أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-02-19
1226
التاريخ: 10-10-2014
2074
التاريخ: 2024-05-26
728
التاريخ: 5-05-2015
2342
|
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]
هذه الآية، التي توضح كيفية العفو المذكور في الآيتين السالفتين، هي من حيث أنها تعلم بني إسرائيل طريقة التوبة والتطهر من إثمهم العظيم في الارتداد والشرك، لتصونهم من التورط بعذاب أبدي تذكر بإحدى أكبر النعم المعنوية المعطاة لهم.
إن عبادة بني إسرائيل للعجل بعد مشاهدتهم لكل تلك المعجزات والبينات التوحيدية تُعد أكبر انحراف عن أهم أصل أو ركن اعتقادي. هذا المنطلق لابد لشروط ومقدمات العفو عن هذا الذنب والتوبة منه أن تكون غاية في الصعوبة وغير مسبوقة كي لا يتعرض هذا الأصل، الذي هو عصارة جميع الأديان السماوية، للأذى ولا يتحول هذا العمل إلى سنة سيئة للأجيال اللاحقة.
من أجل إثبات كون عبادة العجل ظلماً وتقبيح مثل هذا العمل وإبطاله، وكذلك لإثبات ضرورة التوبة وللإطراء على الامتثال للأمر بالقتل، فقد ذكر اسم "البارئ" في هذه الآية مرتين؛ هذا الاسم المبارك الذي ينم عن الخلقة الحكيمة والهادفة والمنظمة؛ وذلك بالبيان التالي: إن الله سبحانه وتعالى هو بارئ الناس وفاصلهم من العدم إلى الوجود، ومن النقص إلى الكمال. فلقد خلق الناس في أحسن تقويم وأحسن تصوير، ومن لوازم هذا النظام الأحسن هو البراءة من التفاوت، والنقص، والعيب وما شابهها. فهو خالق الناس، وهم - من حيث أنهم خلقوا بشكل منظم وهادف على أتم وجه - بريئون من النقص والعيب. على أساس هذه الوجوه الثلاثة فإن إحلال العجل البليد محل الإله الحكيم، واستبدال العجل بمثل هذا المعبود الإلهي، والتبري من هذا المعبود الربوبي وتولّي عجل السامري كلّها تُعد ظلماً فاحشاً وعظيماً. فحري بالجميع، تجاه رب كهذا وهو البارئ للناس والذي يكن لهم المحبة: بارئكم ، أن يؤوبوا إليه ويمتثلوا أمره لأنه عزّ وجلّ لا ريب يريد خيرهم وسعادتهم.
لقد جعل الله تعالى قتل بني إسرائيل لبعضهم البعض متمماً لتوبتهم. وهذا الحكم، وإن بدا شاقاً وخشناً في الظاهر، لكنه، بالنسبة لتطهير مجتمع بني إسرائيل الملوّث، يُعد رحمة وهو بمثابة الدفاع عن أكثر الأديان السماوية أصالةً، ألا وهو التوحيد وبمثابة المقارعة الأسوأ جرثومة فكرية، ألا وهى الشرك.
الأمر بقتل النفس هنا لا يعني الانتحار، بل إن المراد من "أنفس"، هو نفوس الأقرباء والأرحام وكل من يُحسب من بني إسرائيل من الناس وممن تربطهم ببعضهم علقة القرابة والرحم بواسطة أو بوسائط.
إن قتل البعض للبعض، لاسيّما الأقرباء والأصدقاء، وإن كان شاقاً ومفجعاً لكل من القاتل والمقتول، إلا أنه كان خيراً للجميع؛ وذلك لأن هذا العذاب الدنيوي المحدود والمؤقت، بما يتمتع به من أثر التطهير من دنس الشرك، من شأنه أن يكون سبباً لصيانة بني إسرائيل من عذاب الآخرة الخالد ويفضي بهم إلى نيل الفوز والبهجة السرمديين. كذلك فإن التذكير بهذه الذكرى الأليمة من شأنه أن يردع خلف هذا السلف وأبناءهم عن التفكير في عبادة الأصنام بطبيعة الحال فإن المقتول في معركة الدفاع عن حريم التوحيد، الذي تحول إلى التوبة والرضى بإعدامه، وتحمّل هذا المصير في سبيل الدفاع عن حريم التوحيد، هو موجود حي وإن قتله يكون في صالحه وسوف ينال هو أيضاً ما فيه نفعه وخيره هذا الخير هو عند الله، وذاك القتيل له سبيل إلى ما عند الله، وسينال خيره عند الله. على هذا الأساس فإن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] يكون نظير قوله : {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وهو سند جيد لتثبيت شهادة قتلى بني إسرائيل.
وتوبة بني إسرائيل كل القيود الدخيلة فيها، حيث كان القتل مع بصورة الإعدام الظاهري - كانت قد تحققت قطعاً؛ والشاهد على ذلك، بصرف النظر عن قبول توبتهم فتاب عليكم هو أن كلمة "القتل" لها ظهور، إلى حد الصراحة، في إزهاق الروح ولم ترد في القرآن بمعنى تهذيب النفس على الإطلاق، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن كلمة "العفو" لها ظهور في رفع اليد عن العقاب في هذه الدنيا. بالطبع كان يكفي أن يخضع عدد مُعتد به من بني إسرائيل لأمر القتل كي يصدر العفو الإلهي ويتوقف الأمر بالقتل بعد مقتل طائفة منهم وتضرع وتوسل موسى وهارون بناءً على ما مر، فإن الأمر بالقتل بالنسبة لقتل الجميع كان يشبه الأمر بذبح إسماعيل ، وليس بالنسبة لأصل القتل؛ أي إن أصل القتل كان قد وقع حتماً على الرغم من حصول العفو في مرحلة البقاء.
أما العلة في قبول توبة بني إسرائيل وعودة الفيض الإلهي إليهم فهي كون الله تواباً رحيماً.
التفسير
"قوم": تُستعمل كلمة "قوم" أحياناً في مقابل النساء، حيث يراد منها الرجال بقرينة النقابل، نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11]، وأحياناً تأتي على نحو الإطلاق حيث يُراد منها كافة أفراد المجتمع، الذين هم أعم من الرجال والنساء (1)، نظير: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل: 67] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 11] {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].
وغالباً ما يكون استعمال كلمة قوم في القرآن على نحو الإطلاق ويُراد منها عموم أفراد المجتمع، وما لم تتوفر القرينة على اختصاص "القوم" بالرجال فإنه يُراد منها ذاك المعنى الجامع والمطلق.
على أي تقدير، فإن لفظة "قوم" في الآية مدار البحث تستوعب جميع اليهود من الرجال والنساء؛ ويؤيد ذلك ما حدث في قصة صناعة عجل السامري حيث قد استعملت في . صناعته الحلي التي استعارها بنو إسرائيل الأقباط وكانت تحت تصرف نساء اليهود، وطبقاً لهذا التاريخ، وإن صعب الوثوق به، فإن كلّ وسائل الزينة تلك كانت قد ا قد أخذت. وإن فتنة السامري كانت قد بدأت عند إلقائها في النار.
"بارئ": كلمة "بارئ" تعني الخالق الحسيب والمقدر. من هنا فقد وقعت بعد اسم "الخالق" وقبل اسم "المصور": {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] ولما كانت هندسة الخلقة ملحوظة في هذا الاسم فإن مخلوق الله عز وجل هو بريء من النقص ؛ أي إنّه خُلق منظماً وهادفاً على أحسن وجه وقد عبّئت في كيانه كل المتطلبات الباطنية لديمومة الوجود، وهيئت له كل السبل التي يفضي قطعها إلى المقصد المنشود كي تكون الصورة التي يفيضها عليه سبحانه فيما بعد ملائمة لطاقاته وقابلياته السابقة من جهة ولائقة لبلوغه المقصود من جهة أخرى. إن مثل هذا الكمال وهذا المنصب لهو من مختصات المبدأ الحكيم. وإن الإعراض عن عبادة مبدأ خبير كهذا والإقبال على عبادة حيوان يضرب به المثل في البلادة والغباوة؛ حيث يُقال: "أبلد من ثور"، لهو غاية في البطلان وغير مستساغ بتاتاً.
وفيما يتعلق بأصل هذه المفردة ومدلولاتها التي تختلف باختلاف المادة أو الهيئة فلابد من القول: إنّه على الرغم من ذكر معاني مختلفة للكلمات: بارئ، وبرئ، وبُرء، وبَرْء، و... الخ فإن أصل الباب هو تبري شيء من شيء آخر؛ يعني انفصال شيء عن شيء، سواء كان هذا التبري والانفصال لازماً أو كان متعدياً يظهر بالتبرئة والفصل. تأسيساً على ذلك، فإن المعنى الأساسي لهذه اللفظة هو الجامع بين اللازم والمتعدي. وهذه الجامعية آتية إما من وضع اللفظ للجامع الانتزاعي، وإما بصورة الاشتراك، وإما بصورة الحقيقة والمجاز بحيث إنّه قد وضع أولاً لنوع خاص من الانفصال، ثم انتزع منه ما هو بمنزلة المعنى الجامع للجنس، أو بأنحاء أخرى.
من الممكن مشاهدة هذا المبحث بعبارات متنوعة ومختلفة، يقلّ ظهور بعضها ويزداد ظهور بعضها الآخر، في النصوص التفسيرية للمفسرين أو اللغويين الذين عاشوا في الحقبة الزمنية ما بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر. وكنموذج على ذلك، نذكر قول الشيخ المتوفى سنة 460 للهجرة:
وأصل الباب تبري الشيء من الشيء؛ وهو انفصاله منه. وبرأ الله الخلق، أي فطرهم، فإنّهم انفصلوا من العدم الى الوجود...(2)
يُفهم من التعميم في التمثيل أن المنفصل والمفصول كليهما بريان، والبارئ يعني: فاصل الوجود من العدم، أو فاصل الإنسان من البرى (التراب). ويقول الراغب الأصفهاني المتوفى في العام 503 الهجري.
أصل البرء والبراء والتبري: التفصي مما يكره مجاورته... والبرية: الخلق... وسُمّيت بريّة لكونها مبرية من البرى أي: التراب، بدلالة قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} (3) [الروم:20]
كما يقول الزمخشري المتوفى سنة 538 ه . ق. ما نصه:
البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] ومتميزاً بعضه من بعض ...(4)
وقد نال هذا التفسير قبول وإعجاب من تلا الزمخشري من المفسرين من أمثال الفخر الرازي في التفسير الكبير وأبي حيان الأندلسي في البحر المحيط (5) ، لكن أمين الإسلام الطبرسي المتوفى سنة 548 للهجرة فقد سلك نفس طريق الشيخ الطوسي وتأسى به (6). وقال أبو عبد الله القرطبي المتوفى سنة 671 هجرية:
وأصل برأ من تبري الشيء من الشيء، وهو انفصاله منه. فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود، ومنه برأت من المرض برءاً (بالفتح) كذا يقول أهل الحجاز. وغيرهم يقول: برئت من المرض برءاً (بالضم)، وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة، ومنه المباراة للمرأة...(7)
ويقول صدر المتألهين المتوفى سنة 1050 ه . ق. ما نصه:
وأصل التركيب في اللغة لخلوص الشيء عن غيره إما على سبيل التفصي، كقولكم برئ المريض من مرضه، والمديون من دينه، أو على سبيل الإنشاء، كقوله: برأ الله آدم من الطين.(8)
وقد جاء نفس هذا التعبير في تفسير منهج الصادقين للمولى فتح الله الكاشاني (9). من هنا يمكننا الحدس بأن البرء، الذي هو بمعنى الفصل، ماض في عهد أبي جعفر الطبري المتوفى سنة 310 للهجرة؛ لأنه وإن عد اللفظ "برأ" بمعنى خلق، وكلمة "بارئ" بمعنى خالق، لكنه روى عن البعض ما يلي:
إن البريَّة إنما لم تُهمز لأنها فعيلة من البرى، والبرى: التراب. فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك: أنه مخلوق من التراب (10).
وبالالتفات إلى ما نُقل أعلاه يمكننا الوقوف على سداد وصواب ما قاله الأستاذ العلامة الطباطبائي المتوفّى في عام 1402 للهجرة حيث قال:
البارئ... من برأ يبرأ بَراء إذا فصل لأنه يفصل الخلق من العدم أو الإنسان من الأرض (11).
"فاقتلوا": عد جماعة من المفسرين الفاء في فاقتلوا تعقيبية من باب أن إعدام البعض للبعض الآخر يأتي تكميلاً وتتميماً للتوبة الواقعة في الجملة السابقة، على خلاف الفاء في قوله: فتوبوا حيث قالوا إنها بيّة؛ وذلك لأن الظلم لأنفسهم في الجملة السابقة لها كان هو السبب في التوبة (12). والمقصود من التسبيب هنا هو سببية الموضوع بالنسبة إلى الحكم وليس مبدئية الفاعل بالنسبة للفعل؛ وذلك لأن الارتداد هو السبب القابلي لوجوب التوبة أما السبب الفاعلي له فهو الإرادة الإلهية التي مبدأ كافة الأحكام الشرعيّة: العقلية والنقلية، التكليفية والوضعية، كما أن المراد من التعقيب هو ذاك الترتيب الخاص الملحوظ بين التوبة التي هي بمعنى الرجوع النفساني والندم على ما مضى والتصميم على ما سيأتي وبين إعدام البعض للبعض الآخر، بحيث إنه لو شارك شخص في عملية الإعدام قبل أن يتوب وقتل فإنّه، وإن كان من الممكن أن تقل بعض التبعات السيئة لعبادة العجل في المعاد بالنسبة له، لكن تمتعه بفيض الشهادة والفوز بلقاء الله سيكونان مستبعدين للغاية.
وطبقاً للقول الذاهب إلى أن "البارئ" هو بمعنى الفاصل من العيب والنقص فإن سببية "الفاء" تبرر بهذه الكيفية: إنكم قد أشحتم بوجوهكم عن الرب الذي خلقكم بريئين من النقص، والذي سوى أنفسكم وعدلها من خلال إلهامها الفجور والتقوى، وعرفكم بحقائق الكون بنور الفطرة (حتى أصبحتم قادرين على التمييز بين الأجنبي والصديق وتحاشي عبادة الأجنبي) واتجهتم صوب العجل، وصيّرتم روحكم السليمة وفطرتكم الصافية معيبة ناقصة. إذن فاقتلوا أنفسكم كي تعودوا إلى ربكم منزهين عن النقص بالتوبة من خلال القتل كما قد خُلقتم من قبل ببارئيته عز وجل من دون نقص.
"فتاب": عبارة: {فتاب عليكم} صادرة من الله تعالى وليست من موسى الكليم ، وهي عطف على محذوف؛ أي: "فتبتم، فتاب عليكم"؛ وهذا يشبه قوله فانفلق في الآية: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] ؛ يعني: "ضَرَب فانفلق" حيث حذف الفعل "ضرب" بقرينة الانفلاق
تناسب الآيات
استمراراً للتذكير بالنعم المُغدقة على بني إسرائيل، ولما كان الإخبار بعظمة جريرة الشرك ومن ثم تبيين السبيل للتطهر من هذا الإثم الكبير، يُعد من أعظم الآلاء المعنوية، لما فيه من دفع للعذاب الأبدي عنهم، فمن الممكن اعتبار ما طُرح في هذه الآية أنه النعمة السادسة على بني إسرائيل؛ كما أن هذه الآية تبدو في الظاهر وكأنها تتمة للآية 52 من نفس هذه السورة التي ذكرت بنعمة العفو عن بني إسرائيل؛ لأن هذه الآية تقدم تفسيراً لبيان آلية العفو.
بالطبع إن الوجه في تأخر هذا الموضوع (الذي هو مضافاً إلى تبيينه لإحدى نعم الباري عز وجل - فإنّه يلفت إلى ظلم بني إسرائيل وانحرافهم وكفرانهم؛ كما في سائر ما سيُطرح في الآيات اللاحقة من موضوعات عن المواضيع والنعم السابقة يكمن في أن القرآن هو كتاب بليغ وحكيم وهو يستخدم أكثر الوسائل تأثيراً في تحول المخاطبين روحياً. من أجل ذلك فهو يبتدئ في طرح نعمة تفضيل بني إسرائيل وسموهم على العالمين التي تمثل من جهة إجمالاً لكل النعم التي سيأتي ذكرها بالتفصيل فيما بعد، وستكون من جهة أخرى سبباً لابتهاج وسرور المخاطبين من اليهود (إذ أن التذكير بمفاخر آباء وأجداد قوم وبيان فضائلهم ومناقبهم هو من أكثر القصص حلاوة وجاذبية بالنسبة لهؤلاء القوم). ثم، لتفصيل هذا الإجمال، فهو يعرج على ذكر نعمة التحرر والنجاة من الظلم الفرعوني، التي تعد من وجه من الوجوه أعظم النعم، ويبين معها ظلم استعباد واستبداد آل فرعون الذي هو أعظم وأبشع ضرب من ضروب الظلم الذي مارسوه؛ ذلك الظلم الذي يثير حمية اليهود ويهيج عصبيتهم؛ وفي الوقت ذاته يقمع نفوسهم المتكبرة من حيث لا يشعرون ويضعف التصوّر القائل: بأنه ما من قوم يستطيعون التسلّط على قوم يهود.
ثم يطرح بعد ذلك نعمة فرق البحر ونجاة بني إسرائيل وغرق آل فرعون مما يبث فيهم - قطعاً النشاط والحيوية بدرجة كبيرة. ويتطرق بعدها إلى نعمة ميعاد كليم الله ، ليعرج في آخر المطاف بعد كلّ ذلك، وبعد أن استميلت أنفسهم بشكل خاص وباتوا متأهبين لسماع أي آخر عن أسلافهم - على تذكيرهم بإشارة واحدة بأكبر سيئة اجترحها آباؤهم بقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] ، ثم ينبههم مباشرة إلى نعمتي العفو وإعطاء التوراة مما يؤدي ثانية بشكل قهري إلى انعطاف روحي جديد لديهم الأمر الذي يكسبهم الاستعداد اللازم لسماع عظمة إثم عبادة العجل وما آل إليه أمرهم من التوبة العظيمة التي لا سابقة لها حيث قتل بعضهم البعض مما تبينه الآية مدار البحث.
ومن الجلي أن ذكر مثل هذه القضايا والأحداث وترتيبها بالتتابع وإطلاع النفوس المتكبرة والمتمردة لبني إسرائيل على أنواع قبائحهم وأنماط كفرانهم للنعمة هو بيان يتمتع ببلاغة خاصة في الكلام.
ولما كانت عبادة العجل بعد مشاهدة كل تلك المعجزات والبينات التوحيدية، تعد من أشد أنواع الانحرافات العقائدية، فلابد لشروط ومقدمات العفو عنها وقبول التوبة منها أن تكون غاية في الصعوبة وغير مسبوقة، كي لا يتعرض أهم الأصول العقائدية - الذي يمكن اعتباره، من منظار معين، الأديان السماوية - إلى التشويه ببساطة، ويشكل انحراف بني إسرائيل عن ذلك الأصل سنة سيئة تحتذى من قبل الأجيال اللاحقة.
على هذا الأساس، يتعيّن أولاً التطرق إلى بطلان هذه الظاهرة بالبراهين التامة والآيات البينة، كي يُعمد بعدها إلى مواجهة من يشد عن جادة الصواب عمداً على الرغم من وفرة البراهين وكثرة البينات على نحو لا يتكرر معه مثل هذا الانحراف العمدي في المستقبل على الإطلاق (13).
يقول الله سبحانه وتعالى في مستهل الآية: واذكروا إذ قال موسى الكليم لقومه : يا قوم! لقد ظلمتم أنفسكم بعبادتكم للعجل؛ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54].
إن عبارة: {يا قوم}، أي يا قومي بإضافة "قوم" إلى ياء المتكلم، هي عبارة عاطفية تظهر أن الحكم الصادر إنما صدر عن رحمة، وإن اتصف بالخشونة والمشقة في الظاهر. أما العلة من وراء كون هذا الحكم رحمة فهي كونه سبباً في تطهيرهم من دنس الشرك، ونجاتهم من العذاب الأبدي.
تنويه: الإيمان والكفر مفترقان يوم القيامة: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] وليس هناك أدنى اشتراك بين المؤمنين والكفار في المعاد، إلا أن أبناء القوم والعنصر الواحد في الدنيا يعيشون جنباً إلى جنب ويُشار إلى مجموعهم بعنوان كونهم قوماً معينين كما أن عنوان القومية وكذلك الأخوة العرقية والقومية تبقى محفوظة فيما بينهم. من هذا المنطلق فإن الله عز وجل يعبر تارة عن أنبيائه بأنهم أخوة لأممهم وأقوامهم، ويطلق تارة - أخرى على أمم الأنبياء عنوان أقوامهم؛ كما في قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] ، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73]، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. مجمع البحرين، ج 6، ص 147.
2. التبيان، ج 1، ص 244.
3. سورة غافر، الآية 67؛ المفردات في غريب القرآن، ص 121، "ب ر ء".
4. الكشاف، ج 1، ص 140.
5. التفسير الكبير، مج 2، ج 3، ص 85 ؛ وتفسير البحر المحيط، ج 1، ص 366.
6. جوامع الجامع، ج 1، ص51
7. الجامع لأحكام القرآن، مج 1، ج 1، ص 378.
8. تفسير صدر المتألهين، ج3، ص399.
9. تفسير منهج الصادقين، ج 1، ص 272، (وهو بالفارسية).
10. جامع البيان، ج1، ص 379
11. الميزان، ج 1، ص 189
12. راجع التفسير الكبير، مج 2، ج 3، ص 86 .
13. لقد جعل الله سبحانه وتعالى نفس القتل وسفك الدماء متمّماً لتوبة بني إسرائيل؛ أي: إن توبتكم لن تتحقق إلا بقتل أنفسكم، ويوجد في الإسلام في الجملة، نموذج لمثل هذا الحكم الصعب؛ كحد الارتداد الفطري، حيث بمعزل عن ضرورة التوبة الباطنية للخلاص من عذاب المعاد، لابد من تنفيذ حكم القتل في المرتد الفطري بعنوان كونه حداً إلهيا كي يكون سبباً لطهارته هذا على الرغم من أن هذا الحكم لا يوازي صعوبة حكم بني إسرائيل.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|