أقرأ أيضاً
التاريخ: 24/10/2022
1578
التاريخ: 29-9-2016
2508
التاريخ: 2024-12-15
82
التاريخ: 26-2-2021
2504
|
تنويه :
إن (طول الأمل) يُعد من أهم الرذائل الأخلاقية الّتي تجر الإنسان إلى ارتكاب أنواع الذنوب والخطايا وتبعده عن الله تعالى وتسلك به في خط الشيطان وبالتالي يترتب على ذلك الكثير من العواقب الوخيمة.
وبالطبع فإنّ أصل (الأمل) ليس فقط غير مذموم بل له دور مهم في إدامة حركة الحياة والتطور البشري في الأبعاد المادية والمعنوية.
إذا سُلب الأمل من قلب (الامّ) فإنّها لا تجد دافعاً لإرضاع طفلها وتحمل أنواع المشقة والألم بتربيته وتنشئته كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف «الْامَلُ رَحْمَةٌ لِامَّتِي وَلَوْلَا الْامَلُ مَا رَضِعَتْ وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَلَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرَهَا» ([1]).
إن من يعلم مثلاً بأن هذا اليوم هو آخر يوم من حياته أو أنّه سيموت بعد أيّام قليلة ويغادر الدنيا فإنه سيترك جميع ما في يده من أعمال ونشاطات في دائرة المعيشة والعلاقات الإجتماعية ، وفي الحقيقة فإنّ ذلك يعني انطفاء شعلة الحياة ولعلّ أحد الأسباب لخفاء الأجل هو أن يبقى الإنسان في حالة الأمل والرجاء ويعيش الحركة الطبيعية في امور المعيشة.
كما نقرأ هذا المعنى في ما ورد عن المسيح (عليه السلام) (انه كان جالساً يوماً في مكان وشاهد شيخاً كبيراً يحرث الأرض بمسحاته ويعمل على سقي الأرض وزراعتها ، فطلب المسيح (عليه السلام) من الله تعالى أن يسلب منه الأمل في الحياة : اللهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة فقال عيسى اللهم أردد إليه الأمل فقام وجعل يعمل فسأله عيسى عن ذلك فقال بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير فألقيت المسحاة واضطجعت ثمّ قالت لي نفسي والله لا بدّ لك من عيشٍ ما بقيت فقمت إلى مسحاتي ([2]).
ولهذا السبب فإنّ الأمل ضروريٌ في ايجاد التحرّك أكثر لدى أفراد المجتمع من موقع النظر إلى المستقبل في حركة الحياة.
ولكنّ نفس هذا الأمل الّذي يُعدّ رمز حركة الإنسان وسعيه في حياته الدنيوية والماء الّذي يسقي أرض حياته الميّتة ويُنعش احساساته وعواطفه بغدٍ أفضل ، نفس هذا الأمل إذا تجاوز عن حدّه المرسوم أصبح على شكل سيل مدمّر يأتي على الأخضر واليابس ويُغرق الإنسان في وحل حبّ الدنيا والظلم والجريمة والإثم.
ولهذا نجد أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يرى في (طول الأمل) أحد العدوّين الشرسين للإنسان ويقول : «إنّ أشد ما أخاف عليكم خِصْلَتَانٌ اتِّبَاعُ الْهَوى وَطُولُ الْامَلِ ، فَأمَّا اتِّبَاعُ الْهَوى فَانَّهُ يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ ، امَّا طُولُ الْامَلِ فَانَّهُ يُحبب الدُّنْيَا» ([3]).
وشبيه هذا المعنى بتفاوت يسير ورد أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة.
وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها نتيجة طول الأمل وأثره في مصير الأقوام السالفة والمجتمعات البشرية بشكل عام :
1 ـ (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ([4]).
2 ـ (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)([5]).
3 ـ (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)([6]).
4 ـ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)([7])
5 ـ (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)([8]).
6 ـ (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى* فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى)([9]).
7 ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)([10]).
8 ـ (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ)([11]).
تفسير واستنتاج :
منابع طول الأمل
«الآية الاولى والثانية» تتحدّثان عن قوم عادٍ وثمود حيث بعث الله لهم (هود) و (صالح) وكانوا يعيشون الوضع الاقتصادي المزدهر في زراعتهم وصناعتهم وبالتالي تسبب ذلك في تعلّقهم الشديد بالدنيا وعاشوا طول الأمل فيها ممّا أورثهم ذلك الغرور والكبر والفخر إلى درجة أنّهم ليس فقط لم يهتمّوا لدعوة أنبيائهم هود وصالح ، بل إنّهم تصدوا لهم بالمخالفة والعدوان.
القرآن الكريم يذكر في الآيات الاولى على لسان النبي صالح (عليه السلام) مخاطباً لقومه (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)([12]).
وفي «الآية الثانية» يستعرض القرآن حالة قوم (عاد) والّذي سبقت الإشارة إليها في الآية السابقة في الحديث عن قوم ثمود.
وتتحّدث الآية الكريمة على لسان النبي هود (عليه السلام) مخاطباً قومه (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)([13]).
وهنا أراد هو بهذا الكلام أن يُفهم قومه أنّ أحد العلل المهمّة لإنحرافهم عن جادة الصواب وسلوكهم في خطّ الباطل هو اتباعهم للأهواء واعتمادهم على الآمال العريضة والطويلة والّتي أدّت بهم إلى الغفلة عن الله تعالى والفرق في زخارف الدنيا والابتلاء بزبارجها.
(مصانع) جمع مصنع ، بمعنى البناء العظيم والقصر الشامخ والمستحكم ، والأصل لهذه المفردة هي مادّة (صَنَعَ) والّتي تأتي بمعنى أداء العمل الحسن ، وعليه فإنّ (صنع) لا يقال لكلّ عمل ، بل يُطلق على الأعمال الّتي لها امتياز خاص.
إن قوم عاد وثمود تصوّروا بأنّهم وبسبب هذه الأبنية القوية والمجلّلة والقصور الفخمة الّتي أوجدوها في قلب الجبال أنّهم بإمكانهم أن يصونوا أنفسهم من الآفات والحوادث الطبيعية ويخلدوا فيها لسنوات متمادية بعيداً عن كلّ اشكال الشقاء والبؤس.
ونفس هذا المعنى ورد عن قوم ثمود في آيات اخرى أيضاً حيث نقرأ على لسان صالح (عليه السلام) قوله (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ* وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ)([14]).
ولا شكّ أنّ الغرور والغفلة الّتي حصلت لهم من طول الأمل لا تنحصر بقوم عاد وثمود ، ولكن القرآن الكريم يذكر هذه الصفة والحالة النفسية لهؤلاء القوم كصفة بارزة من صفاتهم الأخلاقية.
«الآية الثالثة» تتحدّث عن جدال المؤمنين والمنافقين يوم القيامة حيث يجد المنافقون أنفسهم يعيشون في ظلمة المحشر في حين أنّ المؤمنين يتحركون نحو الجنّة بنور الإيمان ، وهنا يطلب المنافقون من المؤمنين أن يستفيدوا من نورهم وينتفعوا من ضياءهم ، ولكنه يُقام حاجز بينهما يحجب كلّ طائفة عن الاخرى.
وهنا يصرخ المنافقون (... أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ...) ([15]) إذن فلما ذا أنفصلتم عنّا؟
فيجيب المؤمنون (... قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ ...)([16]).
وعليه فالآية أعلاه تبين أربع عوامل لشقاء المنافقين ، والرابع منها طول الأمل والاغترار بالأماني الطويلة والعريضة.
(اماني) جمع (أمنية) ، وهي من مادّة (مَنى) على وزن (مَغز) وهي في الأصل بمعنى المقياس والميزان ، لأن الإنسان في عالم الخيال وأحلام اليقظة يقيس الامور لنفسه وما يترتب عليها من معطيات ، ولهذا السبب يُقال للخيالات الباطلة والكلام الزائف والآمال العريضة (امنية) وجمعها(أماني).
وورد في تفسير منهج الصادقين وتفسير القرطبي في ذيل هذه الآية حديثاً عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأنّ رسول الله كان أحد الأيّام يعظ أصحابه فرسم لهم خطوط متوازية على الأرض ثمّ خطّ لهم خطاً عمودياً ثمّ قال : أتعلمون ما معنى هذه الخطوط؟ فقالوا : لا يا رسول الله! فقال : هذه الخطوط هي من قبيل الآمال والتمنيات للناس (والّتي لا حدّ لها ولا حصر) وامّا ذلك الخط العمودي فهو الموت ونهاية الحياة الدنيا الّذي خُطّ على بني آدم جميعاً والّذي سوف يُبطل جميع هذه الآمال والتمنيات.
ونفس هذا المعنى مع تفاوت يسير نقله (ابن مسعود) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال : «خطّ لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطاً مربعاً ، وخطّ وسطه خطاً وجعله خارجاً منه ، وخطّ عن يمينه ويساره خطوطاً صغاراً ، فقال : هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله ، وهذه الخطوط الصغار الأعراض ، فإنّ اخطأه هذا نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» ([17]).
«الآية الرابعة» تخاطب المؤمنين بصورة غير مباشرة وتحذرهم بأن يكونوا على وعيٍ كامل بوضعهم وحالهم لكي لا تأخذهم الآمال والتمنيات وتُفضي بهم إلى المصير المؤلم للأقوام السالفة وتقول (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)([18]).
والمفهوم من هذه الآية انّ ما يبعث على لين قلب الإنسان وانعطافه وتوجهه إلى الحقّ وتحرّكه في خطّ الإيمان والانفتاح على الله هو ذكر الله تعالى ، أجل فإنّ ذكر الله من شأنه أن يُزيل جميع الآمال الطويلة والعريضة ويجعل الإنسان ملتفتاً إلى مسؤولياته وواقعه ويُجلي قلب الإنسان ويضيئه ، ويتسبّب في أن يتحرّك الإنسان في تصوراته وتفكيره من رؤية الواقع وحقيقة الحياة الدنيا فيرى عدم ثباتها وعدم استقرارها جلياً أمام ناظريه.
«الآية الخامسة» تخاطب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مشيرةً إلى الكفّار والمشركين وتقول (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)([19]).
أجل أنّ هؤلاء مثلهم كمثل الدواب والأنعام لا يفهمون من الحياة الدنيا سوى المأكل والمشرب والتمتع بإشباع الشهوات البدنية ، وعليه فهم أضل من الأنعام واسوأ حالاً بسبب أنّهم يعيشون طول الأمل في حياتهم وأفكارهم بحيث إن طول الأمل هذا يمنعهم من التفكير بمستقبلهم وما ينتظرهم في الغد حتى ينشب الموت مخالبه في أرواحهم.
وهنا نجد أنّ الآية توضح الأثر السلبي للآمال الطويلة على حياة الإنسان وتبين إلى أيّة درجة تجعل هذه الآمال الإنسان مشغولاً بنفسه ودنياه وغافلاً عن الله تعالى.
وجملة (ذرهم) تبين بوضوح انه لا أمل في هداية هؤلاء وإلّا فإنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في الأصل مأمورٌ بهداية جميع الناس فلا معنى لأن يتركهم مع احتمال الهداية فيهم.
وكيف يصحّ توقّع الهداية من طائفة من الناس في حين أنّ هدفها النهائي في حركة الحياة هو الأكل والشرب والنوم والحياة في الدنيا كما تعيش الحيوانات ، لأن هذه الآمال الطويلة لا تدعهم يفكرون لحظة في نهاية هذه الحياة وخالقها والواهب لكلّ هذه المواهب في عالم الوجود وما هي الغاية من هذا الخلق العظيم؟
«الآية السادسة» من الآيات مورد البحث والتي تشير إلى هذه الحقيقة ، وهي انّ الآمال الطويلة الّتي لا يحصل عليها الإنسان غالباً تحيط بالإنسان وتؤسر جميع امكاناته وقابلياته وتحجزه عن سلوك طريق السعادة وبالتالي ستمنعه من سلوك طريق الكمال المعنوي والإنساني وتقول : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى)([20]).
وهذا الاستفهام في الحقيقة هو نوع من الاستفهام الإنكاري ، فكيف يمكن أن يعيش الإنسان كلّ هذه الآمال والتمنيات وينالها ويصل إلى مقاصده في حين أنّ طول هذه الآمال يستغرق أحياناً عشرات أو مئات الأضعاف من عمر الإنسان الطبيعي ، وأحياناً تقع هذه التمنيات في خطّ اللانهاية بحيث كلّما وصل الإنسان في حركة الحياة إلى مقدار معيّن منها تجلّت له آمال اخرَى تدعوه إلى مواصلة الحركة.
ويجب الانتباه إلى أنّ هذه الآية وردت بعد آيات تشير إلى اصنام المشركين الّذين كانوا يعيشون الأمل بشفاعتها والقرب من الله تعالى بواسطتها ، فالقرآن يقول : إنّ هذا الأمل لا يتحقّق إطلاقاً ، ولكن مع ذلك فإنّ مفهوم الآية عام ، وكما في الإصطلاح أنّ المورد لا يخصّص الوارد.
«الآية السابعة» تتحدّث عن أهل الدنيا الّذين يعيشون الآمال الطويلة والتمنيات العريضة وتقول : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ ([21])* يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)([22]).
وفي الواقع أنّ هذه الآيات الثلاثة بمثابة العلّة والمعلول ، لأن الإنسان الأناني والانتهازي سوف يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الإستهزاء بسبب الثروة الكبيرة والمال الكثير عنده والّذي جَمَعه بطرق غير مشروعة ، لأنه جَمَع مثل هذه الثروة بدافع من تصوّره أنّ هذه الثروة من شأنها أن تكتب له الخلود في هذه الحياة ، فهذا التصوّر المصحوب ب (طول الأمل) وكثرة التمنيات الدنيوية تسبب لهذا الشخص الغرور والاستعلاء والعجب ، وهذا بدوره يتسبب في أن يتحرّك مع الآخرين من موقع الإستهزاء والسخرية ([23]).
ويُستفاد جيداً من هذه الآية أنّ الآمال والتمنيات الطويلة والعريضة تارةً تصل إلى حدّ ينسى الإنسان معها الموت تماماً ويتصوّر انه مخلّد أبد الدهر ، وهذا الأمر يؤدي به إلى الطغيان ويقوّي فيه حالة الإستكبار والفوقية وبالتالي تورثه هذه الحالة الوقوع في الكثير من الذنوب الاخرى.
«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث : تتحدّث عن طائفة من الأشخاص الّذين عرفوا الحقّ من موقع الوعي ولكنهم أداروا ظهورهم له وأعرضوا عنه بعد ذلك وتقول : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ)([24]).
(أَمْلى لَهُمْ) من مادّة إملاء ، بمعنى ظهور الآمال البعيدة والطويلة الّتي تشغل الإنسان بنفسه.
وهذه الآية في الحقيقة ناظرة إلى هذا المعنى وهو انه كيف يمكن أن يكون الإنسان عارفاً للحقّ ومصدّقاً به في البداية ثمّ يتجاهل هذه العقيدة ويعرض عنها ويوصد أبواب النجاة أمامه ويسلك في خطّ الإنحراف والزيغ.
هل يمكن للإنسان العاقل أن يسلك هذا المسلك؟
أجل فعند ما تحيط الوساوس الشيطانية بالإنسان وتصوّر له القبائح حسنات وتوقعه في منزلقات الآمال والتمنيات الطويلة فلا يبعد أن ينسى ما كان عليه من الحقّ ويعرض عنه بسبب ذلك.
ومن هنا يمكن إدراك البلاء العظيم الّذي تنزله الآمال الطويلة على الإنسان وكيف أنّ الإنسان العاقل يفقد عقله معها تماماً ويصبح غريباً عن ذاته ويترك عقله لمجموعة من الأوهام والخيالات الّتي تقوده في خط الباطل وتبتعد به عن الله تعالى.
ومن مجموع الآيات المذكورة آنفاً والّتي تحدّثت عن مصير بعض الأقوام الماضين وبعض المعاصرين لعصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وبعض الآيات تحدّثت بشكل قانون عام يمكن استخلاص هذه النتيجة ، وهي انّ طول الأمل وكثرة التمنيات تُعدّ من أخطر أعداء الإنسان في صياغة حياته السعيدة ، وبإمكانها أن توقع أفراد البشر بل المجتمعات البشرية في هوّة السقوط والاندثار والشقاء.
طول الأمل في الروايات الإسلامية :
بما أنّ طول الأمل له تأثير مخرب جداً على حياة الإنسان المعنوية والأخلاقية وحتّى الدنيوية والمادية أيضاً ، فإنّ الروايات الإسلامية قد ذمت هذه الخصلة بتعبيرات مختلفة ، وأشارت إلى أسباب منطقية لذلك ، وعلى سبيل المثال نشير إلى نماذج من هذه الروايات :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قوله : «ارْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ الْامَلِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا» ([25]).
2 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «مَنْ اطَالَ امَلَهُ سَاءَ عَمَلُهُ» ([26]).
وهذا المعنى ورد بصورة أوضح في حديث آخر عن هذا الإمام (عليه السلام) أنّه قال «اطْوَلَ النَّاسِ امَلاً اسْوَؤُهُمْ عَمَلاً» ([27]).
3 ـ وورد في نهج البلاغة في الخطبة 147 تعبيراً عميقاً في هذا المجال قال : «انَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ الْمَوْعُودُ الّذي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ».
4 ـ وفي حديث آخر عن فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) عن أبيها الإمام الحسين (عليه السلام) عن جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : «انَّ صَلَاحَ اوَّلِ هَذِهِ الْامَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ وَهَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ (بِالشَّكِّ) وَالْامَلِ» ([28]).
وبديهي أنّ من العوامل المهمة لانتصار المسلمين في صدر الإسلام هو الإيمان واليقين الراسخ بالإضافة إلى عدم اهتمامهم بزخارف الدنيا وبريقها ، حيث تسبب ذلك في أن يرد المسلمون الأوائل إلى ميدان القتال والجهاد بشجاعة فائقة وشوق بالغ فلم يكونوا يرون إلّا الله تعالى ولا يتحركون إلّا في خط الطاعة والتقوى ولا يديرون ظهورهم إلى الأعداء من موقع الهزيمة والتخاذل.
ولكن عند ما امتدت إليهم الآمال الطويلة وملكتهم العلائق الدنيوية وخدعتهم ظواهر الدنيا حلّ الشك والترديد محلّ اليقين ، والشغف بأُمور الدنيا محلّ الزهد ، وبدءوا يتراجعون أمام أعدائهم ويسلكون سبيل التخلف والانحطاط الحضاري والثقافي ، فلا سبيل لهم اليوم لتجديد عظمتهم الاولى سوى احياء تيْنَك الأصلين الرئيسيّين.
5 ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «الْامَلُ سُلْطَانُ الشَّيَاطِينِ عَلَى قُلُوبِ الْغَافِلِينَ» ([29]).
6 ـ وجاء في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً انه وصف مثل هؤلاء الأشخاص بعنوان شرّ الناس وقال : «شَرُّ النَّاسِ الطَّوِيلُ الْامَلِ ، السَّيّىءُ الْعَمَلِ» ([30]).
وكذلك ورد في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً قوله : «انَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى امَلِهِ فَيَقْطَعُهُ حُضُورُ اجَلِهِ ، فَسُبْحَانَ اللهِ لَا امَلٌ يُدْرَكُ وَلَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ» ([31]).
7 ـ وفي حديث شريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «اشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى» ([32]).
لأن التمنيات الطويلة والعريضة تتسبّب في أن يعيش الإنسان الحاجة والفقر في نفسه دائماً ويمدّ يده في سبيل إشباع هذه الحاجة إلى أيّ شخص وبذلك يحقق شخصيته ويسحق حيثيّته الإنسانية من أجل هدف لن يصل إليه أبداً.
8 ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله : «كَذَّبَ مَنِ ادَّعَى الْايمَانَ وَهُوَ مَشْغُوفٌ مِنَ الدُّنْيَا بِخِدَعِ الْامَانِيِّ وَزُورِ الْمَلَاهِيِّ» ([33]).
ومن الواضح أنّ المتعلق بالدنيا والمشغوف بزخارفها وملذاتها فإنه ومن أجل الوصول إلى كلّ شيء منها لا بدّ له أن ينسى كلّ شيء يشدّه إلى الحقيقة والواقع ومن ذلك سوف يُصاب الإيمان بالإهتزاز والضعف.
9 ـ وكذلك ورد عن هذا الإمام في حديث قصير ومليء بالمعنى أنّه قال : «الْامَانِيُّ تُعْمَى عُيُونَ الْبَصَائِرِ» ([34]).
10 ـ وورد في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال يوماً لأصحابه «أَكُلُّكُمْ يُحِبُّ انْ يَدْخُلَ الجَنّةَ؟».
«قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ»
قال : «قَصِّرُوا مِنَ الْامَلِ وَاجْعَلُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ ابْصَارِكُمْ وَاسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» ([35]).
11 ـ وأيضاً نقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «انَّ الْامَلَ يُذْهِبُ الْعَقْلَ ، وَيُكَذِّبُ الْوَعْدَ ، وَيَحِثُّ عَلَى الْغَفْلَةِ وَيُورِثُ الْحَسْرَةَ» ([36]).
12 ـ ونختم هذا البحث برواية اخرى عن رسول الله بعنوان (مسك الختام) ، فقد ورد في هذا الحديث أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أخذ ثلاثة أعواد فغرس عوداً بين يديه والآخر إلى جانبه وأما الثالث فأبعده وقال : هلا تدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «هَذَا الْانْسَانُ! وَهَذَا الْاجَلُ! وَهَذَا الْامَلُ يَتَعَاطَاهُ ابْنُ آدَمَ وَيَخْتَلِجَهُ الْاجَلُ دُونَ الْامَلُ!» ([37]).
الأحاديث الشريفة أعلاه والّتي هي غيض من فيض الروايات المذكورة في المصادر الإسلامية في باب طول الأمل تبين بوضوح سعة دائرة الخطر وعمق الفاجعة المترتبة على هذه الرذيلة الأخلاقية ، وتؤكد على أنّ الآمال الطويلة والتمنيات العريضة تُعد من أشد أعداء سعادة الإنسان والمانع القوي أمام حركته في خط القرب الإلهي والإيمان والانفتاح على الله.
الآثار السلبية لطول الأمل :
إن للآمال والتمنيات الواسعة آثار مخربة كثيرة في حياة الإنسان المعنوية والمادية والّتي اشارت إليها الروايات المذكورة آنفاً ، وكذلك ما ورد في الآيات القرآنية المذكورة في صدر البحث ، وبشكل عام يمكن القول : أنّ طول الأمل يترتب عليه آثار مخرّبة ونتائج مدمّرة كالتالي :
1 ـ طول الأمل مصدر الكثير من الذنوب
إن أحد أسوأ الآثار السلبية لطول الأمل والتمنيات العريضة هي أنّها تدعو الإنسان للتورط بأنواع الذنوب لأن الحصول على متعلقات هذه الآمال والتمنيات لا تتسنّى عادة إلّا بطرق غير مشروعة ، وعليه فإنّ من يعيش هذه الرذيلة الأخلاقية يجد نفسه مضطراً إلى الغض عن الكثير من مسائل الحلال والحرام في سبيل تحقيق أمنياته وأن لا يُراعي في ذلك حقوق الآخرين ولا ممنوعات الشريعة المقدسة ، فيتحرك من موقع غصب حقوق الناس ، أكل أموال اليتامى ، التطفيف في الميزان ، أكل الربا ، الرشوة وأمثال ذلك.
ولهذا السبب فقد ورد في الحديث المعروف في (غرر الحكم) «مَنْ طَالَ امَلُهُ سَاءَ عَمَلُهُ» ([38]).
وورد أيضاً «اطْوَلَ النَّاسِ امَلاً اسْوَؤُهُمْ عَمَلاً» ([39]).
وجاء في النقطة المقابلة لذلك : «مَنْ قَصَّرَ امَلُهُ حَسُنَ عَمَلُهُ» ([40]).
وكلّ من هذه الأحاديث الثلاثة وردت عن مولانا أمير المؤمنين الّذي نفديه بأنفسنا ونفدي كلامه النوراني البنّاء.
2 ـ طول الأمل وقساوة القلب
وكما رأينا في الآيات القرآنية المذكورة في بداية البحث انها تتحدّث عن أحد الأقوام الماضية وتقول : «فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم».
والسبب في ذلك واضح ، لأن طول الأمل يورث الإنسان الغفلة عن الله تعالى ويقوي فيه عنصر الحرص ويُبعده عن الآخرة ، وكلّ هذه من الأسباب المهمة لقساوة القلب.
ولهذا السبب ورد في الحديث الشريف أنّ الله تعالى خاطب موسى وقال : «يَا مُوسَى لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا امَلَكَ فَيَقْسُوا قَلْبَكَ ، وَالْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ» ([41]).
ونفس هذا المعنى ورد في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال : «مَنْ يَأْمُلُ انْ يَعِيشَ ابَداً يَقْسُو قَلْبُهُ وَيَرْغَبُ فِي الدُّنْيَا» ([42]).
3 ـ طول الأمل ونسيان الأجل
وهذا الأثر السلبي لا يحتاج إلى مزيد شرح وبسط ، ويمكن فهمه بوضوح على مستوى الأشخاص الّذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية حيث لا تجدهم يذكرون الموت أبداً ويفكرون بالآخرة بل يعيشون الغفلة التامّة عن هذه الامور المصيرية.
وقد جاء في الحديث المعروف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) القول : «طُولُ الْامَلِ يُنْسِي الْاخِرَةِ» ([43]).
«اكْثَرُ النَّاسِ امَلاً اقَلُّهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً» ([44]).
4 ـ طول الأمل والعُسر في الحياة
ومن البديهي انه كلّما امتدت آمال الإنسان وقويت جذورها في واقع النفس فإنّها تتطلّب موارد ومقدّمات أكثر ، وكذلك تدعو صاحبها للإقتصاد أكثر في الأموال والثروات لغرض التوصل إلى تحقيق تلك الآمال والتمنيات ، ونتيجة هذين الأمرين هي أن يعيش الإنسان في ضنكٍ من العيش وتعب من زحمة العمل وصعوبة المشكلات الّتي يواجهها هو وعائلته حيث يجد نفسه مضطراً إلى العمل ليل نهار وبدون توقف. وفي ذلك وردت أحاديث عن أمير المؤمنين تقول : «مَنْ كَثُرَ مُنَاهُ كَثُرَ عَنَائُهُ».
وقال أيضاً : «مَنِ اسْتَعَانَ بِالْامَانِيِّ افْلَسَ». (حتّى لو عاش حياة الأغنياء في كثرة المال والثروة).
وقال أيضاً : «الرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ» ([45]).
5 ـ طول الأمل والذلّة في الحياة
إنّ الأشخاص الّذين يعيشون الآمال الطويلة مضافاً إلى كدحهم وتعبهم الدائم فإنّهم يعيشون في شخصيّتهم الإنسانية الشعور بالذلّة والحقارة حيث يضطرون إلى سحق حيثيّتهم لغرض التوصل إلى هدفهم الموهوم والخيالي ويذعنون ويخضعون أمام كلّ أحد ويمدّوا أيديهم لأيّ شخص كما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ذُلُّ الرِّجَالِ فِي خَيْبَةِ الْامَالِ» ([46]).
6 ـ الحرمان من النعم والمواهب
وكما تقدّمت الإشارة إليه في الأشخاص المتورطون في دوّامة الأمل ومستنقع التمنيات فإنّهم يجدون أنفسهم مضطرون إلى الاقتصاد والتقتير على أنفسهم في الحياة وعدم الإستفادة من المواهب الكثيرة والنعم الوفيرة الّتي لديهم كلّ ذلك من أجل تحقيق تلك الآمال البعيدة ، ولهذا السبب فإنّهم يقترون ويقتصدون في كلّ شيء حتّى على أنفسهم وعائلتهم ، وهذا هو البخل أو الشح الّذي يحرم الإنسان من النعم والمواهب الإلهية في عين تملكه للإمكانات والثروات الوفيرة فيعيش عيشة الفقراء وهو غني.
وقد نرى في زماننا هذا بعض الأشخاص الّذين يبتلون بطول الأمل ويتحركون في سبيل تأمين حياتهم وأبناءهم تحت عنوان (التأمين على الحياة) ويُحرموا بذلك أنفسهم وأبناءهم من المواهب والنعم الإلهية الكثيرة!!
7 ـ طول الأمل وعدم إدراك الحقائق
إنّ الآمال والتمنيات البعيدة حالها حال السراب الّذي يخدع الضمآن في الصحراء المحرقة ويجرّه إليه ليعيش الضمأ والعطش أكثر دون أن يصل إلى مقصوده ، فهذه الآمال والتمنيات تُظهر الامور الواقعية بأقنعة مزيّفة ولذلك لا يُدرك الإنسان أين يذهب وإلى أين يتجّه؟ وما هي وظيفته في قِبال الامور المصيرية؟
ومن ذلك ورد في الحديث الشريف الّذي سبقت الإشارة إليه ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله «الْامَانِيُّ تُعْمِي عُيُونَ الْبَصَائِرِ» ([47]).
وخلاصة الكلام انّ الشخص الّذي يمكنه إدراك وجه الحقيقة الجميل كما هو عليه هو الشخص الّذي لا يغطي عقله بحجاب الآمال والتمنيات ولا يعيش وسط السُحُب المظلمة والمظلّة لطول الأمل.
8 ـ طول الأمل وكفران النعمة
ومن البديهي أنّ طول الأمل يقود الإنسان لأن يتعلق قلبه بما لا يحصل عليه أبداً ولهذا فإنه يرى نعمة الله عليه قليلة ومواهبه حقيرة فلا يتعامل مع ما لديه من هذه المواهب العظيمة من موقع الإهتمام والعناية وهذا هو عين كفران النعمة ممّا يترتب عليه عواقب سيّئة في الدنيا والآخرة.
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «تَجَنَّبُوا الْمُنَى فَانَّهَا تُذْهِبُ بِبَهْجَةِ نِعَمِ اللهِ عِنْدَكُمْ ، وَتُلْزِمُ اسْتِصْغَارَهَا لَدَيْكُمْ ، وَعَلَى قِلَّةِ الشُّكْرِ مِنْكُمْ» ([48]).
دوافع طول الأمل وأسبابه :
إن العمدة في دوافع طول الأمل هو الجهل وعدم الإطلاع على حال الدنيا وما فيها من التغيرات والابتلاءات وعناصر التضاد في حركة الحياة ، وكذلك الجهل بقدرة الله ولطفه وثوابه العظيم في الآخرة ، فمجموع هذه الجهالات تدفع الإنسان إلى منزلقات طول الأمل والتمنيات العريضة.
وتوضيح ذلك : إن الإنسان وبسبب جهله بنفسه وعدم الإلتفات إلى هذه الحقيقة وهي أنّه قد يحين أجله في كلّ لحظة ويرحل عن هذه الدنيا ، فقد تعترض جلطة من الدم في شرايين قلبه أو دماغه فيُصاب بالسكتة القلبية أو الدماغية أو يُصاب بزلزلة أو حريق أو حادثة سيارة وأمثال ذلك ممّا يُنهي حياته الدنيوية ، نعم وبسبب جهله بهذه الامور فإنه يتورط في شراك الآمال والتمنيات البعيدة ويحسب أنّ عمره طويلٌ جداً ثمّ يحيط نفسه بطائفه من التصورات الواهية والآمال البعيدة الّتي لا تسمح له أن يفكر بالواقع وبالحقائق المحيطة حوله في واقع الحياة.
وهكذا بالنسبة إلى جهله بحال الدنيا وعدم وفائها لا بالصغير ولا بالكبير ، ولا بالشاب ولا بالشيخ ، فنرى أحياناً أنّ مئات الصبيان يموتون قبل أن يموت شيخ واحد ، واخرى قبل أن يموت المريض بالسرطان يموت عشرات الأشخاص السالمين. وأحياناً تجر السلاطين إلى أن يعيشوا الذلّة والمهانة ويستبدلوا عروشهم وقصورهم بزنزانات السجن ، وقد يصبح الثري الغارق في النعمة بين عشية وضحاها فقيراً معدِماً لا يجد عشاء يومه ، أجل فالجهل بهذه الامور من شأنه أن يوقع الإنسان في دوامة طول الأمل.
وهنا يقول سلمان الفارسي التلميذ الكبير لمدرسة الوحي : «ثَلَاثٌ اعْجَبَتْنِي حَتَّى اضْحَكَتْنِي : مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلِبُهُ ، وَغَافِلٌ لَيْسَ بَمَغْفُولٍ عَنْهُ ، وَضَاحِكٌ بمل فِيهِ لَا يَدْرِي أَسَاخِطٌ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ امْ رَاضٍ عَنْهُ» ([49]).
وفي الروايات الإسلامية اشارات واضحة على هذا المعنى حيث يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «مَنْ ايْقَنَ انَّهُ يُفَارِقُ الْاحْبَابَ وَيَسْكُنُ التُّرَابَ وَيُوَاجِهُ الْحِسَابَ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا خَلَّفَ ، ويَفْتَقِرُ الَى مَا قَدَّمَ كَانَ حَرِيّاً بِقَصْرِ الْامَلِ وَطُولِ الْعَمَلِ» ([50]).
وجاء في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً : «اتَّقُوا خِدَاعَ الْآمَالِ ، فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلِ يَوْمٍ لَمْ يُدْرِكْهُ ، وَبَانِي بَنَاءٍ لَمْ يَسْكُنْهُ ، وَجَامِعِ مَالٍ لَمْ يَأْكُلْهُ» ([51]).
وأحياناً يكون الجهل بالآخرة والثواب العظيم الخالد الّذي أعدّه الله للمؤمنين سبباً في أن يتصور الإنسان الخلود لهذه الحياة الدنيا ويغرق في الأوهام والتمنيات والآمال الدنيوية وأحياناً يتسبب جهله بالسعادة الكامنة في الزهد والتحرر من أسر الشهوات والنوازع الدنيوية إلى أن يُحرق نفسه بنار طول الأمل.
وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله : «اسْتَجْلِبْ حَلَاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقَصْرِ الْامَلِ» ([52]).
وأحياناً يغفل الإنسان عن قدرة الله تعالى وينسى هذه الحقيقة الحاسمة في واقع الحياة أو يكون جاهلاً بها ولا يعلم أنّ الله تعالى ومنذ انعقاد نطفته في رحم امّه فإنه بعين الله ومحطُّ عنايته ورعايته في كلّ اموره في حين انه كان يعيش الضعف بمنتهاه ولا تصل إليه يد أحد من الناس لتُعينه وتوصل إليه رزقه في ظلمات الرحم ، وتستمر عناية الله به إلى آخر حياته ، وكذلك حال أولاده إذا كانوا يسيرون في خط الإيمان والصلاح فإنّ الله تعالى لا يتركهم لوحدهم ، وإن كانوا من أعداء الله فلا مسوّغ لأن يتعب الإنسان نفسه في سبيلهم وخدمتهم.
أجل فإنّ الجهل بهذه الامور يؤدي بالإنسان إلى أن يُسجّل اسمه في دائرة (التأمين على الحياة له ولأبنائه) وهكذا يتورط بمصيدة طول الأمل.
إن جميع حالات الجهل هذه (جهل الإنسان بنفسه ، جهله بالدنيا ، جهله بقدرة الله تعالى، جهله بالآخرة ونعيمها الخالد) يتسبب في أن يعيش الإنسان الحيرة والضياع في صحراء الحياة المحرقة أسير الآمال والتمنيات العريضة.
علاج طول الأمل :
لا بدّ في علاج الأمراض من التوجّه إلى الجذور وقلعها من الأساس ليتسنّى للإنسان التخلص من المرض بشكل حاسم ، كما لم يقطع جذور المرض فإنّ العلاج السطحي والظاهري سوف لا ينفعه على المدى الطويل ، وبعبارة اخرى : انه حالة من حالات التسكين للمرض لا علاجه.
وبالنظر إلى هذا الأصل الأساس ومع الإلتفات إلى جذور الآمال والتمنيات في واقع الإنسان يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة ، وهي أنّه لا بدّ من التفكّر والتأمل بجدّية في جذور هذا المرض الأخلاقي.
فمن جهة يجب على الإنسان أن يعلم بأنه كائن مُعرّض للتلف والموت وأنّ الفاصلة بينه وبين الموت قليلة جدّاً ، فهذا اليوم يعيش السلامة والصحّة والنشاط ولكن قد نجده غداً وهو متورط بأنواع الأمراض الصعبة أو المصائب المحزنة، واليوم هو قوي وغني ومتمكن، وغداً يمكن أن يبدو ضعيفاً ومن أفقر الناس، والنماذج على ذلك كثيرة في صفحات تاريخ البشرية.
ومن جهة اخرى يجب أن يتفكر في إهتزاز الدنيا وتغيّرها الدائم وعدم اعتبارها.
أجل فإنّها لا تثبت لأحدٍ من الناس إطلاقاً.
ومن جهة ثالثة عليه أن يتدبّر ويتأمل بهذه الحقيقة ، وهي اننا نعتقد بالمعاد واليوم الآخر والحساب الإلهي في عرصات المحشر والثواب والعقاب على الأعمال والأفعال في الدنيا وأنّ هذا العالم ما هو إلّا قنطرة وجسر يعبر عليه الإنسان إلى تلك الحياة الخالدة فعليه أن يتزوّد من هذه الحياة ولا يتصور أنّها حياة خالدة وانها هي الأصل والهدف من الخلقة.
وكذلك يتفكّر في أنّ الحرص على جمع الأموال والثروات واكتنازها لغرض تحقيق تلك الآمال والتمنيات الواسعة في الحياة الدنيا لا يجلب له السعادة أبداً ، بل سيزيده شقاءاً ومحنةً أيضاً ، ويتفكّر أيضاً في أنّ أهم حالات الهدوء والطمأنينة هي هدوء الروح وسعادة الوجدان الّتي لم يحصل عليها الإنسان ، إلّا إذا سار في خطّ التقوى والتوكل على الله من موقع الإيمان به ومعرفة حال الدنيا لا من موقع الحرص والولع في تحصيل نعيمها الفاني وإمكاناتها المادية.
وأنّ أفضل الطرق للوصول لهذا الهدف هو ما ورد في الحديث النبوي المعروف : «خُذْ مِنْ دُنْيَاكَ لِاخِرَتِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ، وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسُقْمِكَ ، فَانّكَ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً» ([53]).
أي ما ذا يحصل لك في الغد وهل أنت من الأموات أم الأحياء ، من المرضى أم الأصحّاء؟
والعامل الآخر الّذي يُربّي الآمال والتمنيات ويقوي جذورها في نفس الإنسان هو الأهواء النفسية والعشق للدنيا والتعلق بها ، فكلّما سعى المرء في التقليل من تعلّقاته الدنيوية فإنّ أمله في الحياة سيكون أقصر ، وعلى العكس من ذلك كلّما تعلّق الإنسان بالدنيا أكثر كلّما ازدادت آماله وكثرت تمنياته.
ولغرض تحصيل هذا الهدف أي تقصير الأمل في الدنيا فإنّ من أقوى العوامل المؤثرة في ذلك هو ذكر الموت الّذي يُزيل عن بصيرة الإنسان حجُب الغفلة فيرى حقائق الامور كما هي ويُشاهد الواقعيات الكامنة خلف المظاهر البراقة والظواهر الزائفة.
ولهذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة 99 في نهج البلاغة قوله : «الَا فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ ، وَقَاطِعَ الْامْنِيَّاتِ».
ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ضمن خطبة له : «عُدَّ نَفْسَكَ فِي اصْحَابِ الْقُبُورِ» ([54]). وذلك لكي لا تبتلي بطول الأمل.
ونقرأ في النقطة المقابلة لذلك ما ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال : «اكْثَرُ النَّاسِ امَلاً اقَلُّهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً» ([55]).
والطريق الآخر للتصدي لطول الأمل وتضعيفه في واقع النفس هو مطالعة الآثار السلبية المترتبة عليه.
أجل فالإلتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ طول الأمل يُعد مصدراً للكثير من الذنوب والرذائل الأخلاقية ، ومن الأسباب المهمة لقساوة القلب ونسيان الآخرة ، وأن يعيش الإنسان حياة التعب والذلّة والحرمان من النعم والمواهب الإلهية ، وتسدل على بصيرته وعقله حجاباً سميكاً لا يدعه يرى الحقيقة من موقع الوضوح في الرؤية ، كلّ ذلك يتسبب في أن يتحرّك الإنسان على مستوى التفكير الجدي في علاج هذه الحالة السلبية قبل أن يدمّر سيل الأمل بيت سعادته وبذلك يقوم بتحديد آماله وتهذيب تمنياته ليعود إلى صف العقلاء والسعداء الّذين يعيشون الأمل بشكل معقول ومنطقي.
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك : «حَاصِلُ الْمُنَى الْاسَفُ وَثَمَرَتُهُ التَّلَفُ» ([56]).
أي تلف إمكانات الإنسان وعمره الثمين.
ويقول (عليه السلام) في حديث آخر : «احْذَرُوا الْامَانِيَّ فَانَّهَا مَنَايَا مُحَقَّقَةٌ» ([57]).
وهنا نقطتان :
الاولى : إن الطلب المادي يتحرّك في اسلوبه العلاجي للأمراض الجسمية والنفسية من موقع ايجاد البديل ، أي انه يستبدل رغبات الإنسان الّتي تقوده إلى المرض برغبات اخرَى أقوى منها تجره إلى ساحل السلامة والصحّة ، مثلاً الشخص الّذي يعيش الرغبة الشديدة في تناول الأطعمة الدسمة والسكريات بحيث تسبب له أمراض مختلفة ، فيوصى بتناول مقدار كبير من الفاكهة والخضروات ، أو الأشخاص المدمنين على المواد المخدّرة فإنّ الأطباء يوصونهم باستبدال هذه العادة بعادات اخرى سليمة.
وهذه النقطة صادقة أيضاً في الأمراض الأخلاقية ، وذلك بأن يقوم معلم الأخلاق باستبدال الآمال الطويلة في الامور المادية بالآمال الطويلة المعنوية في دائرة الثواب الإلهي في الآخرة أو الرغبة الشديدة إلى العلم والمعرفة والتقرب إلى الله تعالى بدلاً من العشق للمال والجاه و.... وأمثال ذلك.
النقطة الاخرى : أنّ للآمال بدورها مراتب ، فأحياناً يتمنّى الإنسان أن يكون له عمراً طويلاً أو مخلّداً ، كما يتحدّث القرآن الكريم عن طائفة من اليهود ويقول : «... يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ...» ([58]).
وهذا الطلب لعدد ألف سنة إذا كان المراد به هو هذا المقدار بالذات فيدلّ على طلبهم للعمر الطويل جدّاً ، ولو كان المراد منه بيان الكثرة فيدلّ على طلبهم للعمر اللامتناهي واللامحدود.
بعض الناس يعيشون التمنيات والآمال في مراحل أدنى من ذلك ، كأن يتمنّى أن يعيش مائة سنة ، أو خمسين سنة ، أو عشر سنوات أو أقل ، ويُستفاد من الروايات انّ كلّ هذه تُعدْ من الآمال الطويلة (وطبعاً إذا كان الهدف من ذلك هو نيْل المتع المادية وتحصيل الامكانات الدنيوية فحسب لا الأبعاد المعنوية والإلهية والتحرّك في خطّ تقدّم البشرية وخدمة الناس).
ومن جهة اخرى فإنّ الآمال والتمنيات لها أنواع مختلفة ، فأحياناً يكون الهدف منها هو الجهة المادية ، واخرى المقام ، وثالثة الشهوات ، ورابعة جميع ذلك.
وجميع هذه الأقسام للآمال والتمنيات الطويلة والعريضة مذمومة في الدائرة الأخلاقية رغم أن بعضها أقبح من البعض الآخر.
الآمال والتمنيات الإيجابية والبنّاءة :
وآخر ما يمكن أن يُقال في بحث طول الأمل هو أنّ الآمال والتمنيات ليست بأجمعها سلبية وعلامة انحطاط الشخصية والسقوط الأخلاقي ، لأن هذه الآمال والتمنيات إذا كانت متجهة نحو القيم الأخلاقية والمُثل الإنسانية الرفيعة ، أو تصب في دائرة الخدمة الإجتماعية وتتحرّك في خطّ تكامل المجتمع وتطوره الحضاري في مراتب الكمال وتقود الإنسان إلى السعي وبذل الجهد أكثر في هذه المسائل ، فلا شكّ في أنّ مثل هذه الآمال والتمنيات حتّى لو كانت طويلة وعريضة فإنّها ليست فقط غير مذمومة بل من علامات الكمال الإنساني للفرد.
وأساساً كما تقدّم في بداية البحث أنّ الأمل بالمستقبل يمثل القوّة المحركة للإنسان لبذل الجهد والسعي في حركة الحياة الفردية والاجتماعية فإذا انطفأ نور الأمل والرجاء في قلب الإنسان فإنه يصبح كالدُمية بلا روح ويتلاشى عنه عنصر النشاط والحركة ويتحول الإنسان إلى كائن جاف وبارد ومن دون هدف معيّن.
وفي الواقع فإنّ الآمال على قسمين :
أحدها (الآمال الكاذبة) والّتي هي كالسراب في صحراء الحياة حيث تدعو العطاشى إليها وتجرّهم نحوها دون أن ينالون شيئاً بل يزدادون عطشاً إلى أن تهلكهم.
والآخر (الآمال الصادقة) والإيجابية والبنّاءة والّتي هي كالماء الّذي يسقي كلّ حي ويقوّي في الإنسان روح الحياة والسعي والنشاط ، وكلّما ازداد نشاطاً وحركة ازدادت معنويّته وصعد في معراج الكمال.
وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)([59]).
وقد اشارت هذه الآية إلى كلا القسمين من الآمال : الإيجابية والسلبية.
وهناك اشارات دقيقة في الروايات الإسلامية إلى الآمال الإيجابية والبنّاءة ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «انَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي حَتَّى افْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْبِرِّ وَوُجُوهُ الْخَيْرِ ، فَاذَا عَلِمَ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الْاجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ ، انَّ اللهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ» ([60]).
وأساساً فإنّ عزم الإنسان وهمّته بمقدار آماله الإيجابية ، فكلّما اتسعت دائرة هذه الآمال فإنّ عزمه وهمّته ستزداد أيضاً ، واللطيف انه يُستفاد من الروايات الإسلامية جيداً أنّ الله تعالى يُعطي الثواب للأشخاص المؤمنين بمقدار ما لديهم من الأمل والرجاء ، لأن ذلك من علامات قابلية الروح والجسم لأداء الأعمال الصالحة أكثر ، وحتّى انه يُستفاد من الروايات أنّ الإنسان إذا كان يرجو ويأمل أملاً جميلاً وايجابياً لغرض تحصيل رضا الله تعالى فإنه لا يرحل من هذه الدنيا إلّا ويوفّق لنيل هذا الأمل وتحقيقه كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «مَنْ تَمَنَّى شَيْئاً وَهُوَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ رِضاً ، لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُعْطَاهُ» ([61]).
وطبعاً يمكن أن تكون هناك بعض الموارد الّتي تستوجب المصلحة أن لا يصل الإنسان إلى ذلك الأمل ولا يناله ، لأنّه إذا حصل عليه فسوف تترتب على ذلك بعض الآثار السلبية من قبيل الغرور والغفلة والعشق للدنيا وأمثال ذلك ولذلك فإنّ الله تعالى بألطافه الخفية لا يوفقه للوصول إلى هذه الآمال والتمنيات.
ونختم هذا البحث بالإشارة إلى نكتة اخرَى ، وهي أنّ التمنيات الإيجابية تدعو الإنسان إلى بناء شخصيته وتتسبب في تكامله المعنوي والروحي ، لأنّه يعلم أنّ الشخصيات الكبيرة لن تبلغ هذا المبلغ من الكمال إلّا من خلال تهيئة أسباب الكمال هذا وكما يقول الشاعر :
اعَلِّلُ النّفس بالآمال ادركُهَا |
|
مَا اضْيَقَ الْعَيْشَ لَو لَا فُسحَةُ الْامَلِ |
[1] بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 173.
[2] بحار الأنوار ، ج 14 ص 329 مع التوضيح.
[3] المحجّة البيضاء ، ج 8 ، ص 245.
[4] سورة الأعراف ، الآية 74.
[5] سورة الشعراء ، الآية 128 و 129.
[6] سورة الحديد ، الآية 14.
[7] سورة الحديد ، الآية 16.
[8] سورة الحجر ، الآية 3.
[9] سورة النجم ، الآية 24 و 25.
[10] سورة الهمزة ، الآية ، 1 ـ 3.
[11] سورة محمّد ، الآية 25.
[12] سورة الأعراف ، الآية 74.
[13] سورة الشعراء ، الآية 128 و 129.
[14] سورة الشعراء ، الآية 146 ـ 149.
[15] سورة الحديد ، الآية 14.
[16] المصدر السابق.
[17] تفسير القرطبي ، ج 17 ، ص 247 ذيل الآية محل البحث.
[18] سورة الحديد ، الآية 16.
[19] سورة الحجر ، الآية 3.
[20] سورة النجم ، الآية 4.
[21] ورد هذا الاحتمال في تفسير «عدَّده» ولا يراد منه العدّ ، بل جعل المال عدُّة له بأن يعتمد عليه في كل الأحوال.
[22] سورة الهمزة ، الآية ، 1 ـ 3.
[23] «همزة» و«لمزة» صيغتان للمبالغة ، والاولى من مادة «هَمْز» بمعنى الكسر ، والثانية من مادة «لمز» بمعنى الغيبة والتنابز بالألقاب ، ويرى البعض أنّ «الهُمَزَة» يقال للشخص الّذي يعيب على غيره بالاشارة ، بينما تطلق «اللمزة» على الشخص الّذي يرتكب هذا العمل بلسانه.
[24] سورة محمّد ، الآية 25.
[25] تفسير القرطبي ، ج 5 ، ص 3618 ، ورد شبيهاً له مع اختلاف يسير في بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 16.
[26] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 163 ، ح 19.
[27] تصنيف غرر الحكم ، ص 312.
[28] بحار الأنوار ، ج 70 ص 164.
[29] تصنيف غرر الحكم ، ص 312.
[30] المصدر السابق.
[31] غرر الحكم ، ص 313.
[32] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 34 و 211.
[33] تصنيف غرر الحكم ، ص 312 ، ح 7223.
[34] غرر الحكم ، ح 1375.
[35] المحجّة البيضاء ، ج 8 ، ص 246.
[36] ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 3 ، مادّة أمل.
[37] ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 104 ؛ المحجّة البيضاء ، ج 8 ، ص 245.
[38] بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 156.
[39] غرر الحكم ، ح 3054.
[40] المصدر السابق ، ج 5 ، ص 295 (طبعة جامعة طهران).
[41] ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 104 ، مادّة أمل.
[42] المصدر السابق.
[43] ورد في الأحاديث السابقة.
[44] تصنيف الغرر ، ص 312 ، ح 7215.
[45] تصنيف الغرر ، ص 314.
[46] غرر الحكم ، ج 2 ، ص 405.
[47] غرر الحكم ، ح 1375.
[48] تصنيف الغرر ، ص 314.
[49] المحجّة البيضاء ، ج 8 ، ص 246.
[50] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 167.
[51] تصنيف غرر الحكم ، ص 313.
[52] تحف العقول ، ص 207.
[53] بحارالأنوار ، ج 74 ، ص 122.
[54] بحارالأنوار ، ج 74 ، ص 122.
[55] تصنيف غرر الحكم ، ص 312.
[56] تصنيف غرر الحكم ، ص 314.
[57] المصدر السابق.
[58] سورة البقرة ، الآية 96.
[59] سورة الكهف ، الآية 46.
[60] بحار الأنوار ، ج 8 ، ص 261.
[61] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 261.
|
|
أكبر مسؤول طبي بريطاني: لهذا السبب يعيش الأطفال حياة أقصر
|
|
|
|
|
طريقة مبتكرة لمكافحة الفيروسات المهددة للبشرية
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تناقش تحضيراتها لإطلاق مؤتمرها العلمي الدولي السادس
|
|
|