تعتبر صقلية الميدان الثاني بعد اسبانيا الذي تم عبره انتقال الحضارة العربية الاسلامية الى غرب اوروبا. فالعرب حكموا هذه الجزيرة مدة قرنين ونصف القرن، ومعهم انتقلت حضارتهم اليها حيث كان المسلمون والمسيحيون يعيشون جنباً الى جنب.  قام حكام صقلية بالدور الأول لتثبيت دعائم حضارة العرب فيها. بل انهم جعلوها مركزاً من مراكز الاشعاع للثقافة العربية. واقاموا الاكاديميات والمدارس للترجمة ونقل العلوم الى الغرب واشتهر من هؤلاء الحكام روجر الثاني (1129 - 1154) الذي كان بلاطه يزخر بالعلماء والادباء والمترجمين (1). ثم الامبراطور فريدريك الثاني (2) (1197-1250) الذي نشأ في صقلية وتأثر فيها بالثقافة العربية الاسلامية تأثراً بالغاً. كما انه اكتسب عاداته الشرقية اثناء حملته الصليبية المسالمة الى الشرق. فجعل بلاطه مشابهاً لبلاط الخلفاء المسلمين وجمع فيه عدداً كبيراً من العلماء والادباء من مختلف الاديان والجنسيات وأنشأ في نابولي اكاديمية لتدريس وترجمة علوم العرب الى اللاتينية (3). وهكذا لم يكن تقاعس فريدريك الثاني عن القيام بجملته الصليبية رغم تشدد البابوية ازاء هذا الأمر، الا لكونه قد فضل اقامة مع من كان يعتبرهم حملة مشعل الحضارة العالمية. ولهذا فقد كانت النهضة العلمية التي أقامها فريدريك الثاني في صقلية سلاحاً قوياً المواجهة الحرم الكنسي الذي رمته به البابوية مرتين. كما أن شارل دانجو (Charles d'Anou) (1266 - 1285) لم يكن أقل تمشرقاً من فريدريك الثاني رغم كونه قد شارك في حملة لويس التاسع الى مصر. فجمع في بلاطه ايضاً المترجمين والعلماء والادباء حيث سادت فيه العادات والتقاليد الشرقية الخالصة. ويذكر جلال مظهر بهذا الصدد وتدلنا سجلات بلاطه الباقية حتى الآن على ان شارل اهتم بترجمة المؤلفات العربية إلى اللاتينية وانه كان لديه على التأكيد مؤسسة كاملة لهذا الغرض بما في ذلك مترجمون من العرب مثل فرج بن سالم وموسى السالرني ونساخون ومصححون مثل هنري الانجليزي. وهناك خطاب من الملك شارل مؤرخ في سنة 1281، يذكر فيه هنري وترجمة كتاب الحاوي للرازي. وقد ذكر الحاوي باسمه العربي في عدة خطابات اخرى وخطاب آخر للملك ايضاً مؤرخ في سنة 1280 يشير الى تقويم ابن جذله عندما فرغ فرج بن سالم من ترجمته (4).

......................................

1- BREHIER. L: Les Croisades. 6° édition Parls 1928 P 234

2- هو امبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة ووريث العرش الصقلي.

3- Grousset. R: Histoire des Croisades t. III, P. 278

4- جلال مظهر: أثر العرب في الحضارة الأوروبية. منشورات دار الرائد بيروت 1967 ص 188.