أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-2-2023
1259
التاريخ: 7-6-2016
6210
التاريخ: 1-9-2020
2683
التاريخ: 12-6-2016
5568
|
الفرع الأول : العامل التاريخي
نشأ القضاء الاداري المتخصص في فرنسا بعد الثورة الفرنسية عام 1789، اثر امر من نابليون بونابرت في 25 كانون الاول 1799 م. ويعود الفضل في انشاء هذا المجلس الى عدم ثقة رجال الثورة بالمحاكم العادية في نظر المنازعات الادارية، حيث كانت ذاكرة الفرنسيين مليئة بصور التعسف الذي كانت تمارسه المحاكم القضائية والتي كانت تسمى (البرلمانات) في علاقاتها مع الادارة (1). حيث دابت تلك البرلمانات على التدخل في شؤون الادارة بوقف تنفيذ اوامرها ومحاكمة موظفيها، كما انها وقفت في وجه الاصلاحات التي اريد تنفيذها في عهد لويس الخامس عشر رغم الشعور العام بالحاجة الى تلك الاصلاحات (2). ويرى جانب من الفقه ان مجلس الدولة الفرنسي جاء وليد النظرة الفرنسية الخاصة لمبدأ الفصل بين السلطات، وان ماحدث من تطور منذ الثورة الفرنسية وانشاء مجلس الدولة كان تطبيقاً لهذا المبدأ (3). وقد بدأ مجلس الدول الفرنسي بمراحل من التطور استغرقت عشرات السنين. فقد بدء هذا المجلس مهامة كهيئة استشارية حيث لم يعطَ اختصاصاً كاملاً او مطلقاً للفصل في المنازعات الادارية عند نشأته، بل ان قضاءه كان مقيداً او محجوزاً، ذلك لانه لم يكن يملك القضاء واصدار الاحكام وانما كان يقوم بابداء الراي في المنازعات التي تطرح امامه واعداد مشروعات الاحكام، ولاتصبح هذه المشروعات احكاماً بالمعنى الصحيح الا بعد تصديق رئيس الدولة عليها. وقد استمرت مرحلة القضاء المقيد فترة طويلة تجاوزت السبعين عاماً الى ان انتهت بصدور قانون 24 ايار 1882 الذي منح المجلس بموجبه صلاحية القضاء المفوض (4). الا ان هذا القانون لم يلغ دور الوزير القاضي، فقد استمر الوزراء في فض المنازعات الادارية بالرغم من عدم وجود نص صريح بمنحهم هذا الاختصاص (5). وقد استطاع مجلس الدولة الغاء الاختصاص القضائي للوزراء وجعل المجلس هو صاحب الولاية العامة في المنازعات الادارية وذلك في اجتهاد مشهور في قضية cadot عام 1889 (6). ولقد لعبت العوامل والظروف التاريخية التي ادت الى انشاء القضاء الاداري الفرنسي دوراً كبيراً في تقدير القاضي الاداري واجتهاداته، حيث نجد ان القاضي الاداري يمتنع عن توجيه اوامر للادارة على اعتبار انه قاضي مشروعيه يفحص قراراتها فيلغيها اذا وجد فيها عيباً، ولكنه لايامر الادارة بشي ولايحل محلها في اصدار قراراتها (7). وقد انعكس تاثير هذه العوامل والظروف التاريخية على دور القاضي الاداري في الاثبات بشكل كبير، حيث انحصر دوره في ملف الدعوى دون سواه. فهو لايستطيع ان يستدعي رجال الادارة لاستجوابهم او التحقيق معهم وذلك اعمالاً لمبدأ الفصل بين الادارة القاضية والادارة العاملة (8). ويلاحظ ان تطور تقدير مجلس الدولة الفرنسي لم يكن على وتيرة واحدة فقد تأثر المجلس بالظروف السياسية التي مرت بفرنسا مطلع القرن التاسع عشر التي دفعته الى اتباع سياسة قضائية مرنة وحكيمة، فعلى اثر عودة الملكية في فرنسا عام 1814 م بيتت الحكومة النية على الغاء المجلس فتنازل عن بعض سلطاته في الرقابة على طائفة من اعمال الحكومة مقابل الاطمئنان على مصيره وضمان بقائه رقيباً على سائر الاعمال الادارية (9)، ويطلق على هذه الاعمال اعمال السيادة (10). اما في مصر فان انشاء القضاء الاداري لم يكن وليد الظروف التاريخية كالتي حدثت في فرنسا وانما جاء بناء على ارادة المشرع في انشاء قضاء مستقل يمارس دوره في حماية المواطنين وتامين حقوقهم تجاه الدولة او الادارة وبالمقابل حماية حقوق الدولة وصيانتها من اخلال المواطنين بواجباتهم (11). كما ان انشاء القضاء الاداري في العراق قد تم بموجب قانون التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة المرقم 106 لسنة 1989. وبالرغم من ان انشاء هذا القضاء يعد خطوة في الاتجاه الصحيح الا ان المشرع قيد اختصاصه من خلال منعه من سماع الدعاوى المتعلقة بالقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية حيث عدها المشرع من اعمال السيادة (12). كما منع القضاء الاداري من النظر في القرارات الادارية التي رسم القانون طريقاً للتظلم منها او الاعتراض عليها. وقد انتقد الفقه العراقي اتجاه المشرع بتقييد اختصاص محكمة القضاء الاداري، على اعتبار ان نص القانون يشمل النظر فقط في صحة الاوامر والقرارات التي لم يعين القانون طريقاً للتظلم منها او الاعتراض عليها او الطعن بها. وحيث ان التشريع العراقي زاخر بالنصوص التي ترسم طريقاً للتظلم من القرارات الصادرة بموجبه او الاعتراض عليها او الطعن فيها لدى الجهات الادارية التي اصدرتها او امام السلطة الرئاسية لهذه الجهات او لدى مجالس او لجان ادارية او شبه قضائية (13). كما ان اعتبار جميع المراسيم والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية او تصدر بناءً على توجيهات رئيس الجمهورية من اعمال السيادة ليس موفقاً، فاذا كان هناك اتفاق على استبعاد اعمال السيادة من الطعن القضائي، فان اعتبار جميع القرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية او التي تصدر بناءً على توجيهاته من اعمال السيادة ليس محل اتفاق، بل هو امر منتقد فقد تكون بعض هذه المراسيم والقرارات مما يمكن ان ينطبق عليها وصف اعمال السيادة ولكن ليس بالضرورة ان يكون هذا وصفها جميعاً، وبالتالي تخضع للطعن فيها امام القضاء (14). هذا من جهة ومن جهة اخرى فان من المتفق عليه في اغلب النظم القانونية ان القضاء هو الذي يحدد ما يعتبر من اعمال السيادة وما لايعتبر كذلك وحسب ظروف القضية المعروضة على القضاء وليس المشرع، وهذا الامر بالطبع يحتاج الى تعديل تشريعي. ومع ذلك فقد حاول القضاء الاداري بالرغم من محدودية صلاحيته ان يبسط رقابته على اكبر عدد من القرارات الادارية من خلال مد نطاق اختصاصه ابعد مما حدده النص، حيث قضت محكمة القضاء الاداري ((ان المنع من سماع الدعوى الذي يرد على النصوص القانونية السابقة على تاريخ صدور القانون 106 لسنة 1989 غير وارد ولايقيد اختصاص المحكمة اذ ان القانون 106 قد حدد في (م 7) الفقرة خامساً الحالات التي منعت فيها من النظر في الطعون الموجهة الى القرارات المحددة فيها (ولم يرد في قانون مجلس شورى الدولة المعدل قيد يمنع هذه المحكمة من سماع الدعوى سوى ما ورد في خامساً من المادة 7 من القانون المذكور..) (15). الا ان هذا القرار قد نقض من قبل الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة تماشياً مع الاوضاع السياسية والقانونية السائدة انذاك والتي كانت تتجسد في تقييد اختصاصات المحاكم المدنية والادارية على حد سواء (16).
الفرع الثاني : الحماية الدستورية
لاشك ان تمتع القاضي الاداري بالحماية الدستورية له انعكاس كبير على ممارسته للوظيفة القضائية عموماً وسلطته التقديرية بشكل خاص. والحماية الدستورية التي لابد من توفيرها للقاضي الاداري. يمكن ان تكون حماية دستورية عامة يشترك فيها القاضي الاداري مع غيره كالقاضي المدني والقاضي الجنائي، ويمكن ان تكون خاصة ينفرد بها القاضي الاداري.
اولاً : الحماية الدستورية العامة
وهي التي يشترك فيها القاضي الاداري مع غيره كالقاضي المدني والقاضي الجنائي. وتتمثل في النص في الدستور على استقلال السلطة القضائية وتعني انه لايجوز لاحد او جهة ان يتدخل في اعمال القاضي في عملية صنع القرار-، ولهذا يتمتع القضاء بضمانات تكفل استقلال الرأي وتحميه من اي تدخل. ويعتبر مبدأ استقلال القضاء من المبادئ الدستورية المستقرة التي نصت عليه جميع الدساتير الحديثة ومنها الدساتير العراقية (17). ويعد استقلال السلطة القضائية في الدول الدستورية الحديثة وليد النظرة القائلة بضرورة الفصل بين السلطات الذي بموجبه يجري الفصل بين هيئات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية- ويشكل هذا الفصل نظاماً لفرض ضوابط متبادلة تستهدف منع تجاوزات السلطة العامة تجاه الافراد. وهذا الاستقلال يعني ان السلطة القضائية يجب ان تتمكن من ممارسة مسؤولياتها المهنية دون تاثر بالجهات التنفيذية والتشريعية او اي مصادر اخرى غير ملائمة (18).
ثانياً : الحماية الدستورية الخاصة
قد لاتكفي الحماية الدستورية العامة لان يمارس القاضي دوره الاكمل في حماية المشروعية وضمان حقوق الافراد تجاه السلطة العامة. بل لابد من وجود حماية دستورية خاصة ينفرد بها القاضي الاداري عن غيره كالقاضي المدني والقاضي الجنائي، وذلك نظراً لخطورة المهمة التي يضطلع بها هذا القضاء. فهو في اغلب الاحيان يكون في مواجهة السلطة العامة التي لها من السطوة والنفوذ والتي قد تستخدمها في حل هذا القضاء بقانون عادي لغرض التخلص منه. وتتمثل الحماية الدستورية الخاصة في النص في الدستور على وجود القضاء الاداري المستقل عن القضاء العادي، حيث ان عدم وجود هذا النص قد ينعكس بشكل سلبي على ممارسة القاضي الاداري لسلطته التقديرية واجتهاداته. ففي فرنسا ادى عدم وجود هذا النص في دساتيرها المتعاقبة الى خشية المجلس من حله بقانون عادي، مما دفعه الى التنازل عن بعض اختصاصاته بابتداعه نظرية اعمال السيادة (19). وقد حصل مجلس الدولة الفرنسي اخيراً على الاعتراف بمركز دستوري عن طريق المجلس الدستوري وذلك استناداً الى المبادئ المعترف بها بقوانين الجمهورية)) حيث قضى المجلس الدستوري عام 1987 ((تماشياً مع المفهوم الفرنسي لمبدأ الفصل بين السلطات وبموجب المبادئ الاساسية المعترف بها في قوانين الجمهورية، يعود للقضاء الاداري اختصاص الغاء وتعديل القرارات المتخذة بناءً على ممارسة السلطات المختلفة لامتيازات السلطة العامة)) (20). وبهذا الاعتراف زال كل خطر لالغاء هذا القضاء بقانون عادي وهذا بالطبع يؤدي الى الاستقرار والاطمئنان النفسي الذي يترك اثره الكبير في اجتهادات القاضي الاداري وتقديراته. اما في مصر فيتمتع القضاء الاداري المصري بحماية دستورية خاصة حيث نص دستوره النافذ والصادر عام 1971 على ((ان مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة، ويختص بالفصل في المنازعات الادارية وفي الدعاوى التأديبية، ويحدد القانون اختصاصاته الاخرى)) (21). ولاشك ان النص الدستوري المتقدم يوفر حماية حقيقية لعدم امكانية حل مجلس الدولة المصري بقانون عادي، وهذا الامر اثر بشكل جلي في استقرار احكام مجلس الدولة المصري وتطورها. وفي العراق لم تنص الدساتير العراقية المتعاقبة على وجود قضاء اداري مستقل عن القضاء العادي باستثناء الدستور الصادر سنة 1964 الذي نص على ان ((يشكل مجلس الدولة بقانون ويختص بالقضاء الاداري وصياغة القوانين والانظمة وتدقيقها وتفسيرها)) (22). الا ان هذا النص لم يترجم الى واقع عملي حيث لم يصدر طيلة مدة نفاذ هذا الدستور اي قانون لانشاء مجلس الدولة المنشود. كما ان قانون ادارة الدولة المؤقت النافذ لم يشر الى هذا الامر. ونأمل ان يتضمن الدستور العراقي الدائم المرتقب اشارة واضحة الى القضاء الاداري المتخصص لكي تستمر مسيرة القضاء الاداري في العراق وتتعزز، كون هذا القضاء يشكل دعامة اساسية لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم تجاه الادارة.
الفرع الثالث : سير المرافق العامة بانتظام واستمرار
يعد ضمان سير المرافق العامة بانتظام واستمرار من اهم العوامل التي تؤثر في السلطة التقديرية للقاضي الاداري واجتهاداته، حيث ان تمكين الادارة من تسير مرافقها العامة بانتظام واستمرار يشكل دائماً الهاجس الاول للقاضي الاداري، لان هذه المرافق تؤدي خدمات جوهرية للجمهور، حيث انهم رتبوا امورهم الحياتية على الانتفاع من الخدمات التي تقدمها هذه المرافق كالماء والكهرباء والخدمات الطبية وغيرها... وهم غالباً لايتخذون احتياطاتهم بالتزود بالحاجات الضرورية اعتماداً على ما تقدمه المرافق العامة من خدمات (23). ومن اليسير ان نتصور مدى الارباك الذي يحصل في حالة تعطل احدى هذه المرافق المهمة ولو لفترة يسيرة. ولاهمية هذا المبدأ فقد اقره مجلس الدولة الفرنسي وطبقه بالرغم من عدم وجود نص تشريعي يقرره وذلك في قضية (Winkell) (24). كما قضى تطبيقاً لنفس المبدأ بان اهمال استغلال المرافق العامة الممنوح حق استغلالها لفرد او شركة خاصة يبرر وحدة الغاء حقوق المستغل (25). واجاز المجلس السلطة الادارية الغاء الرخصة الممنوحة لفرد او شركة باستغلال مشروع خاص اذا توقف المشروع عن العمل وذلك على اساس انه يجوز اخضاع المشروعات التي تؤدي خدمة عامة لنظام المرافق العامة. فاذا تقرر ذلك وتوقف مثل ذلك المشروع الخاص عن العمل اجاز الغاء الرخصة الممنوحة لصاحب المشروع لمخالفته مبدأ دوام سير المرافق العامة(26). والحقيقة ان القضاء الاداري قد صاغ معظم نظريات القانون الاداري استناداً الى هذا المبدأ الهام، وان هذه المبادئ قد تبناها المشرع في مختلف الدول بعد ان استقرت في احكام القضاء الاداري. واهم هذه المبادئ هي:
اولاً : تحريم الاضراب
الاضراب هو توقف العمال عن اداء عملهم مدة من الزمن مع تمسكهم بوظائفهم ويلجأ العمال الى هذا الاجراء بقصد اظهار استيائهم من امر من الأمور او لغرض الوصول الى تحقيق بعض المطالب التي تتعلق بالعمل كرفع الأجور وتحسين ظروف العمل(27). ويعد الاضراب في صورته الجماعية أخطر ما يهدد سير المرافق العامة بانتظام واستمرار لكون العمال يعلمون سلفا مدى تأثر الجماعة وتعرض مصالحها للخطر اذا ما استعمل سلاح الاضراب، فانه كثيرا ما يلجأ اليه في معظم الدول لا في المشروعات الخاصة فحسب ولكن في المرافق العامة ايضا. وزاد من خطورة هذه الحالة انهم قد يستغلون الاضراب لتحقيق اغراض لا تتعلق بالعمل ولكن لاغراض سياسية احياناً (28). لذلك فقد قدر مجلس الدولة الفرنسي، في وقت لم يكن يوجد فيه اي نص يحرم الاضراب، حيث ذهب الى ان اضراب الموظفين او الاشخاص الذين يشتركون في ادارة مرفق عام ولو كان يدار بطريقة الامتياز، يعد عملاً غير مشروع (29). كما قضى المجلس بان الجزء التأديبي بالنسبة للمضربين يمكن ان يصل الى حد فصل الموظف من الوظيفة دون مراعاة الضمانات المقررة له في القونين ولوائح التوظيف (30). وقرر في قرار اخر ان السلطة الادارية تملك في حالة التهديد بالاضراب ان تتخذ كافة الاجراءات الكفيلة بصيانة النظام العام وضمان سير المرافق العامة كان تلجأ الى اجراءات التجنيد او اصدار اوامر تكليف لتوفير العمال اللازمين للقيام بالعمل في المرافق العامة(31). وعلى اثر ذلك فقد تدخل المشرع في معظم الدول لتحريم اضراب الموظفين العمومين ومنها التشريع العراقي (32)، ووضع قواعد لتنظيم اضراب عمال المشروعات الخاصة.
ثانياً: تنظيم استقالة الموظف
الاستقالة هي ابداء الموظف رغبته في ترك العمل نهائياً، والاستقالة بهذا المعنى تعتبر حقاً للموظف بعكس الاضراب، فالاضراب يعد جريمة في حين ان الاستقالة امر مباح. اذ ان من الاهدار لكرامة الانسان ان يجبر في الظروف الاعتيادية على اداء عمل لايريده، ولهذا فان الصخرة الغيت في الدول المتحضرة (33). غير انه اذا كان للموظف الحق في ان يترك وظيفته عن طريق الاستقالة فان هناك اعتبارات تتعلق بسير المرافق العامة بانتظام واستمرار تقيد استعمال هذا الحق، لذا لايكون للموظف العام نفس المركز القانوني للأجير في عقد اجاره الاشخاص، فالموظف يقوم بعمل لا لصالح الفرد لذاته. وانما لصالح الجماعة ولهذا يجب ان يوفق بين حق الموظف في ترك العمل اذا رغب ذلك وبين حق الجماعة في الحصول على المنفعة العامة (34). ومنا هنا قدر القضاء الاداري في مختلف الدول خطورة ترك الموظف عمله دون سابق انذار وقبل ان تتبنى التشريعات هذا الامر (35). ففي فرنسا طبق مجلس الدولة الفرنسي هذه القاعدة قبل ان ينص عليها تشريعياً (36). اما في مصر فقد ذهب القضاء ابتداءً الى ان الموظف له الحق في ترك وظيفته متى شاء ذلك وتحت اي ظرف شأنه في ذلك شأن المستخدم او الاجير (37). ويبدو ان اتجاه القضاء انذاك ناتج عن اعتبار هذه المحاكم ان علاقة الموظف بالادارة هي علاقة تعاقدية. الا ان قانون العاملين المصري رقم 210 لسنة 1951 والتشريعات التي تلته قد جاءت بنفس المبادئ التي تبناها قانون التوظيف الفرنسي (38). كما ان محكمة القضاء الاداري قد تبنت نفس هذه المبادئ بقولها ((ان الاستقالة وان كانت مركزاً قانونياً، الا انه يغلب عليها اعتبار انها حق للموظف، لاتملك الادارة حيالها الا القبول. وليس للادارة رفضها، وان كان لها. على ما يؤخذ من النصوص تأخير البت فيها فترة وذلك حتى تدبر الادارة خلفاً للموظف المستقيل مراعاة لصالح العمل)) (39).
ثالثاً : انشاء نظرية الموظف الفعلي في الضروف الاستثنائية
الموظف الفعلي هو ذلك الشخص الذي عين تعييناً معيباً او لم يصدر قرار بتعيينه اصلاً ومع ذلك فان قراراته تعتبر صحيحة. فبالرغم من ان الاصل العام الذي يقضي ببطلان الاعمال التي تصدر من غير مختص او من مغتصب للسلطة، فان القضاء الاداري قد أعلن سلامة الاعمال الصادرة من الافراد العاديين في الضروف الاستثنائية وذلك لغرض تأمين سير المرافق العامة الحيوية بانتظام واستمرار (40). وهذا الامر يحصل عادة عند اختفاء السلطات الرسمية لاي سبب من الاسباب كالكوارث الطبيعية والغزو الخارجي والفتن الداخلية. فقد يتصدى بعض الافراد العاديين للمهام الموكلة للسلطات الرسمية لتامين سير المرافق الحيوية بانتظام استمرار. ولهذا فقد اقر مجلس الدولة الفرنسي بمشروعية الاعمال الصادرة من لجنة بلدية تشكلت عند اجتياح العدو للبلدية، في حين ان سلطات البلدية الرسمية قد هربت من المدينة (41). كما ان المحكمة الادارية العليا المصرية قد اشارت في احكامها الى فكرة الموظف الفعلي بقولها ((ان نظرية الموظف الفعلي – كما جرى بذلك قضاء هذه المحكمة – لاتقوم الا في الاحوال الاستثنائية البحتة، تحت الحاح الحاجة الى الاستعانة بمن ينهضون بتسيير دولاب العمل في الوظائف ضماناً لانتظام المرافق العامة، وحرصاً على تأدية خدماتها للمنتفعين بها. باضطراد ودون توقف. وتحتم الظروف غير العادية ان تعهد جهة الادارة الى هؤلاء الموظفين بالخدمة العامة اذ لايتسع امامها الوقت لاتباع احكام الوظيفة في شانهم ونتيجة لذلك لايحق لهم طلب تطبيق احكام الوظيفة العامة، كما لايحق لهم الافادة من مزاياها لانهم لم يخضعوا لاحكامها، ولم يعينوا وفقاً لاصول التعيين فيها)) (42).
رابعاً : اختصاص الادارة في فرض العقوبات الانضباطية
منحت قوانين الخدمة المدنية المختلفة الادارة حق فرض عقوبات تأديبية مختلفة في حالة ارتكاب الموظف ما يخل بواجباته الوظيفية.
واياً كانت طبيعة النظام التأديبي فان الفلسفة الساندة فيه لابد ان تتنازع في اتجاهين، فاما ان تتجه نحو اعتبارات المصلحة العامة للجهاز الاداري ومرافقه المختلفة وهو ما يطلق عليه في الفقه الاداري بسلاح الفاعلية، واما ان يسخر لتحقيق متطلبات المصلحة الخاصة للموظفين الذين تمارس السلطة التأديبية اختصاصها في مواجهتهم وهو ما اتفق على وصفه بسلاح الضمان (43). وحيث ان كلاً من الاعتبارين جدير بالرعاية وان اتخاذ اي موقف منحاز الى احد الجانبين المتقابلين ينطوي على اضرار بالغة بالمصلحة العامة والمصلحة الخاصة بالموظفين على حد سواء. لذلك اجمع الفقه القضاء على ضرورة اتخاذ نوع من التوازن بين توفير اقصى قدر من الضمانات يتمتع بها الموظفون في مواجهة عسف السلطة التأديبية بما يؤمن لهم العمل في جو من الطمأنينة والهدوء النفسي المعقول، وبين حاجة المواطنين في ان تسير المرافق العامة بفعالية والتي تستوجب تقوية السلطة التأديبية (44). ولاشك ان الرقابة القضائية على القرارات والاحكام التأديبية هي من اهم ضمانات تحقيق هذا التوازن، وهذا لن يتحقق على الوجه الاكمل – كما يرى البعض – الا من خلال امتداد الرقابة الى نطاق الملاءمة واهتمام القاضي بها. قدر اهتمامه بفحص عناصر المشروعية وكذلك تحقيقاً للمبادئ الاولية للعدالة (45). وهذا يعني ان يحل القاضي الاداري تقديره الشخصي محل تقدير سلطة التأديب اذا ما وجد غلوا او شططا لتحقيق نوع من التوازن بين جسامة العقوبة التأديبية مع ما نسب الى الموظف من مخالفات وذلك من اجل تحقيق الغاية النهائية من التأديب الا وهي تامين سير المرافق العامة بانتظام واستمرار. وقد عبرت المحكمة الادارية العليا المصرية عن ذلك بقولها ((ان الهدف الذي توخاه القانون من التأديب هو بوجه عام تامين سير انتظام المرافق العامة، لايتأتى هذا التامين اذا انطوى الجزاء على مخالفة صارخة، فركوب متن الشطط في القسوة يؤدي الى احجام عمال المرافق العامة عن حمل المسؤولية خشية التعرض لهذه القسوة الممعنة في الشدة، والافراط المسرف في الشفقة يؤدي الى استهانتهم باداء واجباتهم طمعاً في هذه الشفقة المفرطة في اللين. فكل على طرفي النقيض لايؤمن سير المرافق العامة، وبالتالي يتعارض مع الهدف الذي رمى اليه القانون من التاديب، وعلى هذا الاساس يعتبر استعمال سلطة تقدير الجزاء في هذه الصورة مشوباً بالغلو فيخرج التقدير من نطاق المشروعية الى نطاق عدم المشروعية ومن ثم يخضع لرقابة هذه المحكمة)) (46).
____________________
1- يكاد يجمع الفقه الفرنسي ان فكرة مجلس الدولة الفرنسي لم يبتدعها نابليون دون سابقة توحي بها، بل ان الفكرة كانت وليدة مجالس عرفتها فرنسا في العهود الملكية. فهي مستوحاة من مجلس كان يسمى (مجلس الملك)، ويقولون ان هذا المجلس كان ذا شأن عظيم في البلاط الملكي منذ القرن الثالث عشر وكان الملك يؤلفه من كبار المخلصين للعرش ويرأس جلساته بنفسه ويستشيره في امور الدولة، واحياناً كان يمارس سلطة سياسية. ومع الزمن اصبحت له الى جانب وظيفته الاستشارية صفة محكمة عليا تنظر في اقضية الادارة التي ترفع اليه، ومنذ عام 1497 اصبحت عضوية مجلس الملك من القضاة واخذ اسم المجلس الاعلى، تفصيل ذلك ينظر د. عدنان الخطيب، تاريخ القضاء الاداري ونظام مجلس الدولة في سوريا، دار نافع للطباعة، 1974 ص8-9.
2- ينظر د. محمد فؤاد مهنا، الرقابة القضائية على اعمال الادارة، الدار المصرية للطباعة، الاسكندرية 1956، ص33.
3- لابد من الاشارة هنا الى ان مبدأ الفصل بين السلطات الذي جاء به منتسيكو لم يقل بوجود قضاء اداري مستقل الى جانب القضاء المدني للنظر في المنازعات الادارية، ولا يحتم نزع تلك المنازعات من اختصاص القضاء العادي. لان جوهر المبدأ كما قال به مونتسيكو يهدف الى عدم تركيز السلطة في الدول في هيئة واحدة حتى لاتطغى بما تمتلكه من السلطات. على ان يتم توزيع هذه السلطات على هيئات مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض لمنع التحكم والاستبداد (انظر ابراهيم الاصيفر، ابراهيم – مبدأ الفصل بين النظرية والتطبيق – مجلة ادارة قضايا الحكومة عدد 3 س24 سبتمبر 1980 ص34.
4- ينظر د. عبد الغني بسيوني – القضاء الاداري – مصدر سابق، ص76.
5- ينظر د. ماهر صالح علاوي الجبوري – العوامل المؤثرة في اجتهاد القاضي الاداري – مجلة الحولية العراقية للقانون العدد الاول سنة 2000 ص58.
6- ينظر جورج فوديل بيار دلفولفية – القانون الاداري الجزء الثاني – ترجمة منصور القاضي – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ط1 2001 ص66.
7- د. ماهر صالح علاوي الجبوري، المصدر السابق، ص59.
8- تفصيل ذلك عند البحث في سلطة القاضي الاداري الفرنسي في اثبات عيوب الالغاء في القرار الاداري.
9- ينظر د. محمود محمد حافظ – القضاء الاداري – دراسة مقارنة – ط5، 1972، ص40، د. مصطفى ابو زيد – القضاء الاداري ومجلس الدولة 1979، ص27 وما بعدها.
10- لابد من الاشارة الى ان مجلس الدولة الفرنسي بالرغم من استعادة ثقة الحكومة الادارية الا انه بقي وفياً لهذه النظرية واستمر في تطبيقها. الا انه عمل على تضييق نطاقها الى اقصى حد ممكن.
11- د. ماهر صالح علاوي الجبوري – مصدر سابق ص59.
12- المادة 7 البند خامساً من القانون رقم 106 لسنة 1989.
13- ينظر د. عصام عبد الوهاب البرزنجي – الرقابة القضائية على اعمال الادارة في العراق وافاق تطورها، مجلة العلوم القانونية والسياسية المجلد الرابع العددان الاول والثاني 1985 ص164 وما بعدها.
14- ينظر د. عصام عبد الوهاب البرزنجي – مجلس شورى الدولة، ميلاد القضاء الاداري العراقي – مجلة العلوم القانونية – المجلد التاسع العدد (1-2) 1990، ص152 وما بعدها.
15- قرار محكمة القضاء الاداري المرقم 48. قضاء اداري 1990 مشار اليه في بحث د. ماهر صالح علاوي، مصدر سابق ص72.
16- ينظر قرار الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة رقم 19- اداري تمييز 1990 مشار اليه في المصدر السابق ص72.
17- ينظر الفقرة ( أ ) من المادة 63 من الدستور العراقي لسنة 1970 الملغي. وقد نصت الفقرة أ من المادة 43 من قانون ادارة الدولة الموقت على ان (القضاء مستقل ولا يدار باي شكل من الاشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها وزارة العدل ويتمتع القضاة بالصلاحية التامة حصراً لتقرير براءة المتهم او ادانته وفقاً للقانون من دون تدخل السلطتين التشريعية او التنفيذية).
18- ينظر مجلد حقوق الانسان الخاص بالقضاة والمدعين العامين والمحامين، الامم المتحدة نيويورك وجنيف 2004، ص101.
19- ينظر د. محمود محمد حافظ، المصدر السابق ص48. د. ماهر صالح الجبوري، المصدر السابق ص67.
20- د. ماهر صالح علاوي الجبوري، المصدر السابق، ص68.
21- المادة 172 من الدستور المصري الصادر سنة 1970 .
22- المادة 93 من الدستور العراقي الصادر سنة 1964.
23- د. سليمان محمد الطماوي. مبادئ القانون الاداري –الكتاب الثاني- دار الفكر العربي 1973 ص175.
24- C.E 47 Aout 1909, (winkell) ((s)). 1909 –3- R. D. P. 145
اشار اليه د. محمد عبد الحميد ابو زيد، دوار سير المرافق العامة 1975 ص18
25- ينظر د. محمد فؤاد مهنا - الوجيز في القانون الاداري جامعة الاسكندرية ص151.
26- C. E. 6 Ferrier 1948. Societe Radio –Atantia ueet societe radio – club landaisc R. D. P.1948 P. 250.
27- د. محمد فؤاد مهنا، المصدر السابق، ص152.
28- ينظر د. سليمان محمد الطماوي، مصدر سابق ص177.
29- حكم مجلس الدولة الفرنسي في 7 اب 1909 سبق الاشارة اليه.
30- C. E 22 octobere, 1937 dlleminaire, CE 18, April, 1947, jarrigion (R.Dp. P 1950. No.3.P.
مشار اليه في مؤلف د. محمد عبد الحميد ابو زيد ، مصدر سابق ص22.
31- مشار اليه في المصدر السابق ص25 C. E 18 juill 1913.
32- ينظر المادة 364 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، والمادة 124 من قانون العقوبات المصري رقم 24 لسنة 1951.
33- ينظر د.سليمان الطماوي، المصدر السابق ص185.
34- Waline traite eleme de dr. aam, 1953 p. 91.
35- ينظر المادة 121 من قانون 19 اكتوبر سنة 1946 من قانون التوظيف الفرنسي والمادة 72 من القانون رقم 58 لسنة 1971 المصري، والمادة 35 من قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960 المعدل.
36- ينظر حكم مجلس الدولة الفرنسي الصادر في 16 اكتوبر سنة 1938 في قضية Bonny مشار لدى د. سليمان محمد الطماوي، مصدر سابق ص186.
37- ينظر حكم محكمة بني مزار الجزائية الاهلية في خمسة يناير 1926، مجلة المحاماة المصرية، السنة السادسة ص362 رقم 265 وقد أيدته محكمة النقض والابرام في 2 مارس 1926.
38- نصت المادة 110 من القانون رقم 210 لسنة 1951 المصري على ما يلي: ((للموظف ان يستقيل من الوظيفة وتكون الاستقالة مكتوبة وخالية من اي قيد او شرط ولاتنتهي خدمة الموظف الا بالقرار الصادر بقبول (الاستقالة..)) ينظر أيضاً المادة 72 من القانون رقم 58 لسنة 1971.
39- حكم محكمة القضاء الاداري الصادر في 3 يونيو سنة 1959 مجموعة المبادئ التي قررتها المحكمة في السنتين 12 و 13 ص209 ينظر ايضاً قرار المحكمة الادارية العليا الصادر في 1 ديسمبر 1963 مجموعة السنة الثامنة ص166.
40- ينظر د. ماهر صالح علاوي الجبوري، مصدر سابق، ص83.
41- حكم مجلس الدولة الفرنسي الصادر في 5 اذار 1948، في قضية Marion مجموعة ليبون ص113، اشار اليه جورج فوديل، مصدر سابق ص228.
42- حكم المحكمة الادارية العليا الصادرة في 29 نوفمبر سنة 1964، مجموعة المبادئ التي قررتها المحكمة في السنة العاشرة ص99.
43- ينظر د. مغاوري محمد شاهين، القرار التأديبي وضماناته ورقابته القضائية بين الفاعلية والضمان – مكتبة انجلو المصرية – 1986 ص19، د. مصطفى عفيفي السلطة التأديبية بين الفاعلية والضمان ، دراسة مقارنة 1982، ص494.
44- د. عمرو فؤاد بركات، السلطة التأديبية – القاهرة – 1979 ص376.
45- د. فهمي عزت، سلطة التأديب بين الادارة والقضاء – القاهرة – 1981 ص329.
46- حكم المحكمة الادارية العليا جلسة 11 نوفمبر 1961 القضية رقم 563 لسنة 7 قضائية، مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الادارية العليا، السنة السابعة ص27.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|