المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05

التطهير بالغَيبة
6-12-2016
ترسيخ الإيمان والعقيدة بالدين / الاهتمام بصلاة الأبناء
2024-08-02
الشريف شمس الدين الحسن بن بدر الدين محمد.
23-3-2017
المرايا الكروية
20-7-2016
مواصفات المشرف العلمي على الأخبار التربوية
31/10/2022
تصنيع كلورات الصوديوم
22-9-2016


مفهوم المحاكاة عند أفلاطون  
  
32442   01:34 صباحاً   التاريخ: 14-08-2015
المؤلف : د. عصام قصبجي
الكتاب أو المصدر : أصول النقد العربي القديم
الجزء والصفحة : ص38-50
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد القديم /

 ثمة علاقة جوهرية بين النقد والمحاكاة منذ طلع افلاطون بنظريته التي فسر بها حقائق الوجود إلى أن قال "شلي" ان (الشعر فن قائم على التقليد) (1)، بيد أن المعضلة حقاً هي في العلاقة بين النقد والفلسفة، "فأفلاطون" انما حمل على الشعر حملة ميتافيزيقية نابعة من نظريته في المثل التي قيل انه اراد بها (ان تعبر عن بيعة النظرة العقلية إلى العالم من حيث انها تتخلى عن الطابع العرضي للظواهر المتغيرة) (2). وربما كانت صورة الكهف الشهيرة التي أوردها افلاطون في جمهوريته(3) خير تعبير عن نظرية المثل من حيث صلتها بنظرية المحاكاة، فهو

 

 

 (1) انظر: مقدمة "شل" لمسرحية مرومثيوس طليقاً" ترجمة الدكتور لويس عوض، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1947 ص87.

(2) الدكتور فؤاد زكريا: دراسة لجمهورية افلاطون، دار الكاتب العربي القاهرة 967 ص147

(3) انظر: جمهورية افلاطون ترجمة حنا خباز، مطبقة المتقطف، القاهرة 1929 ص 183 -187

يرى أن ما ندركه من الأشياء يشبه ما يدركه اناس ينظرون إلى ظلال نار على جدران كهف، وقد أداروا ظهورهم إلى فتحته التي تتأجج امامها النار، فهؤلاء  انما يدركون الظلال المرتسمة على جدران الكهف فيخالونها حقيقة، فغذا ما تجردوا من قيود الظاهر وغادروا كهفهم ابصروا حقائق الأشياء في النور بعيداً عن الظلال، فكان عالم المثل هو الماهية الحقيقية المجردة التي تسبق الوجود، وما الوجود إلا محاكاة حسية لها بمثابة الظلال من النار، ومن هنا (فان صورة الكهف عند افلاطون قد خلقت التمييز الفلسفي الاساسي بين المظهر والحقيقة، وأكدت أولوية عالم الأفكار فوق عالم المحسوسات)(4)

ما هي إذن طبيعة العلاقة بين الفن والعالم؟ يحدثنا "أفلاطون" أن الفنان إنما يحاكي ظاهر العالم الحسي، فإذا لاحظنا أن العالم الحسي ذاته إنما هو محاكاة لعالم المثل أدركنا مدى الهوة التي تفصل بين الفكر والفن عنده. والحق أن "أفلاطون" يسلب الشاعر أصلاً عنصر التفكير، فيعد إبداعه إلهاماً علوياً لا ينطوي على جهد ذهني خاص به، والشاعر الحق عنده هو الذي يستسلم لضرب من النشوة أو الإلهام الذي يرقى على جناحه إلى السماء. يقول في "فايدروس": "غير أن هناك نوعاً ثالثاً من الجذب والإلهام مصدره" ربات الشعر" إن صادف نفساً طاهرة رقيقة أيقظها، فاستسلمت لنوبات تلهمها بقصائد وشعر تحيي به العديد من بطولات الاقدمين، وتقدمها ثقافة يهدي بها ابناء المستقبل، لكن من يطرف أبواب الشعر، دون أن يكون قد مسه الإلهام الامر شاعراً، فلا شك أن مصيره الفشل، ذلك لأن شعر المهرة من الناس سرعان ما يخفت إزاء شعر الملهمين" (5). ولا ريب أنا نجد أنفسنا هنا امام (4) دراسة لجمهورية افلاطون.

(5) فايدروس، ترجمة الدكتورة أمير حدمي مطر ــ دار المعارف ــ الطبعة ــ الطبعة الأولى ــ ص68

معضلة أخرى، فكيف يجعل أفلاطون الشعراء من الكائنات المقدسة التي مستها نشوة الحب الإلهي، ثم يضعهم تارة اخرى في المرتبة السادسة بين الصناع والعرّافين، بعد ان قدم عليهم الفلاسفة، والملوك، والسياسيين، والرياضيين، كما فعل في "فايدروس" أيضاً لحياة عرّاف، او رجل قد عكف على طقوس العبادة، واما السادسة فتناسب شاعراً، او فناناً لمحترفي الفلسفة أو فن خداع الجمهور، اما التاسعة فهي للطاغية"(6).

ترى، هل كان أفلاطون يفرق بين الشاعر الملهم، والشاعر المحاكي، فيجعل للملهم مقاماً أسمى من المحاكي؟ أغلب الظن أن افلاطون كان يزدري شعر المحاكاة خاصة، من حيث كونه تصديراً سلبياً للظلال، وليس للمثل، وفضلاً عن أن عبارته في "فايدروس" تعضد ذلك، إذ تميز بين الملهم والمحاكي من الشعراء، فتثني على الملهم، وتزري بالمحاكي، فإن موقفه في "الجمهورية" ينم على اقتران حملته على الشعراء بنظريته في المثل، تلك النظرية التي ترى في ولوع الشاعر بالمحاكاة ما يجعله أدنى مرتبة من الصانع، وهكذا فلعل "أفلاطون" كان رحيماً بالشعراء في "فايدروس" إذ قدمهم على الصناع لأنه في "الجمهورية" يبدو جازماً بأن الصناع أقرب إلى عالم المثل

 (6) فايدروس، ترجمة الدكتورة اميرة حدمي مطر ــ دار المعارف ــ الطبعة الاولى ــ ص68.

من الشعراء: (لا ندهشن إذا وجدنا ان اشياء محسوسة كالفراش ليست إلا ظلالاً بإزاء الحقيقة .. هنالك ثلاثة أنواع من الفراش: واحد منها يوجد في طبيعة الأشياء وهذا إذا لم أكن مخطئاً ننسبه إلى صنع الله . . . . . والثاني عمله المنجّد . . .. والثالث هو صنع الرسام . . .. ولما كان ناظم المأساة مقلداً أمكننا أن نتكهن كذلك أنه مع كل المقلدين الثالث في انحداره من الملك ومن الحقيقة . . . . ألا يمكننا القول ان في كل شيء على حدة ثلاثة فنون خاصة مجال الفن الأول استعماله والفن الثاني صنعه، والثالث تقليده) (7). وظاهر إذن أن الشاعر عند افلاطون انما يحاكى المظاهر المادية لا الصور العقلية، فهو لا ينهل في شعره من عالم المثل ولكن من عالم المادة، وهو لا ينفذ أيضاً إلى جوهر ما يحاكيه ولكن يقتصر على ملاحظة ظاهرة، أيقول الدكتور محمد غنيمي هلال معقبا على نظرة "افلاطون": (الشاعر أو الفنان بعامة يعكس لنا في فئة خيالات الاشياء أو مظاهرها لا جوهرها وهو في ذلك في مرتبة دون الفيلسوف، بل دون مرتبة الصانع، وذلك أن النجار مثلاً يحاول أن يقرب في صنعته لسرير خاص أو منضدة خاصة من درجة الكمال بتأمله في صورة السرير المثال، أو المنضدة المثالية وهي الصورة العقلية الثابتة الخالدة التي هي من خلق الله، على حين يحاول الشاعر وصف المنضدة فهو يحاكي منضدة هي بدورها صورة ناقصة للمنضدة المثالية، وكذلك شعراء المآسي يحاكون الأشياء والحوادث على هذه الصورة البعيدة من جوهر الحقيقة ومن صورها الثابتة الخالدة (المثالية)(8).

الفن إذن مجرد مرآة تعكس ظاهر العالم الحسي بعيداً عن العالم العقلي، ففي مقدور أي انسان ان يلهو بمرآة ما فيرى الشمس والأرض، والكواكب،

 (7) انظر: جمهورية افلاطون، ص262 -269

(8) الدكتور محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، بيروت 973، ص34-35

والناس وقد تجلت فيها وهذا ما يفعله الفنان حقاً (ففي رأي افلاطون ان الفن ايسر سبيل إلى تقديم صورة سطحية للعالم بأكمله فالفنان يدعي لنفسه القدرة على محاكاة كل شيء)(9) أما السبيل إلى ذلك فهو كما يقول "أفلاطون" (ان تأخذ مرآة وتديرها إلى كل الجهات فانك في الحال تصنع الشمس وكل ما في السموات والكواكب والأرض وتصنع نفسك وغيرك من الناس، والحيوانات، والنباتات والأواني)(10) وواضح أن ما يصنعه الفنان اذن ليس الحقيقة وربما كانت كلمة "المرآة" تلخص نظرة "افلاطون" إلى الفن فالمرآة اداة تعكس مظاهر الاشياء المحسوسة بعيداً عن الابداع واين الفن مثلاً في صورة كرسي في مرآة؟ اليس صانع الكرسي اولى بالإبداع من مصور راح يلهو بمرآة ويرى فيها صورة المحسوسات؟ وهل تكون لوحة الرسام أو قصيدة الشاعر ــ وكلاهما محاك ــ شيئاً أكثر من مرآة؟ يلوح ان "افلاطون" كان يرى في الفن لعباً لا يليق بالحكيم ان ينصرف إليه لئلا يبتعد عن إدراك الحق والخير والجمال في جوهر الاشياء، وفي

 (9) دراسة لجمهورية افلاطون، ص159

(10) جمهورية افلاطون: ص264

"الجمهورية" ما يؤكد ذلك اذ نراه يقول: (ان المقلد لا يعرف شيئاً مهما عما يقلده، فالتقليد عنده مجرد لهو وتسلية لا عمل جدي) (11). اما انه جعل الشعر قريناً للإلهام فلان الالهام ذاته دليل على أن الشاعر ليس له في عملية الابداع اكثر من المتلقي، فضلاً عن انه في شعره الذي لا ينشد فيه الحقيقة غالباً انما يحجب الحقائق المجردة ببلاغة مزيفة يقصر عليها همه معرضاً عن الغوص في جوهر الامور، ولذا فان شعره يشبه الظلال التي ظنها جمهور الكهف الحقيقة حتى اذا ما خرجوا من اغلال الحواس أبصروا الضوء الحقيقي الباهر خارج كهفهم بالشعر اذن لعب يقدم للناس صورة سطحية للعالم تحول بينهم وبين جوهر المعرفة ولعل ذلك يفسر مطالبة "افلاطون" بأن يشتمل الفن على الحقيقة، وبأن يعرف الشاعر او الخطيب حقيقة ما يقول الاسبرطيين اذا لم يتضمن الحقيقة لا يكون فنا على الاطلاق)(12). ان الخطيب ــ في رأي "افلاطون" لا يجني من خطابته أية ثمار لو استطاع بجهله للخير والشر أن يمتدح ظل الحمار وعلى أنه حصان ويمتدح الشر على أنه الخير ليقنع العامة بفعل الشر(13). والفنان الحق هو ذلك الذي توغل في عالم المعرفة: (ان كل الفنون ذات الشأن تستلزم المناقشة وامعان الفكر في الطبيعة وفي السماء وبهذا نحصل على السمو الفكري والكمال الصحيح) (14) وغاية الفن هي معرفة طبيعة النفس (من الواضح ان تعليم البلاغة ان كان يقدم بطريقة فنية فانه سوق يظهر بدقة طبيعة الموضوع الذي تتعلق الأحاديث به وليس

 (11) جمهورية افلاطون: ص270.

(12) فايدروس: ص96.

(13) انظر: فايدروس: ص95-96.

(14) فايدروس: ص114

هذا الموضوع في الحقيقة إلا النفس) (15). و "افلاطون" يهاجم اولئك الذين يعتقدون ان الفن هو مشابهة الحقيقة لا الحقيقة ذاتها فيهدفون إلى مظهر الحق الذي هو خلاصة الفن عندهم معرضين عن الحق نفسه(16). ثم يلاحظ ان الفن ينبغي أن يتسم بالشمولية ويبتعد عن الجزئية كي يكون جديراً بالسمو، وهكذا فانه إنما حمل على الفن والشعر خاصة لأنه قاصر في رأيه على محاكاة ظاهر الشيء المحسوس دون جوهره، فضلاً عن أنه منصرف عن الحقيقة مولع بالجزئيات. و "افلاطون" ينكر اصلاً ان يتناول العلم امراً محسوساً ويقول ان المرء (ما دام يحاول درس موضوع محسوس فاني أنكر عليه القول انه تعلم شيئاً، إذ لا شيء من المحسوسات يعالج معالجة علمية) (17). ويلوح ان نظرته إلى الشعر على هذا النحو نجمت عن الخلط بين الادراكات الجمالية والادراكات الصوفية(18)، او عن الخلط بين الادراكات الفلسفية والحقيقية الشعرية (19)، وهو خلط اساء إلى الشعر ونم على ظاهرة توحي بالتناقض وهي انه على الرغم من هجوم افلاطون على الشعر فقد كان أقرب الفلاسفة إلى روحه حتى لقد قيل انه كان شاعراً تجريدياً يتغنى بالماهيات (20)، على اننا إذا لاحظنا انه انما حمل على الشعر ذي الطابع

الحسي الظاهري، الزاخر بالصور، المتعدد الألوان، (21) أدركنا أن حملته تنطوي في حقيقتها على تمجيد خفي للشعر الروحي الذي يعلو على الظواهر وينشد الحقيقة دون ان يقتصر على محاكاة مظاهر جزئية بعيداً عن روح الابداع.

الحقيقة اذن هي معيار الشعر عند افلاطون، وبما ان الشاعر لا ينفذ بمحاكاته في جوهر الشيء وانما يقتصر على ظاهره محاولا اقناع الناس بما يريد، فإنه لذلك لا يعتبر مبدعاً حقاً، لأنه لا ينشد الحقيقة ولكن ما يوهم بالحقيقة، وقد يتساءل المرء: لماذا ابعد "افلاطون الشاعر عن عالم المثل ولم يهيئ له اسباب العروج إليه؟ ولماذا جعل الصانع واسطة بين الشاعر والمثل؟ لأنه إذا كان الشعر قرين الالهام وكان الشاعر ممن تعتريهم نشوته فيستسلمون لها، فكيف نبعده بعد ذلك عن عالم الالهام، وتقرر انه يستلهم أنموذجه من الصانع وانه لا يكاد يجاوز الظاهر المحسوس؟. يبدو ان الغموض يكتنف اسباب حملة افلاطون على الشعر، ولكن لعل مقته البالغ للمحسوسات، وتجريده لها من كل عنصر ذهني مع افتراضه ان الفن محاكاة لهذه المحسوسات، هو السبب الرئيسي لهذه الحملة، على ان من النقاد من ذهب إلى أثر العامل التربوي الثقافي حين لاحظ ان حملته على الطابع الحسي في الشعر لم تشمل فنون التصوير والنحت والعمارة مع انها اشد حسّية فقال: ان ذلك يرجع إلى ما كان للكلمة من تأثير بالغ في اليونانيين، وان "افلاطون" كان يريد نقد التراث الثقافي الاغريقي الذي تولى الشعر الملحن

نقله عبر الاجيال(22). وحقا ربما كان "افلاطون" يكره في الشعر اليوناني نقله للعادات والاعراف، واستخدامها في تعليم الصغار، ولا سيما انه كان يخشى تأثر هؤلاء الصغار بما يعرض لهم من شعر يصور الآلهة تصويرا مشوها، ويضرم نار الاهواء (لأنه يروي العواطف التي يجب ان تجف عطشا وينعشها ويحكمها فينا وكان يجب ان نتحكم فيها اذا رمنا ان نكون اسعد وأرقى بدل كوننا أدنى واشقى)(23) والخطأ الأكبر للشاعر كما يرى "افلاطون" (هو تمثيل المؤلف صفات الالهة والابطال تمثيلاً مشوها، فهو كالمصور الذي لا يشبه رسمه ما صوره من الاشياء . . . لا نقولن لسامعنا الفتى انه لم يجن نكرا اذا ارتكب شر الموبقات، او اذا عاقب والده على جرائمه بابلغ صنوف الهوان لأنه لم يفعل ما فعله كبار الآلهة قبله)(24).

واضح اذن ان حملة افلاطون على الشعر لا تنبع من انصراف الشعر إلى الحواس فحسب، وانما من انصرافه ايضاً عن الاخلاق، فالشعر عنده عدو الحقيقة والاخلاق معاً و (خيانة الحقيقة خطيئة) (25) و (لا نسمح لشاعر ان يقول ان الله سبب العقاب الذي آل إلى شقاء عبده) (26). لقد كان افلاطون "ينشد طهارة الحياة ويهاجم كل ما يمكن ان يسيء إلى هذه الطهارة، والشعر كما عهده كان يسيء إليها بتصويره الآلهة على نحو ضار، وهو ينبه صديقه "غلوكون" قائلاً: (لا تنس ان الشعر لا يباح في الدولة إلا في تسبيح الله، ومدح الصلاح)(27) (اما الادعاء ان الاله الصالح علة شر كائن من الناس، فهو قول يجب ان نحاربه بما اوتينا من قوة، لان المبدأ الذي تتضمنه اسطورة كهذه شعراً أو نثراً لا يقال ولا يسمع في المدينة ولا يبيحه من يروم خير الدولة وارتقاءها شيخاً كان أو فتى، لأنها اقوال تنافي طهارة الحياة وهي ضارة ومتناقضة)(28). وهكذا فمن المسلّم به ان النظرة الخلقية كانت سبباً رئيساً في اعراض "افلاطون" عن الشعر، والفضيلة اهم من الشعر، والاغريق عامة لم يلتمسوا اللذة الحسية في الفن وانما التمسوا التهذيب الخلقي و (المزج بين فكرتي الجميل والخير هو محور النظرية اليونانية في الفن)(29) وربما وحّد افلاطون ايضاً بين الحقيقة والخير، لأن الشاعر المحاكي عندما يرى ان "تحول" الشقي إلى سعيد امر ممكن فانه يسيء إلى الحقيقة (فشعراء المآسي يسيئون في محاكاة الحقيقة حين يظهر في محاكاتهم ان من الممكن ان يصير الشرير سعيداً، والخير شقياً ويقول "افلاطون" انه (لا شيء من الشر يمكن ان يحدث للإنسان الخيّر لا في هذه الحياة ولا بعد الموت)(30).

ويبدو ان هذه النظرة الخلقية نفسها هي التي حملت "افلاطون" على تفضيل الشعر الغنائي نسبياً، فالتغني بالفضائل يجعل الشعر الغنائي أخف ضرراً بالحقيقة والأخلاق(31)، لأنه كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: (يشيد مباشرة بأمجاد الابطال، يلي ذلك شعر الملاحم لأن النقائض المصورة فيه لا تؤثر في مصير البطل، ولا تقلل كثيراً من اعجابنا به بوصفه بطلاً، ويأتي بعد ذلك شعر المآسي، ثم الملهاة فهما أسوأ نماذج الشعر لمساسهما المباشر بالخلق) (32)

واذا كان "افلاطون" يرجع إلى نظرية المثل في تفسيره الخلقي للشعر، فانه يرجع إليها ايضاً في تفسيره الفني، ولقد رأينا ان نظرية المثل كانت تعبيراً عن نظرية عقلية كلية، واذن فان الشعر انما يهاجم لأنه يحاكي الظواهر الجزئية المتغيرة محاكاة حسية بينما كان ينبغي ان يحاكي المثل العقلية الكلية الثابتة، ولما كان التشبيه هو اداة المحاكاة فانه يتحمل وزر الطابع العيني الحسي للشعر، ومن ثم فقد هاجمه افلاطون ايضاً من خلال هجومه على كل ما يرتبط بالحواس الظاهرة (وضمنه التشبيهات الشعرية التي يستمد معظمها من هذا العالم العيني)(33) وهكذا يلوح ان افلاطون كان يفهم المحاكاة تشبيها حسياً يعكس ظواهر الطبيعة الجزئية المتغيرة على نحو ما تعكسها المرآة، وذلك ما يسلب الشعر أي فضل في مجال الابداع، ويجعله ضربا من العبث الذي لا ينطوي على أية قيمة خلقية تسوغه. وطبعاً فانه يخلو أيضاً من قيمة المعرفة التي يرى افلاطون انها جوهر الفن، لأن جميع أنواع الكلام ــ وليس الشعر وحده ــ انما تنشأ عن فن اظهار التشابه بين الأشياء، والقدرة على التمييز تنشأ من المعرفة، وكل فن يخلو من المعرفة لا ينطوي على أية قيمة، يقول "افلاطون" (ان من لا يعرف الحقيقة، بل يقتصر على اتباع الظنون لا يصل إلا إلى فن مضحك، بل لا يعرف الحقيقة، بل يقتصر على اتباع الظنون لا يصل إلا إلى فن مضحك، بل إلى فن لا ينطوي على أية قيمة على الاطلاق) (34). وهكذا صاغ افلاطون قانونه الذي وجهه إلى الكتاب، والشعراء والسياسيين جميعا: (ان كان أحد منكم قد ألف هذه الكتابات عن معرفة بالحقيقة، وكان قادراً على أن يؤديها بالأدلة، وان يبين بكلامه ان الكتابة وحدها ليست بذات قيمة كبيرة فان مثل هذا الرجل لن يستمد لقبه من تلك الكتابات التافهة، بل من المعنى السامي الذي تتضمنه هذه الكتابات) (35).

ويبدو ان نفور "افلاطون" من الطابع الظاهري في شعر المحاكاة، قد دفعه إلى التنبيه على ضرورة الوحدة العضوية الحية في الفن وان كان هذا التنبيه يرجع ايضاً إلى نظرية المثل بما تحض عليه من التخلي عن الطابع العرضي، قال: (هناك شيء اعتقد على الأقل إنك ستوافق عليه، وهو ان كل حديث يجب ان يكون مكوناً على شكل كائن حي له جسم خاص به بحيث لا تنقصه رأس ولا اقدام، بل لابد له من وسط مع وجود طرفين يكونان قد كتبا بشكل يتفق بعضه مع بعض ومع الكل(36) على أن هذه الوحدة انما تظهر من خلال الكثرة وذلك عبر منهجين: (الأول يتخلص في جمع الكثرة المبعثرة في مثال واحد بفضل النظرة الشاملة حتى يمكننا الوصول إلى تعريف يوضح الموضوع الذي نريد معرفته) والثاني (يمكننا من تقسيم الموضوع إلى انواع وذلك مع مراعاة تفاصيلها الطبيعية والحذر من كسر أي جزء منها حتى نتجنب طرق النحات الرديء) (37).

صفوة القول إذن ان المحاكاة عند "افلاطون" تصوير لظاهر الطبيعة، على نحو يشبه فيه الشاعر الرسام الذي يحاكي "الشيء" ولا يحاكي "المعنى" او المثل" فيتأخر بذلك عن الصانع" الذي يحاكي مثلاً عقلياً الهياً ثابتاً".

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(15) المصدر نفسه: ص116.

(16) المصدر نفسه: ص120 – 121.

(17) انظر: جمهورية افلاطون: ص198.

(18) انظر النقد الأدبي الحديث: ص34

(19) انظر: دراسة لجمهورية افلاطون: ص170.

(20) انظر: دراسة لجمهورية افلاطون حيث يرى الدكتور فؤاد زكريا انه أقرب الفلاسفة إلى المزاج الشعري وان معاييره الشعرية لو طبقت على محاورة "طياوس" أو المأدبة لكان على رأس المطرودين من مدينته الفاضلة. ص169.

(21) علينا ان نتذكر دائماً مبدأ افلاطون القاتل ان الكثيرة والتغير شر، والوحدة والثبات خير. انظر: دراسة لجمهورية افلاطون ص157.

(22) انظر ما سرده الدكتور فؤاد زكريا من رأي "نتلشب" في ان "افلاطون" انما ركز الحملة (على الشعر في المقام الاول، ثم على الموسيقى من بعده بينما كانت حملته على التصوير ضعيفة على حين كاد يسكت تماماً على فنون كالنحت والعمارة) ويبدو ذلك غريباً (اذا تأملنا هذه الظاهرة في ضوء عداوة "افلاطون" للمذهب الحسي إذ ان الطابع الحسي واضح في النحت وهو في التصوير اوضح منه في الموسيقى والشعر) وبينما يرجع "نتلشب" هذا التناقض إلى اثر الكلمة في اليونانيين يرى الدكتور زكريا ان التعليل التربوي هو الذي يفسره انظر: ص166-167.

(23) جمهورية افلاطون: ص375.

(24) جمهورية "افلاطون": ص53 وانظر: دراسة لجمهورية "افلاطون" ص163 – 167 والنقد الأدبي الحديث: ص35.

(25) جمهورية افلاطون: ص275.

(26) المصدر نفسه: ص55.

(27) المصدر نفسه: ص275.

(28) المصدر نفسه: ص55-56.

(29) دراسة لجمهورية افلاطون: ص164.

(30) النقد الأدبي الحديث: ص35.

(31) النقد الأدبي الحديث: ص35.

(32) النقد الأدبي الحديث: ص35، وترى الدكتورة اميرة حلمي مطر ان افلاطون يفضل الشعر الملحمي على الغنائي، وذلك في معرض تعليقها على وصف، سقراط، لشعره في حالتين خضع في الأولى منها لنشوة الشعر الديتورامي (الغنائي) وصار في الأخرى أكثر اناة ومحاكمة عقلية. انظر: فايدروس، حاشية (1) ص61.

(33) دراسة لجمهورية افلاطون: ص166.

(34) فايدروس: ص99-100.

(35) فايدروس: ص130.

(36) المصدر نفسه: ص106-107.

(37) المصدر نفسه: ص103

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.