المقال من نتاجات عصر النهضة

إن المقال بهذه الصفات التي تم إيضاحها آنفاً، وهذه السمات التي تحيط بكتابته وتحريره من مختلف الجوانب والأبعاد الفكرية واللغوية والأسلوبية، كان وليد عصر النهضة التي شهدتها أوروبا، وارتبط وجوده باسم الكاتب الفرنسي (ميشيل دي مونتين).

والحقيقة أن المقال الصحفي هو ثمرة التقدم الحضاري، فهو بطبيعته لا يزكو إلا في بيئة يتكون فيها الرأي العام، ويتقدم فيها العمل السياسي، وتتصارع بها الآراء والاتجاهات، وينتشر فيها التعليم، وتنهض الفنون، وتصبح الديموقراطية اتجاها مقبولاً لدى الجميع. فأهم مميزات عصر النهضة، وهو الذي يمثل بيئة المقال الأصلية، نزعة التفكير الفردي والميل إلى المعرفة والرغبة في التجربة. وقد كانت سمات العصر: حب الاستطلاع وتوسيع آفاق المعرفة البشرية، والتعطش إلى الارتباط بالمجهول، بدلاً من الخوف منه والإعراض عنه، فخرج المغامرون يستكشفون الأقطار الجديدة في الأمريكتين، وأخذ الفلاسفة يفكرون في مجالات جديدة وبأساليب مبتكرة. وقد رأينا أن مميزات هذه البيئة هي نفسها مميزات فن المقال: فلولا الإيمان بعقل الإنسان، واحترام ذاتيته، وحب الاستطلاع، والرغبة في المعرفة، وحرية البحث ونشاط الفرد، وهي جميعاً مميزات عصر النهضة، لما قدر لفن المقال أن يرى النور."