المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
زكاة الفطرة
2024-11-05
زكاة الغنم
2024-11-05
زكاة الغلات
2024-11-05
تربية أنواع ماشية اللحم
2024-11-05
زكاة الذهب والفضة
2024-11-05
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05

النظام الصرفي (تقسيم الكلام: الاسم)
20-2-2019
أبرز أهداف الدعاية وأهمها في المجال العسكري
28-8-2020
تعبئة وتخزين العسل
1-12-2015
Introduction to The Translation
23-5-2021
مقاومة امراض النبات الفيروسية
20-6-2018
Nuclear Reactions: Changing the Hearts of Atoms
28-1-2019


الطابع الغنائي في النقد الأموي  
  
3588   12:39 صباحاً   التاريخ: 14-08-2015
المؤلف : د. عصام قصبجي
الكتاب أو المصدر : أصول النقد العربي القديم
الجزء والصفحة : ص18-30
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد القديم /

 عند انتقالنا إلى بقية الملاحظات النقدية في صدر الإسلام نجد أنها لم تكد تتغير عن الملاحظات ــ وهي ملاحظات وليست مبادئ ــ الجاهلية، إلا في رهف الذوق، فـ "نوع" النقد لم يتغير، وإنما تغيرت "نسبة" الذوق فيه، وكما أن الحياة لم تعد بدوية محضاً، فالذوق لم يعد بدوياً محضاً، غير أنه ظل غنائياً، والنماذج ها هنا أكثر من النماذج الجاهلية، وماذا نرى مثلاً في هذه الرواية: "قال يونس النحوي: قدم علينا ذو الرمة من سفره وكان أحسن الناس وصفاً للماء، فذكرنا له قول عبيد، وأوس ، وعبد بني الحسحاس في المطر، فاختار قول امرئ القيس:

ديمة هطلاء فيها وطف               طبق الأرض تحرّى وتدر"

أو هذه: " سأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، فقال: زهير، قال: وكيف؟ قال: لأنه ألقى عن المادحين فضول الكلام مثل قوله:

فمايك من خير أتوه فإنما              توارثه آباء آبائهم قبل

وماذا نرى أيضاً في صيغة: اجتمعوا، أو اتفقوا، أو أرق بيت، أو امدح بيت: "قال عبد الملك لقوم من الشعراء: أي بيت أمدح؟ فاتفقوا على بيت زهير:

تراه إذا ما جئته متهللاً                كأنك تعطيه الذي أنت سائله"

"اجتمع عند عبد الملك اشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرئ القيس:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي                بسهميك في أعشار قلب مقتّل"

ما هو معيار الرقة الذي يعرف به أرق بيت؟ بل ما هي الرقة نفسها؟ وإذا كان لها تعريف، فهل ينبغي أن تكون الرقة واحدة عند الشعراء على تعدد أهوائهم؟ وما هو معيار المدح ليعرف به أي بيت امدح؟ وكيف يجتمع النقاد على بيت؟ وهل يعني ذلك أن الذوق الجماعي كان واحداً؟ وهذه أسئلة لا يجيب عنها النقد الغنائي مطلقاً، لأنه نقد شعري انفعالي، وكما أننا لا نستطيع أن نقول للشاعر: لم قلت هذا دون هذا، كذلك لا نستطيع أن نقول للناقد: لم حكمت بهذا دون هذا.

وإذا أردنا ألا نغالي، فإننا لن نفترض أن النقد في العصر الأموي كان ضرباً من السمر، على الرغم من أن هنالك ما يؤكد ذلك، إذ نرى في الروايات النقدية دائماً مثل هذه العبارات: "اجتمع أشراف من الناس" " سمر عبد الملك ذات ليلة" " فجعلوا يتحدثون" ""فتذاكروا الشعر". ومشكلة الشعر أنه قد ينم على براعة في النقد، وقد لا ينم، لأنه يصدر عن الذوق الذي يخالطه شيء من الدعابة، وقد يصادف أن يكون مرهفاً، وقد يصادف أن يكون فظا، وإن كان الذوق الفطري لم يكد يفسد بعد، ولكي نلحظ العلاقة بين السمر والنقد، لا بأس من استعراض هذه الرواية:

"سمر عبد الملك ذات ليلة، وعنده كثيرة عزة، فقال له: أنشدني بعض ما قلت في عزة، فأنشده إلى هذا البيت:

هممت وهمت ثم هابت وهبتها                حياء ومثلي بالحياء حقيق

فقال له عبد الملك: اما والله، لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك قال: ولم يا امير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتها معك في الهيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها! قال: فأي بيت عفوت به عني يا أمير المؤمنين؟ قال:

قولك:

دعوني لا أريد بها سواها             دعوني هائماً فيمن يهيم"

إن الناظر في هذه الرواية، لا بد أن تخطر بباله رواية النابغة وحسان في السيوف التي تقطر ولا تجري، والجفنات التي تلمع في النهار لا في الليل، ذلك أن الروايتين تنطلقان مما يفترض في الشاعر أن يقوله، لا مما يفترض أن يحس به، ولا يعني عبد الملك في سمره التأمل في كنه المشاعر التي خالجت كثيراً، بحيث غالبه الحياء بعد أن رأى هيبة عزة، وإنما يعنيه أن الحياء، إن لم يكن خاصاً بالمرأة على نحو ما هو مألوف، فليكن قسمة بين الرجل والمرأة على الأقل، اما ان يكون خاصاً بالرجل، فهذا ما لا ينبغي، وإذن فإن ما يهم عبد الملك ــ ممثلاً للذوق العام ــ هو ما يقره العرف العام للناس، وليس الذوق الخاص للشاعر، وواضح أن ما يقره العرف العام، إذا كان يبعد الذوق الخاص، فإن ذلك سيفضي إلى أن يكن الشعراء نماذج متقاربة، بل واحدة، بحيث يختلف شاعر عن شاعر، في نظمه الخاص، لا في تجربته الخاصة، وقد يكون اكثر الشعراء تحدثوا عن حياء المرأة، غير أن من الممكن أو المعقول أن يفوق حياء الرجل حياء المرأة أحياناً، إما من حيث الطبع، وإما من خلال تجربة معينة في ظرف معين، ولا سيما إذا تذكرنا أن الشعر ليس صفة دائمة، وإنما هو حالة متغيرة، وأي شيء يمنع ان يفوق حياء كثير حياء عزة مثلاً في لقاء ما، في ظرف ما؟ وهل وضع النقاد قانوناً للحياء يقيسون به تجارب الشعراء؟ على أن الأمر ليس كما يريد عبد الملك، فكثير جعل عزة تشعر بالهيبة، بعد أن هم بها، وهمت به، أي إنه جعلها مبدأ العفة في هذا الصراع بين الحسية والعذرية، وبعد أن جعل نفسه مبدأ الحسية، ومن الطبيعي أن يكون حياؤه أعظم إذا كانت هيبتها أعظم، وكأن حياءه ضرب من لوم نفسه على ما كادت تقدم عليه مما يسيء إلى طهارة الحب، ومهما يكن، فقد كان كثير بارعاً، إذ نسب إلى نفسه أنه هم بها أولاً، وأنها هابت أولاً، فالحسية منه، والعذرية منها، ولا بد ان يفضي ذلك بكثير إلى الحياء من نفسه، او فعله ، وكأن هيبتها اقتضت حياءه، لأن عزة لم تأت ما تستحي منه، إذا كانت قد هابت الوصال، بينما أتى هو بما يقتضي الحياء عندما هم بتشويه عذرية اللقاء؛ وإذن فإن كثيراً كان يعبر تعبيراً عفوياً عن حالة نفسية دقيقة صادقة، بينما كان عبد الملك يريد منه أن يترك هذا التعبير، ليدور في فلك العرف الأدبي العام. وهذا ينطبق أيضاً على قول عبد الملك حين أنشده أحد الرواة بيت الأعشى:

أتاني يؤامرني في الصبو             ح ليلاً فقلت له: غادها

فقال عبد الملك: أساء، ألا قال: هاتها!

الذوق، إذن، هو المعيار ، أما التعليل فلا أثر له، وكيف "يعلل" من يصدر عن محض البديهة. أو من يقرض الشعر الغنائي؟ إن ذا الرمة مثلاً ــ كما مر بنا، وقد اشتهر بوصف المطر ــ حين سئل عن وصف بعض الشعراء للمطر، أعرض عن الثناء عليهم، واختار قول امرئ القيس:

ديمة هطلاء فيها وطف               طبق الأرض تحرى وتدر

ولسنا ندري لم اختار ذو الرمة امرأ القيس، وأي امر أعجبه فيه، وربما كانت علة اختياره جاهلية امرئ القيس فحسب، وربما كانت أمراً لفظياً، أو ذوقياً محضاً لا ندري له كنهاً اليوم. وربما كانت كلمة "وطف"، ومهما كانت الأسباب فإننا نجهلها، كما نجهل علة "اتفاق" الشعراء في بلاط عبد الملك على استجادة بيت زهير في المدح:

تراه إذا ما جئته متهللاً                كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ألم يكن فيهم من لم يكن في هذا البيت ما يقتضي الثناء؟ ولا بد من التساؤل عن مدلول كلمة " اتفقوا" أهي تعني ذوقاً عاماً في أمر الشعر؟ وإذا كان الأمر امر ذوق عام فما هي طبيعة الذوق؟ وما هي حدوده؟ وما هو معياره؟ أغلب الظن أن هنالك تعميماً بجانب الدقة في هذه الأقوال، وان هنالك ضرباً من "الحياء النقدي" الذي يعصم المرء من مخالفة الذوق السائد، حتى إذا ما استجاد عالم ما أو أديب ما بيتاً من أبيات الجاهلية ــ غالباً ــ سلم الناس بذلك دون تمحيص، وسارت أفواه الناس به، واكتسب على مر الأيام رهبة خاصة لا يجرؤ أحد على المس بها، ثم يبدو الأمر شيئاً فشيئاً، وكأنه لا يحتمل المناقشة، على الرغم من أن كثيراً مما سلم به من يوصف بالنقد يحتمل المناقشة، بل النقض، لأنه امر ذوقي لا جرم أنه يتغير بتغير الأزمان، والبلدان، والأجناس، فإذا تذكرنا أن أكثر الأبيات التي عدت نماذج عليا، إنما هي جاهلية، وأنها عدت كذلك لأنها جاهلية، ادركنا أن جمود النقد على أذواق مضى الأدباء الذين تصدوا للنقد، كان يعني ــ ببساطة ــ جمود الذوق على العرف الفني الجاهلي.

وإذا حاولنا أن نلتمس بعض الروايات التي شارفت التعليل، وجدنا مثلاً أن الأحنف بن قيس جعل زهيراً أشعر الناس بقوله:

فما يك من خير أتوه فإنما             توارثه آباء آبائهم قبل

لأنه ألقى عن المادحين فضول الكلام، فإذا تأملنا في بيت زهير وجدناه نابعاً من العرف الجاهلي الذي يجعل النسب قانون الحياة، وليس فيه إلا أن هؤلاء ورثوا الخير كابراً عن كابر، فليس لهم فضل فيه، فالمفهوم جاهلي، والتعبير جاهلي، والتعليل جاهلي أيضاً، وهو في الحقيقة ليس تعليلاً، بل تسويغاً لذوق الأحنف، ولو أن هذا البيت صار معياراً لما يستجاد من المدح، لما أفضى ذلك طبعاً إلى تطور المدح بتطور الزمن على نحو قد يمدح فيه الشاعر بغير النسب من مكارم الأخلاق.

ونلاحظ الامر نفسه في "اجتماع" الناس على أرق بيت ــ كما مر بنا:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي                بسهميك في أعشار قلب مقتّل

وها هنا لا ندري أيضاً معيار الرقة! فربما كان ذكر الدموع سبباً لها، وربما كان القلب المقتّل باعثاً عليها، وربما كانت السهام في أعشار القلب منفذاً إليها، على أننا ندري أن هؤلاء الذي اجتمعوا عند عبد الملك لم يحيطوا بكل ما قبل من أبيات الرقة الجاهلية، فضلا عن الإسلامية، كي يحكموا لبيت امرئ القيس بأنه سيد الرقة ــ ولأمر ما كان ما يقوله أمرؤ القيس خاصة مقدماً ــ متجاوزين بذلك ما أفاض فيه الشعراء من الغزل العذري، وغير العذري مما ينطوي دون جدال على كثير من جوانب الرقة.

ينبغي إذن ألا ننظر إلى هذه الروايات، إلا على أنها نماذج من الذوق النقدي الغنائي في العصر الأموي، لا تنطوي على معيار فني معين، وحقاً ان وضع معيار فني أمر عسير، بل يكاد يكون ممتنعاً، لأنه لن يكون إلا معياراً ذوقياً خاصاً، بيد أن إطلاق الاحكام النقدية جزافاً ينبغي أن يكون أعسر، لأنه يجعل مما هو شأن خاص شأنها عاماً، دون ما يسوغ ذلك.

ولقد تفاقم أمر الذوق الغنائي في النقد، وبلغ مداه إبان الخصام الشعري الذي خاض غماره الهجاؤون الثلاثة: جرير، والفرزدق، والأخطل، ذلك أن حدة الخصومة، وما يتبعها من عصبية، جعل التفضيل أمراً جوهرياً، فهذا أفضل في المدح، وذاك أفضل في الهجاء، وآخر أفضل في الخمر أو النسيب، وشاعت "الجمل" الغنائية التي تشبه الأبيات الشعرية من مثل : "جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر" و "نبعة الشعر الفرزدق" و "إني وإياه لنغترف من بحر واحد، وتضطرب دلاؤه، عند طول النهر"، وطبعاً، ليس ثمة من ينكر ان كثيراً من هذه الأحكام كان يدرك الصواب، ولكن المشكلة أنه إدراك البديهة، لا إدراك الفكر، وأنه نابع عن الذوق، لا عن العقل، والذوق يخطئ ويصيب، أو هو في الحقيقة لا يخطئ ولا يصيب، لأنه مرآة صاحبه، ولأنه لا يسوغ له أن يخضع للعقل، والذوق يبقى ذاتياً لا يجوز تعميمه، واستنباط القواعد منه، وإلزام الناس بها، ولا سيما إذا افتقر إلى التعليل الذي يبين مواطن الجمال، وأسباب الإيثار ، وهو امر لم يكن النقد قد بلغه بعد ، وعلى هذا فإننا يمكن أن ننظر في روايات الخصومة الهجائية من مثل ما روي عن أبي قيس العنبري عن عكرمة بن جرير، أن جريراً قال: "نبعة الشعر الفرزدق" ، وعن عكرمة بن جرير أيضاً أنه قال: "قلت لأبي: يا أبه: من أشعر الناس؟ قال: أعن أهل الجاهلية تسألني أم أهل الإسلام؟ قلت: ما أردت إلا الإسلام، فإذ ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها، قال: زهير شاعرهم، قال: قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبعة الشعر. قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك، ويصيب صفة الخمر، قلت: فما تركت لنفسك؟ قال " دعني فإني نحرت الشعر نحراً". "لما بلغ الاخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك: انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما، وتأتيني بخبرهما، فلقيهما، ثم استمع، فأتى أباه، فقال: جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر، فقال الاخطل: فجرير أشعرهما، فقال:

إني قضيت قضاء غير ذي جنف                     لما سمعت ولما جاءني الخبر

أن الفــرزدق قـد شالـت نعامـــته                      وعضّه حية من قومه ذكر"

إننا نرى مرة اخرى ان الشعراء هم النقاد، وان إطلاق الإيثار أو الإنكار هو القاعدة الأولى في الاحكام، فزهير شاعر الجاهلية، والفرزدق نبعة الشعر في الإسلام، والاخطل يجيد مدح الملوك، ووصف الخمر، أما جرير فقد نحر الشعر نحراً، وأتى على جميع أغراضه. ويبدو ان جريراً كان على بصيرة بمواضع الشعر، وقد يكون من الحق ان الأخطل برع في المدح والخمر، وأن الفرزدق أصل من أصول الشعر راسخ الجذور، وان جريراً يتدفق بالشعر تدفقاً، بيد أن هذا كله يبقى عابراً لا يفضي إلى تطور النقد، لأنه عار عن التعليل الذي يبصر الناس بالأسباب ، ويحول ما هو ذوق خاص إلى ما هو فكر عام يمكن أن يستند إليه في تشقيق الاحكام الاخرى، او المناقضة، وليس من طبائع الأمور مثلاً أن يفوق جرير خصومه في كل أغراض الشعر، كما يروى عن الأسيدي: "وسألت الأسيدي ــ أخا بني سلامة ــ عنهما فقال: بيوت الشعر أربعة: فخر، ومديح، ونسيب ، وهجاء ، وفي كلها غلب جرير. في الفخر في قوله:

 إذا غضبت عليك بنو تميم            حسبت الناس كلهم غضابا

وفي المدح قوله:

 ألستم خير من ركب المطايا          وأندى العالمين بطون راح

وفي الهجاء قوله:

فغض الطرف إنك من نمير           فلا كعباً بلغت ولا كلابا

وفي النسيب قوله:

                إن العيون التي في طرفها حور               قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

فإذا أصغينا إلى الأسيدي، سلمنا بأن بيتاً واحداً من الشعر قد يكفي الشاعر ليفوق اقرانه، وأربعة أبيات في أربعة أغراض، جعلت جريراً يغلب الشعراء، وكأن الشعر حلبة صراع، أو كأن الأمر امر غلبة لا أمر تعبير، ولعل ما ختم به الأسيدي كلامه عندما قال: "وإلى هذا يذهب أهل البادية "ينم على طبيعة النقد البدوية، فهذا الإطلاق الغنائي الصارم هو من شأن البدو، والحكم حكم بدوي، ونحن في العصر الأموي لم نزل، من حيث النقد، في العصر الجاهلي.

على أن هذا لا يعني ان الذوق لم يرق بحيث يدفع بعض النقاد من الشعراء إلى لوم من ينبو به الذوق الشعري، وإن كان هذا اللوم لا يخلو من الحدة، ولا يخرج عن الغنائية، ولنلاحظ أيضاً أن الشعراء ظلوا يمسكون بزمام النقد، وفي هذا ما فيه من مدلول، وهذه رواية تنبئ عما وصل إليه الذوق الغزلي الأموي:

"قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، فأقبل إليه الأحوص، ونصيب، فجعلوا يتحدثون، ثم سألهما عمر عن كثيرة عزة، فقالا: هو ههنا قريب، فقاموا نحوه، فألقوه جالساً في خيمة له، فتحدثوا ملياً، وأفاضوا في ذكر الشعراء، فأقبل كثير على عمر، فقال له: إنك لشاعر لولا أنك تشبب بالمرأة، ثم تدعها، وتشبب بنفسك، أخبرني يا هذا عن قولك:

ثم اسبطرت تشتد في أثري            تسأل أهل الطواف عن عمر

أتراك لو وصفت بهذا هرة أهلك، ألم تكن قد قبّحت، وأسأت، وقلت الهجر؟ إنما توصف الحرة بالحياء، والإباء، والبخل، والامتناع، ألا قلت كما قال هذا (يعني الأحوص):

أدور ولولا أن ارى أم جعفر          بآبائكم ما درت حيث أدور

وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى               وإن لم يزر لا بد أن سيزور

لقد منعت معروفها أم جعفر           وإني إلى معروفها لفقير

فانكسرت نخوة عمر بن أبي ربيعة، ودخلت الأحوص أبهة، وعرفت الخيلاء فيه، فلما استبان كثير ذلك فيه قال: أبطل آخرك أولك، أخبرني عن قولك:

فإن تصلي أصلك وإن تبيني          بهجر بعد وصلك لا أبالي

أما والله لو كنت حراً لباليت ولو كسر أنفك، ألا قلت كما قال هذا الأسود:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب             وقل إن تملينا فما ملك القلب

فانكسر الاحوص، ودخلت نصيباً زهوة، فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته، التفت إليه، وقال: وأنت يا بن السوداء أخبرني عن قولك:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت          فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي

أهمك ــ ويحك ــ من يهيم بها بعدك؟ فلما أمسك كثير أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع، أخبرني عن تخيرك لنفسك، وتخيرك لمن تحب حيث تقول:

ألا ليتــنا يا عز مــن غير ريبــة                      لعيران نرعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عز فمـــن يرنــا يقـــــل                      على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منــهلاً صـــاح أهله                     علينـا فما ننفــك نرمى ونضــرب

وددت، وبيــت اللـه، أنـك بكــرة                      هجـان وأني مصـعب ثم نهـــرب

نكون بعيري ذي غنى، فيضيعنا                      فلا هو يرعانا ولا نحن نطلــــب

فقد تمنيت لها ولنفسك الرق، والجرب، والرمي، والطرد، والمسخ، فأي مكروه لم تمن لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك قول القائل: "معاداة عاقل خير من مودة أحمق" فجعل يختلج جسده كله، وقام القوم يضحكون".

ومن التكرار الذي قد يكون مملاً القول إن هذا النقد أيضاً ذاتي يجعل من بعض المعاني مثلاً ينبغي احتذاؤها، فالمرأة توصف بالحياء، والإباء، او ينبغي أن توصف بالحياء، والإباء، على الدوام، وإن لم تكن حيية، او أبية، شأن محبوبة عمر التي سعت في أثره، وسألت عنه، وكذلك ينبغي أن يؤرق الهجر الاحوص، لا أن يدفعه إلى عدم المبالاة، وأن يبتعد كثير عن قصد المعنى الذي لا يبالي معه بما ينجم عن اللفظ من إيحاء أو تصور، فإذا عرفنا أن غاية النقد  هنا هي أن يتعجب القوم، أو يضحكوا: "وقام القوم يضحكون" أدركنا موضع النقد في أذهان الشعراء، فقد كان ضربا من المداعبة والتسلية، التي قد يتفق لها الفن أو الذوق أحياناً، ولنلاحظ أيضاً كيف تزدرى بعض معاني الشعراء، وينتقل معيار الجودة من شاعر إلى آخر من خلال المبدأ الأساسي: أشعر القوم، أشعر الناس، فقد روي أن الأقيشر "دخل على عبد الملك بن مروان وعنده قوم، فتذاكروا الشعر، وذكروا قول نصيب:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت          فيا ويح دعد من يهيم بها بعدي

فقال الأقيشر: والله لقد أساء قائل هذا الشعر، قال عبد الملك: فكيف كنت تقول لو كنت قائله؟ قال: كنت أقول:

تحبكم نفسي حياتي، فإن أمت         أوكل بدعد من يهيم بها بعدي

قال عبد الملك: والله لأنت أسواً قولاً منه حين توكل بها! فقال الأقيشر: فكيف كنت تقول يا امير المؤمنين؟ قال: كنت أقول:

نحبكم نفسي حياتي، فإن أمت         فلا لمحت هند لذي خلة بعدي

فقال القوم جميعا: أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر القوم".





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.