اصبحت مشكلة نشأة اللغة من المعضلات الفلسفية التي حفل تأريخها بالمجاذبات الحادة، دون ان تنتهي الى رأي قاطع ، إذ أخذ البحث في نشأة اللغة طابعاً متيافيزيقياً ، وهذا ما جعل علماء اللغة يحجمون عن البحث في هذه الإشكالية ، لعدم إمكانية الوصول الى القول الفصل ، مما حدا بالجمعية الفرنسية الى أن تمنع القاء المحاضرات من هذا النوع بموجب قانون يلزم الباحثين بهذا القيد⁽¹⁾ فالقولُ بأولية اللغة يحتاج الى شيء من التأمل ، كون الأمر فيها خفيُّ لا يعلمُه إلا الله وحده سبحانه ، وهذا ما جعل عُلماء اللغة القدماء والمحدثين مترددين في قبول هذه النظرية أو تلك ، وعلى الرغم من أننا لا يُمكننا أن ندرك كينونة اللغة ، وكيف كانت في أوليتها ، وربما يكونُ من العبث إثباتُ كل شيء ، ولكن العمل وفق الخصائص والمعالم الواضحات يمكنُ إثبات ما يكون قابلا للإثبات لذا يمكننا الوصول الى اللغة من خلال ذاكرة اللغة نفسها حسب ارتباطها بالأشياء ، لا سيما القضايا

ص29

العامة اليقينية التي ما تزال محفورة في الذهن البشري ، وفق الانموذج اللغوي الذي لا يمكن تجاهله الا هو النص القرآني ، فضلا عن ذلك ندرك بأن اللغة من الاشياء الحية وهنالك من يبرر وجودها او بالأحرى ارتباطها بما هو كائن متحرك يعتمد خصائص ذهنية قائمة في الذهن ، مستقرة في الاشياء الحية نفسها ، ومع ذلك اعتقد ان من الممكن أن نتجاوز تلك النظريات ونسلك ما نسميه اليقين في فهم اللغة ، ما دامت العلاماتُ والإشاراتُ تذهبُ بنا الى أبعد مما ذهب إليه القدماء ، وسيكون حالنا يقينا بان اللغة وجدت قبل خلق الانسان ، ومن العبث أن نشك بهذه الحقيقة ما دمنا مؤمنين بالله تعالى وما دمنا لا نضعُ اليد على قول صدر عن القدماء في حقيقة هذا الأمر ، لأن القول في أولية اللغة وما فيه من نقص يعرضُ المتلقي الى الاضطراب في الذهن ، لذلك اتجهنا الى هذه الوجهة الحسنة لفهم حقيقة وطبيعة الخلق لهذه اللغة .

ص30

__________________

(1) ينظر محاضرات في اللهجات وأسلوب دراستها ، أنيس فريحة : 12-13 ، معهد الدراسات العربية ، القاهرة ، 1955م .