أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-2-2021
1673
التاريخ: 6-6-2020
1907
التاريخ: 10-4-2022
1914
التاريخ: 9-5-2020
2007
|
مراعاة الحقوق اللازمة مراعاتها في حصول العدالة فيما بينه وبين الخلق وتركها والتعدّي عنها حتّى يسمّى ظلماً إنّما يحتاج إلى معرفتهما مع الصحبة والمعاشرة معهم، وأمّا مع الاعتزال والانفراد عنهم فلا، فلا بدّ أوّلاً من بيان الأفضل منهما، فإنّ للناس اختلافاً فاحشاً في ترجيح أحدهما على الأخرى، وظاهر كثير من قدماء الصحابة والتابعين ترجيح العزلة، فإن بني الأمر عليه ووفّق الانسان لمرتبة الأنس بالله والوحشة عن الخلق لم يحتج إلى تجشّم مراعاة حقوق العشرة وسلب رذيلة الظلم بهذا المعنى عن نفسه، وتحصيل فضيلة العدالة كذلك، وهذا أيضاً من فوائدها.
ونشير إلى أدلّة القولين إجمالاً، فإنّ البسط فيها موكول إلى كتاب العزلة من الإحياء لأبي حامد، حيث وفّاه حقّ البسط بما لا مزيد عليه.
فأحسن ما يمكن أن يستدلّ به على تفضيل العزلة قول الصادق عليهالسلام: «صاحب العزلة متحصّن بحصن الله ومحترس بحراسته، فيا طوبى لمن تفرّد به سرّاً وعلانية ويحتاج إلى عشر خصال: علم الحقّ والباطل، وتحبّب الفقر، واختيار الشدّة، والزهد، واغتنام الخلوة، والنظر في العواقب، ورؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود، وترك العجب، وكثرة الذكر بلا غفلة، فإنّ الغفلة مصطاد الشيطان، ورأس كلّ بليّة، وسبب كلّ حجاب، وخلوه البيت عمّا لا يحتاج إليه في الوقت قال عيسى بن مريم عليهما السلام: اخزن لسانك لعمارة قلبك، وليسعك بيتك وفرّ من الربا وفضول معاشك، وابك على خطيئتك، وفرّ من الناس كفرارك من الأسد والأفعى فإنّهم كانوا دواءً، فصاروا اليوم داءً ثم القَ الله متى شئت» (1).
وقال عليهالسلام: «فسد الزمان وتغيّر الإخوان وصار الانفراد أسكن للفؤاد» (2).
وروي أنّ معروفاً الكرخي قال له عليهالسلام أوصني يا بن رسول الله! فقال عليهالسلام: «أقلل معارفك، قال: زدني، قال: أنكر من عرفت منهم» (3).
ولهم أدلّة أخرى ضعيفة، إذ غاية ما يدلّ عليه بعضها حسن الاعتزال عمّا لا فائدة فيه كمخالطة الكفّار بعد اليأس عن هدايتهم، وبعضها الأخرى كون الأليق بحال البعض ذلك، وأخرى على حسن الخمول والتوقّي عن الشهوة ولا ربط له بالعزلة.
وأحسن ما يمكن به الاستدلال للثاني ما ورد من الثناء على نفس الالفة وانقطاع الوحشة، قال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
«المؤمن ألف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (4)، و«من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه» (5)، و«ما التقى المؤمنان قط الا أفاد [الله] أحدهما من صاحبه خيراً» (6)، "إنّ حول العرش منابر من نور عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نور ليسوا بأنبياء الله ولا شهداء يغبطهم النبيّون والشهداء، فقيل: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم المتحابّون في الله المتجالسون لله المتزاورون في الله" (7)، و«أوحى الله إلى داود ما لي أراك متفرّداً وحيداً؟ فقال: إلهي قليت الخلق لأجلك، فقال: يا داود! كن يقظاناً وقدّر لنفسك إخواناً فكلّ خدن لا يوافقك على مسرّتي فلا تصحبه، فإنّه لك عدوًّا يقسّي قلبك» (8) والأخبار بهذا المضمون كثيرة.
وكذا ما يدلّ على حسن الخلق وطلاقة الوجه وقضاء حوائج المؤمنين وزيارتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وغير ذلك ممّا لا يحصى.
وما يقال: إنّ غاية ما تدلّ عليه نزع الغوائل عن الصدور وحسن الخلق وذمّ سوء الخلق الذي يمتنع بسببه المؤالفة ولا يدخل فيها الحسن الخلق الذي إن خالط ألف وأُلف وإنّما منعه عنها شيء آخر.
مدفوع بأنّه مع عدم جريانه في أكثرها خلاف المتبادر من اللفظ، وقضية الجمع بينها وبين ما تقدّم على ما يساعده القرائن والاعتبار أنّ لكل منهما فوائد وغوائل، فمن أمن من غوائل أحديهما مع حصول فوائد الاخرى له أو عدم ائتمانه من غوائلها كان الأصلح له اختيارها، وهو أمر مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات كالنكاح، فلا بدّ من التدقيق في حال النفس والوقت وما هو الأصلح بحسبه وهو متوقّف على معرفة فوائدهما وغوائلهما.
فمن فوائد الأولى الفراغ للعبادة والتفكّر والانس بمناجاته تعالى، واستكشاف أسرار عالم الملكوت، فإنّ المخالطة شاغلة للنفس عنها، ولذا كان صلى الله عليه وآله قبل البعثة منعزلاً إلى جبل حراء حتى قوي فيه نور النبوّة، بحيث لم يحجبه الخلق عن الله، بل كان ببدنه مع الخلق وقلبه مع الله، ولا يقوى على الجمع بينهما الا النبوّة أو الولاية الكاملة، وهو إنّما يتيسّر بالاستغراق في حبّ الله تعالى وأنسه، فلا يبقى لغيره متّسع فيه، وليس بمستنكر مع ما ترى في الخلق من المستهترين بالحبّ من يخالطهم ببدنه، ولا يفهم ما يقول أو يقال له لفرط عشقه فأمر الآخرة أعظم عند أهلها.
قال أويس لبعض من جاءه زائراً: ما جاء بك؟ قال: الانس بك، فقال: ما كنت أرى أحداً يعرف ربّه فيأنس بغيره.
وقال بعضهم: من لا يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قلّ علمه وعمي قلبه وضيّع عمره ففي العزلة والخلوة انس بالله واستكثار من معرفته منه.
وقيل:
وإنّي لأستنعس وما بي نعسة *** لعلّ خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلّني *** أحدّث نفسي عنك بالسرّ خاليا
ولذا قيل: إنّ وحشة النفس عن الخلوة لخلوّها عن الفضيلة، والاستئناس بالناس من علامات الافلاس، وهذه من أتمّ الفوائد وأعظمها؛ لأنّ الغاية القصوى هي المحبّة والمعرفة، ولا مطمع فيهما الا بدوام الذكر والفكر غير الحاصلين إلا مع الفراغ غير الممكن بالمخالطة.
ومنها: الاستخلاص عن المعاصي المسبّبة من المخالطة كالرياء والغيبة والسكوت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفاق ومسارقة الطبع من أخلاق أهل الدنيا وأعمالهم الخبيثة، فإنّ الاحتراز عن الغيبة مع الاختلاط صعب لكونها عادة مستمرّة للناس يتفكّهون بها ويستلذّون منها، فلو وافقتهم أثمت ولو سكت أو استمعت كنت منهم، ولو أنكرت أبغضوك واغتابوك، وكذا المخالطة لا تخلو عن مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى والانكار معرّض للمضارّ، وربّما انجرّ إلى معاصي أخر كثيرة، فإنّ فيه إثارة للفتنة والخصومة وتحريكاً لغوائل الصدور، كما قيل:
وكم سقت في آثاركم من نصيحة *** وقد يستفيد البغضة المتنصّح
وكذا الرياء، فإنه ممّا يعسر على الأوتاد والأبدال فلا بدّ للمخالط من المداراة وللمداري من المراءاة فيقع فيما وقعوا، وأقلّه النفاق بإظهار الشوق والمبالغة في إظهار التلطّف والاشفاق مع خلوّ القلب وفراغ الخاطر عنه حتى إنّ ذلك أمر بيّن لدى المستمع وكثيراً ما تمتلىء القلوب من الأحقاد مع انطلاق الألسنة بالسؤال، والأخير داء دفين قلّما يتنبّه له الأذكياء، فإنّ وقع الفساد يسقط بكثرة المشاهدة إلى أن يذعن الطّبع بالميل إليه أو إلى ما دونه، فإنّ كثرة مشاهدة الكبائر من الأمثال والأقران يحقّر الصغائر في النفس، بل يكفي في تغيّر الطباع مجرّد السماع، فضلاً عن المشاهدة.
ولذا قال صلى الله عليه وآله: «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة» (9)، فإنّ سببه انبعاث الرغبة عن القلب في الاقتداء بهم، لكون فعل الخير مبداً للرحمة، والرغبة مبدأ له وذكراً أحوال الصلحاء مبدأ لها، فإذا كان الذكر كذلك فما ظنّك بالمشاهدة وكثرتها والطبع اللئيم مائل إلى اتّباع الهفوات والاعراض من الحسنات، بل تقدير الأولى فيمن ليست فيه تنزيلاً له على قضيّة الشهوة.
وفي النبوي: «مثل الذي يستمع الحكمة ثم لا يحمل منها الا شرّ ما سمع كمثل رجل أتى راعياً فقال له: أحرز لي شاة من الغنم، فقال: اذهب فخذ خير شاة منها، فذهب وأخذ بأُذن كلب الغنم» (10)، ولذا تستنكر الطباع ما قلّ وقوعه من المعاصي وإن كانت صغائر كتختّم الفقيه بالذهب ولبسه الحرير دون ما شاع كالغيبة مثلاً فتفطّن لهذه الدقائق وفرّ من الناس فرارك من الأسد، حيث لا ترى منهم الا ما يغفلك عن الآخرة ويهوّن عليك المعصية، ويضعّف رغبتك في الطاعة.
ومنها: إخلاص من الخصومات والتعرّض للأخطار والفتن التي لا يخلو بلد عنها.
وروى ابن مسعود أنّه صلى الله عليه وآله قال: «سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه الا من فرَّ بدينه من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر، كالثعلب الذي يروغ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا لم تنل المعيشة الا بمعاصي الله تعالى، فإذا كان ذلك الزمان حلّت العزوبة، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله وقد أمرتنا بالتويج؟ قال: إذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يدي أبويه، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده، فإن لم يكن فعلى يدي قرابته، قالوا: فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يعيّرونه بضيق اليد فيتكلّف ما لا يطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة» (11) وهو وإن اختصّ بالعزوبة الا أنّه يفهم منه العزلة لعدم إمكان التزويج الا بالمعيشة المستلزمة للمخالطة اللازم منها الوقوع في الفتن والأخطار.
وقال بعضهم لمّا وبّخوه على الاعتزال وترك إتيان الجماعات والمساجد: ـ رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في محاجّكم عالية وفيما هنا عمّا أنتم في عافية(12).
ومنها: الخلاص عن شرّ الناس من الغيبة وسوء الظنّ والتهمة والأطماع التي يعسر الوفاء بها والكذب والنميمة والحسد ونصب المكائد في إضراره وغير ذلك ممّا يطول الكلام بتفصيله.
وقد كان بعض الأكابر ملازماً للمقابر والدفاتر، فقيل له في ذلك، فقال: «لم أر أنيساً أسلم من الوحدة، وأوعظ من القبر، ولا جليساً أمتع من الدفتر» (13)، وبعضهم ملازماً للأشجار قائلاً: «إنّ فيها ثلاث خصال: إن سمع لم ينمّ وإن تفلت في وجهه احتمل، وإن عربدت معه لم يغضب» (14)، ولا يخلو الانسان في دينه وأفعاله ودنياه وأخلاقه من عورات يكون الأحسن بحاله سترها ولا يمكن بالمخالطة.
ومنها: انقطاع الطمع عنه، فإنّ رضى الناس غاية لا تدرك وتعميم الناس بجميع الحقوق متعسّر، بل متعذّر، والأشغال والأعذار كثيرة لا يمكن إظهارها لكل أحد، والتخصيص مورث للوحشة والبغضاء، فإذا عمّمهم بالحرمان رضوا عنه، وفي عكسه أيضاً فائدة جزيلة، فإن من شاهد أهل الدنيا وما متّعوا به من زهرتها ونعيمها فإما أن يقوى دينه ويقينه للصبر ففيه تجرّع لمرارته الذي هو أمرّ من الصبر، أو تنبعث رغبته إلى الدنيا فيحتال في طلبها فيهلك مؤبّداً.
أمّا في الدنيا فبالخيبة عمّا يطمعه غالباً والوقوع في الأخطار والآفات والمهانة والاذلال بذلك.
وأمّا في الآخرة فبإيثاره متاع الدنيا على الآخرة ولذا قيل:
إذا كان باب الذلّ من جانب الغنى *** سموت إلى العلياء من جانب الفقر
ومنها: الخلاص عن مشاهدة الحمقى ومقاساة أخلاقهم، فإنّ رؤية الثقيل هو العمى الأصغر، وقال جالينوس: حمّى الروح مشاهة الثقلاء.
وأغلب هذه الفوائد وإن تعلّقت بالدنيا الا أنّها ربّما تؤدّي إلى الدين أيضاً، فإنّ رؤية الثقيل يستلزم غيبته غالباً، والاستنكار لصنع الله وغير ذلك.
ومن فوائد المخالطة التعلّم والتعليم وهما من أعظم العبادات كما أشير إليه سابقاً إذا كانا فيما يحتاج ليه لأمر الآخرة وضروري الدنيا مع صحّة النيّة فيهما وخلوصهما عن الأغراض الفاسدة، فالاعتزال قبل التعلّم اللازم تضييع للأوقات بما لا ينفع بل يضرّ، بل يحسب {.. ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف: 103، 104].
وكذا ترويج العلوم بالتعليم وإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم من أفضل الطاعات مع خلوص النيّات وحصول القابل للتعلّم الجامع لآدابه السالفة دون ما شاع في هذا العصر منهما، فإنّ فسادهما أكثر من نفعهما كما لا يخفى.
ومنها: النفع والانتفاع بالمكاسب والمعاملات إن احتاج إليها أو قصد مقصداً صحيحاً شرعياً، لكن لو كان عنده ما يكفيه مع القناعة كان الأفضل له العزلة لانسداد طرق المكاسب في هذه الأزمنة غالباً الا من المعاصي، وكذا العزلة لتحصيل المعارف الحقّة أفضل من الكسب للصدقة على الناس، ونفع الناس بماله أو بدنه وبالقيام بحوائجهم وقضائها له ثواب عظيم مع القيام بحدود الشرع فهو أفضل من العزلة للنوافل والأعمال البدنية الا أنّه لا يعادل العزلة للإقبال بكنه الهمّة على الله والتجرّد لذكره والأنس بمناجاته عن كشف وبصيرة لا عن أوهام فاسدة وخيالات باردة وظنون واهية لمن وفّقه الله للوصول إلى تلك المرتبة العالية.
ومنها: التأدّب، أي الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمّل أذاهم كسراً للنفس وقهراً للشهوات، وهذا ممّا يحتاج إليه في بدو السلوك، وأمّا بعد حصول الارتياض فلا، إذ ليس مقصوداً لذاته، فإنّ البدن مركب للنفس تسلك به سبيل الآخرة، فلا بدّ من رياضتها وكسر شهواتها حتى لا تهمج (15) وينتفع بركوبه وسلوكه للطريق بالوصول إلى المقصد، فلو اشتغل برياضتها دائماً بدون انتفاع منه باستعماله فيما يراد منه كان كالنائم والميّت في الخلاص عن ألم الشهوات مع عدم حصول الغاية المقصودة منها، فالعزلة أفضل له حينئذٍ، ونحوه التأديب، أي تهذيب من كان مستعدّاً، فإنّه لا يمكن الا بالمخالطة معه كالمعلّم، ويتطرّق إليه من الرياء وسائر الأخطار ما يتطرّق إليه، فلا بدّ من التدقيق في مقابلة ما تيسّر له منه بما يتيسر من العزلة ثم إيثار ما هو الأفضل له.
ومنها: الاستئناس بالناس في مواضع العشرة والانس كمجالس الولائم والدعوات وهو حظّ للنفس في الحال، فما يكون مشتملاً على فعل حرام محرّم، أو مباح مباح، أو مستحبّ كالأنس بالملازمين لسمة التقوى بمشاهدة أحوالهم واستماع أقوالهم، فمستحب، ومنه ما لو كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج النشاط في العبادة، فإنّه يعمى إذا أكره ويتنفّر بتكليف المداومة في الرياضة والعبادة، فلا يستغنى المعتزل أبداً عن رفيق يستأنس به في بعض الأوقات، الا أنّه يجتهد في طلب من لا يفسد عليه بقيّة أوقاته، وليكن غالب محادثته في أمور الدين والتشكّي من أحوال القلب والتفحّص عمّا به يهتدي إلى الحقّ.
ومنها: نيل الثواب بحضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة والعيدين والجماعات، بل الإملاكات والدعوات من حيث إدخاله السرور على قلب مسلم، وكذا إنالة الثواب بفتح الباب ليعزّوه أو يهنؤوه أو يعودوه، فينالوا به الثواب، أو كونه من العلماء فينالوا بزيارته الثواب.
ومنها: التواضع، فإنّه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في العزلة، بل قد يكون سببها الكبر بتحقير الناس أو خوف ألّا يوقّر ولا يقدّم أو كون عزلته أدخل في عزّته وجاهه عند الناس أو خوف ظهور قبائحه لو خالطهم فلا يعتقدوا فيه الزهد والعبادة فيستتر بها عن مقابحه إبقاء لاعتقادهم فيه، وعلامة هؤلاء أنهم يحبّون أن يزاروا ولا يزوروا ويفرحون بتقرّب العوام والحكّام إليهم، فمن ليس مشغولاً مع نفسه بذكر الله فسبب اعتزاله عن الناس شدّة اشتغاله بالناس فلا يستحبّ العزلة الا للمستغرق بربّه ذكراً وفكراً وعلماً وعبادة، بحيث لو خالط الناس لضاعت أوقاته وكثرت آفاته وتشوّشت عليه عباداته.
ومنها: التجارب الحاصل (16) من مخالطة الخلق ومجاري أحوالهم إذ لا يكفي العقل الغريزيّ في تفهّم مصالح الدارين، بل يفيده التجربة والممارسة، ومن أهمّها أن يجرّب نفسه وأخلاقه وصفاته حيث لا يمكن الاطّلاع عليها في الخلوة، فإنّ كل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلّي ونفسه لم يترشّح منه خبثه، وهذه الصفات مهلكات في أنفسها فتجب قلعها وقمعها، ولا يكفي تسكينها بالتّباعد عن محركاتها، فكما أنّ الدمّل الممتلئ بالقيح والمدّة (17) لا يحسّ صاحبه بألمه مالم يتحرّك أو يمسّه غيره ولو لم يكن له يد تمسّه أو عين تبصره أو معه أحد يحرّكه ربّما يظنّ بنفسه السلامة، فكذا القلب المشحون برذائل الأخلاق إنّما تنفجر عنه خباثته بالتحريك، ولذا كان السلف يجرّبون أنفسهم بحمل قرب الماء وحزم الحطب بين الناس في الأسواق، ويحكى عن بعض الأكابر أنّه قال: أعدت صلاة ثلاثين سنة مع انّي كنت أصلّيها في الصفّ الأوّل، ولكن تخلّفت يوماً لعذر فما وجدت موضعي فيه فوقفت في الصف الثاني فوجدت في نفسي تشعر خجلة من نظر الناس إليّ.
ولذا قيل: إنّ السفر سمّي سفراً لإسفاره من الأخلاق، لكونه نوعاً من المخالطة.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحكم بترجيح أحدهما على الآخر مطلقاً غلط، بل ينبغي النظر إلى الشخص وحاله وخليطه وحاله والباعث على مخالطته والفائت بسببها من الفوائد المذكورة ويقاس الفائت بالحاصل، فعند ذلك يتضح الأفضل، ويتبين من ذلك أن الاولى بحال السالك مراعاة الاعتدال فيهما.
تفريع:
ثم إن تعذّر عليك أن تعيش معتزلاً عن الخلق ولم يتمّ عيشك إلا بالمخالطة لأبناء نوعك أو كانت أصلح بحالك من العزلة لم يكن لك بدّ من معرفة آدابها ولمخالطة كل من تريد أن تخالطه أدب خاص على قدر حقّه عليك، وبواسطة رابطته التي بها وقعت الخلطة وأخصّها القرابة وأعمّها الإسلام وفيما بينهما حق الجوار وحق الصحبة في السفر أو المكتب أو الدرس أو الصداقة أو الاخوة ولكل منهما درجات فحق الرحم المحرم آكد في حقوق القرابة من غيره، وحق الوالدين آكد في حقوق المحارم من غيرها، وحق المسلم يتأكد بالمعرفة التي لها درجات مختلفة، وحق الصحبة في الدرس والمكتب آكد من صحبة السفر، وكذا للصداقة مراتب، فإنّها إذا قويت صارت أخوّة ثم إن ازدادت صارت خلة، فإنّ الخلة عبارة عن تخلّل الحب جميع أجزاء القلب ظاهراً وباطناً واستيعابه له فالخليل أخص من الحبيب، فالتعدّي في كل من مراتبها ظلم وجور، أي تعدّ عن الوسط اللازم مراعاته فيما بينه وبين الخلق، ونحن نشير هنا إلى أنواع التعديات المذكورة في عدّة فصول.
__________________
(1) مصباح الشريعة: الباب 24، في العزلة.
(2) المحجة البيضاء: 4 / 5.
(3) المحجة البيضاء: 4 / 5.
(4) المحجة البيضاء: 3 / 285.
(5) المحجة البيضاء: 3 / 285.
(6) المحجة البيضاء: 3 / 285.
(7) المحجة البيضاء: 3 / 286.
(8) المحجة البيضاء: 3 / 288.
(9) المحجة البيضاء: 4 / 18.
(10) المحجة البيضاء: 4 / 17، وفيه: «أجزر لي شاة».
(11) المحجة البيضاء: 4 / 20.
(12) المحجة البيضاء: 4 / 21.
(13) المحجة البيضاء: 4 / 22.
(14) المحجة البيضاء: 4 / 22.
(15) كذا، والظاهر: لا تجمع كما في المحجّة البيضاء (4 / 30).
(16) كذا، والصحيح: الحاصلة.
(17) المدّة كقلّة: ما يجتمع في الجرح من القيح.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|