أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-8-2016
1330
التاريخ: 5-8-2016
1260
التاريخ: 31-8-2016
1667
التاريخ: 1-9-2016
1484
|
...هل وضعت [الهيئة] للبعث الوجوبي أو الاستحبابي أو القدر المشترك بينهما أو لهما على سبيل الاشتراك اللفظي ؟
فلنقدّم لتحقيقه اُموراً :
الأوّل : إذا راجعت وجدانك تعرف أنّ المصالح والغايات المطلوبة ، لها دخل تامّ في قوّة الإرادة وضعفها ، كيف لا ، وأنّ الإرادة المحرّكة لعضلاته لإنجاء نفسه من الهلكة أقوى من الإرادة المحرّكة لها نحو لقاء صديقه ، وهي أقوى من المحرّكة لها للتفريح والتفرّج .
ويمكن أن يستكشف مراتب الإرادة واختلافها ـ شدّة وضعفاً ـ عن تحريك العضلات سرعة وبطءً فظهر أنّ إدراك أهمّية المصالح واختلاف الاشتياقات علّة لاختلاف الإرادة في الشدّة والضعف والتوسّط بينهما ، كما أنّ اختلاف الإرادة علّة لاختلاف حركة العضلات سرعة وبطءً وقوّة وضعفاً ، كلّ ذلك مع الإقرار بأنّ الإرادة من صُقع النفس وفاعليتها .
ومن الغريب : ما في تقريرات بعض الأعاظم من أنّ تحريـك النفس للعضلات في جميع الموارد على حدّ سواء(1) ; لأنّ الوجدان حاكم على خلافه ; ضرورة أقوائية إرادة الغريق لاستخلاص نفسه من الأمواج من إرادته لكنس البيت وشراء الزيت .
كما أنّ من العجيب ما عن بعض محقّقي العصر من أنّ الإرادة التكوينية لا يتصوّر فيها الشدّة والضعف(2) .
ولا يخفى بطلانه ; لأنّ الآثار كما يستدلّ بوجودها على وجود المؤثّرات ، كذلك يستدلّ باختلافها شدّة وضعفاً على اختلافها كذلك ; إذ الاختلاف في المعلول ناش عن الاختلاف في علّته ، ونحن نرى ـ بداهة ـ أنّ هناك اختلافاً في حركة العضلات في إنجاز الأعمال سرعة وبطءً ، وشدّة وضعفاً ، وهو يكشف عن اختلاف الإرادات المؤثّرة فيها .
فتلخّص : أنّ الإرادة تختلف شدّة وضعفاً باختلاف الدواعي ، كما أنّه باختلاف الإرادة تختلف حركة العضلات وفعاليتها . ثمّ إنّ التفصيل بين الإرادة التكوينية والتشريعية لا يرجع إلى محصّل .
الثاني : قد حرّر في موضعه أنّ الحقائق البسيطة التي تكون ذات التشكيك سنخ تشكيكها خاصّي; بمعنى أنّه يصير ما به الافتراق بين المراتب عين ما به الاشتراك ، كالوجود والعلم والإرادة والقدرة وغيرها(3) .
فحينئذ : افتراق الإرادة القوية عن الضعيفة بنفس حقيقة الإرادة ; إذ هي ذات مراتب شتّى وصاحبة عرض عريض ، ولا يكون الاختلاف بينهما بتمام الذات المستعمل في باب الماهيات ; ضرورة عدم التباين الذاتي بين الإرادة القوية والضعيفة ، ولا ببعض الذات ; لبساطة الإرادة في جميع المراتب ، ولا بأمر خارج ; لأنّه يلزم أن يكون كلتا الإرادتين في مرتبة واحدة ، وقد عرضت الشدّة والضعف على ذاتهما كعروض الأعراض على موضوعاتها ، وهو كما ترى . فالتشكيك واقع في ذاتها وبذاتها .
الثالث : الأفعال الإرادية الصادرة عن الإنسان لابدّ وأن تكون مسبوقة بالإرادة ومبادئها من التصوّر ; حتّى تنتهي إلى الإرادة ويتبعها تحريك العضلات وأعمال الجوارح ; من اليد والرجل واللسان ، حسب ما يقتضيها سنخ الفعل .
والبعث باللفظ بما أنّه فعل اختياري صادر عن الآمر لا محيص عن مسبوقيته بمبادئ الاختيار ; حتّى التحريك للعضلات ; وهو اللسان هنا .
كما أنّ ما سبق في الأمر الأوّل من أنّ شدّة الإرادة وضعفها تابعة لإدراك أهمّية المراد جار في نفس البعث أيضاً ، بل ربّما تدرك شدّة الإرادة من أثناء الكلام وزواياه ، كما لو أدّاه بلحن شديد أو بصوت عال أو قارنه بأداة التأكيد أو عقّبه بالوعد والوعيد ، كما أنّه يدرك من خلاله فتور الإرادة وضعفها إذا قارنه بالترخيص في الترك أو جعل جزاء الترك أمراً طفيفاً يرجع إلى حال العبد في دنياه ، وغير ذلك ممّا يلوح منه الوجوب الكاشف عن شدّة الإرادة بعرضها العريض ، أو الاستحباب الكاشف عن ضعفها كذلك .
ثمّ إنّ البعث بالهيئة ليس باعثاً بالذات ومحرّكاً بالحقيقة ، وإلاّ لما انفكّ باعثيته عنه ، وما وجد في أديم الأرض عاص ولا طاغ ، ولما كان هناك ثواب لمن سلك في ربقة الإطاعة ، بل هي باعث إيقاعي اعتباري ، والباعث بالذات هو الملكات النفسانية والصفات الفاضلة ، كعرفان مقام المولى ولياقته وأهليته للعبادة ـ كما في عبادة الأولياء ـ وكحبّه لمولاه أو لخوفه من ناره وسلاسله وطمعه في رضوانه وجنانه وغيرها ممّا تصير داعية للفاعل ، وإنّما الأمر محقّق لموضوع الإطاعة وموضح للمراد .
الرابع : أنّ كلّ ذي مبدأ يكشف عن تحقّق مبادئها المسانخة له ; فالفعل الاضطراري يكشف بوجوده الخارجي عند العقل عن تحقّق مبادئ الاضطرار ، كما أنّ الفعل الاختياري له كاشفية عن تحقّق مبادئه ، وليس هذا إلاّ دلالة عقلية محضة ، ككاشفية المعلول عن علّته بوجه .
فإذن : الأمر والبعث بآلة الهيئة بما هو فعل اختياري كاشف عن الإرادة المتعلّقة به ، كما أنّه بما هو بعث نحو المبعوث إليه كاشف عن مطلوبيته ، كلّ ذلك ليست دلالة لفظية وضعية ، بل عقلية محضة .
منشأ ظهور الصيغة في الوجوب:
إذا عرفت ما مهّدناه فاعلم : أنّه قد وقع الخلاف في أنّ هيئة الأمر هل تدلّ على الوجوب أولا ؟ وعلى الأوّل هل الدلالة لأجل الوضع أو بسبب الانصراف ، أو لكونه مقتضى مقدّمات الحكمة ؟ فيه وجوه ، بل أقوال .
وهناك احتمال آخر ـ وإن شئت فاجعله رابع الأقوال ـ وهو أ نّها كاشفة عن الإرادة الحتمية الوجوبية ; كشفاً عقلائياً ، ككاشفية الأمارات العقلائية .
ويمكن أن يقال : إنّها وإن لم تكن كاشفة عن الإرادة الحتمية إلاّ أنّها حجّة بحكم العقل والعقلاء على الوجوب ; حتّى يظهر خلافه ، وهذا خامس الوجوه .
فنقول : أمّا الدلالة الوضعية فإن اُريد منها أنّ البعث متقيّد بالإرادة الحتمية فهو ظاهر البطلان ; إذ قد أشرنا(4) أنّ الإنشائيات ـ ومنها البعث بالهيئة ـ معان إيجادية ، لا يحكي عن مطابق خارجي لها ، بل توجد بشراشر شؤونها في ظرف الإنشاء .
فإذن الهيئة موضوعة للبعث بالحمل الشائع ; أي ما هو مصداق له بالفعل وقائم مقام إشارة المشير ، فلا معنى ـ حينئذ ـ لتقييد البعث الخارج بالمفهوم أصلا .
ولو كان التقييد بوجود الإرادة الحتمية دون مفهومها ، ففيه : أنّه يستلزم تقييد المعلول بعلّته ; إذ البعث معلول للإرادة ; ولو بمراتب ، فلو تقيّد البعث بوجوده الخارجي بوجود الإرادة الحتمية لزم كون المتقدّم متأخّراً أو المتأخّر متقدّماً .
نعم ، هناك تصوير آخر ـ وإن كان يدفع به الاستحالة إلاّ أنّ التبادر والتفاهم على خلافه ـ وذلك: أنّه قد مرّ(5) في البحث عن معاني الحروف أنّه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بين معانيها ، من غير فرق بين الحاكيات أو الإيجاديات ; إذ الجامع الحرفي لابدّ وأن يكون ربطاً بالحمل الشائع ، وإلاّ صار جامعاً اسمياً .
وما هو ربط كذلك يصير أمراً مشخّصاً لا يقبل الجامعية .
وعليه وإن كان لا يمكن تصوير جامع حقيقي بين أفراد البعث الناشئة عن الإرادة الجدّية إلاّ أنّه لا مانع من تصوير جامع اسمي عرضي بينها ، كالبعث الناشئ من الإرادة الحتمية ، ثمّ توضع الهيئة بإزاء مصاديقه ، من باب عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، من غير تقييد .
هذا ، ولكن المتفاهم من الهيئة لدى العرف هو البعث والإغراء ، كإشارة المشير لإغراء غيره ، لا البعث الخاصّ الناشئ عن الإرادة الحتمية ، فتدبّر .
وأمّا القول بكون الوجوب مستفاداً من انصرافه إلى البعث المنشأ من الإرادة الحتمية فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ; إذ المنشأ الوحيد لذلك هو كثرة استعماله فيه ; بحيث يوجب استئناس الذهن ، وهي مفقودة .
وبه يتّضح بطلان ما جعلناه قولا رابعاً ; من دعوى كونه كاشفاً عقلائياً عن الإرادة الحتمية ، والقدر المسلّم كونه كاشفاً عن إرادة الآمر في الجملة ، لا عن الإرادة الحتمية ; إذ الكشف من غير ملاك غير معقول ، وما يتصوّر هنا من الملاك هي كثرة الاستعمال فيما ادّعوه ; بحيث يندكّ الطرف الآخر لديه ، ويحسب من النوادر التي لا يعتني به العقلاء .
إلاّ أنّ وجدانك شاهد صدق على أنّ الاستعمال في خلاف الوجوب لا يقصر عنه ، لو لم يكن أكثر .
وأمّا القول بكون الوجوب مقتضى مقدّمات الحكمة فقد قرّبه وقوّاه بعض محقّقي العصر ـ رحمه الله ـ على ما في تقريراته بوجهين :
الأوّل : ما أفاده في مادّة الأمر أنّ الطلب الوجوبي هو الطلب التامّ الذي لاحدّ له من جهة النقص والضعف ، بخلاف الاستحبابي ; فإنّه مرتبة من الطلب محدودة بحدّ النقص والضعف ، ولاريب في أنّ الوجود غير المحدود لا يفتقر في بيانه إلى أكثر ممّا يدلّ عليه ، بخلاف المحدود فإنّه يفتقر بعد بيان أصله إلى بيان حدوده .
وعليه يلزم حمل الكلام الذي يدلّ على الطلب بلا ذكر حدّ له على المرتبة التامّة ; وهو الوجوب ، كما هو الشأن في كلّ مطلق(6) .
وقرّره في المقام بتعبير واضح : من أنّ مقدّمات الحكمة كما تجري لتشخيص مفهوم الكلام سعةً وضيقاً ، كذلك يمكن أن تجري لتشخيص أحد مصداقي المفهوم ، كما لو كان لمفهوم الكلام فردان في الخارج ، وكان أحدهما يستدعي مؤونة في البيان أكثر من الآخر ، كالإرادة الوجوبية والندبية ; فإنّ الاُولى تفترق عن الثانية بالشدّة ; فيكون ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك ، وأمّا الثانية فتفترق عن الاُولى بالضعف ; فما به الامتياز فيه غير ما به الاشتراك ، فالإرادة الندبية تحتاج إلى دالّين بخلاف الوجوبية(7) ، انتهى ملخّصاً .
وفيه نظرات وتأمّلات :
منها : أنّ المقدّمات المعروفة لو جرت فيما نحن فيه لا تثبت إلاّ نفس الطلب الذي هو القدر المشترك بين الفردين .
وتوضيحه : أنّه قد مرّ في بحث الوضع : أنّ اللفظ لا يحكي إلاّ عمّا وضع بإزائه ، دون غيره من اللوازم والمقارنات ، والمفروض أنّ مادّة الأمر وضعت لنفس الجامع بلا خصوصية فردية، والإطلاق المفروض لو ثبت ببركة مقدّماته لا تفيد إلاّ كون ما وقع تحت البيان تمام المراد ، وقد فرضنا أنّ البيان بمقدار الوضع ، ولم يقع الوضع إلاّ لنفس الجامع دون الخصوصية ، فمن أين يستفاد كون الوجوب هو المراد دون الجامع ؟ مع أنّ مصبّ المقدّمات هو الثاني دون الأوّل ، والدلالة والبيان لم يتوجّه إلاّ إلى الجامع دون الوجوب .
ودعوى : عدم الفرق بين القدر الجامع والطلب الوجوبي واضح الفساد ; لاستلزامها اتّحاد القسم والمقسم في وعاء الحدّ ، والضرورة قاضية بلزوم افتراق الفرد عن الجامع بخصوصيـة زائدة ، وسيأتي بقية المقال في تقسيم الأمر إلى النفسي والغيري .
فإن قلت : لازم إجراء المقدّمات في المقام كون الأمر ظاهراً في نفس الجامع ، مع أنّا نقطع بأنّه ليس له وجود إلاّ بوجود أفراده ، وليس له حصول إلاّ في ضمن أحد الفردين ، فكيف ينسب إلى المولى بأنّه تمام المراد ؟
قلت : هذا ـ لو سلّم ـ يكشف عن كون المقام خارجاً عن مصبّ المقدّمات ، وما ذكرنا من أنّ جريانها يوجب كونها ظاهراً في نفس الطلب لأجل المماشاة ، بل كما لا يوجب ظهورها في الجامع لا يوجب ظهورها في أحد القسمين مع كونه متساوي النسبة إليهما ، وما ذكرنا في المادّة جار في مفاد الهيئة حرفاً بحرف .
ومنها : أنّ كون ما به الاشتراك في الحقائق الوجودية عين ما به الامتياز لا يوجب عدم الاحتياج في صرف الجامع إلى أحد القسمين إلى بيان زائد عن بيان نفس الطبيعة ; ضرورة أنّ الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد في المفهوم ; وإن لم يكن زائداً في الوجود .
فالوجود المشترك مفهوماً بين مراتب الوجودات لا يمكن أن يكون معرّفاً لمرتبة منها ، بل لابدّ في بيانها من قيد زائد ـ ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود ـ فنفس مفهوم الوجود لا يكون حاكياً إلاّ عن نفس الحقيقة الجامعة بينها ، ولابدّ لبيان وجود الواجب ـ مثلا ـ إلى زيادة قيد ، كالتامّ والمطلق والواجب بالذات ونحوها ، فإذن الإرادة القوية ـ كالضعيفة ـ تحتاج إلى بيان زائد، وكذا نظائرها .
وبالجملة : الخلط حاصل من إسراء حكم الخارج إلى المفهوم .
وكون شيء جامعاً أو فرداً في لحاظ التحليل ووعاء المفهوم إنّما هو لأجل تميّز بينهما بإضافة قيد أو شرط ; ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود .
ومنها : أنّ ما ذكره من أنّ ما بـه الاشتراك في طرف الناقص غير ما به الامتياز عجيب جدّاً ، بل غفلة عن حقيقة التشكيك في الحقائق البسيطة ; إذ الجمع بين البساطة في الوجـود وبين كونـه ذا مراتب تتفاوت بالشدّة والضعف لا يصحّ إلاّ بالالتجاء إلى أنّ ما به الامتياز في جميع المراتب عين ما به الاشتراك ; قضاءً لحقّ البساطة .
وعلى ذلك ليست الإرادة الضعيفة مركّبة من إرادة وضعف ، بل بتمام هويتها إرادة وتعدّ من المرتبة البسيطة ، وتكون بنفس ذاتها ممتازة عن القوية ، كما أنّ القوية ليست مركّبة من إرادة وقوّة .
والحاصل : أنّ كلتا المرتبتين بسيطتان جدّاً ; بحيث كان ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز ، وتكون الحقيقة ذات عرض عريض ، لكن في مقام البيان والتعريف يحتاج كلاهما إلى معرّف غير نفس المفهوم المشترك ، فالإرادة التامّة أو الطلب التامّ يحتاج إلى بيان زائد عن أصل الطلب كالإرادة الناقصة .
الوجه الثاني : أنّ كلّ طالب إنّما يأمر لأجل التوسّل إلى إيجاد المأمور به ، فلابدّ أن يكون طلبه غير قاصر عن ذلك ، وإلاّ فعلية البيان ، والطلب الإلزامي غير قاصر عنه دون الاستحبابي ، فلابدّ أن يحمل عليه الطلب(8) .
قلت : إن كان المراد من هذا الوجه أنّ الطلب الوجوبي لا يحتاج إلى بيان زائد بخلاف الاستحبابي ففيه : أنّه يرجع إلى الوجه الأوّل ، وقد عرفت جوابه .
وإن كان الغرض هـو أنّ الآمـر بصدد إيجاد الداعي في ضمير المأمـور لأجل تحصيل المأمـور به فهو مسلّم ، ولكن لا يفيد ما رامه ; إذ البعث لأجل إحـداثه أعمّ من الإلزامي وغيره .
وإن كان المقصود دعوى أنّ كلّ آمر بصدد تحصيل المأمور به على سبيل اللزوم فمع كونها مصادرة ممنوعة ; لأنّ الأوامر على قسمين .
وهناك تقريب آخر أفاده شيخنا العلاّمة : من أنّ الحمل على الوجوب لأجل أنّ الإرادة المتوجّهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلاّ ، والندب إنّما يأتي من قبل الإذن في الترك ; منضمّاً إلى الإرادة المذكورة ; فاحتاج الندب إلى قيد زائد بخلاف الوجوب ; فإنّه يكفي فيه تحقّق الإرادة فقط .
ثمّ أفاد : أنّ الحمل عليه لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة ; لأجل استقرار الظهور العرفي بمجرّد عدم ذكر القيد في الكلام ، ونظيـر ذلك قولنا «أكرم كلّ رجل» ; إذ لا نرى من أنفسنا في الحكم بالعموم في أفراد الرجل الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة في لفظ الرجل ; بحيث لولاها كنّا نتوقّف في المراد من القضية المذكورة(9) ، انتهى .
والعارف بما أسلفناه في توضيح الإرادة القوية والضعيفة(10) ، وما سيأتي منّا في توضيح الأحكام الخمسة يقف على الخدشة فيما أفاده ; إذ الوجوب والندب من الاُمور الاعتبارية ينتزع من نفس البعث باعتبار مبادئه ; إذ البعث الصادر عن الإرادة الشديدة ينتزع منه الوجوب ، كما أنّ الصادر عن الضعيفة ينتزع منه الندب ، لا أنّ الندب يأتي من قِبَل الإذن في الترك منضمّاً إلى الإرادة المذكورة .
وبعبارة أوضح : أنّ الإرادة في الوجوب والندب مختلفة مرتبةً ـ كما تقدّم ـ ولا يمكن أن تكون الإرادة فيهما واحدة ، ويكون الاختلاف بأمر خارج . فحينئذ فالإرادة الحتمية نحو اقتضاء لها ليس لغير الحتمية .
وأمّا قياسه نفي الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة على القضية المسوّرة بلفظة «كلّ» فغير صحيح ; إذ عدم الاحتياج في المسوّرة بلفظة «كلّ» ـ وسيوافيك تفصيله في مباحث العموم ـ لأجل بيان لفظي بالنسبة إلى نفس الأفراد دون أحوالها ; إذ سور القضية متعرّض وضعاً لكلّ فرد فرد بنحو الجمع في التعبير ، ومع البيان كذلك لا معنى لإجراء المقدّمات ، بخلاف المقام .
نعم ، هنا إشكال آخر يرد على كلّ من قال بدلالة الأمر على الوجوب أو الندب ـ بأيّ دليل تمسّك ـ ومن قال باستعماله فيهما حقيقة أو مجازاً ; إذ انتزاعهما أو اعتبارهما ـ على الفرق المقرّر في محلّه بين الانتزاعيات والاعتباريات ـ إن كان بلحاظ الإرادة الحتمية أو المصلحة الملزمة في الوجوب وعدمهما في الندب فمن البيّن أنّ ذلك من مبادئ الاستعمال وهو مقدّم بالطبع على الاستعمال ، وإن كان بلحاظ حتمية الطاعة أو عدمها فمن الواضح أنّهما منتزعتان بعد الاستعمال ، فلا يعقل الاستعمال فيهما على جميع الأقوال .
لكن بعد اللتيا والتي لا إشكال في حكم العقلاء كافّة على تمامية الحجّة على العبد مع صدور البعث من المولى ـ بأيّ دالّ كان ـ وقطع عذره وعدم قبوله باحتمال نقص الإرادة وعدم حتمية البعث وغير ذلك .
ولاريب في حكمهم بلزوم إطاعة الأوامر الصادرة من المولى ، من غير توجّه إلى التشكيك العلمي ; من احتمال كونه صادراً عن الإرادة غير الحتمية ، أو ناشئاً عن المصلحة غير الملزمة .
وليس ذلك لدلالـة لفظية أو لجهـة الانصراف أو لاقتضاء مقدّمات الحكمـة أو لكشفه عن الإرادة الحتمية ، بل لبناء منهم على أنّ بعث المولى لا يترك بغير جـواب ، كما لا يترك باحتمال الندب . فتمام الموضوع لحكمهم بوجوب الطاعـة هو نفس البعث مالم يرد فيه الترخيص .
هذا من غير فرق بين ما دلّ على الإغراء والبعث ، سواء كان الدلالة بآلة الهيئة أو بإشارة من يده أو رأسه ، فالإغراء بأي دالّ كان هو تمام الموضوع لحكم العقلاء بتمامية الحجّة ، إلاّ أن يدلّ دليل على الترخيص . ولعلّ ذلك منظور شيخنا العلاّمة ، أعلى الله مقامه .
كيفية دلالة الجمل الخبرية على الطلب والوجوب إذا أحطت خبراً بما ذكرنا ; من أنّ تمام الموضوع لحكم العقلاء هو نفس البعث ، من غير فرق بين الدوالّ ، يتّضح لك أنّ الجمل الخبرية المستعملة في مقام البعث ، والإغراء كالهيئات في حكم العقلاء بلزوم إطاعتها .
نعم ، الكلام كلّه في كيفية دلالتها على البعث ، وما ذكرنا سابقاً في تحقيق معنى المجاز ، وأنّه استعمال فيما وضع له بجعله عبرة إلى المقصود(11) يوضح كيفية دلالتها ، فالجمل الخبرية مستعملة في معانيها الإخبارية بدعوى تحقّقها من المخاطب وأنّه يقوم به ، من غير احتياج إلى الأمر ، بل فطرته السليمة ورشده في حيازة المصالح تبعثه إليه ، بلا دعوة داع .
فقول الوالد لولده : «ولدي يصلّي» أو «يحفظ مقام أبيه» لا يريد منها إلاّ الأمر ، لكن بلسان الإخبار عن وقوعه وصدوره عنه بلا طلب من والده ، بل بحكم عقله ورشده وتمييزه .
____________
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 135 ـ 136 .
2 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 212 ـ 213 .
3 ـ الحكمة المتعالية 1 : 427 ـ 446 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 22 .
4 ـ تقدّم في الصفحة 191 .
5 ـ تقدّم في الصفحة 46 .
6 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 197 .
7 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 214 .
8 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 197 .
9 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 74 .
10 ـ تقدّم في الصفحة 194 .
11 ـ تقدّم في الصفحة 62 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|