أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2016
320
التاريخ: 2024-08-13
307
التاريخ: 20-9-2016
300
التاريخ: 20-9-2016
237
|
وهي أيضاً من القواعد الفقهية المشهورة التي يستند اليها في مختلف أبواب الفقه في فروع كثيرة؛ في باب المعاملات والنكاح والولايات والإرث وغيرها على ما سنبيّنه إن شاء اللَّه تعالى في مقام تطبيق القاعدة، والكلام فيها يقع في مقامات:
المقام الأوّل: في مدرك القاعدة ومستندها، وما قيل في هذا المجال امور:
الأوّل: الإجماع على أنّه لم يجعل في الشريعة حكم موجب لوجود السبيل للكافر على المسلم وثبوت السّلطة له عليه، ولم يظهر من أحد إنكار هذا الأمر، كما يظهر بالتتبع في موارد هذه القاعدة؛ كمسألة تزويج المؤمنة من الكافر (1) ، وبيع العبد المسلم من الكافر(2)، وغيرهما من الموارد(3)، وبالجملة: الظاهر تحقّق الإجماع، وقد بلغ نقل الإجماع إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر، كما يظهر بمراجعة كلمات الأصحاب (رضي اللَّه عنهم).
ولكن مع ذلك كلّه لا يكون الإجماع متصفاً بالأصالة ولا يكون حجة مستقلة؛ لأنّه من المحتمل جدّاً أن يكون مستند المجمعين في هذه القاعدة بعض الأدلّة الآتية، فلا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام، بل اللازم النظر في تلك الأدلّة من جهة التمامية وعدمها.
الثاني: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } [النساء: 141] حيث إنّ الظاهر من الآية أنّ المراد منها أنّه تعالى لم يجعل ولن يجعل بالجعل التشريعي حكماً موجباً لتحقّق السبيل والسلطة للكافر على المؤمن، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الجعل التكويني بمعنى الغلبة الخارجية التكوينية أمر متحقق مشاهد بالوجدان، وقد أخبر به تعالى في بعض الآيات الحاكية عن ظفر الكفّار ومغلوبية المسلمين(4)، فسبيل الآية حينئذ سبيل آية نفي الحرج (5) المشتملة على نفي جعل حكم حرجي في الدّين، فكما أنّ آية نفي الحرج حاكمة على الأدلّة الأولّيّة الظاهرة في ثبوت الحكم في مورد الحرج أيضاً، ويتصرّف فيها بالحمل على غير صورة الحرج، غاية الأمر بلسان الحكومة لا بلسان التخصيص.
كذلك هذه الآية حاكمة على الأدلّة الأولّية الدالّة على ثبوت الحكم في مورد السبيل أيضاً، فهي حاكمة على مثل: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] الدالّ بإطلاقه على نفوذ بيع العبد المسلم من الكافر، وعلى أدلّة النكاح الدالّة بإطلاقها على مشروعية تزويج المؤمنة من الكافر، وعلى أدلّة ولاية الأب والجدّ الدالّة كذلك على ثبوت الولاية لهما إذا كانا كافرين على الولد المسلم، وعلى غيرها من الأدلّة الأوّلية الاخرى، ويوجب اختصاصها بما إذا لم يتحقق السّلطة والسبيل، فلم تجعل مشروعيّة البيع والنكاح والولاية المذكورات.
وبالجملة: هذه الآية وإن لم يقع فيها التعبير بالدين كما في آية الحرج، إلّا أنّ الظاهر اتّحاد سبيلهما، وأنّ المراد من الجعل المنفي هو الجعل التشريعي المرتبط بمقام الأحكام وتشريعها، وعلى ما ذكرنا فدلالة الآية على القاعدة ظاهرة.
ولكن اورد على الاستدلال بالآية بأمور:
منها: أنّ قوله تعالى قبل ذلك {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141] قرينة على أنّه ليس المراد بالآية ما ذكره المستدلّ، بل المراد بها نفي جعل الحجة للكافرين على المؤمنين في يوم القيامة؛ بمعنى أنّه في ذلك اليوم الذي هو يوم ظهور الحقائق وانكشاف الواقع، لا يبقى حجّة بنفع الكافر على ضرر المسلم، بل تكون الحجة للمؤمنين على الكافرين.
ويؤيّد هذا المعنى ما رواه الطبري في محكيّ تفسيره عن ابن وكيع بإسناده عن أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام قال: قال رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول اللَّه: وَلَنْ يَجْعَلَ {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون. قال له عليّ عليه السلام: ادنُه ادنُه ، ثمّ قال عليه السلام: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} , {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } يوم القيامة.
وعن ابن عباس تفسير الآية بيوم القيامة، وأنّ المراد من السبيل فيها هي الحجّة (6).
والجواب: أنّ مجرّد المسبوقيّة بذلك لا دلالة له على الاختصاص، وقد اشتهر أنّ المورد لا يكون مخصّصاً، غاية الأمر أنّ المسبوقية توجب تعميم مفاد الآية والحكم بأنّ مرادها أنّ اللَّه لن يجعل الغلبة للكافر على المؤمن، لا في مقام التشريع وجعل الأحكام، ولا في يوم القيامة، وهذا المعنى ممّا يساعده ويؤيّده تناسب الحكم والموضوع؛ فإنّ عدم جعل السبيل بهذا النحو الكلّي يناسب مع عدم ثبوت الغلبة في يوم القيامة، فتدبّر.
وأمّا الرواية الواردة في التفسير- فمضافاً إلى عدم اعتبارها- يكون الغرض المهمّ فيها نفي جعل السبيل التكويني والغلبة الخارجية التي يكذّبها الوجدان؛ بمعنى ثبوتها في الخارج وجداناً، ولا دلالة لها على نفي الجعل التشريعي بوجه.
ومنها: أنّ المراد بالسبيل هي الحجّة كما عن بعض المفسّرين (7)، وقد ورد في الخبر أيضاً، وهو ما روى في العيون عن أبي الحسن عليه السلام ردّاً على من زعم أنّ المراد بها نفي تقدير اللَّه سبحانه بمقتضى الأسباب العادية تسلّط الكفّار على المؤمنين، حتى أنكروا لهذا المعنى الفاسد الذي لا يتوهّمه ذو مسكة: أنّ الحسين بن علي عليهما السلام لم يقتل، بل شبّه لهم ورفع كعيسى عليه السلام (8)، فيكون مفادها: أنّه تعالى لن يجعل حجّة للكافر على المؤمن، بل الحجّة للثاني على الأوّل، فيكون سبيل الآية سبيل قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] ، بناءً على أن يكون المراد منه هي الغلبة في مقام الحجّة والاحتجاج، فالحجّة في جميع الموارد بنفع المؤمن وفي جانبه.
والجواب: أنّ حمل السبيل على الحجّة إن كان بلحاظ المسبوقية بيوم القيامة، فقد عرفت الجواب عنه، وإن كان في نفسه فلا مجال له؛ لعدم الدليل عليه أصلًا؛ فإنّ السّبيل له معنى عامّ يشمل الحجّة وغيرها، ولا وجه لحمله على خصوصها، مع أنّه ربما يقال بأنّه على هذا التقدير أيضاً يتمّ الاستدلال بالآية؛ نظراً إلى أنّ حجّة الملك والزوجية والولاية من أعظم الحجج، فتأمّل.
ومنها: أنّ الكافرين وكذا المؤمنين في الآية جمعان محلّيان باللّام مفيدان للعموم، وعليه: فمفاد الآية أنّه تعالى لم يجعل لكلّ فرد من أفراد الكافر على كلّ فرد من أفراد المؤمن سبيلًا، فهي تدلّ على سلب العموم لا عموم السلب الذي هو المدّعى، فلا تنافي الآية وجود السبيل لبعض أفراد الكفّار على جميع أفراد المسلم فضلًا عن بعضه، كما لا يخفى.
والجواب: وضوح كون المراد من الجمعين هو الجنس الذي هو أحد معاني الجمع المحلّى باللّام، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضي ذلك أيضاً، مع أنّ سلب العموم في الآية يدلّ على عموم السّلب بعدم القول بالفصل، والآية لا تنفيه بوجه، كما لا يخفى.
الثالث: ما رواه الصّدوق في باب ميراث أهل الملل من قوله صلى الله عليه وآله: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون (9).
وضعف السند مجبور باشتهار التمسك به بين الفقهاء واستنادهم إليه في الموارد المختلفة.
وتوضيح دلالته على القاعدة: أنّ قوله صلى الله عليه وآله: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» لو لم يكن مذيّلًا بالذيل المذكور، لكان يحتمل أن يكون في مقام الإخبار عن علوّ الإسلام في مستقبل الزمان، وأنّه ينتشر في أقطار العالم، وتنحصر مرتبة العلوّ والحكومة به، ويصير نظير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33] بناءً على كونه إخباراً بغلبة الدين الحنيف على سائر الأديان في عهد مولانا صاحب العصر والزمان عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف.
ولكنّ الذيل المذكور في الحديث يرشدنا إلى أمرين:
أحدهما: كون الرواية في مقام الإنشاء والجعل دون الإخبار.
ثانيهما: كون مقابل الإسلام هو الكفّار دون الكفر، فالمراد بالإسلام هو المسلمون المتديّنون به لا نفس الإسلام.
وبعد ذلك يتّضح المراد من الحديث الشريف، وأنّ معناه أنّ المسلم لم يجعل عليه حكم يوجب علوّ الكافر بالإضافة إليه، بل الأحكام المجعولة في الإسلام فيما يرجع إلى الامور التي بين المسلمين والكفّار كلّها مجعولة للمسلمين، وقد روعي فيها جانبهم ولوحظ فيها علوّهم، فملكية الكافر للمسلم الموجبة لعلوّه بالنسبة إليه غير مجعولة في الإسلام، من دون فرق بين أن يراد بيعه منه، وبين أن يسلّم العبد الكافر للمولى الكافر، وهكذا غير الملكيّة من الزوجية والولاية وغيرهما.
فالإنصاف تمامية دلالة الحديث على القاعدة، إلّا أن يناقش فيها من حيث السند؛ نظراً إلى أنّ المقدار المجبور بالشهرة والاستناد إنّما هو صدر الرواية دون جميعها، وصدرها في نفسه لا ينطبق على القاعدة كما عرفت، إلّا أن يقال: إنّ فهم الفقهاء منه ذلك دليل على اعتبارهم لذيل الرواية أيضاً، فتأمّل.
هذا، ولكن لصاحب كتاب «العناوين» تحقيق في هذا المقام يظهر منه دلالة الحديث على القاعدة مع قطع النظر عن الذيل أيضاً؛ حيث إنّه بعد نفي كون المراد بعلوّ الاسلام هو علوّ الشرف والرتبة، نظراً إلى كونه سبيل النجاة دون سائر الأديان، قال ما ملخّصه: إن كان المراد الإخبار عن أنّ الإسلام تزيد شوكته وقوّته بحيث يعلو على سائر الأديان بكثرة المتديّنين والأعوان، فلا ريب أنّ الإخبار عن هذا المعنى ليس ممّا هو وظيفة للشارع من حيث هو كذلك، مع أنّا نرى علوّ سائر الأديان وكثرة الكفر والشرك ومقهوريّة المسلمين.
واحتمال إرادة أنّه يعلو في أواخر الأزمنة بحيث يضمحلّ الكفر، فالإخبار عن هذا المعنى ممّا لا ريب في بعده من الخبر عند الإنصاف، سيّما مع التأكيد بقوله: «ولا يعلى عليه»؛ فإنّ الظاهر من إثبات العلوّ للإسلام في المستقبل وإن كان أعمّ من كونه دائماً، أو في زمان من الأزمنة المستقبلة، لكن نفي علوّ غيره في المستقبل مع حذف المتعلّق والزّمان ظاهر في النفي دائماً.
فالفقرة الاولى مجملة في إثبات العلوّ من هذه الجهة، والمتيقّن منه بعض الأزمنة، ولكنّه لا ينفي العلوّ في الجميع، والفقرة الثانية دالّة على عدم علوّ غيره مطلقاً؛ لأنّ المصدر في ضمن الفعل نكرة، فإذا دخل عليه أداة النفي إقتضى العموم المستلزم لنفي جميع أفراد العلوّ في الزمن المستقبل، وهذا مدلول لا معارض له في الفقرة الاولى، غاية الأمر دورانه بين علوّ الإسلام في بعض الأوقات، ومساواته مع الكفر في بعض آخر، أو علوّه دائماً، فيدور الأمر بين الاحتمالين.
وعلى أيّ تقدير يكون مدلول الخبر الإخبار عن عدم علوّ الكفر على الإسلام في وقت من الأوقات، ولازمه الكذب؛ لأنّا نرى بالوجدان قوّة الكفّار ومقهوريّة المسلمين في بعض الأزمنة، فلا وجه لحمل الخبر على الإخبار، بل ينحصر الطريق في حمله على الإنشاء (10).
ثمّ إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّ حمل الرواية على أنّ الإسلام يعلو في الحجّة والبرهان على سائر الأديان في غاية البعد، وليس احتماله مبطلًا للاستدلال بها، خصوصاً بعد عدم مساعدة معنى العلوّ للغلبة على الخصم في مقام الاحتجاج؛ لأنّ العلوّ بمعنى التسلّط والغلبة بالحجّة ليس تسلّطاً على الخصم.
نعم، هنا إشكال على الاستدلال بالرّواية، وكذا بآية نفي السبيل المتقدمة؛ وهو ثبوت السبيل والعلوّ للكافر على المسلم في الجملة، كما إذا اقترض المسلم من الكافر غير الحربي، أو أتلف ماله، فإنّه لا شبهة في ثبوت التسلّط والسبيل للكافر على أخذ ماله وثبوت الضمان للمسلم في مقابله.
واجيب عن ذلك تارة بالالتزام بالتخصيص في مفاد الدليلين، واخرى بعدم شمولهما لمثل هذه الفروض حتى يحتاج إلى التخصيص؛ لأنّ المتبادر منهما عدم جعل السبيل، وكذا عدم ثبوت العلوّ بأصل الشرع؛ بمعنى أنّ الشارع لم يسلّط الكافر على المسلم ابتداءً وأمّا إذا فعل المسلم فعلًا سلّطه على نفسه، فلا دخل لذلك بالإسلام وعلوّه، وإنّما هو شيء خارجي.
والجواب عن الأوّل: وضوح كون الدليلين سيّما الآية المشتملة على كلمة «لن» آبيين عن التخصيص؛ ضرورة منافاة سياقهما لعروض أيّ تخصيص عليهما.
وعن الثاني:- مضافاً إلى النقض بما إذا أرادت المرأة المؤمنة تزويج نفسها من الكافر، فإنّه لا فرق بينه وبين صورة الاقتراض بوجه، مع أنّهم لا يقولون بالجواز في النكاح- أنّ منشأ التسلّط في هذه الفروض أيضاً جعل الشارع وحكمه بلزوم أداء القرض إلى المقرض، وكون الإتلاف سبباً للضمان؛ ضرورة أنّه مع عدم هذا الجعل لم يكن المقترض ملزماً بالأداء ولا المتلف ضامناً لماله أصلًا، فالإشكال لا يندفع بمثل ذلك.
و يمكن الجواب عن النقض بأنّ عدم جواز تزويج المرأة المؤمنة نفسها من الكافر مستند إلى الرّوايات الخاصّة الواردة في مورده(11)، ولم يعلم أنّ الوجه فيه هي قاعدة نفي السبيل، بل يمكن أن يكون بملاك آخر لا يوجد في مثل الاقتراض والضمان.
الرّابع: دليل الاعتبار أو مناسبة الحكم والموضوع؛ بمعنى أنّ شرف الإسلام وعزّته يقتضي أن لا يجعل في أحكامه وشرائعه ما يوجب ذلّ المسلم وهوانه، وقد حصر اللَّه- تعالى- في كتابه العزيز العزّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين(12)، وعليه:
فكيف يمكن أن يجعل اللَّه حكماً يكون سبباً لعلوّ الكفّار على المسلمين، ومنافياً للعزّة الموجودة فيهم المنحصرة بهم؟ وهذا ليس من باب إعمال الظنّ في استخراج الحكم الشرعي حتى يقال: إنّ الأصل في الظنّ عدم الحجية والاعتبار إلّا إذا قام دليل عليه، بل من باب تنقيح المناط القطعي، بل يكون استظهاراً من الأدلّة اللفظية على ما عرفت.
قال المحقق البجنوردي قدس سره بعد ذكر هذا الدليل: وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه للاستدلال على هذه القاعدة؛ لأنّه ممّا تركن النفس إليه ويطمئنّ الفقيه به (13).
أقول: الظاهر أنّ هذا الوجه أيضاً لا ينطبق على جميع موارد القاعدة؛ فإنّ مثال التزويج المتقدّم من موارد القاعدة على حسب قولهم، مع أنّه لا يكون فيه ذلّ بوجه؛ فإنّ الزوجية المتقوّمة بالطرفين المفتقرة إلى رضا كليهما كيف تكون مستلزمة للذلّ والهوان إذا أرادت المؤمنة أن تزوّج نفسها من الكافر؟ فهل إرادة التزويج من ناحية المرأة إرادة للوقوع في المذلّة، أم هي متاع يشتريها الزوج بأغلى الثمن؟ كما في بعض الروايات الواردة في جواز النظر إليها قبل العقد(14)، وكون الطلاق بيد الزوج الذي هو من أخذ بالساق(15) لا يوجب كون التزويج هواناً وذلّاً.
الخامس: ما دلّ على وجوب التعظيم للشعائر وحرمة الإهانة من العقل والنقل؛ فإنّ الشارع إذا حرّم على الناس إهانة الشعائر ومنها المؤمن، فكيف يرضى بتسلّط الكافر عليه، مع أنّ فيه من الإهانة ما لا يخفى.
ويرد على هذا الوجه ما ورد على الوجه السابق.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام تماميّة بعض الأدلّة التي استدلّ بها على القاعدة وإن كان بعضها الآخر مخدوشاً كما عرفت، فلا مجال للمناقشة فيها من حيث الدّليل.
المقام الثاني: في مفاد القاعدة، قد ظهر ممّا ذكرنا في المقام الأوّل ... أنّ مفاد القاعدة أنّه لم يجعل في الشريعة الإسلامية حكم يوجب ثبوت السبيل للكافر على المؤمن وعلوّه بالإضافة إليه، فكلّ ما يرى خلافه من مفاد الأدلّة الأوّلية الدالّة بعمومها أو إطلاقها على تحقّق السبيل والعلوّ فهو غير مجعول للَّه تبارك وتعالى، فنسبة القاعدة إلى تلك الأدلّة نسبة دليل الحاكم الناظر إلى الدليل المحكوم الشارح له والمبيّن للمراد منه سعة وضيقاً، كنسبة قاعدة نفي الحرج إلى الأدلّة الأوّلية من دون فرق بينهما أصلًا.
فكلّ ما يوجب ثبوت سبيل الكافر على المؤمن بأيّ نحو كان فهو غير مجعول في الشريعة، وإن كان مقتضى الأدلّة الأوّلية الثبوت، فآيات الإرث وإن كانت مطلقة من جهة الوارث، إلّا أنّ قوله صلى الله عليه وآله في رواية: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون، يوجب تضييق دائرتها واختصاص الإرث بالوارث المسلم إذا كان المورِّث مسلماً.
المقام الثالث: في موارد تطبيق القاعدة، وهي وإن كانت كثيرة في مختلف أبواب الفقة، إلّا أنّا نقتصر على إيراد جملة منها، فنقول:
منها: تملّك الكافر للعبد المسلم بأيّ نحو من أنحاء التملّك الاختياري؛ سواء كان بالبيع أو الشراء، أو بمثل الصلح والهبة وغيرهما من النواقل الشرعية؛ فإنّ هذا التملّك غير جائز بمقتضى قاعدة نفي السبيل؛ لأنّ التملّك من أوضح مصاديق السبيل المنفي في القاعدة، وكذا من أظهر أفراد العلوّ، فهو غير مجعول وغير ممضى في الشريعة.
ولأجله لو وقع تملّكه له قهراً- كما إذا انتقل إليه بالإرث من المورّث الكافر الذي لم يتحقق البيع عليه قهراً بعد، أو أسلم العبد الكافر في ملك مولاه الكافر- لا يقرّ يده عليه، بل يباع عليه قهراً وإن كان المولى غير راض به، كما يدلّ عليه مرسل حماد بن عيسى، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اتي بعبد ذمّي قد أسلم، فقال: اذهبوا فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولا تقرّوه عنده (16)، وهذه الرواية متعرّضة لحكم كلا التملّكين: الاختياري، والقهري. أمّا الأوّل: فقوله عليه السلام:
«فبيعوه من المسلمين»، الظاهر في عدم جواز البيع من الكافر، وأمّا الثاني: فهذا القول أيضاً بلحاظ الأمر بالبيع قهراً على مولاه، وقوله عليه السلام: «ولا تقرّوه عنده».
وفي هذا المورد من موارد تطبيق القاعدة جهات من البحث:
الاولى: أنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره أنّ هذه القاعدة معارضة بعموم أدلّة صحة البيع(17)، ووجوب الوفاء بالعقود (18)، وحلّ أكل المال بالتجارة عن تراض(19)، وعموم الناس مسلّطون على أموالهم(20) (21).
مع أنّك عرفت في المقام الثاني أنّ هذه القاعدة- كقاعدة نفي الحرج- حاكمة على الأدلّة الأوّلية الدالّة بعمومها أو إطلاقها على ثبوت السبيل والعلوّ للكافر على المسلم، فدليل صحة البيع وإن كان يشمل بإطلاقه هذا البيع، إلّا أنّ مقتضى حكومة هذه القاعدة الالتزام بعدم كون إطلاقه مراداً للمولى، وإن كان ثابتاً بمقتضى اللفظ، فلا مجال حينئذ لدعوى المعارضة بعد ثبوت الحكومة ووضوح تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، كما قد حقّق في محلّه من علم الاصول.
الجهة الثانية: الظاهر أنّ مرسلة حمّاد المتقدّمة الدالّة على لزوم بيع العبد المسلم للذمّي من المسلمين بمنزلة المفسّر للآية الدالّة على أنّه تعالى لن يجعل سبيلًا للكافر على المؤمن، بعد وضوح كونها آبية عن التخصيص، ومقتضى تفسيرها لها أنّ نفس الملكية لا تكون سبيلًا، بل السّبيل هي الملكية المستقرّة؛ بمعنى أنّ الشارع لم يرض ببقاء ملك الكافر للعبد المسلم، ولذا أوجب على الحاكم بيعه من المسلمين ودفع ثمنه إليه، ويدلّ عليه قوله عليه السلام: «ولا تقرّوه عنده» الظاهر في أنّ المبغوض هو إقراره عنده.
وأمّا حمل السبيل على السلطنة غير المنافية للملكية- غاية الأمر كون المالك محجوراً عليه في التّصرّف مجبوراً على بيعه، كما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره في كتاب المكاسب(22)- فمّما لا دليل عليه، مضافاً إلى أنّ الكافر لا يكون محجوراً عليه في التصرّف كالصغير؛ لأنّه لو أراد بيع عبده بنفسه يكون بيعه صحيحاً، بخلاف الصغير إذا أراد بيع عبده، وإلى أنّ نفس الملكية مع الاستقرار سبيل على الظاهر وعلوّ قطعاً. نعم، يبقى على ما ذكرنا أمران:
أحدهما: أنّ لازم ما ذكرنا أن لا يكون تملّك الكافر للعبد المسلم غير جائز؛ لأنّ المفروض أنّ المنفي هي الملكية المستقرّة لا أصل الملكية، مع أنّه خلاف الفتاوى.
ثانيهما: أنّ مقتضى الرواية لزوم البيع عليه والنهي عن إقراره عنده، وهذا لا ينافي ثبوت الملكية المستقرة؛ لأنّه لو فرض عدم تحقق البيع عصياناً أو لعدم وجود المشتري مثلًا يكون العبد باقياً على ملك الكافر، وقد عرفت فرض إرث الكافر العبد المسلم من المورّث الكافر، فالرواية الدالّة على الأمر والنهي المتقدمين لا تنفي الملكية المستقرّة.
والجواب عن الأمر الأوّل: أنّه لا ملاءمة بين الحكم بجواز التملّك، وبين الحكم بلزوم البيع عليه والنهي عن إقراره عنده، فمن ثبوت الثاني كما هو المذكور في الرّواية يستكشف عدم ثبوت الأوّل، وهذا بخلاف العبد المنعتق على المشتري بمجرّد الاشتراء، فإنّ الانعتاق لا ينافي الحكم بصحة الاشتراء، بل هو مترتّب عليها ومتفرّع على تحققّها، بخلاف المقام الذي لا يجتمع الحكم فيه بصحة البيع من الكافر مع الحكم بلزوم البيع عليه فوراً، كما لا يخفى، مضافاً إلى ظهور الرواية في اختصاص جواز البيع بالمسلمين.
وقد أجاب المحقق البجنوردي قدس سره عن الوجه الثاني بالالتزام بالتخصيص؛ بمعنى أنّ الرواية تكون مخصّصة للآية ودالّة على أنّ هذا المقدار من الملكية الموقّتة- أي البقاء إلى زمان تحقق البيع- قد خرج عن تحت العموم تخصيصاً بالرواية (23).
مع أنّك عرفت إباء سياق الآية عن التخصيص، وأنّ الرواية تكون بمنزلة المفسّر لها والمبيّن للمراد منها، وحينئذ يبقى الإشكال بحاله، وهو: أنّه إن كان المراد من السبيل المنفي هي الملكية المستقرة، فالرواية لا تنافيها، وإلّا كان اللازم الانعتاق عليه قهراً، من دون حاجة إلى البيع عليه، مضافاً إلى عدم ملاءمة حكم الشارع بالملكية المستقرة مع الحكم بإيجاب البيع عليه والنهي عن إقراره عنده.
فاللّازم إما الالتزام بعدم حجية الرّواية؛ لكونها مرسلة، ولا فرق في عدم اعتبارها بين المرسلين كما هو المحقق في محلّه، وعليه: فأصل الملكية عرفاً من مصاديق السبيل المنفي، فهي غير مجعولة في الشريعة، وإمّا الالتزام بعدم إباء سياق الآية عن التخصيص، ودعوى كون الرواية مخصّصة لها كما عرفت من بعض، وإمّا الالتزام بعدم كون الملكية المستقرة أيضاً من مصاديق السبيل، بدعوى كون السبيل له معنى لا ينافي الملكية، كالسلطنة التي أشار إليها الشيخ قدس سره على ما مرّ، وإمّا الالتزام بكون السبيل المنفي هي الملكية المستقرة المتداولة التي لم يجعل في مقابلها الحكم بلزوم البيع والنهي عن الإقرار، فافهم.
الجهة الثالثة: لو قلنا بدلالة الآية والرواية المتقدّمة على بطلان بيع العبد المسلم من الكافر، وعدم جواز تملّكه له، فلا يبقى مجال لاستصحاب الصحة في ما إذا كان كفر المشتري مسبوقاً بالإسلام أو إسلام العبد مسبوقاً بالكفر، والتتميم في غيره بعدم القول بالفصل، لا لأنّ الاستصحاب تعليقيّ وهو غير جار؛ لأنّ الاستصحاب التعليقي فيما إذا كان التعليق شرعيّاً جار، والمقام وإن لم يكن التعليق فيه شرعيا، إلّا أنّه ليس بتعليقيّ أصلًا؛ لأنّ المشتري كان في زمن إسلامه جائز البيع منه منجّزاً لا بنحو التعليق، وكذا العبد في زمن كفره كان جائزاً بيعه كذلك؛ بل لأنّه لا مجال للاستصحاب مع وجود الدليل اللفظي الذي هي أمارة.
ولو لم نقل بدلالتهما على البطلان فلا يبقى مجال للاستصحاب المذكور أيضاً؛ لأنّ المرجع حينئذ عمومات أدلّة الصحة، ومعها لا تصل النوبة إلى الاستصحاب وإن كان موافقاً لها، فلا مجال على كلا التقديرين للرجوع إلى الاستصحاب كما في كلام الشيخ الأعظم قدس سره(24).
ثمّ إنّه ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ بيع العبد المسلم من الكافر الذي ينعتق عليه بمجرّد تحقق الملك لا مانع منه أصلًا؛ لعدم تحقق السبيل المنفي بأيّ معنى كان في هذا الفرض، فإنّ الحكم بثبوت الملكية له إنّما هو بعنوان المقدّمة للانعتاق؛ لأنّه لا معنى لانعتاقه عليه إذا لم تتحقق ملكيته له كما لا يخفى، والملكية بهذا العنوان لا تكون سبيلًا بوجه.
ومنها: إجارة المسلم نفسه من الكافر، أو إجارة العبد المسلم من الكافر، وفيه أقوال كثيرة: القول بعدم الجواز مطلقاً(25)، والقول بالجواز كذلك(26)، والقول بالتفصيل بين أن تكون الإجارة على الذّمة فتصح، وبين أن تكون على العين- كما إذا استأجره مدّة من الزمان شهراً أو سنة- فلا تصحّ؛ حكي ذلك عن جامع المقاصد(27) والمسالك(28)، والقول بالتفصيل بين الحرّ والعبد، فتصحّ في الأوّل دون الثاني، حكي ذلك عن الشهيد في الدروس(29)، والقول باختلاف الموارد من جهة تحقق السبيل والعلوّ من دون فرق بين الإجارة على الذمّة والإجارة على العمل الخارجي، ومن دون فرق بين الحرّ والعبد أصلًا.
ومنشأ الاختلاف بعد كون الدليل منحصراً بقاعدة «نفي السبيل» هو اختلاف الأنظار والآراء في تحقق السبيل وعدمه، وكذا في تحققه مطلقاً أو في بعض الفروض، واللازم ملاحظة هذه الجهة.
فنقول: الظاهر عدم تحقق السبيل في شيء من فروض الإجارة، حتى في مثل إجارة العبد للخدمة للكافر؛ فإنّ الإجارة المتقوّمة برضا الطرفين المفيدة لملك المنفعة لا تؤثّر إلّافي استحقاق المؤجر للُاجرة والمستأجر للخدمة، ومجرّد الاستحقاق لا يوجب تحقق السبيل المنفي، وكذا كون المنفعة خدمة وكون الأجير عبداً؛ لعدم الفرق بين الخدمة والخياطة مثلًا، وعدم الفرق بين الحرّ والعبد من هذه الجهة، فكما أنّ استئجار الحرّ للخياطة لا يوجب تحقق السبيل والعلوّ، فكذلك استئجار العبد للخدمة.
فالظاهر عندي هو القول الثاني، وهو الجواز مطلقاً؛ لما ذكر وممّا ذكرنا يظهر حكم إعارة العبد المسلم من الكافر؛ فإنّه لا مانع منها؛ لعدم تحقق السبيل بمجرّد تأثير العارية في ثبوت حقّ الانتفاع بالعين المعارة؛ لعدم كون مثل هذا الحقّ موجباً لتحقق السبيل والعلوّ.
ثمّ إنّه بعد جواز الإعارة يظهر أنّ الحكم بالجواز في الإيداع عنده يكون بطريق أولى؛ لأنّ مجرّد تسليط الكافر على حفظ العبد المسلم من دون أن يكون له حقّ الانتفاع أيضاً لا يكون سبيلًا وعلوّاً أصلًا، وكون تشخيص كيفية الحفظ بيد الكافر لا يقتضي سبيلًا له عليه، فلا مانع من الإيداع.
ومنها: جعل العبد المسلم رهناً عند الكافر، وفيه أقوال: المنع مطلقاً، كما عن القواعد(30)والإيضاح(31)، والجواز مطلقاً(32)، والتفصيل بين أن يكون العبد المسلم المرهون عند مسلم حسب رضاء الطرفين فيجوز، وبين أن يكون تحت يد الكافر فلا يجوز، كما أختاره الشيخ الأعظم قدس سره(33).
والظاهر هو الثاني؛ لأنّ مجرّد كونه وثيقة عند الكافر وتحت يده لغرض استيفاء الدين منه في فرض عدم أدائه من ناحية الرّاهن، لا يوجب كونه سبيلًا وعلوّاً، والمباشر للبيع في هذا الفرض ليس هو الكافر بنفسه، بل المالك أو الحاكم عند امتناعه.
ومنها: وقف العبد المسلم على الكافر، وفيه أيضاً أقوال ثلاثة: القول بالمنع مطلقاً، والقول بالجواز مطلقاً، والتفصيل بين ما إذا لم يكن الوقف موجباً لتحقق السبيل والعلوّ؛ كما إذا وقفه على تعليم أقاربه الكفّار أو معالجة مرضاهم فيجوز، وبين ما إذا وقفه على خدمتهم؛ بأن يكون خادماً لهم أو خادمة فلا يجوز.
والحقّ أنّه إن قلنا بأنّ الوقف في مثله موجب لتحقق الملكية للموقوف عليهم، وأنّ الوقف فيه من موجبات الانتقال، فالظاهر عدم الجواز مطلقاً؛ لأنّ نفس الملكية سبيل وعلوّ وإن كان ممنوعاً من بعض التصرّفات كالبيع ونحوه.
ولو قلنا بأنّ الوقف لا يوجب ملكية الموقوف عليهم، فالظاهر هو الجواز مطلقاً؛ لما ذكرنا في باب الإجارة من عدم اقتضائها لتحقق السبيل والعلوّ وإن كان أجيراً للخدمة.
ومنها: أنّه لا يجوز جعله قيّماً على صغار المسلمين وسفهائهم، بل ومجانينهم، وكذا ليس له الولاية في تجهيز الميت المسلم- الذي يكون أباه- ودفنه وتكفينه، ولا تتوقّف هذه الامور على إذنه، والوجه في ذلك قاعدة نفي السبيل؛ نظراً إلى وضوح كون الولاية ومثلها سبيلًا منفيّاً.
ومنها: أنّه لو قلنا بتوقّف صحّة نذر الولد على إذن الوالد، لا يكون هناك توقّف إذا كان الولد مسلماً والوالد كافراً، وكذا لو قلنا بتمكّن الوالد من حلّ نذره، لا يكون هناك تمكّن في الصورة المفروضة؛ لوضوح كون التوقّف على الإذن وكذا التمكّن من الحلّ سبيلًا وعلوّاً.
ومنها: أنّه لا يجوز جعل الكافر متولّياً على الوقف الراجع إلى المسلمين، كالمدارس الدينيّة الموقوفة على طلّاب العلوم الدينية، والمستشفى الذي يكون وقفاً على مرضى المسلمين، وكذا المدارس التي توقف على أولاد المسلمين لتحصيلهم فيها، فلا يجوز في مثلها جعل الكافر متولّيا، بحيث يكون الدخول والخروج بإذنه واختياره؛ فإنّه سبيل منفيّ بلا إشكال.
ومنها: عدم ثبوت حقّ الشفعة والأخذ بها للكافر إذا كان المشتري مسلماً، سواء كان البائع مسلماً أم كافراً؛ وذلك لأنّ مرجع ثبوت هذا الحقّ إلى تسلّط الكافر لأخذ حق المشتري بلا إذن منه بل قهراً عليه، ومقتضى دليل ثبوت الشفعة وإن كان هو الإطلاق، إلّا أنّ حكومة قاعدة نفي السبيل عليه تقتضي تقييده بالمسلم.
ومنها: أنّ نكاح الكافر يبطل بإسلام الزوجة إن لم يسلم الزوج الكافر في العدّة؛ نظراً إلى أنّ بقاء الزوجيّة مع كفر الزوج يرجع إلى علوّ الكافر على الزوجة المسلمة، وأن يكون له سبيل عليها؛ لأنّ الرّجال قوّامون على النّساء (34).
ولكنّك عرفت أنّ مسألة النكاح لا ترتبط بقاعدة نفي السبيل؛ لعدم كون الزوجيّة موجبة لتحقق السبيل والعلوّ بعد تساوي نسبتها إلى الزوجين، ووجوب إطاعة الزوج إذا أراد الاستمتاع والوطء لا يوجب تحقق السبيل، بعد ثبوت بعض الأحكام الوجوبية في ناحية الزوج أيضاً؛ كلزوم النفقة والسكنى واللباس وغيرها، وقد عرفت أنّ الحكم بعدم جواز تزويج المرأة المؤمنة نفسها من الكافر مستند إلى الروايات الخاصّة الواردة في هذا المجال، لا إلى قاعدة نفي السّبيل .
وعليه: فيمكن أن يقال باستفادة الحكم بالبطلان في المقام من تلك الرّوايات؛ نظراً إلى أنّه إذا لم يرض الشارع بالحدوث فالظاهر عدم رضائه بالبقاء أيضاً. وأمّا قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] فلم يعلم أنّ المراد بالرجال هم الأزواج وبالنساء هنّ الزوجات، بل هو في مقام تفضيل الجنس على الجنس، واللازم المراجعة إلى التفسير.
ومنها: عدم ثبوت حقّ القصاص للكافر إذا كان القاتل مسلماً؛ فإنّ ثبوت هذا الحق من أظهر مصاديق السبيل، ومقتضى حكومة القاعدة على أدلّة القصاص عدم ثبوته في هذا الفرض، ولكن مقتضى ما ذكروه في باب إتلاف المسلم مال الكافر من ثبوت الضمان له عليه- لأنّ منشأه فعل نفس المكلّف- ثبوت القصاص هنا أيضاً؛ لأنّ موجبه القتل المتحقق من القاتل، فأيّ فرق بين الإتلاف الموجب للضمان، وبين القتل الموجب للقصاص، والعمدة في هذا المقام أيضاً روايات دالّة على أنّ المسلم لا يقتصّ منه بيد الكافر (35) ، لا قاعدة نفي السبيل.
ومنها: غير ذلك من الموارد الكثيرة التي تظهر بعد التتبّع في مختلف أبواب الفقه.
خاتمة تشتمل على بيان أمرين:
أحدهما: لا شبهة في أنّ المراد بالمؤمنين في آية نفي السبيل- خصوصاً بقرينة المقابلة مع الكافرين- هو المسلمون؛ وهم المظهرون والمعترفون بنبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وأنّه رسول من قبل اللَّه، وأنّ كلّ ما جاء به من الأحكام فهو حقّ ومن عند اللَّه، ويعترفون بوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهو الذي- كما في الرواية الآتية- به حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج.
وبالجملة: المراد بالإيمان ما يوجب الخروج عن حدّ الكفر وتحقق الإضافة إلى الإيمان، وعليه: فلا شبهة في عدم اختصاص الآية بالمؤمن في مقابل المخالف الذي هو اصطلاح خاصّ، ولا في عدم اختصاصها بالمؤمن الذي يراد به من استقرّ في قلبه وورد الإسلام فيه؛ كما يشعر به قوله تعالى في الأعراب: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
ويدلّ على عدم الاختصاص رواية حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام قال:
سمعته يقول: الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى اللَّه عزّ وجلّ، وصدّقه العمل بالطّاعة للَّه والتسليم لأمره، والإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة النّاس من الفرق كلّها، وبه حقنت الدّماء، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك من الكفر واضيفوا إلى الإيمان- إلى أن قال-: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام وغير ذلك؟ فقال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحد (36)، الحديث.
وبالجملة: المراد بالمؤمن في الآية مقابل الكافر لا الأخصّ من المسلم.
ثمّ الظاهر عدم اختصاص الحكم في ناحية الكافرين وكذا في جانب المؤمنين بخصوص البالغين منهم، بل الآية تعمّ الأطفال من كلا الطرفين، فلا يجوز بيع العبد المسلم من أطفال الكفّار، وكذا بيع طفل المسلم إذا كان عبداً من الكفّار، وكذا إذا كان كلا الطرفين طفلًا.
والدليل على عدم الاختصاص وحدة الملاك والمناط المستفاد من الآية، وأنّ شرف الإسلام وعزّه مانع عن جعل السبيل للكافر على المؤمن. هذا إن لم نقل بصحّة استعمال اللفظين في غير البالغين كما ربما يدّعى. وأمّا إن قلنا بالصحّة فالآية تدلّ بالعموم اللفظي على ذلك وهو الظاهر؛ لأنّ ولد المسلم مسلم حقيقة يترتّب عليه أحكام الإسلام، وولد الكافر كافر كذلك يترتّب عليه أحكام الكفر، وعلى كلا التقديرين فالآية لا تختصّ بالبالغين كما عرفت.
ثانيهما: أنّا وإن ذكرنا إباء سياق آية نفي السبيل عن التخصيص ؛ نظراً إلى عدم ملاءمة لحنها، خصوصاً مع استعمال كلمة «لن» فيها مع ورود التخصيص عليها، إلّا أنّه ربما يقال بأنّه استثني من القاعدة موارد لا بأس بالتعرّض لها:
منها: ما إذا كان الاشتراء سبباً للانعتاق؛ أي كان المبيع ممّن ينعتق على المشتري؛ لكونه أباً له مثلًا، نظراً إلى صحّة هذا الاشتراء ودخول العبد المسلم في ملك الكافر بسبب الشراء؛ فإنّ هذه الملكية وإن كانت سبيلًا، لكنّها مستثناة من آية نفي السبيل.
وقد عرفت أنّ هذه الملكية- التي يكون الالتزام بها إنّما هو لأن يتحقّق موضوع الانعتاق؛ لأنّه لا معنى لانعتاقه عليه إذا لم يدخل في ملكه- لا يكون سبيلًا بوجه، وعليه: فخروج هذا المورد إنّما هو بنحو التخصّص لا التخصيص .
ومنها: من أقرّ بحريّة مسلم ثمّ اشتراه وهو كافر؛ فإنّه يؤخذ بمقتضى إقراره، ويحكم عليه بالحريّة ظاهراً.
وبعبارة اخرى: يصحّ البيع ويحكم بحريّته بعده، وإن كان بحسب الواقع عبداً، ولا مجال لتوهّم العلم بفساد البيع؛ لأنّه إن كان المبيع عبداً لا يجوز بيعه من الكافر، وإن كان حرّاً لا يصحّ بيعه مطلقاً، فالبيع فاسد على أيّ تقدير، وجه بطلان التوهّم. أنّ إقراره بالحرّية لا يكون نافذاً قبل البيع؛ لأنّه إقرار في حقّ عبد الغير، فقبل البيع يكون محكوماً بالعبودية، فلا مانع من تحقق البيع من هذه الناحية.
وأمّا بعد البيع من المقرّ فحيث يكون إقراره معتبراً؛ لكونه في حقّ عبد نفسه، يترتّب عليه آثاره فيصير حرّاً، ومن المعلوم أنّه لا مانع من صحة بيعه منه والحال هذه، ولكن ليس ذلك لأجل قيام دليل على التخصيص في مقابل الآية، بل لما عرفت من عدم كون مثل ذلك سبيلًا وعلوّاً، فالخروج إنّما هو بنحو التخصّص.
ومنها: ما إذا قال الكافر لمولى العبد المسلم: أعتق عبدك عنّي، فأعتقه عنه، فإنّه حيث لا يمكن العتق عن الغير إلّا بعد الدخول في ملكه؛ لأنّه لا عتق إلّافي ملك، فالبناء على صحّة العتق المزبور كما هو المشهور يوجب الالتزام بالدخول في ملك الكافر وتحقق العتق عنه.
هذا، ولكن ذلك لا يقتضي الالتزام بالتخصيص في مفاد الآية؛ لوضوح أنّ الالتزام بالملكية لأجل توقّف صحّة العتق عليها لا يوجب تحقق السبيل والعلوّ، بل خروجه بنحو التخصّص.
ومنها: ما إذا اشترط بائع العبد المسلم على الكافر المشتري عتقه؛ فإنّ المحكي عن الدروس (37) والروضة (38) أنّه مستثنى عن عموم الآية والرّواية.
والظاهر أنّه إن كان الشرط بنحو شرط الفعل لا شرط النتيجة، لا دليل على الاستثناء، فإنّ مجرّد التزام المشتري بأن يعتقه لا يخرجه عن السبيل المنفي، ولا دليل على الخروج عن الحكم. نعم، إذا كان بنحو شرط النتيجة يصير هذا المورد من قبيل كون المبيع ممّن ينعتق على المشتري.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا يوجد مورد يكون خروجه عن آية نفي السبيل بنحو التخصيص، وأنّ الموارد الخارجة إنّما يكون خروجها بنحو التخصّص.
هذا تمام الكلام في قاعدة نفي السبيل.
_______________
(1) مسائل الناصريات: 327- 329، الخلاف: 4/ 271- 272 مسألة 27، غنية النزوع: 343، الروضة البهيّة: 5/ 234، كشف اللّثام: 7/ 82.
(2) غنية النزوع: 210، شرائع الإسلام: 2/ 16، تذكرة الفقهاء: 10/ 19- 20 مسألة 6، مسالك الأفهام: 3/ 166- 167، جواهر الكلام: 22/ 334- 335.
(3) مثل القصاص في قتل العمد بأنّه يشترط أن لا يكون القاتل مسلماً والمقتول كافراً، غنية النزوع: 404 ومثل اشتراط كون الآخذ بالشفعة مسلماً، تذكرة الفقهاء: 12/ 212- 213، راجع العناوين: 2/ 350- 351 عنوان 49.
(4) كالآية 139 و140 من سورة آل عمران، والآية 25 من سورة التوبة.
(5) سورة المائدة 5: 6، والعناوين: 2/ 350- 351 عنوان 49.
(6) جامع البيان في تفسير القرآن: 5/ 214، وراجع العناوين: 2/ 357، والقواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1/ 188- 189.
(7) التبيان في تفسير القرآن: 3/ 364، مجمع البيان: 3/ 212، تفسير الصافي: 1/ 406.
(8) عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/ 203 ح 5.
(9) الفقيه: 4/ 243 ح 778، وعنه وسائل الشيعة: 26/ 125، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ب 15 ح 2.
(10) العناوين: 2/ 354- 355.
(11) وسائل الشيعة: 20/ 533، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالكفر ب 1، وص 542 ب 5 ح 5.
(12) سورة المنافقون 63: 8.
(13) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي: 1/ 192.
(14) وسائل الشيعة: 20/ 87- 90، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب 36 ح 1، 7 و11.
(15) المعجم الكبير للطبراني: 17/ 179 ح 473، العلل المتناهية: 2/ 646 ح 1071، مجمع الزوائد: 4/ 334، كنز العمال: 9/ 640 ح 27770، مستدرك الوسائل: 15/ 306، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته وشرائطه ب 25 ح 18329.
( 16) الكافي: 7/ 432 ح 19، تهذيب الأحكام: 6/ 287 ح 795، النهاية: 349 ح 2، وعنها وسائل الشيعة: 17/ 380، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه ب 28 ح 1.
( 17) مثل:( أحلّ اللَّه البيع) سورة البقرة 2: 275.
( 18) سورة المائدة 5: 1.
( 19) سورة النساء 4: 29.
( 20) عوالي اللئالي: 1/ 222 ح 99 وص 457 ح 198، وج 2/ 138 ح 383 وج 3/ 208 ح 49.
( 21) المكاسب( تراث الشيخ الأعظم): 3/ 585.
( 22) المكاسب( تراث الشيخ الأعظم): 3/ 585.
( 23) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي: 1/ 196.
( 24) المكاسب( تراث الشيخ الأعظم): 3/ 586.
( 25) قواعد الأحكام: 2/ 17، تذكرة الفقهاء: 10/ 21، إيضاح الفوائد: 1/ 413.
( 26) الخلاف: 3/ 190 مسألة 319، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: 2/ 457.
( 27) جامع المقاصد: 4/ 63.
( 28) مسالك الأفهام: 3/ 167.
( 29) الدروس الشرعية: 3/ 199.
( 30) قواعد الأحكام: 2/ 17.
( 31) إيضاح الفوائد: 2/ 11.
( 32) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: 4/ 179، والشيخ في المكاسب: 3/ 588 عن ظاهر نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: 2/ 458.
( 33) المكاسب( تراث الشيخ الأعظم): 3/ 588- 589.
( 34) سورة النساء 4: 34.
( 35) وسائل الشيعة: 29/ 107، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس ب 47.
( 36) الكافي: 2/ 22 ح 5، وقطعة منه في وسائل الشيعة: 1/ 19، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات ب 1 ح 14.
( 37) الدروس الشرعيّة: 3/ 199.
( 38) الروضة البهيّة: 3/ 244.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
أكثر من 23 ألف نازح لبناني يستفيدون من خدمات مستشفى العتبة العباسية الميداني في سوريا
|
|
|