فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضا على ذلك النحو ، وخاصة بالنظر إلى إلقاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك ، وكيف كان فالقاتل والمقتول جميعا كانا يعلمان قبوله من أحدهما ورده من الآخر .
ثم السياق يدل أيضا على أن القائل { لَأَقْتُلَنَّكَ } هو الذي لم يتقبل قربانه ، وأنه إنما قال ذلك حسدا من نفسه إذ لم يكن هناك سبب آخر ، ولا أن المقتول كان قد أجرم إجراما باختيار منه حتى يواجه بمثل هذا القول ويهدد بالقتل .
فقول القاتل : { لَأَقْتُلَنَّكَ } تهديد بالقتل حسدا لقبول قربان المقتول دون القاتل فقول المقتول : { إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } إلى آخر ما حكى الله تعالى عنه جواب عما قاله القاتل فيذكر له أولا : أن مسألة قبول القربان وعدم قبوله لا صنع له في ذلك ولا إجرام ، وإنما الإجرام من قبل القاتل حيث لم يتق الله فجازاه الله بعدم قبول قربانه .
وثانيا : أن القاتل لو أراد قتله وبسط إليه يده لذلك ما هو بباسط يده إليه ليقتله لتقواه وخوفه من الله سبحانه ، وإنما يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل وهو يحمل إثم المقتول وإثم نفسه فيكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين .
فقوله : { إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } مسوق لقصر الإفراد للدلالة على أن التقبل لا يشمل قربان التقي وغير التقي جميعا ، أو لقصر القلب كأن القاتل كان يزعم أنه سيتقبل قربانه دون قربان المقتول زعما منه أن الأمر لا يدور مدار التقوى أو أن الله سبحانه غير عالم بحقيقة الحال ، يمكن أن يشتبه عليه الأمر كما ربما يشتبه على الإنسان .
وفي الكلام بيان لحقيقة الأمر في تقبل العبادات والقرابين ، وموعظة وبلاغ في أمر القتل والظلم والحسد ، وثبوت المجازاة الإلهية وأن ذلك من لوازم ربوبية رب العالمين فإن الربوبية لا تتم إلا بنظام متقن بين أجزاء العالم يؤدي إلى تقدير الأعمال بميزان العدل وجزاء الظلم بالعذاب الأليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الذي أعده لنفسه وهو النار .
قوله تعالى : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ } (إلخ) اللام للقسم ، وبسط اليد إليه كناية عن الأخذ بمقدمات القتل وإعمال أسبابه ، وقد أتى في جواب الشرط بالنفي الوارد على الجملة الاسمية ، وبالصفة ( بِباسِطٍ ) دون الفعل وأكد النفي بالباء ثم الكلام بالقسم ، كل ذلك للدلالة على أنه بمراحل من البعد من إرادة قتل أخيه ، لا يهم به ولا يخطر بباله .
وأكد ذلك كله بتعليل ما ادعاه من قوله : { ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ } (إلخ) : { بقوله إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ } فإن ذكر المتقين لربهم وهو الله رب العالمين الذي يجازي في كل إثم بما يتعقبه من العذاب ينبه في نفوسهم غريزة الخوف من الله تعالى ، ولا يخليهم وإن يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة .
ثم ذكر تأويل قوله : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ } (إلخ) بمعنى حقيقة هذا الذي أخبر به ، ومحصله أن الأمر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النار ، أو يقتله أخوه فيكون هو كذلك ، وليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه وليس بظالم ، بل يختار أن يشقى أخوه الظالم بقتله ويسعد هو وليس بظالم ، وهذا هو المراد بقوله : { إِنِّي أُرِيدُ ، إلخ } كنى بالإرادة عن الاختيار على تقدير دوران الأمر .
فالآية في كونها تأويلا لقوله : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ } (إلخ) كالذي وقع في قصة موسى وصاحبه حين قتل غلاما لقياه فاعترض عليه موسى بقوله : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً } فنبأه صاحبه بتأويل ما فعل بقوله : { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } : ( الكهف : 81 ) .
فقد أراد المقتول أي اختار الموت مع السعادة وإن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره على الحياة مع الشقاء والدخول في حزب الظالمين ، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع السعادة وإن استلزم الحزن والأسى من أبويه على حياته وصيرورته طاغيا كافرا يضل بنفسه ويضل أبويه ، والله يعوضهما منه من هو خير منه زكاة وأقرب رحما .
والرجل أعني ابن آدم المقتول من المتقين العلماء بالله ، أما كونه من المتقين فلقوله : { إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } المتضمن لدعوى التقوى ، وقد أمضاها الله تعالى بنقله من غير رد ، وأما كونه من العلماء بالله فلقوله : { إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ } فقد ادعى مخافة الله وأمضاها الله سبحانه منه ، وقد قال تعالى : { إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ } : ( فاطر : 28 ) فحكايته تعالى قوله : { إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ } وإمضاؤه له توصيف له بالعلم كما وصف صاحب موسى أيضا بالعلم إذ قال : { وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً } : ( الكهف : 65 ) .
وكفى له علما ما خاطب به أخاه الباغي عليه من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة فإنه بين عن طهارة طينته وصفاء فطرته : أن البشر ستكثر عدتهم ثم تختلف بحسب الطبع البشري جماعتهم فيكون منهم متقون وآخرون ظالمون ، وأن لهم جميعا ولجميع العالمين ربا واحدا يملكهم ويدبر أمرهم ، وأن من التدبير المتقن أن يحب ويرتضي العدل والإحسان ، ويكره ويسخط الظلم والعدوان ولازمه وجوب التقوى ومخافة الله على الإنسان وهو الدين ، فهناك طاعات وقربات ومعاصي ومظالم ، وأن الطاعات والقربات إنما تتقبل إذا كانت عن تقوى ، وأن المعاصي والمظالم آثام يحملها الظالم ، ومن لوازمه أن تكون هناك نشأة أخرى فيها الجزاء ، وجزاء الظالمين النار .
وهذه ـ كما ترى ـ أصول المعارف الدينية ومجامع علوم المبدأ والمعاد أفاضها هذا العبد الصالح إفاضة ضافية لأخيه الجاهل الذي لم يكن يعرف أن الشيء يمكن أن يتوارى عن الأنظار بالدفن حتى تعلمه من الغراب ، وهو لم يقل لأخيه حينما كلمه : إنك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك ولم أدافع عن نفسي ولا أتقي القتل ، وإنما قال : ما كنت لأقتلك .
ولم يقل : إني أريد أن أقتل بيدك على أي تقدير لتكون ظالما فتكون من أصحاب النار فإن التسبيب إلى ضلال أحد وشقائه في حياته ظلم وضلال في شريعة الفطرة من غير اختصاص بشرع دون شرع ، وإنما قال : إني أريد ذلك وأختاره على تقدير بسطك يدك لقتلي .
ومن هنا يظهر اندفاع ما أورد على القصة : أنه كما أن القاتل منهما أفرط بالظلم والتعدي كذلك المقتول قصر بالتفريط والانظلام حيث لم يخاطبه ولم يقابله بالدفاع عن نفسه بل سلم له أمر نفسه وطاوعه في إرادة قتله حيث قال له : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ } (إلخ) .
وجه الاندفاع أنه ، لم يقل : إني لا أدافع عن نفسي وأدعك وما تريد مني وإنما قال : لست أريد قتلك ، ولم يذكر في الآية أنه قتل ولم يدافع عن نفسه على علم منه بالأمر فلعله قتله غيلة أو قتله وهو يدافع أو يحترز .
وكذا ما أورد عليها أنه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد ليكون هو بذلك سعيدا حيث قال : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ } كبعض المتقشفين من أهل العبادة والورع حيث يرى أن الذي عليه هو التزهد والتعبد ، وإن ظلمه ظالم أو تعدى عليه متعد حمل الظالم وزر ظلمه ، وليس عليه من الدفاع عن حقه إلا الصبر والاحتساب . وهذا من الجهل ، فإنه من الإعانة على الإثم ، وهي توجب اشتراك المعين والمعان في الإثم جميعا لا انفراد الظالم بحمل الاثنين معا .
وجه الاندفاع : أن قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } ، قول على تقدير بالمعنى الذي تقدم بيانه .
وقد أجيب عن الإشكالين ببعض وجوه سخيفة لا جدوى في ذكرها .
قوله تعالى : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ } ، أي ترجع بإثمي وإثمك كما فسره بعضهم ، وقال الراغب في مفرداته : أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء يقال : مكان بواء إذا لم يكن نابئا بنازلة ، وبوأت له مكانا : سويته فتبوء ـ إلى أن قال ـ وقوله : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) أي تقيم بهذه الحالة . قال : ( أنكرت باطلها وبؤت بحقها . ) انتهى وعلى هذا فتفسيره بالرجوع تفسير بلازم المعنى .
والمراد بقوله : { أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أن ينتقل إثم المقتول ظلما إلى قاتله على إثمه الذي كان له فيجتمع عليه الإثمان ، والمقتول يلقى الله سبحانه ولا إثم عليه ، فهذا ظاهر قوله : { أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } وقد ورد بذلك الروايات والاعتبار العقلي يساعد عليه .
وقد تقدم شطر من البحث فيه في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب .
والإشكال عليه بأن لازمه جواز مؤاخذة الإنسان بذنب غيره ، والعقل يحكم بخلافه ، وقد قال تعالى : { أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى } : ( النجم : 38 ) مدفوع بأن ذلك ليس من أحكام العقل النظري حتى يختم عليه باستحالة الوقوع ، بل من أحكام العقل العملي التي تتبع مصالح المجتمع الإنساني في ثبوتها وتغيرها ، ومن الجائز أن يعتبر المجتمع الفعل الصادر عن أحد فعلا صادرا عن غيره ويكتبه عليه ويؤاخذه به ، أو الفعل الصادر عنه غير صادر عنه كما إذا قتل إنسانا وللمجتمع على المقتول حقوق كان يجب أن يستوفيها منه ، فمن الجائز أن يستوفي المجتمع حقوقه من القاتل ، وكما إذا بغى على المجتمع بالخروج والإفساد والإخلال بالأمن العام فإن للمجتمع أن يعتبر جميع الحسنات الباغي كأن لم تكن ، إلى غير ذلك .
ففي هذه الموارد وأمثالها لا يرى المجتمع السيئات التي صدرت من المظلوم إلا أوزارا للظالم ، وإنما تزر وازرته وزر نفسها لا وزر غيرها ، لأنها تملكتها من الغير بما أوقعته عليه من الظلم والشر نظير ما يبتاع الإنسان ما يملكه غيره بثمن ، فكما أن تصرفات المالك الجديد لا تمنع لكون المالك الأول مالكا للعين زمانا لانتقالها إلى غيره ملكا ، كذلك لا يمنع قوله : { أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى } مؤاخذة النفس القاتلة بسيئة بمجرد أن النفس الوازرة كانت غيرها زمانا ، ولا أن قوله : { لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى } يبقى بلا فائدة ولا أثر بسبب جواز انتقال الوزر بسبب جديد كما لا يبقى قوله عليه السلام : { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه } بلا فائدة بتجويز انتقال الملك ببيع ونحوه .
وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد بقوله : { بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } بإثم قتلي إن قتلتني وإثمك الذي كنت أثمته قبل ذلك كما نقل عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما ، أو أن المراد بإثم قتلي وإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك كما نقل عن الجبائي والزجاج ، أو أن معناه بإثم قتلي وإثمك الذي هو قتل جميع الناس كما نقل عن آخرين .
وهذه وجوه ذكروها ليس على شيء منها من جهة اللفظ دليل ، ولا يساعد عليه اعتبار .
على أن المقابلة بين الإثمين مع كونهما جميعا للقاتل ثم تسمية أحدهما بإثم المقتول وغيره بإثم القاتل خالية عن الوجه .
قوله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ } قال الراغب في مفرداته : الطوع الانقياد ويضاده الكره ، والطاعة مثله لكن أكثر ما يقال في الايتمار لما أمر والارتسام فيما رسم ، وقوله : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ) نحو أسمحت له قرينته وانقادت له وسولت ، وطوعت أبلغ من أطاعت وطوعت له نفسه بإزاء قولهم : تابت عن كذا نفسه . انتهى ملخصا . وليس مراده أن طوعت مضمن معنى انقادت أو سولت بل يريد أن التطويع يدل على التدريج كالإطاعة على الدفعة ، كما هو الغالب في بابي الإفعال والتفعيل فالتطويع في الآية اقتراب تدريجي للنفس من الفعل بوسوسة بعد وسوسة وهمامة بعد همامة تنقاد لها حتى تتم لها الطاعة الكاملة فالمعنى : انقادت له نفسه وأطاعت أمره إياها بقتل أخيه طاعة تدريجية ، فقوله : { قَتْلَ أَخِيهِ } من وضع المأمور به موضع الأمر كقولهم : أطاع كذا في موضع : أطاع الأمر بكذا .
وربما قيل : إن قوله : طوعت بمعنى زينت فقوله : { قَتْلَ أَخِيهِ } مفعول به ، وقيل : بمعنى طاوعت أي طاوعت له نفسه في قتل أخيه ، فالقتل منصوب بنزع الخافض ، ومعنى الآية ظاهر .
وربما استفيد من قوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ } أنه إنما قتله ليلا ، وفيه كما قيل : إن أصبح ـ وهو مقابل أمسى ـ وإن كان بحسب أصل معناه يفيد ذلك لكن عرف العرب يستعمله بمعنى صار من غير رعاية أصل اشتقاقه ، وفي القرآن شيء كثير من هذا القبيل كقوله : { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً } : ( آل عمران : 103 ) وقوله : { فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ } : ( المائدة : 52 ) فلا سبيل إلى إثبات إرادة المعنى الأصلي في المقام .
قوله تعالى : { فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ } البحث طلب الشيء في التراب ثم يقال : بحثت عن الأمر بحثا كذا في المجمع . ، والمواراة : الستر ، ومنه التواري للتستر ، والوراء لما خلف الشيء . والسوأة ما يتكرهه الإنسان .
والويل الهلاك . ويا ويلتا كلمة تقال عند الهلكة ، والعجز مقابل الاستطاعة .
والآية بسياقها تدل على أن القاتل قد كان بقي زمانا على تحير من أمره ، وكان يحذر أن يعلم به غيره ، ولا يدري كيف الحيلة إلى أن لا يظفروا بجسده حتى بعث الله الغراب ، ولو كان بعث الغراب وبحثه وقتله أخاه متقاربين لم يكن وجه لقوله : { يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ } .
وكذا المستفاد من السياق أن الغراب دفن شيئا في الأرض بعد البحث فإن ظاهر الكلام أن الغراب أراد إراءة كيفية المواراة لا كيفية البحث ، ومجرد البحث ما كان يعلمه كيفية المواراة وهو في سذاجة الفهم بحيث لم ينتقل ذهنه بعد إلى معنى البحث ، فكيف كان ينتقل من البحث إلى المواراة ولا تلازم بينهما بوجه؟ فإنما انتقل إلى معنى المواراة بما رأى أن الغراب بحث في الأرض ثم دفن فيها شيئا .
والغراب من بين الطير من عادته أنه يدخر بعض ما اصطاده لنفسه بدفنه في الأرض وبعض ما يقتات بالحب ونحوه من الطير وإن كان ربما بحث في الأرض لكنه للحصول على مثل الحبوب والديدان لا للدفن والادخار .
وما تقدم من إرجاع ضمير الفاعل في { لِيُرِيَهُ } إلى الغراب هو الظاهر من الكلام لكونه هو المرجع القريب ، وربما قيل : إن الضمير راجع إلى الله سبحانه ، ولا بأس به لكنه لا يخلو عن شيء من البعد ، والمعنى صحيح على التقديرين ، وأما قوله : { قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ } ، فإنما قاله لأنه استسهل ما رأى من حيلة الغراب للمواراة فإنه وجد نفسه تقدر على إتيان مثل ما أتى به الغراب من البحث ثم التوسل به إلى المواراة لظهور الرابطة بين البحث والمواراة ، وعند ذلك تأسف على ما فاته من الفائدة ، وندم على إهماله في التفكر في التوسل إلى المواراة حتى يستبين له أن البحث هو الوسيلة القريبة إليه ، فأظهر هذه الندامة بقوله : { يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي } وهو تخاطب جار بينه وبين نفسه على طريق الاستفهام الإنكاري ، والتقدير أن يستفهم منكرا : أعجزت أن تكون مثل هذا الغراب فتواري سوأة أخيك؟ فيجاب : لا . ثم يستفهم ثانيا استفهاما إنكاريا فيقال : فلم غفلت عن ذلك ولم تتوسل إليها بهذه الوسيلة على ظهورها وأشقيت نفسك في هذه المدة من غير سبب؟ ولا جواب عن هذه المسألة ، وفيه الندامة فإن الندامة تأثر روحي خاص من الإنسان وتألم باطني يعرضه من مشاهدته إهماله شيئا من الأسباب المؤدية إلى فوت منفعة أو حدوث مضرة ، وإن شئت فقل هي تأثر الإنسان العارض له من تذكره إهماله في الاستفادة من إمكان من الإمكانات .
وهذا حال الإنسان إذا أتى من المظالم بما يكره أن يطلع عليه الناس فإن هذه أمور لا يقبلها المجتمع بنظامه الجاري فيه ، المرتبط بعض أجزائه ببعض فلا بد أن يظهر أثر هذه الأمور المنافية له وإن خفيت على الناس في أول حدوثها ، والإنسان الظالم المجرم يريد أن يجبر النظام على قبوله وليس بقابل نظير أن يأكل الإنسان أو يشرب شيئا من السم وهو يريد أن يهضمه جهاز هضمه وليس بهاضم ، فهو وإن أمكن وروده في باطنه لكن له موعدا لن يخلفه ومرصدا لن يتجاوزه ، وإن ربك لبالمرصاد .
وعند ذلك يظهر للإنسان نقص تدبيره في بعض ما كان يجب عليه مراقبته ورعايته فيندم لذلك ، ولو عاد فأصلح هذا الواحد فسد آخر ولا يزال الأمر على ذلك حتى يفضحه الله على رءوس الأشهاد .
وقد اتضح بما تقدم من البيان : أن قوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } إشارة إلى ندامته على عدم مواراته سوأة أخيه ، وربما أمكن أن يقال : إن المراد به ندمه على أصل القتل وليس ببعيد .
__________________________
1 . تفسير الميزان ، ج5 ، ص 254-263 .
2 . القربان عند اليهود أنواع كذبائح الحيوان بالتضحية ، وتقدمة الدقيق والزيت واللبان وباكورة الثمار ، وعند النصارى ما يقدمونه من الخبز والخمر فيتبدل إلى لحم المسيح ودمه حقيقة في زعمهم .
أوّل حادثة قتل على الأرض :
لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصّة ولدي آدم عليه السلام وكيف قتل أحدهما أخاه الآخر ، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل ، هو غريزة «الحسد» التي كانت دائما أساسا للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة ، التي تؤدي أحيانا إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ الله أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ...}.
ولعل استخدام كلمة «بالحق» في هذه الآية جاء للإشارة إلى أن القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة ، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم عليه السلام .
ولا شك أنّ كلمة «آدم» الواردة في الآية ، تشير إلى أبي البشرية الحاضرة ، وإنّ ما ذهب إليه البعض مع أنّها إشارة إلى شخص من بني إسرائيل اسمه «آدم» لا أساس له من الواقع ، لأنّ هذه الكلمة استخدمت مرارا في القرآن للدلالة على اسم أبي البشرية ، فلو صحّ الافتراض الأخير لوجب أن تشتمل الآية ـ أو الآيات ـ التي بعدها على قرينة تصرف الاسم عن مسماه الحقيقي الأوّل ، ولا يمكن لآية {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ...} التي سيأتي تفسيرها قريبا، أن تكون قرينة على الافتراض المذكور كما سيأتي تفصيله .
وتواصل الآية سرد القصّة فتقول : {إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ...} وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ ـ الذي لم يتقبل الله القربان منه ـ أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة ، كما جاء في قوله تعالى في الآية : {قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيرا إلى أن عدم قبول القربان منه إنّما نتج عن علّة في عمله ، وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان ، مؤكدا أنّ الله يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية : {قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله ، فإنه ـ أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان ـ لن يمد يده لقتل أخيه ، فهو يخاف الله ويخشاه ، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم حيث تقول الآية : {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ}.
وأضاف هذا الأخ الصالح ـ مخاطبا أخاه الذي أراد أن يقتله ـ أنّه لا يريد أن يتحمل آثام الآخرين ، قائلا له : {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ (١) بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} (أي لأنّك إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضا ، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك ، ولما كنت لا تمتلك عملا صالحا لتعوض به ، فما عليك إلّا أن تتحمل إثمي أيضا ، وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتما من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية : {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ} .
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [المائدة : 30-31] .
التّستر على الجريمة :
تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين ابني آدم عليه السلام ، فتبيّن الآية الأولى منهما أن نفسي قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله ، حيث تقول : {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ}.
ونظرا لأنّ كلمة «طوع» تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك يستدل من هذه العبارة على أن قلب «قابيل» بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة ، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الانتقام من أخيه «هابيل» ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس ، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة ، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويدا رويدا على مشاعره الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها وأعدته لتقل أخيه ، وتدل عبارة «طوعت» مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأنّ عملية التطويع كما نعلم لا تتمّ في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.
وتشير الآية ـ في آخرها ـ إلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ} فأين ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذابا سيلازمه إلى يوم القيامة ، ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي.
وقد حاول البعض الاستدلال من كلمة «أصبح» على أن جريمة القتل قد وقعت ليلا، في حين أنّ كلمة «أصبح» من حيث معناها اللغوي لا تنحصر في زمن معين ليلا مكان أم نهارا ، بل تدل على حدوث شيء ما ، كما جاء في الآية (١٠٣) من سورة آل عمران في قوله تعالى : {... فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ...} .
وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصّادق عليه السلام أن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائرا لا يدري ما يفعل بها ، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة «هابيل» فاضطر «قابيل» (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش ، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غرابا (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر ، أو ليخفي جزءا من طعامه ـ كما هي عادة الغربان ـ وليدل بذلك «قابيل» كيف يدفن جثة أخيه ، حيث تقول الآية الكريمة ، {فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} (2) .
ولا غرابة في أن يتعلم إنسان شيئا من طير من الطيور ، فالتاريخ والتجربة يدلان على أنّ للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها منها البشر على طول التاريخ ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه ، وحتى بعض الكتب الطبيّة تذكر أنّ الإنسان مدين في جزء من معلوماته الطيبة للحيوانات! ثمّ تشير الآية الكريمة إلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله ، فأخذ يؤنب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله ، فتقول الآية : {قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ...} .
وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية : {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} .
فهل كان ندمه على جريمته ، خوفا من افتضاح أمره أمام أبويه ؟ أو ربّما أخوته الآخرين الّذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أنّ ندمه كان إشفاقا على نفسه ، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ما ذا يفعل به أو كيف يدفنه ؟
أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإنسان ـ عادة ـ من قلق واستياء بعد ارتكاب كل عمل قبيح ؟
مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى «قابيل» فذلك لا يعني أنّه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها ، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإنسان المذنب تكرار الذنب ، خوف من الله واستقباحا للذنب ، ولم يشر القرآن الكريم إلى صدور مثل هذه التوبة عن «قابيل» ، وقد تكون الآية التالية إشارة إلى عدم صدور التوبة عنه.
ورد في حديث عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل» (3) .
ويستدل من هذا الحديث أيضا على أنّ من سنّ سنّة سيئة ، سيبقى يتحمل وزرها ما دامت باقية في الدنيا .
ممّا لا ريب فيه أنّ قصّة ولدي آدم عليه السلام قصّة حقيقية ، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإسلامية ، كما أنّ عبارة «بالحق» الواردة في هذه القصّة القرآنية تعتبر شاهدا على هذا الأمر ، وعلى هذا الأساس فإنّ الأقوال التي افترضت لهذه القصّة طابعا رمزيا من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصّة المفترضة لا أساس لها مطلقا.
ولا مانع من أن تكون هذه القصّة الحقيقية مثالا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية ، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإيمان والعمل الصالح المقبول عند الله ، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالانحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.
وكم هو العدد الكبير من أولئك الأبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون ـ في النهاية ـ فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها، وسيسعون إلى إخفائها والتستر عليها ، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب ـ المذكور في الآية القرآنية الأخيرة ـ فتحثّهم وتدفعهم إلى إخفاء جرائمهم ، لكنّهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران .
__________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 485-491 .
2. جاء في مجمع البيان أنّ كلمة «يبحث» معناها في الأصل هو البحث عن شيء في التراب ثمّ استعملت في مختلف أنواع البحوث ، أمّا كلمة «سوأة» فهي تعني كل شيء يستاء الإنسان من رؤيته ، ولذلك تطلق أحيانا على جسد الميت ، وعلى عورة الإنسان ، ويجب الانتباه هنا إلى أنّ الفاعل في جملة «ليريه» قد يكون هو الله ، أي أنّ الله أراد أن يري «قابيل» كيف يدفن أخاه ، وذلك احتراما لـ «هابيل» ويحتمل أن يكون الغراب هو الفاعل في الجملة المذكورة .
3. مسند أحمد بن حنبل كما جاء في تفسير «في ضلال القرآن» ، ج ٢ ، ص ٧٠٣ ، في تفسير الآية .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
في مستشفى الكفيل.. نجاح عملية رفع الانزلاقات الغضروفية لمريض أربعيني
|
|
|