أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2016
1589
التاريخ: 2024-08-10
357
التاريخ: 29-7-2022
1878
التاريخ: 2024-08-10
413
|
قاعدة لا ضرر من القواعد المهمة في مقام الاستنباط، فانّه بناء على كون المقصود منها نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر فسوف يثبت لدى الفقيه نفي وجوب الوضوء إذا ترتّب عليه الضرر، و نفي وجوب الصوم إذا ترتّب عليه الضرر، و نفي حرمة حلق اللحية إذا ترتّب على عدمه الضرر، و نفي حرمة ابراز المرأة بعض محاسنها إذا ترتّب على عدمه الضرر، و نفي حرمة كشف المرأة عورتها أمام الطبيب لأجل العلاج أو التلقيح أو الولادة إذا ترتّب على عدمه الضرر، و أمثال ذلك كثير.
وقد بالغ بعض العامّة حتى قال: انّ الفقه يدور على خمسة أحاديث، أحدها حديث لا ضرر و لا ضرار (١).
وقد اهتم بها علماؤنا الأعلام حتى ألّف كثير منهم رسائل مستقلة في ذلك، كشيخ الشريعة الاصفهاني و الميرزا النائيني وغيرهما .
وقد بحثها الشيخ الأعظم في الرسائل (2) في مبحث شرائط جريان الاصول العملية الذي ذكره تحت عنوان خاتمة، فانّه نقل عن الفاضل التوني: انّ من جملة شرائط جريان أصل البراءة عدم ترتّب ضرر على اجراء البراءة. و بهذه المناسبة أخذ بالبحث عن قاعدة لا ضرر بشكل مستقل.
وتابعه على ذلك من تأخر عنه، فأخذوا بالبحث عنها في الموضع المذكور، و بعضهم يطنب و بعضهم يختصر. و نحن نحاول الاختصار كي يسهل على الطالب هضم مباحثها.
ونمنهج الحديث عنها ضمن النقاط التالية :
١- مضمون القاعدة.
٢- مدرك القاعدة.
٣- اختلاف صيغة الحديث.
٤- الجمع في الرواية أو في المروي.
٥- توضيح مفردات الحديث.
٦- المقصود من قاعدة لا ضرر.
٧- تطبيق الحديث على قضية سمرة.
٨- كيف يدفع محذور كثرة التخصيص.
٩- شمول الحديث للأحكام العدمية.
١٠- وجه تقدم الحديث على الأدلّة الأوّلية.
١١- الضرر الواقعي أو العلمي.
١٢- تعارض الضررين.
١٣- تطبيقات.
-------------------------------
١- مضمون القاعدة :
وقع الاختلاف بين الأعلام في المقصود من قاعدة لا ضرر و لا ضرار، فالشيخ الأعظم في رسائله فهم منها : ان كل حكم يتسبّب من ثبوته ضرر على المكلّف فهو مرفوع و غير ثابت في الشريعة.
وبكلمة اخرى : كل حكم شرّع في الإسلام فهو ثابت ما دام لا يلزم من ثبوته ضرر على المكلّف، و في أي فترة و حالة يلزم الضرر من ثبوته فيها كان مرتفعا.
وقد تابع الشيخ الأعظم في رأيه هذا جماعة ممّن تأخّر عنه.
وذهب آخرون- ومن جملتهم شيخ الشريعة الاصفهاني- إلى انّ المقصود النهي عن الاضرار بالآخرين و تحريم ذلك ، و ليست بناظرة إلى الاحكام الشرعية ونفيها حالة لزوم الضرر.
وهناك تفاسير اخرى نكتفي الآن بما ذكر ، وسيتّضح بعضها الآخر فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.
٢- مدرك القاعدة :
وردت جملة «لا ضرر و لا ضرار» في ثلاثة موارد :
١- قضية سمرة بن جندب التي رواها الكليني في الكافي (3) بالشكل التالي:
«عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه عن عبد اللّه بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: انّ سمرة بن جندب كان له عذق (4) في حائط (5) لرجل من الأنصار، و كان منزل الأنصاري بباب البستان، و كان يمر به إلى نخلته و لا يستأذن، فكلّمه الانصاري ان يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فشكا إليه و خبّره الخبر، فأرسل إليه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و خبّره بقول الأنصاري و ما شكا و قال: انّ أردت الدخول فاستأذن فأبى، فلمّا أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدّ لك في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) للأنصاري اذهب فاقلعها و ارم بها إليه فانّه لا ضرر و لا ضرار» (6).
اضافة كلمة «على مؤمن» :
اضافة كلمة «على مؤمن» و قد رواها الكليني نفسه ثانية و بعد عدة أحاديث بهذا الشكل:
«علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد اللّه عن أبيه عن بعض أصحابنا عن عبد اللّه بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ان سمرة بن جندب [إلى ان قال] فقال له رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم): انك رجل مضار، و لا ضرر و لا ضرار على مؤمن» (7).
و في هذه الرواية كما نرى زيادة كلمة «على مؤمن» الأمر الذي له تأثير من بعض الجوانب ...
ثم ان قضية سمرة المشتملة على جملة «لا ضرر و لا ضرار» قد رواها كل من الشيخ الطوسي (8) و الشيخ الصدوق (9)، و كل منهما رواها عن ابن بكير عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).
أجل ان الشيخ الصدوق روى بسنده عن الحسن الصيقل عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قصة سمرة، و لكن ليس في آخرها جملة: لا ضرر و لا ضرار، و إنّما فيها «ما أراك يا سمرة إلّا مضارا اذهب يا فلان فاقطعها، و اضرب بها وجهه» (10).
و بهذا يتّضح ان قضية سمرة رويت في مصادرنا الحديثية بثلاثة أشكال:
فتارة رويت و في آخرها جملة «لا ضرر و لا ضرار» من دون اضافة.
وثانية رويت و في آخرها جملة «لا ضرر و لا ضرار على مؤمن» أي: بزيادة قيد «على مؤمن».
وثالثة رويت من دون ذكر جملة «لا ضرر و لا ضرار».
ومن هنا قد يقال بعدم ثبوت ذكر جملة «لا ضرر و لا ضرار» في قضية سمرة لأجل تعارض النقل.
وقد يرد ذلك بأن التعارض المذكور تعارض بين الزيادة و النقيصة، و أصالة عدم الزيادة مقدمة على أصالة عدم النقيصة.
٢- مسألة الشفعة؛ فقد روى المشايخ الثلاثة عن عاقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن. وقال : لا ضرر ولا ضرار، و قال إذا ارّفت الارف (11) و حدت الحدود فلا شفعة (12).
٣- مسألة مشارب النخل و فضل الماء؛ فقد روى الكليني بسنده إلى عاقبة بن خالد أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بين أهل المدينة في مشارب النخل : انه لا يمنع نفع الشيء (13).
وقضى بين أهل البادية انّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء فقال لا ضرر ولا ضرار» (14).
هذا ولكن عاقبة بن خالد لم يثبت توثيقه، فيكون المدار على روايات قصة سمرة.
اتضح مما تقدم :
اتضح مما تقدم ان قيد «على مؤمن» لم يرد في رواية معتبرة السند، و عليه فما افاده الشيخ الأعظم من انّ أصح الروايات سندا ما ورد فيه «لا ضرر و لا ضرار على مؤمن» موضع تأمّل.
كما و اتّضح انّه لا يمكن أن يقال: إنّ قضية سمرة قضية واحدة لا يحتمل فيها التعدد، و قد نقلت تارة متضمّنة جملة «لا ضرر و لا ضرار» و أخرى متضمّنة لشيء آخر و هو «ما أراك يا سمرة إلّا مضارا. اذهب يا فلان فاقطعها و اضرب بها وجهه»، و مع تعارض النقل لا يبقى ما يثبت وجود جملة «لا ضرر و لا ضرار».
و وجه بطلان المعارضة المذكورة: ان مستند النقل الثاني هو رواية الحذاء، و هي ضعيفة السند بالحسن الصيقل و غيره.
هذا مضافا إلى امكان أن يقال إنّ المقام ليس من صغريات باب المعارضة، إذ النقل الفاقد للزيادة لا ينفي وجود الزيادة ليعارض ما دلّ على وجود الزيادة.
وبعد هذا لا نبقى بحاجة إلى ما أفاده الميرزا لنفي الزيادة من انّ مدرك عدم الزيادة هو أصالة عدم الزيادة التي مستندها سيرة العقلاء، و لكن لا يعلم بناء العقلاء في مثل المقام على تقديم أصالة عدم الزيادة، حيث يحتمل قريبا كون الزيادة قد حصلت من الراوي لمغروسيتها في ذهنه عند نقله الرواية بالمعنى بمناسبة الحكم و الموضوع و ملاحظة أشباه ذلك من مثل لا رهبانية في الإسلام و لا اخصاء في الإسلام.
ان هذا البيان الميرزائي لسنا بحاجة إليه بعد ضعف مستند وجود الزيادة في نفسه.
٣- اختلاف صيغة الحديث :
ورد في بعض مصادر الحديث زيادة قيد «على مؤمن» كما أشرنا إلى ذلك سابقا، و أشرنا إلى انّ ذلك لم يثبت بطريق معتبر.
وورد في بعض مصادر الحديث : لا ضرر و لا إضرار، فالفقرة الثانية هي «و لا إضرار» و ليس «و لا ضرار». و من جملة المصادر التي ورد فيها ذلك الفقيه، حيث نقل الحديث هكذا: «لا ضرر و لا إضرار في الإسلام» (15).
وفي بعض مصادر حديث العامّة ورد: «لا ضرر و لا ضرورة».
وفي بعضها «لا ضرر في الإسلام» (16) بحذف الفقرة الثانية.
و المهم من بين هذه النقول التي نريد لفت النظر إليه هو ما اشتمل على قيد «في الإسلام»، فانّ شيخ الشريعة الاصفهاني ذهب إلى أن المقصود من الحديث المذكور افادة النهي التكليفي، و لكن الذي كان يقف أمامه وجود قيد «في الإسلام»، فان ذلك لا يتلاءم و افادة النهي.
ومن هنا أخذ ينفي القيد المذكور، حيث ذكر في الفصل الثالث من الفصول الاثني عشر التي رتّب رسالته عليها: انّ القيد المذكور غير موجود في الروايات بما في ذلك روايات العامّة، فقد تفحّصت كتبهم و صحاحهم و مسانيدهم و معاجمهم فحصا أكيدا فلم أجد رواية أصل الحديث إلّا عن ابن عباس و عن عبادة بن الصامت، و كلاهما رويا الحديث بدون الزيادة السابقة، و بعد هذا فلا ندري من أين جاء ابن الأثير بهذه الزيادة في نهايته.
ثم قال في نهاية كلامه: و أعجب من الكلّ ما رأيته في كلام بعض المعاصرين من دعوى الاستفاضة مع هذا القيد و اسناده إلى المحقّقين تواتر الحديث مع الزيادة المذكورة (17).
ونحن لسنا في صدد التعليق على كلام شيخ الشريعة من جميع جوانبه، فحصر رواة الحديث بابن عباس و عبادة في غير محله، فهناك عدة آخرون يبلغ عددهم ستة أو سبعة يروون هذا الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).
كما ان زيادة قيد «في الإسلام» موجودة في رواية أبي لبابة و رواية جابر بن عبد اللّه (18).
و الذي نريد لفت النظر إليه هو ان اضافة القيد المذكور ثابت في مصادرنا أيضا، فالصدوق (19)، روى بشكل مرسل حديث لا ضرر مع الزيادة المذكورة (20).
و رواها مع القيد المذكور كل من ابن أبي جمهور الاحسائي في عوالي اللآلي عن الشهيد الأوّل في بعض مصنفاته عن أبي سعيد الخدري، و الشيخ الطوسي في كتاب الشفعة من الخلاف، و العلّامة في خيار الغبن من التذكرة.
و قد يحاول تصحيح رواية الصدوق المرسلة ببيان أنّ مراسيل الصدوق إذا كانت بلسان قال فهي حجة دون ما إذا كانت بلسان (روي).
و يمكن توجيه ذلك بأحد البيانين التاليين:
أ- ما تبنّاه جماعة منهم السيد الخوئي في رأيه القديم المذكور في الدراسات (21)، و حاصله: أنّ التعبير ب «قال» يدلّ على ثبوت الرواية وصحتها لدى الصدوق، و إلّا لما جاز له الإخبار بنحو الجزم و انّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال كذا، فإخباره الجزمي يدل على حجيتها و صحتها لديه، و هو المطلوب.
و جواب ذلك واضح فانّ حجّية خبر عنده لا تستلزم حجيته عندنا، إذ لعله اطمأن به بسبب قرائن لو اطّلعنا عليها لم توجب لنا الاطمئنان، كما أوضح هذا التراجع (قدّس سرّه) في مصباح الاصول (22).
ب- ان التعبير ب «قال» يدل على جزم الصدوق، و إذا احتملنا استناد هذا الجزم إلى الحس طبّقنا أصالة الحسّ العقلائية. و في المقام حيث نحتمل انّ الجزم و ليد الحسّ- بأن كان هناك تواتر في نقل الحديث المذكور استند إليه الصدوق- فنحكم بكونه عن حسّ.
و إذا قيل: إذا كان هناك تواتر فلما ذا لم نعثر على نقل الحديث من غير الطرق القليلة المذكورة سابقا؟
كان الجواب: أنّ الحديث بما أنّه نبوي و ديدن الأصحاب لم يكن على ضبط الأحاديث النبوية المروية عن غير الأئمّة (عليهم السلام) فنحتمل انّ التواتر كان و لم يضبط، و لا استبعاد في كون هذا الخبر زمن الصدوق كان متواترا (23).
و فيه :
أ- ان تعبير الصدوق ب «قال» لو دلّ على الجزم فهو يدل على الجزم الأعم من الوجداني و التعبدي و لا يتعين في الوجداني، و الجزم التعبدي يكفي فيه اطمئنانه بصدور الرواية و لو لقرائن لو اطلعنا عليها قد لا نراها موجبة للاطمئنان.
ب- ان أصالة الحسّ تجري لتعيين حال النقل و انّه عن حسن لا عن حدس، و لا جزم بانعقادها لتعيين حال الجزم.
و بكلمة أخرى: ان نقل الصدوق يشتمل على أمرين: نقل الرواية، و انه جازم بها. و أصالة الحسّ تجري بلحاظ أصل النقل لإثبات انه عن حسّ دون تعيين حال الجزم لعدم الجزم بانعقادها على ذلك.
ج- ان التواتر المحتمل امّا هو بلحاظ نقل الشيعة، أو بلحاظ نقل العامة، أو بلحاظ كليهما.
و إذا لاحظنا جميع المصادر لربّما يحصل للشخص تواتر، إلّا انّ الذي يمكن حصوله هو التواتر بلحاظ فقرة: لا ضرر و لا ضرار من دون ضم قيد «في الإسلام»، امّا إذا أردنا ملاحظة هذا القيد فلا يمكن تحصيل التواتر، لأنّ القيد المذكور وارد في نقول قليلة لا تتجاوز الثلاثة أو الأربعة.
د- ان تعبير الصدوق لا يدل على الجزم أصلا، لأنّ ظاهر كلامه انّه بصدد الاحتجاج على العامة، فانّ الحديث ذكره تحت عنوان ميراث أهل الملل، فالمسلم إذا مات هل يرثه الكافر، و الكافر إذا مات هل يرثه المسلم.
و في هذا المجال ذكر أنّ الكافر لا يرث المسلم عقوبة له على كفره، ثم قال ما نصّه: «فأمّا المسلم فلأي جرم و عقوبة يحرم الميراث؟
و كيف صار الإسلام يزيده شرّا مع قول النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): الإسلام يزيد و لا ينقص، و مع قوله (عليه السلام) لا ضرر و لا إضرار في الإسلام؟ فالإسلام يزيد المسلم خيرا و لا يزيده شرا» (24).
انه بذلك يقصد الرّد على العامة الذين حرموا المسلم من ارث الكافر أيضا، فهو كأنه يخاطبهم و يقول لهم: كيف لا يرث المسلم الكافر، و الحال أنّ الحديث الوارد في رواياتكم يقول: لا ضرر و لا إضرار في الإسلام؟!
و من الغريب ما ذكره بعض الأعلام (قدّس سرّه) من انّ قيد «في الإسلام» الوارد في الفقيه اشتباه. و قرّب الاشتباه بما يلي: إنّ من المحتمل كون الوارد في أصل الفقيه هكذا: لا ضرر و لا اضرار فالإسلام يزيد ...
فالحديث ذكر من دون قيد: «في الإسلام»، و إنّما ذكر الصدوق «فالإسلام يزيد ...» بصدد تكملة ردّه على العامّة. و لكن الكاتب اشتبه فكرّر كلمة «فالإسلام» مرتين من باب سهو القلم.
ثم بعد ذلك جاء دور من تأخر عن الكاتب و رأى أنّ كلمة «فالإسلام» كررت مرتين، فظن الاشتباه و تخيّل ان المناسب بدل كلمة «فالإسلام» الاولى: «في الإسلام»، فصحّح العبارة و صارت النتيجة كما نراه اليوم (25).
و فيه: إنّ ما ذكره مجرّد احتمال لم يقم دليلا على اثباته، بل الدليل على عكسه، و هو اتفاق النسخ على ما هو الموجود اليوم، و لم ينقل عن أحد وجود نسخة اخرى للعبارة المذكورة.
بل انّ في كلام الصدوق نفسه قرينة تدل على ضرورة وجود قيد «في الإسلام»، و هي كونه في صدد الرّد على العامة، و كأنه يريد ان
يقول: لا ضرر و لا إضرار بسبب الإسلام، و المسلم إذا حرم من ارث الكافر لزم تضرره بسبب الإسلام.
و بهذا يتّضح ان كلمة «في» في قوله: «في الإسلام» سببية، نظير ما ورد عن أبي هريرة عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): «انّ امرأة دخلت النار في هرّة ...». أي: بسبب هرّة.
لفت نظر :
ذكرنا أنّ نكتة البحث عن وجود قيد «في الإسلام» و عدمه تظهر في امكان استفادة النهي التكليفي من الحديث، فان شيخ الشريعة اختار إرادة التحريم التكليفي من حديث لا ضرر.
وهذا الرأي يقف أمامه وجود القيد المذكور- و من هنا أخذ شيخ الشريعة ينفي القيد المذكور- إذ لا معنى لأن يقال: لا تضر في الإسلام بنحو يقصد الإنشاء دون الإخبار.
هذا و بالامكان أن يقال: إنّ وجود القيد المذكور إنّما يتنافى مع إرادة النهي لو فرض انّا فسرنا النفي بالنهي، امّا إذا وجّهنا ذلك بأن المقصود هو الإخبار بداعي الإنشاء- من قبيل يعيد بداعي إنشاء وجوب الاعادة، أو قدّرنا خبرا محذوفا؛ أي لا ضرر جائزا في الإسلام- فلا منافاة بين القيد المذكور و إرادة النهي.
٤- الجمع في الرواية أو في المروي :
ورد في حديث الشفعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بالشفعة بين الشركاء ... وقال : لا ضرر ولا ضرار.
ان في هذا الحديث احتمالين، فيحتمل ان الجملة الثانية قد صدرت من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) مستقلة عن الجملة الاولى؛ احداهما في مجلس و الاخرى في مجلس ثان، إلّا ان الناقل- و هو عاقبة بن خالد قد جمع- بين الروايتين المستقلّتين في مقام النقل.
و يحتمل انهما صدرتا من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في مجلس واحد، بنحو تكون الثانية قد ذكرها (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)- أو تبرع بها الإمام الصادق (عليه السلام)- لتكون مكملة للثانية و مبينة للحكمة بالشفعة بين الشركاء.
ويصطلح على الأوّل: الجمع بين الروايتين في مقام النقل، و على الثاني: الجمع بين المرويين.
وقد وقع البحث بين الاعلام في ان الجمع بين الفقرتين المذكورتين هل هو من النحو الأول أو من النحو الثاني.
والسبب في طرح هذا البحث: انّ أحد الاحتمالات في المقصود من قاعدة لا ضرر هو افادة النهي عن ارتكاب الضرر و بيان تحريمه في التشريع الإسلامي.
وشيخ الشريعة الاصفهاني من روّاد هذا الاحتمال و مؤيديه، إلّا انّ الذي يقف أمام هذا الاحتمال هو ان قاعدة لا ضرر إذا كان يقصد بها إفادة النهي التحريمي فلما ذا ذكرت في ذيل حديث الشفعة و في ذيل حديث المنع من فضل الماء؟
ان ذكرها ذيل حديث الشفعة لا وجه له باعتبار ان الشفعة بين الشركاء حكم وضعي و لا معنى لتعليله بما يدلّ على الحكم التكليفي، فلا معنى لأن يقال: الشفعة ثابتة بين الشركاء لأنّه يحرم الاضرار. ان هذا لا ربط له بهذا حتى يذكر كتعليل له.
وهذا بخلاف ما إذا لم يكن المقصود من قاعدة لا ضرر إفادة النهي التكليفي، بل إفادة معنى آخر كالمعنى الذي ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل، و هو: نفي كل حكم يستلزم ثبوته الضرر بالمكلّف؛ فكل حكم من هذا القبيل منتف في التشريع الإسلامي و ليس بثابت، انّه بناء على هذا تكون المناسبة واضحة، فكأنه يراد ان يقال: إذا باع أحد الشريكين حصته فالشفعة ثابتة للشريك الثاني و له الحق في أخذ حصة الشريك بالشفعة؛ إذ لو لم يكن له هذا الحق و كان بيع الشريك لازما يلزم تضرّر الشريك الثاني، و لزوم بيع الشريك ما دام يلزم منه الضرر على الشريك الثاني منفي.
هذا بالنسبة إلى حديث الشفعة.
و امّا بالنسبة إلى حديث المنع من فضل الماء فالوجه في عدم صحة ذكر قاعدة نفي الضرر في ذيله هو: ان المنع من فضل الماء ليس محرما بل هو مكروه، فمن كانت له بئر و فضل من مائها شيء فمن حقه منع الآخرين من الاستفادة من ذلك الماء، لكن ذلك مكروه.
و ما دام مكروها فلا معنى لأن يعلّل بحرمة الاضرار. أجل لو كان المنع من فضل الماء محرما لكان تعليله بحرمة الاضرار وجيها، إلّا انه لمّا كان مكروها فلا معنى لتعليله بقاعدة نفي الضرر بناء على كون المقصود منها افادة تحريم الاضرار.
ان اشكال عدم المناسبة بين التعليل و الحكم المعلل يتم في حديث الشفعة و المنع من فضل الماء و لا يتمّ و ارم في الحديث الناقل لقصة سمرة لأنّه قد حكم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بقوله: اذهب فاقلعها بها إليه فانّه لا ضرر و لا ضرار. انّ المناسبة واضحة، فالنبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) جوّز قلع النخلة، لأنّ دخول سمرة إليها يوجب اضرار الأنصاري، و الاضرار محرم (26).
وبالجملة ان إشكال عدم المناسبة بين التعليل و الحكم المعلل- بناء على إرادة التحريم التكليفي من قاعدة لا ضرر- يختص بحديث الشفعة و المنع من فضل الماء دون حديث قصة سمرة.
ومن هنا حاول شيخ الشريعة التغلب على هذه المشكلة بدعوى ان فقرة لا ضرر المذكورة في حديث الشفعة و المنع من فضل الماء لم تذكر كتتمة للفقرة الاولى ليرد إشكال عدم المناسبة، و إنّما ذكرها عاقبة بن خالد من باب نقل روايتين احداهما مستقلة عن الاخرى.
قال (قدّس سرّه) في رسالته التي ألّفها لبحث قاعدة لا ضرر ما نصه: «ان الراجع في نظري القاصر إرادة النهي التكليفي من حديث الضرر، و كنت استظهر منه عند البحث عنه في أوقات مختلفة إرادة التحريم التكليفي فقط، إلّا انه يثبّطني من الجزم به حديث الشفعة و حديث النهي عن منع فضل الماء، حيث ان اللفظ واحد و لا مجال لإرادة ما عدا الحكم الوضعي في حديث الشفعة و لا التحريم في النهي عن منع فضل الماء، بناء على ما اشتهر عند الفريقين من حمل النهي على التنزيه فكنت اتشبّث ببعض الامور في دفع الإشكال إلى ان استرحت في هذه الأواخر و تبيّن عندي انّ حديث الشفعة و الناهي عن منع الفضل لم يكونا حال صدورهما من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) مذيلين بحديث الضرر و ان الجمع بينهما و بينه جمع من الراوي بين روايتين صادرتين عنه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في وقتين مختلفين ...» (27). ثم أخذ في بيان اثبات الدعوى المذكورة.
وإذا كانت رسالة لا ضرر لشيخ الشريعة تعدّ من الرسائل الجيدة في هذا المجال فذلك ليس إلّا من جهة تحقيقه الذي قام به لإثبات دعوى كون الفقرتين روايتين مستقلتين جمعتا في رواية واحدة في مقام النقل.
وأيّده في هذه الفكرة جمع من الأعلام منهم الشيخ النائيني و الشيخ الاصفهاني، و لكن لبيانات أخرى.
وحاصل ما ذكره شيخ الشريعة: انّ قضية «لا ضرر» الصادرة من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قد صدرت كقضاء مستقل، إلّا انّ عاقبة بن خالد قد ألحقها بقضية الشفعة. و الناظر إلى حديث عاقبة يتخيّل انّ ذلك الالحاق هو من باب كون قضية لا ضرر علّة للحكم بثبوت الشفعة، والحال أنّ الأمر ليس كذلك بل هو قضاء مستقل.
والدليل على ذلك: ان أحمد بن حنبل في مسنده الكبير روى عن عبادة بن الصامت مجموعة من الأقضية المستقلة للنبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)، و ذكر من جملتها قضية الشفعة من دون أن تكون مذيّلة بحديث لا ضرر، و هكذا ذكر من جملتها قضية المنع عن فضل الماء من دون ان يكون مذيلا بقضيّة لا ضرر، و إنّما ذكر عبادة قضيّة لا ضرر بشكل مستقل عن قضيّة الشفعة و قضيّة فضل الماء.
ولأجل ان يتّضح المطلب ننقل رواية عبادة؛ قال: «ان من قضاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم): انّ المعدن جبار و البئر جبار و العجماء جرحها جبار (28)، و قضى في الركاز الخمس، و قضى انّ ثمر النخل لمن ابّرها إلّا ان يشترط المبتاع، و قضى ان مال المملوك لمن باعه إلّا انّ يشترط المبتاع، و قضى ان الولد للفراش و للعاهر الحجر، و قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و الدور، و قضى لحمل ابن مالك الهذلي بميراثه عن امرأته التي قتلتها الاخرى [إلى ان قال] و قضى ان لا ضرر و لا ضرار، و قضى انّه ليس لعرق ظالم حق، و قضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نقع البئر، و قضى بين أهل البادية انّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلأ ...».
انّنا نجد بوضوح في هذه الرواية انّ قضية لا ضرر ذكرت كقضاء مستقل.
هذا في روايات العامّة.
ولو رجعنا إلى روايات الشيعة لوجدنا انّ عاقبة بن خالد ينقل مقدارا كبيرا من تلك الأقضية التي نقلها عبادة، و لكن لم ينقلها علماؤنا مجموعة في رواية واحدة بل فرقت على الأبواب المختلفة (29).
و إذا قارنا بين ما هو المنقول بطرقنا من تلك الأقضية المستقلة و ما هو المنقول في رواية عبادة لوجدنا تشابها كبيرا، الأمر الذي يوجب الوثوق بانّ قضية لا ضرر المذكورة في رواية عاقبة بعد الحكم بالشفعة ذكرت كقضاء مستقل.
و بكلمة اخرى: يحصل وثوق بأنّ ما صدر من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في قضية الشفعة قد صدر غير مذيّل بقضية لا ضرر، و إنّما عاقبة قد جمع بينهما من باب الجمع بين الروايتين المستقلّتين.
هذا بالنسبة إلى حديث الشفعة.
وهكذا يقال بالنسبة إلى حديث المنع من فضل الماء.
وأضاف شيخ الشريعة قائلا: انّ احتمال كون عبادة قد فصل بين قضية الشفعة و قضية لا ضرر- بعد ما كانت الاولى مذيّلة بالثانية، فصل نتيجة لتصرّف شخصي منه- احتمال بعيد جدا، خصوصا بعد استقراء رواياته و ثبوت ضبطه و اتقانه، بل قيل: انّه من أجلّاء الشيعة.
وعن الكشّي عن الفضل بن شاذان: انّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، كحذيفة و خزيمة بن ثابت و ابن التيّهان، و هو ممّن شهد العقبة الاولى و الثانية و بدرا و احدا و الخندق و المشاهد كلّها مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم).
هذا توضيح ما أفاده (قدّس سرّه).
وخوفا من الاطالة نترك المناقشة إلى مستوى أعلى من البحث إلّا انّه بشكل مختصر نقول: انّ ما أفاده (قدّس سرّه) لا يتم إلّا بناء على انّ جملة لا ضرر الصادرة من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قد صدرت مرة واحدة لا أكثر، امّا إذا افترضنا انّها صدرت مرّتين؛ مرة كقضاء مستقل نقله عبادة، و أخرى كتعليل للحكم بالشفعة و فضل الماء فلا يتم ما ذكره. و واضح انّ احتمال التعدّد موجود، و معه تبطل القرينة المذكورة.
وإذا قيل دفاعا عن شيخ الشريعة بانّ من يقارن بين الأقضية التي نقلها عبادة و الأقضية التي نقلها عاقبة يجد تشابها تاما، إلّا من ناحية تذييل قضية الشفعة و فضل الماء بقضية لا ضرر، و هذا يورث الاطمئنان بأنّهما بصدد نقل شيء واحد صادر من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) و ليسا بصدد نقل شيئين صدرا منه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)؛ و حيث انّ عبادة من أجلّاء الأصحاب و لا يحتمل وجود مصلحة له تدعوه إلى حذف قضية لا ضرر من الذيلية فيثبت انّ قضية لا ضرر الصادرة من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قضية واحدة.
و مثل هذا البيان لا ينفع في ردّه احتمال تعدد الصادر من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم).
و الوجه في ذلك: انّ لنا اطمئنانا بكون عاقبة ناظرا في نقله إلى نقل نفس ما ينقله عبادة، و لا يقصد عاقبة نقل أشياء اخر غير ما ينقله عبادة، و حيث انّ عبادة دقيق في نقله و لا نحتمل وجود مصلحة له في الفصل فيثبت انّ قضية لا ضرر حينما صدرت من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) صدرت مستقلة أيضا.
ويرده: ان قضية لا ضرر في نقل عاقبة لو كانت قضية مستقلة فما معنى اقحامها بين قوله: «قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و المساكن»، و قوله «إذا أرفت ...»؟ ان هاتين الجملتين مرتبطتان بمسألة الشفعة، و اقحام شيء مستقل بينهما أمر غير مناسب.
و جمعا بين تصديق عاقبة و تصديق عبادة يمكن ان نفترض انّ عبادة قد سمع مرتين من النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قضية لا ضرر؛ سمعها مرة كقضاء مستقل، و سمعها اخرى في ذيل قضية الشفعة، و نقل القضاء المستقل في روايته السابقة و تساهل عن نقلها ثانية كذيل لقضية الشفعة من باب أنّ إسقاطه لا يغيّر في المعنى شيئا، إذ هو إسقاط للتعليل لا أكثر؛ و قد شجّعه على ذلك ذكره لقضية لا ضرر بعد ذلك كقضاء مستقل.
هذا كله لو سلّمنا بوثاقة عبادة و صحّة الرواية من ناحيته و من ناحية بقية أ فراد السند، و إلّا فالمجال للمناقشة واسع، إذ يقال: سلّمنا بوثاقة عبادة و جلالته، و لكن ذلك لا يلزم منه وثاقة جميع أ فراد السند غير عبادة.
ومع عدم ثبوت صحّة الرواية سندا كيف تجعل قرينة على التصرّف في رواية عاقبة بن خالد؟
نكات اخرى :
ذكر الميرزا في رسالته بعض النكات الاخرى لإثبات انّ قضية لا ضرر قضية مستقلة لا ربط لها بسابقها، و وافقه السيد الخوئي على بعضها و أشار لها في مصباح الاصول (30)، نذكر منها:
١- انّ قاعدة لا ضرر لا ربط لها بمسألة الشفعة، فانّ قاعدة لا ضرر تنفي كل حكم يتولّد منه الضرر.
و في المقام نقول: انّ الضرر امّا ان ينشأ من بيع الشريك حصته لشخص ثالث أو ينشأ من لزوم ذلك البيع لا من نفسه؛ و على الأوّل يلزم بطلان البيع و انتفاؤه لا الحكم بصحته و ثبوت حق الشفعة للشريك.
و على الثاني يلزم انتفاء لزوم البيع و كونه مشتملا على الخيار بحيث يحقّ للشريك الأوّل فسخ البيع و رجوع الحصة المباعة إلى ملك الشريك البائع.
و على كلا التقديرين لا معنى لثبوت الشفعة للشريك بنحو ينقلها إلى ملك نفسه. ان هذا حكم لا يستفاد من قضية لا ضرر كما أوضحنا.
أجل، لو قلنا بأنّ حديث لا ضرر يدلّ على لزوم جبران الضرر الوارد على الشخص لأمكن أن يقال بانّ الاستشهاد بقضية لا ضرر هو من باب إفادة انّ الضرر الوارد على الشريك لا بدّ من جبره، و ذلك لا يكون إلّا بتشريع حق الشفعة.
و لكن يرد ذلك أنّ حديث نفي الضرر حديث نفي لا حديث إثبات فهو وارد لبيان انتفاء كل حكم يلزم منه الضرر لا اثبات كل حكم ينجبر به الضرر.
هذه حصيلة النكتة الاولى.
ويردها : ان ثبوت حقّ الشفعة لو لم يمكنّا استفادته من حديث لا ضرر فهذا لا يعني رفع اليد عن ظهور حديث عاقبة في كون قاعدة لا ضرر ذكرت فيه كذيل و تعليل، بل ينبغي ان نقول: انّ وجه التعليل قد خفي علينا و لا نعرفه لا انّه لا يوجد وجه للتعليل و بالتالي ننكر كونه ذيلا.
هذا مضافا إلى إمكان ان يقال: انّ ذكر قضية لا ضرر كتعليل يدل على انّ المقصود منها- قضية لا ضرر- أوسع ممّا نفهمه، فنحن كنّا نفهم منها انّها واردة لبيان النفي لا اثبات و تشريع ما يجبر به الضرر، و من المناسب انّ نرفع اليد عن هذا الفهم، و نقول: انّ المقصود منها الأعم من النفي و اثبات التشريع الجابر بقرينة ذكرها ذيلا و تعليلا.
على انّ بالامكان استفادة ثبوت حق الشفعة من قاعدة لا ضرر بتقريب: انّ الشريك إذا أراد بيع حصته فالمجتمع و الفطرة و العقلاء يحكمون بأحقيّة الشريك الآخر بالحصة فيما إذا استعدّ لأخذها بالثمن
الذي يطلبه بائعها، فانّ غرض البائع ليس إلّا تحصيل الثمن و المفروض انّ الشريك الآخر يبذله، و بيع الحصة لغيره دونه ادخال للشريك عليه دون أي مسوّغ.
انّ هذا الحق ثابت للشريك، فإذا لم يشرّع له حق الشفعة لزم سلب حقه، و سلب الحق نحو من أنحاء الضرر.
انّ الضرر لا يختص بالنقص في المال أو البدن، بل يعمّ عدم منح صاحب الحق حقه.
أجل هناك بعض الحقوق الاجتماعية لم يمضها الشارع فعدم منحها لا يعدّ ضررا، من قبيل عدم تزويج بنت العمّ لابن عمّها.
أما مثل حق الشفعة فهو حق اجتماعي و عقلائي و قد أمضاه الشارع، و سلب مثله و عدم منحه يعدّ ضررا.
و بهذا يتّضح انّ الضرر اللازم في المقام ليس هو في البيع نفسه و لا في لزومه، بل في عدم إعمال حق الشريك الذي تولّد بسبب بيع الشريك الآخر.
٢- وهذه النكتة ناظرة إلى حديث فضل الماء، و حاصلها انّ قضية لا ضرر لا يمكن أن تكون ذيلا و علّة للحكم بالمنع عن فضل الماء، لأن الشخص الذي له بئر و فضل قسم من مائها له الحق في منع الآخرين من الاستفادة من مائها لأنّها ملكه و حقه، غايته ان منعه الآخرين مكروه و مرجوح لا انّه محرّم، و مع كون المنع جائزا و مرجوحا فلا معنى لتعليله بقضية لا ضرر التي تدل على حكم لزومي.
ان التعليل بقضية لا ضرر يدل على انّ منع الآخرين من الاستفادة من فاضل الماء محرم، و الحال ان المنع مكروه، و تعليل المنع المكروه بما يدل على التحريم غير وجيه، و عليه فيتعين ان تكون قضية لا ضرر مستقلة.
وتحقيق الحال في هذه النكتة يرتبط بتحقيق الحال في مسألة المنع عن فضل الماء و هل ذلك- المنع من الفاضل- حق لصاحب البئر أو لا.
ان المعروف انّ من حفر بئرا أو عينا فهو مالك لها، سواء كان ذلك الحفر في أرض مباحة أو في التي هي ملكه، إلّا انّ بالامكان أن يقال: انّه لا يملكها أو بالأحرى يملكها في حدود حاجته، ولا بدّ له من فسح المجال أمام الآخرين بالمقدار الزائد عن حاجته.
والمستند في ذلك باختصار: ان دليل الملكيّة، امّا قاعدة من حاز ملك، أو السيرة العقلائية على انّ من حفر بئرا أو استخرج معدنا فهو ملك له، أو هو الاجماع التعبّدي.
امّا قاعدة من حاز ملك فهي مردودة، باعتبار انّها ليست مدلولا لدليل لفظي ليتمسك باطلاقه و إنّما مستندها السيرة العقلائية؛ و عليه فيلزم الرجوع إلى السيرة.
والسيرة مدفوعة بأن القدر المتيقن منها الحكم بملك الحائز فيما إذا كانت الحيازة للطير أو للسمك أو للأرض أو لغير ذلك مما هو في حدود حاجة الحائز، اما إذا حاز مقدارا أكبر من حاجته فلا يحرز التعامل معه معاملة المالك.
وعلى تقدير ثبوت مثل هذه السيرة على اطلاقها فهي لا تكون حجة إلّا مع الامضاء الشرعي، و هو غير ثابت لاحتمال الردع بمثل رواية عاقبة و غيرها التي نهي فيها عن فضل الماء ليمنع من فضل الكلأ.
وإذا قيل بأنّ هذه الرواية لم تثبت حجيتها لضعف سندها.
أجبنا : انّ الرواية و انّ كانت ضعيفة السند إلّا انّه يحتمل صدورها واقعا، و مع ثبوت الاحتمال المذكور فلا نجزم بعدم الردع و بالتالي لا يجزم بالامضاء.
واما الاجماع التعبّدي فهو مدفوع بمخالفة الشيخ الطوسي، حيث ذكر في المبسوط: كل موضع قلنا: انّه يملك البئر فانّه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه و شرب ماشيته و سقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك شيء وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه و شرب ماشيته من السابلة و غيرهم، و ليس له منع الماء الفاضل من حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعي الكلأ الذي يقرب ذلك الماء (31).
وعليه فلا إشكال في التعليل بقاعدة لا ضرر من هذه الناحية.
٥- توضيح مفردات الحديث :
اشتمل الحديث على كلمة «ضرر» و «ضرار»، و لا بدّ من توضيح المقصود منهما.
أمّا الضرر فقد ذكر غير واحد أنّه النقص في المال أو البدن أو العرض.
وقد يقيد ذلك بما إذا كان النقص موجبا لوقوع الشخص في الضيق و الشدّة؛ فالتاجر الذي يملك الملايين إذا ضاع منه بعض الدنانير لا يصدق عليه انّه تضرر، بخلاف ذلك في الفقير.
والمناسب عدم تخصيص الضرر بالنقص في أحد الامور الثلاثة المتقدمة، بل تعميمه للنقص في الحق أيضا؛ فمن كان له حق عقلائي و شرعي في قضية معيّنة فالمنع من ممارسته لحقه المذكور ضرر أيضا.
فمثلا من حق الشخص ان يعيش في داره حرّا، و الحيلولة دون ممارسة حقه- كما حال سمرة دون إعمال الأنصاري حقّه هذا في داره- ضرر.
ومن حق كل إنسان ممارسة أي عمل شرعي كالتصدير و الاستيراد و نحو ذلك من الأعمال، و الحيلولة دون ذلك ضرر فيما إذا لم يشكّل ذلك خطرا من ناحية اخرى.
وأمّا مثل حق الطباعة و النشر و التأليف و حقّ الاختراع، و أمثال ذلك من الحقوق المتداولة في يومنا هذا فهي لو ثبت كونها حقوقا عقلائية و شرعية لأمكن ان تعدّ طباعة الغير للكتاب تضييعا لحق دار النشر و الطباعة، و من ثمّ يلزم أن يكون ذلك محرما، إلّا انّ كون هذه حقوقا عقلائية و شرعية لأصحابها أوّل الكلام، فان كل دار نشر لديها جهاز خاص بالطباعة لنفسها، و لها حقّ التصرف في جهازها و أوراقها و الأدوات الخاصة بها، و الحيلولة دون ممارسة حقّها هذا هو الذي يعدّ ضررا، و إذا مارست حقها هذا لم يعد ذلك اضرارا بدار النشر التي احتفظت بهذا الحق لنفسها، فانّ هذا الحق الذي احتفظت به لنفسها ليس حقا في نظر الشرع و العقلاء؛ و أي حق يتولد بمجرد الكتابة على صفحة الغلاف: ان حقوق الطبع محفوظة لدار النشر؟!! و هل يحتمل ان طبعه للكتاب قبل غيره و مسارعته إلى ذلك يولّد له حقا؟! (32) ان ذلك مضحك.
وبالجملة نحن نسلّم ان بعض هذه أو كلها لو ثبت كونها حقوقا عقلائية و شرعية فالتجاوز عليها ضرر، إلّا ان الكلام في كونها حقوقا.
والمهم في النتيجة التي نريد الخروج بها هي: ان الضرر لا يختص بالنقص في المال أو العرض أو البدن، بل التجاوز على حقوق الآخرين و التعدّي عليها ضرر أيضا.
الفرق بين الضرر و الضرار:
عرفنا فيما سبق ان مادة الضرر- أي كلمة ضرر- تدل على النقص، و كلتا الكلمتين تشتركان في هذا المعنى، و ذلك نقطة اشتراك بينهما، و لكن ما هي مادة الامتياز؟
فمثلا كلمة كتب و كاتب تشتركان في الدلالة على أصل الكتابة، و لكن بالرغم من هذا الاشتراك تمتاز كل واحدة عن الأخرى في نقطة، و هي ان كتب تدل على الكتابة بنحو تلبّس الفاعل بها في الزمن السابق، و هذا بخلاف كاتب فانّها تدل على التلبّس الفعلي من دون دلالة على الزمن.
والسؤال في مقامنا عن الفارق بين كلمة ضرر و ضرار بعد اشتراكهما في الدلالة على أصل النقص.
ويمكن ان يفرّق بينهما بان الضرر اسم مصدر، بينما الضرار مصدر.
والفارق بين المصدر و اسمه هو: ان الكلمة تارة تدل على مجرد الحدث مع قطع النظر عن حيثيّة صدوره من الفاعل، أو بالأحرى من دون دلالتها على النسبة إلى الفاعل، و أخرى تدل عليه مع ملاحظة حيثيّة صدوره من الفاعل. و الأول هو اسم المصدر، و الثاني هو المصدر. فمثلا العلم إذا لوحظ منسوبا إلى الفاعل و قيل علم زيد بالقضية ثابت فهو مصدر، أمّا إذا قيل العلم خير من الجهل فهو اسم مصدر.
و غالبا لا فرق بين المصدر و اسمه في اللفظ في اللغة العربية (33)، بينما على العكس في اللغة الفارسية، حيث يختم المصدر بالنون بخلاف اسم المصدر فيقال: «گفتن و گفتار، و رفتن و رفتار، و كشتن و كشتار، و كتك و زدن، و ...».
وإذا أردنا ان نمثل للمصدر و اسمه المختلفين في اللغة العربية فيمكن ان نمثل بالضرر و الضرار؛ فان الضرر هو نفس النقص بلا لحاظ حيثية صدوره من الفاعل، فحينما يقال: ضرر فلان عظيم يقصد انّ نفس النقيصة فاحشة و عظيمة، و لا يراد انّ النقيصة التي أدخلها و فعلها فلان عظيمة. انّ حيثيّة فعلها من فلان أو فلان ليست ملحوظة، و إنّما الملحوظ هو النقص بما هو نقص بقطع النظر عن صدوره من هذا أو ذاك. و هذا كله بخلاف الضرار فان حيثية الصدور من الفاعل ملحوظة، فيقال: ضرار فلان عظيم. أي: انّ الضرر الذي قام به فلان و صدر منه عظيم.
معنى الضرار :
بعد ان عرفنا ان الضرار مصدر نسأل عن معناه، إذ الضرار يحتمل كونه مصدرا لضرّ، و يحتمل كونه مصدرا لضارّ؛ فان ضرّ يأتي مصدره ضرا و ضرارا (34). و ضارّ- الذي هو على وزن فاعل- يأتي مصدره على وزن فعال و مفاعلة، أي: ضرار و مضارة (35).
ثم إنّه إذا كان مصدرا لضارّ، يقال بان الضرار مصدر باب المفاعلة؛ إذ مصدر ضارّ و إن لم ينحصر بالمفاعلة بل يأتي مصدره على وزن فعال، إلّا انّه ينسب إلى باب المفاعلة من باب النسبة إلى أشهر المصدرين.
وبالجملة إذا كان الضرار مصدرا لضارّ- أي كان مصدرا من باب المفاعلة- فقد يقال بدلالته على المشاركة، أي لا يضرّ هذا ذاك و لا ذاك هذا فان المنسوب إلى جملة من اللغويين ان باب المفاعلة موضوع للمشاركة، فقاتل زيد عمرا، يعني: هذا قاتل ذاك و ذاك قاتل هذا، إلّا ان النسبة في أحدهما أصلية و في الآخر تبعية، فالنسبة بلحاظ الفاعل- و هو زيد- أصلية بينما بلحاظ المفعول- و هو عمرو- تبعية.
هذا، و لكن الشيخ الاصفهاني- و وافقه على ذلك جماعة- أنكر دلالة باب المفاعلة على المشاركة، و قال: انّي تتبّعت القرآن من أوله إلى آخره فلم أجد استعمال باب المفاعلة في الدلالة على المشاركة.
و على أي حال، سواء تمّ ما أفاده أو لا ففي خصوص الحديث لم يقصد من كلمة الضرار الدلالة على المشاركة، إذ الضرر كان صادرا من سمرة فقط دون الأنصاري. و سوف يأتي إن شاء اللّه تعالى في النقطة التالية أنّ استشهاد الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) إنما هو بفقرة «لا ضرار» دون «لا ضرر».
وبعد عدم كون المشاركة مقصودة فما هو المقصود إذن؟
ان المصدر و ان دلّ على صدور الحدث من الفاعل، إلّا ان هذا المقدار قضية تشترك فيها جميع المصادر، و لكن دلالة بعض المصادر تختلف عن دلالة بعضها الآخر، و السؤال عن دلالة هيئة الضرار ما هي؟
لا يبعد دلالة كلمة «ضرار» على صدور الضرر من الفاعل أمّا بنحو الاستمرار و التكرّر، أو بنحو التقصّد و التعمّد و اتّخاذ ذريعة باطلة إليه، فلا ضرار يعني: لا يصدر منكم الضرر متقصدين إليه و متشبّثين ببعض الذرائع الواهية.
ولعل بعض الاستعمالات القرآنية تساعد على ذلك ، قال تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } [البقرة: 231] ، وقال : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] ، وقال : {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ، وقال : {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة: 233] .
إلى غير ذلك.
والنتيجة المستخلصة من كل هذا أنّ كلمة الضرر تدل على نفس النقص، و كلمة الضرار تدل على الضرر الصادر من الفاعل عن تعمّد و قصد.
٦- المقصود من قاعدة لا ضرر :
بعد أن عرفنا المقصود من كلمة الضرر والضرار يقع الكلام في المقصود من مجموع الجملة و أنّه ما ذا تريد أن تقول و تبيّن.
إن أهم نقطة من نقاط البحث عن قاعدة لا ضرر هي هذه النقطة.
و قد اختلفت الاجابة عن هذا التساؤل، و نذكر المهمّ منها كما يلي:
أ- انّ المقصود النهي و إفادة تحريم الضرر تكليفا. و هذا الرأي ذكره الآخوند في الكفاية، و اختاره شيخ الشريعة الاصفهاني.
ب- ان المقصود نفي الضرر غير المتدارك. و هذا هو المنسوب للفاضل التوني.
ج- ان المقصود نفي تشريع الحكم الذي يستلزم الضرر و يسببه.
وهذا ما اختاره الشيخ الاعظم و الميرزا و السيد الخوئي.
د- ان المقصود نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. و هذا ما اختاره الآخوند الخراساني في الكفاية.م
ويأتي فيما بعد إن شاء اللّه تعالى توضيح الفرق بين هذا الرأي و ما قبله.
و بعد هذا نأخذ بالتحدّث بشكل مختصر عن كل واحد من هذه الآراء، ثم بيان ما هو المختار.
توضيح الرأي الأول :
ان تفسير القاعدة بالتحريم التكليفي للضرر يمكن ان يتم بأحد الطرق الثلاث التالية:
أ- استعمال «لا» النافية في النهي بنحو المجاز و الاستعمال في المعنى غير الموضوع له.
ب- تقدير خبر محذوف، أي: لا ضرر جائز.
ج- ان تكون الجملة مستعملة في الإخبار عن النفي بقصد النهي، نظير استعمال جملة بعت بداعي الانشاء.
الدليل على الرأي الاول :
ان كيفية تخريج إرادة النهي من الحديث ليس بمهم، و إنّما المهم إقامة الدليل على اثبات ذلك.
وإذا رجعنا إلى كلمات شيخ الشريعة في رسالة لا ضرر وجدناه يذكر الوجوه التالية :
أ- ان الشائع من الاستعمال المذكور إرادة النهي، من قبيل {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ } [طه: 97] ، و من قبيل قوله (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم): «لا طاعة لمخلوق في معصية» وفي مجمع البيان : معنى لا مساس: لا يمسّ بعض بعضا فصار السامري يهيم في البراري لا يمسّه أحد و لا يمسّ أحدا عقوبة من اللّه سبحانه له ، وكان إذا لقي أحدا يقول : لا مساس ، الخالق»، و «لا غشّ بين المسلمين».
إلى غير ذلك من الشواهد التي أكثر منها.
ومن الغريب في المقام ان الآخوند ذكر في الكفاية ان استعمال التركيب المذكور لإفادة النهي غير معهود، بينما شيخ الشريعة يقول: إنّ ذلك هو الشائع.
ثمّ إنّه إذا أشكلنا على شيخ الشريعة بأنّ استعمال التركيب المذكور في غير النهي معهود أيضا من قبيل «لا شكّ لكثير الشك»، «لا ربا بين الوالد و ولده» و أمثال ذلك.
أجاب بأنّ الأمثلة المذكورة لا يصح الاستشهاد بها، لأنّ الشارع المقدّس قد أعطى للربا حكما معينا و هو الحرمة، و قد أثبت ذلك لطبيعيّه ، و اريد بالجملة المذكورة نفي الموضوع و تنزيله منزلة العدم بلحاظ بعض أ فراده، و كأنّه يراد أن يقال: هذا الفرد ليس من الربا، و من ثمّ لا يثبت له الحكم الثابت لطبيعي الربا و هو الحرمة؛ و أين ذلك من المقام الذي لا يوجد فيه حكم عام للضرر ليراد نفي ذلك الحكم من خلال تنزيل بعض أ فراده منزلة العدم.
ب- التمسك بالتبادر و ان الأذهان الفارغة من الشبهات العلمية لا تنسبق إلّا إليه.
ج- ان الوارد في الحديث انّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال لسمرة: إنّك رجل مضار و لا ضرر و لا ضرار على مؤمن. و هذا بمنزلة صغرى و كبرى، أي: إنّك مضار، و المضارة حرام. و هذا وجيه ، بينما لو كان المقصود أي: لا تمسّني.
نفي الحكم الضرري يصير المعنى: انّك رجل مضار، و الحكم الضرري منتف، و لا يظن بالأذهان المستقيمة ارتضاءه.
د- اتفاق أهل اللغة على فهم النهي من الحديث.
مناقشة أدلّة شيخ الشريعة :
ويمكن مناقشة الوجوه المذكورة بما يلي :
امّا الوجه الأول فلأنّ مجرد استعمال التركيب المذكور في جملة من الموارد لإفادة النهي لا يعني ان التركيب المذكور اينما ورد يلزم حمله على ذلك بل لا بدّ من ملاحظة المناسبات و النكات.
وفي المقام توجد بعض النكات التي تعيق عن ذلك، فان الضرر على ما تقدم هو نفس النقص بدون التفات إلى حيثيّة الصدور من الفاعل، و النهي عن نفس النقص لا معنى له. أجل الضرار حيث ان الملحوظ فيه حيثية الصدور من الفاعل فاستعماله لإفادة النهي وجيه، و يصير لا ضرار بمنزلة لا إضرار، أي: لا يضر بعضكم بعضا.
وعليه يتضح ان المناسب هو التفكيك بين جملة «لا ضرر» و جملة «لا ضرار»، فالثانية تفيد النهي دون الاولى؛ و لا ينبغي ملاحظة الجملتين كجملة واحدة بدون تفكيك بينهما، انّه خطأ لا توجيه له.
وظاهر كلمات المشهور و إن كان عدم التفكيك بينهما إلّا ان المناسب هو التفكيك.
وأمّا الوجه الثاني فعهدة دعوى التبادر عليه.
وأمّا الوجه الثالث فلأنّ استفادة الصغرى و الكبرى و إن كانت أمرا وجيها إلّا انّه يكفي لذلك تفسير فقرة لا ضرار بالنهي، و لا يتوقف على تفسير الفقرة الاولى- لا ضرر- بالنهي.
وأمّا الوجه الرابع فيرده ان فهم أهل اللغة لا حجيّة له، فان الحجّية لو كانت ثابتة لأهل اللغة فهي ثابتة في مقام تشخيص معاني المفردات دون معنى الجمل، فان ذلك اجتهاد محض منهم.
الاستدلال على الرأي الثاني :
وأمّا ما أفاده الفاضل التوني فيمكن ان يوجّه بأنّ الحديث نفى وجود الضرر خارجا، و حيث ان ذلك كذب فلا بدّ و ان نفترض تدارك الضرر الموجود خارجا، إذ بتداركه يكون وجوده كالعدم فانّ الضرر المتدارك في حكم العدم، و حيث انّه لا يمكن أن يكون المقصود انّ كل ضرر هو متدارك بالفعل و خارجا، لأنّ ذلك كذب أيضا، إذ ما أكثر الإضرار التي لم يتحقق تداركها بالفعل، فلا بدّ و أن يكون المقصود انّ كل ضرر خارجا هو محكوم شرعا بوجوب التدارك.
وبذلك يثبت ان كل ضرر هو محكوم بوجوب التدارك و الضمان شرعا، أي: نفهم من الحديث جعل الضمان شرعا لكل ضرر.
ولكن من هو الضامن؟
ان الحديث يدل على ان الضرر إذا كان منسوبا إلى شخص معين فهو الضامن، و هذا ما تدل عليه فقرة لا ضرار، حيث ان الضرار هو الضرر الملحوظ نسبته إلى الفاعل، فإذا نفي دلّ ذلك على انه ضامن.
وامّا إذا لم يكن الضرر منسوبا إلى شخص فالضامن هو الدولة أو بالأحرى هو بيت مال المسلمين، و هذا ما تدل عليه فقرة «لا ضرر»، لأنّ الضرر هو النقص من دون لحاظ نسبته إلى الفاعل، فنفيه يدل على وجوب ضمانه و ليس الضامن في مثل ذلك إلّا الدولة، إذ لا يوجد ما يمكن ان يكون ضامنا غيرها.
وتحقيق من هو الضامن قضية غير مهمة فيما نحن بصدده الآن، و إنّما المهم هو الالتفات إلى تقريب دلالة الحديث على مدعى الفاضل التوني بالشكل المتقدم.
وروح هذا التقريب قد تستفاد من عبارة الفاضل التوني حيث قال في الوافية: «إذ نفي الضرر غير محمول على نفي حقيقته لأنّه غير منفي، بل الظاهر ان المراد به نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع» (36).
مناقشة الرأي الثاني :
وقد يناقش هذا الرأي بما ذكره السيد الخوئي (37)، من انّ لازم هذا الرأي تقييد الضرر بغير المتدارك و هو بحاجة إلى دليل لأنّه خلاف الاطلاق.
و يرده: ان بإمكان شيخ الشريعة ان يدّعي تارة بأنّي لا أدّعي تقييد لفظ الضرر بلفظ غير المتدارك ليكون ذلك بحاجة إلى قرينة، و إنّما أدّعي ان الشارع لمّا حكم بوجوب التدارك صحّ له ان ينفي الضرر و ينزّله منزلة العدم، فالضرر منفي خارجا باعتبار حكم الشارع بلزوم التدارك من دون ان نقيّد لفظ الضرر في الحديث.
كما ان بإمكان الفاضل التوني ان يختار التقييد و يقول: انّ الدليل عليه موجود بتقريب ان الشارع حينما أخبر بعدم تحقّق الضرر خارجا فذلك منه كذب من دون تقييد بالتدارك فصيانة لكلام الشارع من الكذب لا بدّ من التقييد.
والصحيح في مناقشته أن يقال: إنّ مجرد حكم الشارع بلزوم التدارك لا يكفي لتصحيح نفي الضرر خارجا، و إنّما المصحح لذلك هو تحقّق التدارك خارجا و بالفعل.
وإذا قيل : إنّ الشارع قد جعل لذلك قوة اجرائية، فباعتبار ذلك يكون التدارك في نظره جاريا مجرى الأمر الواقع و المتحقق.
كان الجواب : انّ الشارع و إن جعل قوة اجرائية لكن ذلك على مستوى التشريع لا على مستوى التكوين، و مجرد تشريع القوة الاجرائية بدون ان تمارس أعمالها تكوينا لا يصحح له الاخبار بانتفاء الضرر خارجا.
هذا مضافا إلى امكان ذكر جواب ثان، و هو: أنّ حمل الحديث على ما ذكره الفاضل التوني يلزم منه تخصيص الأكثر، فالانسان إذا عثر و انكسرت رجله لا يضمن ضرره أحد، و إذا احترقت داره أو كتبه بدون نسبة الاحراق إلى شخص لم يضمن أحد ذلك، و إذا مات ربّ الاسرة تضرّر أعضاؤها و لم يضمن ذلك أحد، و إذا مرض الإنسان و انحرفت صحته تضرّر و لم يضمن ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يكون الضرر فيها منسوبا إلى شخص معين.
أجل في خصوص القتل إذا فرض ان الشخص وجد مقتولا و لم يعرف قاتله، أو فرض انّ الزحام الشديد في منى أو عرفات أو صلاة الجمعة أودى بحياته أمكن الحكم بضمان ديته من بيت مال المسلمين، للخبر الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام): قال: «قضى امير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وجد مقتولا لا يدرى من قتله، قال: ان كان عرف له اولياء يطلبون ديته اعطوا ديته من بيت مال المسلمين، و لا يبطل دم امرئ مسلم، لان ميراثه للإمام، فكذلك تكون ديته على الإمام و يصلّون عليه و يدفنونه. قال: و قضى في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات: أنّ ديته من بيت مال المسلمين» (38).
الاستدلال على الرأي الثالث :
إنّ تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري هو المعروف بين المتأخرين، و اختاره الشيخ الأعظم و الميرزا و السيد الخوئي.
و بناء على هذا التفسير يلزم الاستفادة الكثيرة من الحديث، حيث يثبت انّ كل حكم من الأحكام منفي حالة الضرر.
و تصوير هذا الاحتمال يمكن أن يكون بأحد أشكال ثلاثة:
أ- ان تقدر كلمة «حكم». اي: لا حكم ضرريا أو لا حكم ينشأ منه الضرر.
ب- ان لا تقدر كلمة «حكم»، بل تجعل كلمة الضرر بنفسها معبّرة عن الحكم، فعبّر بكلمة «ضرر» و قصد منها الحكم.
وعلى الاحتمال الأول لا تلزم المجازية في كلمة ضرر، بل تكون مستعملة في معناها بنحو الحقيقة، و إنّما العناية من حيث التقدير، من قبيل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
بينما على الاحتمال الثاني تلزم المجازية في استعمال كلمة الضرر حيث قصد بها غير معناها، و المصحح هو ان الحكم يستلزم الضرر.
ج- ان تكون كلمة «ضرر» مستعملة في نفس الحكم كما على الاحتمال الثاني، و لكن يدعى هنا ان الاستعمال المذكور حقيقي و ليس بمجازي، بدعوى انّ المورد من موارد السبب و المسبب التوليدي، و استعمال لفظ المسبب التوليدي في السبب التوليدي استعمال عرفي حقيقي و ليس مجازيا، يقال: فلان أحرق الورقة. و الحال أنّه ألقاها، أو: فلان قتل فلانا.
والحال أنّه أطلق عليه الرصاص (39).
وهذا التقريب ذكره الشيخ النائيني.
مناقشة الرأي الثالث :
هذا ما يمكن به تقريب الرأي المذكور.
وهو وإن كان في نفسه وجيها إلّا ان تقريباته الثلاثة قابلة للتأمل.
اما الأول فلأنّه بحاجة إلى تقدير، و الدليل عليه مفقود، مضافا إلى ان الحكم لا يوصف بالضرر و إنّما هو ضرري.
وامّا الثاني فلأن استعمال الضرر و ارادة الحكم ليس عرفيا و لو بنحو المجاز.
وعلى تقدير التنزّل و صحة الاستعمال المذكور فالذي يصحّ هو استعمال لفظ الضرار في الحكم لا لفظ الضرر فإن الضرر هو نفس النقص، و الحكم ليس نفس النقص بل هو يوجده و يحصّله، بخلاف ذلك في الضرار فانّ النسبة فيه ملحوظة.
وبذلك يتّضح و هن التقريب الثالث بالاولى.
هذا، و لكن و هن هذه التقريبات الثلاثة لا يعني و هن أصل الرأي الثالث، بل سيأتي تقريبه ببيان آخر إن شاء اللّه تعالى.
الاستدلال على الرأي الرابع :
والرأي الرابع يرى ان المقصود من الحديث نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.
والفرق بين هذا الرأي و الرأي الثالث: أنّ الثالث يجعل كلمة الضرر مستعملة في الحكم و دالّة عليه، بينما هذا الرأي يرى أنّها مستعملة في الموضوع دون الحكم، ففي قولنا: الوضوء واجب يكون الوضوء بمنزلة الموضوع و الوجوب حكما، و على الرأي الثالث تكون كلمة «الضرر» مستعملة في الوجوب، بينما على الرأي الرابع تكون مستعملة في الوضوء.
هذا فارق.
وفارق ثان أنّه على الراي الثالث ينتفي الحكم كلّما استوجب الضرر، سواء كان الضرر بسبب موضوعه أو بعض مقدماته، و هذا بخلافه على الرأي الرابع فانه لا ينتفي إلّا إذا كان موضوعه ضرريا، و لا يكفي لانتفائه كون مقدماته ضررية.
ففي مثال الوضوء تارة نفترض ان الوضوء نفسه ضرري، و أخرى يفترض ان مقدمات تحصيل الوضوء تستوجب الضرر، ففي الحالة الاولى يرتفع وجوب الوضوء بدون فرق بين الاحتمالين، وفي الحالة الثانية يرتفع وجوب الوضوء على الاحتمال الثالث و لا يرتفع على الاحتمال الرابع.
واستدل الآخوند على رأيه هذا بانّه: بعد عدم امكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة، فاقرب المجازات هو نفيها ادعاء، مضافا إلى انّ التركيب المذكور كثيرا ما يستعمل في النفي الادعائي بخلاف غيره من المعاني.
مناقشة الرأي الرابع :
ويمكن ان يناقش الرأي المذكور بانّ فكرة نفي الحكم بلسان نفي موضوعه يصعب تطبيقها في المقام، ففي مثل قولنا: لا ربا بين الوالد و ولده. يمكن تطبيق الفكرة المذكورة، لأن الربا موضوع للحرمة فنفيه نفي لها، و في المقام حكم الضرر هو الحرمة و الضمان (40)، فإذا نفي لزم من ذلك نفي الحرمة و الضمان، و ذلك عكس المقصود.
وعليه فلتصحيح تطبيق الفكرة المذكورة لا بدّ من أخذ عنوان الضرر مشيرا إلى مثل الوضوء حتى يكون المنفي هو الوضوء و من ثمّ حكمه و هو الوجوب. و هذا قابل للتأمل لان التعبير عن الوضوء بالضرر الذي هو نفس النقص ليس عرفيا، فان الوضوء يستوجب الضرر و سبب له لا انّه نفسه.
و في المحاورات العرفية و ان كان قد يستعمل اللفظ أحيانا بنحو المرآتية إلى شيء آخر، إلّا ان ذلك يختص بباب العنوان و المعنون، فالعنوان قد يطلق بنحو المراتبة على معنونه، و المصحح لذلك هو الاتحاد الثابت بينهما، فالعنوان عين المعنون و متّحد معه، و هذا بخلافه في باب السبب والمسبب فانه لا يستعمل احدهما مرآة للآخر، فلا تستعمل كلمة النار مرآة للإحراق و لا بالعكس، و ما ذاك إلّا لعدم الاتّحاد بينهما.
والأمر في المقام كذلك فان الضرر مسبب عن الوضوء و ليس عينه و عنوانا له.
هذا مضافا إلى انّ فكرة نفي الحكم بلسان نفي موضوعه لا يمكن تطبيقها على المقام من جهة أخرى، باعتبار انّه عندنا مصطلحان:
موضوع و متعلّق، و الذي يصح نفي الحكم بنفيه هو الموضوع دون المتعلق، و في المقام الوضوء متعلق و ليس موضوعا فلا يصح بنفيه نفي الحكم.
ولتوضيح المصطلحين المذكورين نقول: انّ ما يلزم فرضه في المرتبة السابقة و بعد ذلك يثبت الحكم هو الموضوع. و امّا ما يكون الحكم مقتضيا لإيجاده أو نفيه، و يكون تحققه من نتائج الحكم بدون ان يلزم فرضه في المرتبة السابقة فهو المتعلّق.
ففي قولنا: يجب الحجّ على المستطيع يكون المستطيع موضوعا، لأنه متى ما فرض تحقّقه يثبت الحكم، بينما الحجّ متعلّق لأنه لا يلزم فرضه في المرتبة السابقة و بعد ذلك يتحقق الوجوب، بل ان الوجوب يحرك نحو تحقيقه، بخلاف ذلك في المستطيع، فانّ الوجوب لا يحرك نحو تحقيقه.
و في قولنا: الربا محرم، يكون الربا موضوعا للحرمة، لأنّه متى ما فرض صدق الربا على البيع أو القرض كان ارتكابه محرما، فالربا موضوع و ارتكابه متعلق، و في مثل ذلك يصح نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فيقال مثلا: «لا ربا بين الوالد و ولده».
وهذا بخلافه في مثل الوضوء، فانّه متعلق حيث يجب ايجاده، لا انّه على تقدير فرض تحقّقه يصير واجبا.
والوجه في اختصاص الفكرة السابقة بذلك هو الوجدان العرفي فهل ترى يصح ان يقال لا وضوء عند الضرر و يقصد بذلك انّه ليس بواجب؟ كلا لا يصح ذلك، و هذا بخلافه في مثل: لا ربا بين الوالد و ولده فانه يصح، إذ الربا إذا لم يتحقق لم تثبت الحرمة، و هذا بخلافه في الوضوء فانه إذا لم يتحقق لم يلزم انتفاء الوجوب.
ان ما ذكرناه مطلب وجداني. و نكتته هي أنّ الموضوع إذا لم يتحقق لم يتحقق الحكم، و لذا يصح التعبير بانتفاء الموضوع بقصد إفادة انتفاء الحكم، و هذا بخلافه في المتعلق فان انتفاءه لا يستلزم انتفاء الحكم، فمن لا يتوضأ عصيانا لا ينتفي الوجوب عنه، و من هنا لا يصح التعبير عن انتفاء هذا بانتفاء ذاك.
الصحيح أن يقال :
و الصحيح أن يقال انّه توجد لدينا فقرتان: فقرة «لا ضرر» و فقرة «لا ضرار»، و كل واحدة منهما يمكن ان يستفاد منها غير ما يستفاد من الأخرى، و لا ينبغي التعامل معهما بشكل واحد.
امّا فقرة «لا ضرر» فيمكن ان نستفيد منها انتفاء كل حكم يكون ثبوته مستلزما للضرر كما افاده الشيخ الاعظم، و لكن لا لأحد البيانات السابقة فانها ضعيفة كما تقدم، و انما ذلك من جهة ان كلمة الضرر تعني نفس النقص كما تقدم، و إرادة النهي عن ذلك غير محتملة كما تقدم، اذ نفس النقص لا معنى للنهي عنه فما ذا يقصد اذن؟
انّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) حينما يتكلم لا بدّ و انه يتكلّم بما هو شارع، و الشارع حينما يخبر عن عدم الضرر لا بدّ و أن يكون مقصوده نفي تحقّق الضرر من ناحية أحكامه و تشريعاته، انّ ذلك هو المناسب له.
وبذلك يثبت انّ المقصود نفي تحقّق الضرر في حق المكلّف من ناحية التشريع و الأحكام، فكل حكم يكون ثبوته مستلزما للضرر يكون منتفيا.
وفرق هذا التقريب عن التقريبات السابقة انّه على هذا التقريب لا نكون بحاجة إلى تقدير كلمة حكم، كما انّه لا يلزم استعمال كلمة الضرر في الحكم و إنّما المنفي هو نفس الضرر لكننا نقيد النفي و انّه نفي للضرر من ناحية الحكم و التشريع.
ولا يخفى انّه لو خلينا نحن و هذه الفقرة لأمكن ان نستفيد منها- اضافة إلى ما ذكرناه من انتفاء كل حكم ضرري- حرمة الاضرار بالآخرين و عدم اباحته، لأنّ الحكم بإباحته مستلزم للضرر (41) على الآخرين فيكون منتفيا.
وعليه فما رامه شيخ الشريعة من استفادة تحريم الضرر يكون ثابتا ضمن هذا التفسير أيضا.
هذا بالنسبة إلى فقرة «لا ضرر».
و اما بالنسبة إلى فقرة «لا ضرار» فيستفاد منها النهي عن الاضرار و تحريمه كما رام ذلك شيخ الشريعة، حيث ان الضرار لوحظ فيه جنبة الصدور من الفاعل، و هو أشبه بكلمة اضرار، فكما انّه في جملة «لا اضرار» يستفاد النهي عن الاضرار كذلك في لا ضرار.
ونلفت النظر إلى ان تحريم الاضرار بدون تشريع وسائل وقائية تحول دون حدوث الضرر أو دون بقائه ليس عقلائيا، فالتحريم تكليفا للإضرار يلازم تشريع الوسائل المانعة من حدوث أو بقاء الضرر.
وبهذا يتّضح الجواب عن التساؤل الذي ستأتي الإشارة له إن شاء اللّه تعالى و هو: انّ المناسب لحرمة الاضرار منع دخول سمرة الى منزل الأنصاري دون الأمر بقلع النخلة.
ووجه الجواب: ان تحريم الاضرار منفكّا عن تشريع الوسائل الوقائية حيث انّه ليس عقلائيا فيكون أمر النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بقلع النخلة من هذه الناحية.
كما يتّضح من خلال ما ذكرناه وجه الارتباط بين تحريم الاضرار و تشريع حق الشفعة، ان ذلك من جهة ان بيع الشريك لحصته لما كان يولّد حقا للشريك الأول في المطالبة بالحصة لنفسه بازاء بذله للثمن، و لمّا كان منعه من إعمال حقه هذا اضرارا به فمن المناسب بعد حرمة الاضرار ثبوت حق الشفعة.
فالتناسب على هذا تناسب بين الفقرة الثانية و ثبوت حق الشفعة، و ليس تناسبا بين الفقرة الأولى و حق الشفعة.
٧- تطبيق الحديث على قضية سمرة :
هناك إشكال ذكره الشيخ الأعظم في رسالة لا ضرر بقوله: « وفي هذه القضية إشكال من حيث حكم النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بقطع العذق مع أنّ القواعد لا تقتضيه، و نفي الضرر لا يوجب ذلك، لكن ذلك لا يخلّ بالاستدلال».
وحاصله : انه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أمر بقلع الشجرة و علّل ذلك بقوله لا ضرر و لا ضرار، و الحال ان تحريم الضرر لا يقتضي جواز قلع الشجرة، و إنّما أقصى ما يقتضي منع سمرة من الدخول بدون استئذان، حيث ان في ذلك اضرارا و هو محرم، و لا معنى لتجويز قلع الشجرة.
هذا بناء على انّ مفاد قاعدة لا ضرر تحريم الاضرار، و امّا إذا كان مفادها نفي الحكم الضرري فالامر مشكل أيضا، لأنّ الحكم بثبوت حق لسمرة في بقاء نخلته في ملك الأنصاري ليس ضررا على الأنصاري لكي يكون مرفوعا بالقاعدة، و إنّما الحكم الضرري هو تجويز الاستطراق بدون استئذان فيكون هو المرفوع.
وقد اجيب عن ذلك بعدة أجوبة نذكر منها:
١- ما أشار إليه الشيخ الأعظم في العبارة السابقة و هو ان عدم المعرفة بكيفية التطبيق لا يمنع من الاستدلال بالقاعدة و لا يؤثر على ذلك.
ويرده : ان عدم التعرّف على كيفية التطبيق على نفس المورد يولّد احتمال كون المقصود من القاعدة شيئا آخر غير ما نفهمه، إذ لو كان المقصود ما نفهمه منها يلزم عدم الملاءمة بين ما نفهمه منها و بين تطبيقها.
٢- ما اختاره جماعة كالميرزا والسيد الخوئي (42)، من ان الأمر بالقلع لم يستند إلى القاعدة، و إنّما استند إلى ولايته (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) و كونه حاكما وظيفته حفظ النظام، فمن باب كونه يجب عليه الحفاظ على النظام أمر بالقلع و ليس من باب قاعدة لا ضرر.
ويرده : انّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) حينما أمر بالقلع علل بقوله لا ضرر، حيث قال (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) اذهب فاقلعها و ارم بها إليه فانّه لا ضرر و لا ضرار؛ فإنّ ذلك واضح في كون القاعدة قد ذكرت كتعليل للأمر بالقلع.
٣- ما ذكره بعض الأعلام (43)- من أنّ قاعدة لا ضرر و لا ضرار التي ذكرها النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) و تمسّك بها لم يذكرها من باب أنّها قاعدة من القواعد الإلهيّة التي امر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بتبليغها كقانون من اللّه سبحانه، و إنّما ذلك حكم صادر منه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بما هو رئيس للحكومة الإسلامية، فالقاعدة حكم سلطاني و حكومتي و ليس إلهيّا.
وتوجيه ذلك: ان الروايات على قسمين: بعضها عبّر بكلمة «قضى»، مثل رواية عبادة و عاقبة، حيث قيل قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بالشفعة و قال لا ضرر، و دلالة مثل ذلك بقرينة كلمة «قضى» على كون القاعدة حكما سلطانيا واضحة.
و بعضها الآخر- مثل رواية الكافي- لم يعبّر فيها بكلمة «قضى»، و لكن بالرغم من ذلك تكون القاعدة فيه حكما سلطانيا؛ لأنّ الأنصاري لما ظلمه سمرة شكا أمره إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بما هو سلطان و رئيس للحكومة فحكم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بأنّه لا يضرّ أحد أخاه في حكومتي و دولتي.
قال (قدّس سرّه) بعد استعراض الإشكال ما نصّه: «و أمّا الإشكال فلا يرد على ما ذكرنا ضرورة أنّ المورد مندرج تحت الحكم السلطاني الكلّي، فيكون الأمر بالقطع لقطع مادة الفساد المتوقّع في المقام» (44).
وإذا قيل: إنّه بناء على هذا يكون مفاد الحديث هو النهي عن الضرر و هو نفس ما أفاده شيخ الشريعة.
كان الجواب: انّ شيخ الشريعة كان يقول بأنّ المقصود بيان التحريم و النهي الإلهي، بينما على هذا التصوير يكون المقصود بيان التحريم و النهي السلطاني. و على الأوّل يكون النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) مبلّغا لحكم إلهي، و على الثاني لا يكون النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) مبلّغا بل مقنّنا لحكم سلطاني.
وإذا قيل: ما الفرق بين هذا الجواب و الجواب الثالث الذي ذكر فيه كون الأمر بالقلع حكما ولايتيّا؟
كان الجواب: انّه على الجواب السابق تكون قاعدة لا ضرر و لا ضرار حكما إلهيّا قد أمر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بتبليغه، غايته أنّه أمر بالقلع من باب الولاية و حفظ النظام، و هذا بخلافه على هذا الجواب، فإنّ القاعدة بنفسها حكم سلطاني.
و يردّه: انّ المشكلة لا تنحلّ بكون النهي عن الضرر و الضرار سلطانيا؛ إذ يبقى أنّ مجرّد تحريم الاضرار و المنع عنه- و لو سلطانيا- لا يقتضي إلّا المنع من الدخول بلا إذن و لا يقتضي تجويز القلع.
٤- ما اخترناه سابقا و هو أنّ الحديث يشتمل على فقرتين، و في فقرته الثانية يدلّ على تحريم الاضرار، و تحريم الاضطرار يستبطن بالملازمة العقلائية تشريع الوسائل الوقائية و الوقوف أمام تحقّق الظلم أو بقائه و لو بإعطاء ذلك كصلاحيّة للحاكم. و هذا نظير النهي عن الاحتكار، فإنّه لو نهي شخص عن الاحتكار و بالرغم من ذلك احتكر، فلو جاء الحاكم و أخرج السلع المحتكرة و باعها لم يشكل على ذلك بأنّ النهي عن الاحتكار لا يستوجب إلّا تحريم الاحتكار لا أكثر، بل يرون وجود ملازمة بين تحريم الاحتكار و تشريع الوسيلة الوقائية و انّ الأوّل دون الثاني أشبه بالتفكيك بين المتلازمين.
وفي المقام أحد تلك الوسائل: قلع النخلة، إذ بدون قلعها يبقى سمرة داخلا و خارجا، و ذلك يستلزم استمرار الاضرار، و مجرّد منعه بدون استئذان لا يكفي للوقوف أمام ظلمه، اللّهمّ إلّا إذا فرض ايقاف شرطي عند الباب يأمر سمرة بالاستئذان، و ذلك أمر غير عملي، و لأجل انحصار الوسيلة الوقائية بالقلع أمر (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بالقلع.
٨- كيف يدفع محذور كثرة التخصيص :
هناك إشكال أشار له الشيخ الأعظم في الرسائل حاصلة: انّ قاعدة لا ضرر قد طرأت عليها تخصيصات كثيرة بمعنى: أنّ هناك أحكاما كثيرة ثابتة في الإسلام و هي ضررية و لا ترتفع بقاعدة لا ضرر، كما هو الحال في الحدود، و الديات، و التعزيرات، و القصاص، و باب الضمان بالاتلاف أو اليد، و باب الخمس، و الزكاة، و الجهاد، و الحجّ، و الانفاق على الزوجة و الأقارب، و باب الكفارات، ككفارة خلف اليمين، أو الافطار، أو كفّارات الحجّ، و باب تنجّس الملاقي؛ فإنّ المرق الكثير إذا لاقى نجاسة وجب التجنّب عنه و إن كان كثيرا، و ذلك ضرر (45).
انّ الحكم بالحدّ و التعزير و القصاص إدخال للنقص على الجاني و اضرار به، و هكذا الأمر في باب الضمان و نحوه.
وكثرة التخصيص هذه توجب بلا ريب و هن القاعدة، و من ثمّ توجب أن لا يكون المقصود من القاعدة معناها الظاهر؛ إذ لازمه كثرة التخصيص المستهجن، و عليه فيلزم أن يكون المقصود من القاعدة معنى آخر لا يلزم من إرادته محذور تخصيص الأكثر، و حيث إنّ ذلك المعنى غير معلوم لنا فيلزم سقوط القاعدة عن الاعتبار أو- على أقل تقدير- لا يصحّ التمسّك بها إلّا في الموارد التي تمسّك فيها المشهور بها.
وبالجملة : إنّ العمل بالقاعدة على عمومها بحيث لا يلتزم بتخصيصها بما تقدّم من الموارد يلزم منه- على حدّ تعبير الشيخ- فقه جديد، و الالتزام بتخصيصها يلزم منه ما تقدّم.
هذه حصيلة الإشكال.
و يمكن أن نطرحه بصيغة ثانية أو بروح أخرى هي: انّ كثرة تخصيص الحديث يعني أنّ في الإسلام أحكاما كثيرة هي ضررية و لا ترتفع بحديث نفي الضرر، و من ثمّ تكون ثابتة بالرغم من كونها ضررية، و هذا معناه: أنّ الإسلام ضرري في كثير من أحكامه و أنّه يوقع أتباعه في الضرر.
وهذا تشويه واضح لسمعة الإسلام النزيه عن هذا وأمثاله.
وإشكال كثرة التخصيص الذي طرحه الشيخ الأعظم يمكن أن يجعل منه أعداء الإسلام- من باب: من فمك أدينك- وسيلة للطعن على الإسلام، فإنّ من قبل بلزوم تخصيص الأكثر بشكل و آخر فقد قبل بتشويه سمعة الإسلام من حيث لا يدري.
هذه صياغة ثانية للإشكال.
ويمكن أن نتقدّم بصياغة ثالثة للإشكال، و هي أنّ الحديث مسوق مساق الامتنان على الامّة الإسلامية، و سوق القضية مساق الامتنان يجعلها عرفا تأبى عن التخصيص حتى و لو فرض عدم كثرته أو فرض عدم استهجان كثرة التخصيص، خصوصا إذا التفتنا إلى أنّ الخارج من القاعدة هو من القضايا الأساسية في الإسلام، كالحدود و الديات و أمثالها.
إنّ خروج أمثال هذه الأحكام الأساسية في الإسلام عن القاعدة المسوقة مساق الامتنان مستهجن ومرفوض عرفا.
وهل ترى من المناسب أن يقول الشارع: لم أجعل عليكم حكما ضرريا امتنانا منّي عليكم إلّا في باب الحدود و الديات و القصاص فقد أثبتّ عليكم حكما ضرريا و لم أمتن عليكم؟!
هذه صيغ ثلاث للإشكال، و المذكور منها في كلمات الأعلام هو الصيغة الاولى فقط.
وقد ذكروا للجواب عن ذلك عدّة وجوه نذكر من بينها :
١- ما أفاده الشيخ الأعظم من أنّ خروج الأكثر حصل بعنوان واحد جامع لها و لم يخرج كل واحد منها بعنوانه الخاصّ، كل ما في الأمر انّ ذلك العنوان الجامع مجهول لنا. و متى ما كان الخروج بعنوان واحد فهو ليس بمستهجن حتى و لو كان الخارج به الأكثر، كما إذا قيل :
«أكرم الناس» و دلّ دليل آخر على خروج الفاسق الذي هو شامل لأكثر الأفراد، فإنّه لا استهجان فيه.
وردّ الآخوند ذلك بأنّه لا فرق في الاستهجان بين أن يكون ذلك بعنوان واحد أو بعناوين متعدّدة.
والميرزا (46) - وتبعه على ذلك السيّد الخوئي - فصّل بين القضية الحقيقية و الخارجية، ففي الخارجية يمتنع تخصيص الأكثر و لو بعنوان واحد، كما لو قيل: أكرم من في العسكر، ثمّ أخرج بني تميم الذين يساوي عددهم عدد العسكر باستثناء ثلاثة أو أربعة، و أمّا في القضية الحقيقيّة فلا يمتنع ذلك.
ثمّ أ فاد أنّ الحديث الشريف حيث إنّه من قبيل القضايا الخارجية باعتبار أنّه ناظر إلى الأحكام التي بلّغها اللّه سبحانه إلى الناس بلسان نبيّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) فالحقّ مع الآخوند.
وهذا الجواب كما ترى يسلّم بأنّ أكثر الأحكام ضررية فيبقى الإشكال بصيغته الثانية.
٢- ما ذكر في جملة من الكلمات بالنسبة إلى الديات و الحدود و القصاص و الحجّ و الجهاد، من أنّها مجعولة ضررية و مبنيّة على الضرر، و الحديث ناظر إلى العمومات التي قد تكون ضررية و قد لا تكون و يقيّدها بصورة عدم الضرر، و معه فكل حكم جعل ضرريا بطبعه من أوّل الأمر لا يكون مشمولا لحديث لا ضرر.
وهذا كما ترى يسلّم بالضرر في الأحكام المذكورة فيبقي الإشكال بصيغته الثانية .
3- إنّه في باب الخمس لا يصدق الضرر، لأنّ الشارع لم يعتبر الشخص مالكا لمقدار الخمس حتى يكون وجوب إخراجه ضررا عليه، بل اعتبره شريكا مع السادة، و لكن يصدق قلّة النفع و هي ليست بضرر (47).
أجل الزكاة هي فرع الملك و يصدق الضرر بالنسبة إليها، و لكن لا يشملها الحديث من باب أنّها بطبعها مبنيّة على الضرر.
٤- ما ذكر في غير واحد من الكلمات، من أنّ موارد الضمان و القصاص هي من موارد تعارض الضررين، فإنّ عدم الضمان ضرر على المضمون له و الضمان ضرر على الضامن. و هكذا يرد في موارد القصاص، فإنّه ضرر على الجاني و عدمه ضرر على المجني عليه، و الحديث لا يشمل موارد تعارض الضررين.
إلى غير ذلك من الأجوبة، و هي كما ترى لا يخلو أكثرها من تكلّف، مضافا إلى أنّها لا تحلّ الإشكال بجميع صيغه.
والذي نراه في الجواب أن يقال: إنّه لو فرضنا اسرة كبيرة تعيش في بيت واحد، و كان ربّ الاسرة يشرف عليها و يدير أمرها بما يراه صلاحا لها فقال من باب الحفاظ عليها: على الثري من أ فراد الاسرة أن يدفع في نهاية كل عام جزءا من الفائض عنده ليصرف في إصلاح شئون الفقراء من الاسرة، أو ليرمّم به البيت الذي تعيش فيه الاسرة، أو ليشترى به للأسرة سيّارة يستفيد منها كل أ فرادها، هل ترى في مثل ذلك أنّ مدير الاسرة قد أضرّ بحال من أخذ منه الأموال؟ انّه لم يأخذها ليضعها في كيسه الخاص بل أخذها لإصلاح شئونهم.
وهكذا لو فرض أنّه قال : من أتلف أموالا لغيره بعمد أو غير عمد فيلزم أن يدفع عوضها، أو قال: من جنى على غيره فللمجني عليه، أو أوليائه الجناية بالمثل أو أخذ الفداء (48)، هل ترى أنّ أمثال هذه المقررات التي يصدرها ربّ الاسرة أو شيخ العشيرة ضرر، أو هي عين النفع و العدالة و الاستقامة التي بها ينتظم أمر المجتمع؟
وهكذا إذا قال: كلّ من تلوّث طعامه بالميكروبات فعليه عدم تناوله حفاظا على صحّته، هل مثل هذا يعدّ إضراراً بهم؟
وهكذا إذا قال: على أ فراد الاسرة القادرين على حمل السلاح مداهمة العدو و الهجوم عليه بين آونة و أخرى حفاظا على الاسرة من العدوّ، هل مثل ذلك يعدّ اضرارا بها؟
وهكذا إذا قال: على كل واحد من أولادي المتزوّجين سدّ حاجة زوجته و أطفاله، هل يعدّ مثل ذلك إضراراً؟
وهكذا إذا قال: كلّ من التزم على نفسه بقضية معيّنة فعليه الوفاء بالتزامه، و إذا لمّ يف فعليه دفع غرامة معيّنة، هل ترى مثل ذلك إضرارا؟
وهكذا إذا قال: كلّ من خالف المقرّرات المرسومة لصالحة عزّر، أو سجن لفترة تأديبا، أو يلزمه دفع غرامة معيّنة، هل يعدّ مثل ذلك إضرارا؟
وهكذا إذا قال : على التلاميذ إطاعة تكاليف المعلّم، و على الأولاد إطاعة أوامر أبيهم، و على الزوجة إطاعة أمر زوجها، هل مثل ذلك يعدّ إضرارا؟
إنّنا إذا قبلنا عدم كون مثل هذه القوانين إضرارا بأفراد الاسرة، أو هي بالاحرى ليست إضرارا بالنظرة العقلائية و بلحاظ القيم العقلائية التي يسمو الإنسان إلى تحقيقها- و إن كانت إضرارا من زاوية اللغة- فلما ذا لا نقول مثل ذلك في الإسلام؟
إنّ الإسلام ينظر إلى المجتمع الإسلامي كاسرة واحدة، و الشارع هو المشرف على مصالحها، كيف لا، و المسلمون في تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى و السهر؟!
وتكفينا الآيات القرآنية حيث تخاطب المسلمين بخاطب الواحد : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... } [آل عمران: 110] .
إنّ قوانين الإسلام في باب الحدود و الديات و التعزيرات و القصاص و الضمان و الخمس و الجهاد و الزكاة و الإنفاق على الزوجة و الأقارب ترجع مصالحها إلى المجتمع الواحد، فكيف تكون اضرارا؟
انّ بها ديمومة المجتمع و بدونها لا يدوم و لا يمكن له الاستمرار، فكيف تكون اضرارا؟
وهل حكم الشارع بتنجّس المضاف و وجوب اراقته حفاظا على المجتمع الإسلامي من الميكروبات إضرار به؟!
أم هل الحجّ الذي به يلتقي المسلمون بعضهم ببعضهم الآخر، و يحصل التعرّف بينهم و حلّ مشاكلهم، و فيه ارتزاق أهل مكّة و استفادة الفقراء من الذبائح و التجارة، و الاطّلاع على مهد الرسالة و مواضع نزول جبرئيل و التقاء أ فراد الامّة بأئمتها و علمائها، و التواجد في مثل تلك المشاعر الشريفة التي يشعر فيها المؤمن بالاتّصال باللّه و صقل روحه صقلا كاملا، هل في مثل ذلك كلّه ضرر؟
إن بذلك وحدة المسلمين و قوّتهم و استمرارهم، هل مثل ذلك ضرر أو عين النفع و الصواب؟!
إنّنا لو أردنا أن نؤسّس مجتمعا عقلائيا يعيش المدينة الفاضلة لما كنّا نعدو أمثال هذه القوانين، و لئن كنّا نعدو بعضها فذلك و ليد جهلنا بها و عدم توصّل عقول العقلاء إليها.
والذي نراه سببا لنشوء فكرة التخصيص الكثير: النظر إلى الإسلام كمجموعة تشريعات جاءت لإصلاح شئون الأفراد دون المجتمع، انّ النظر إلى الإسلام بهذا الشكل يولّد حتما مثل هذه الشبهة، أمّا إذا نظرنا إليه بصفته مجموعة تشريعات جاءت لإصلاح الساحة العالمية أيضا فلا يتمّ ما ذكر، لأنّ الساحة العالمية تحتاج إلى مثل هذه القوانين ليلتئم فيها النظام و تسود به السعادة ؛ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] .
و الكلمة المختصرة في حلّ الشبهة: انّ الضرر في الأمثلة المتقدّمة و غيرها يصدق فيما إذا لم يعد نفع القانون إلى الشخص نفسه أو إلى المجتمع الإسلامي، أمّا بعد عود النفع إلى أحد هذين فالضرر غير صادق على المستوى العقلائي و لا يعد لدى العقلاء ضررا، أو على الأقل يعدّ ضررا غير أنّه ضرر مقبول لدى العقلاء، و حديث نفي الضرر حينما يقول: لا ضرر يقصد نفي ما يكون ضررا على المستوى العقلائي.
٩- شمول الحديث للأحكام العدمية :
وقع الكلام في أنّ حديث لا ضرر هل يشمل الأحكام العدمية أو يختصّ بالأحكام الوجودية، فوجوب الوضوء مثلا حكم وجودي و لا إشكال في شمول الحديث له حالة الضرر، و أمّا عدم ثبوت حقّ الطلاق لغير الزوج- عند عدم قيامه بالإنفاق على الزوجة، أو عند حبس الزوج لفترة طويلة تستوجب تضرّر الزوجة- فهو حكم عدمي، و عدم انتفائه في الحالات المذكورة و أمثالها يستوجب الضرر، فهل يمكن تطبيق الحديث عليه و من ثمّ ليثبت حقّ الطلاق لغير الزوج؟
اختار السيّد اليزدي في ملحقات العروة ثبوت حقّ الطلاق للحاكم، لأنّ عدم ثبوته له يستلزم الضرر، فينتفي ذلك العدم بحديث لا ضرر و بالتالي يثبت الوجود، أي يثبت حقّ الطلاق للحاكم (49).
ومثال ثان لذلك: إذا حبس شخص شخصا آخر حرّا يوما أو يومين وفات بذلك عمله، انّ المشهور قالوا بعدم الضمان و يختصّ الضمان بمن حبس عبد الغير أو حبس أجير الغير، فإنّ منافع العبد والأجير فاتت بسبب الحبس فيمكن تطبيق قاعدة من أتلف مال الغير فهو له ضامن و هذا بخلاف الحرّ فإنّه ليس بمال فلا تشمله قاعدة من أتلف مال الغير، بل إذا كان هناك مدرك للضمان فهو يختصّ بقاعدة لا ضرر بناء على شمولها للأحكام العدمية، فيقال: إنّ عدم ضمان منافع الحرّ المحبوس ضرر عليه فيلزم ضمانها بحديث لا ضرر بناء على شموله الأحكام العدمية.
ومثال ثالث لذلك: ما إذا كان العبد تحت الشدّة و المولى يؤذيه كثيرا، فإنّ عدم انعتاقه ضرر عليه فيلزم انعتاقه تطبيقا لحديث لا ضرر بناء على شموله للأحكام العدمية.
و قد يستدلّ على عدم شمول الحديث للأحكام العدمية بما يلي :
١- ما أفاده الشيخ النائيني (50)، من أنّ حديث لا ضرر ناظر إلى الأحكام التي جعلها الشارع و شرّعها لينفيها حالة الضرر، و عدم الحكم ليس أمرا مجعولا من قبله ليشمله الحديث، و إنّما هو عدم جعل لا جعل للعدم.
و السيّد الخوئي في مصباح الاصول (51) سلّم نظر الحديث إلى خصوص الأحكام المجعولة، و لكنّه دفع ذلك بأنّ عدم جعل الحكم في الموضع القابل للجعل نحو جعل للعدم، و كأنّ الشارع قد جعل عدم الحكم.
وما أفاده لا يخلو من تكلّف.
والمناسب أن يقال : لا موجب لتخصيص نظر الحديث إلى خصوص الأحكام المجعولة، فان ذلك بلا موجب، إذ المقصود نفي الضرر اللازم من الموقف الشرعي، ففي عالم التشريع لم يتّخذ الشارع موقفا يلزم منه الضرر على المكلّفين، و من الواضح أنّ عدم حكم الشارع بثبوت حقّ الطلاق للزوجة، أو للحاكم الشرعي موقف من قبل الشارع يلزم منه الضرر على الزوجة، و هكذا بالنسبة إلى بقية الأمثلة.
هذا مضافا إلى أنّ بعض الأمثلة المتقدّمة يمكن تصوير الحكم فيها وجوديا، كما هو الحال في مثال الزوجية، فإنّ ثبوت حقّ الطلاق للزوج و كونه خاصّا به بشكل مطلق يستلزم الضرر في الحالات المتقدّمة فيكون منفيا.
و هكذا يمكن تصوير الحكم وجوديا في مثال العبد، فان حكم الشارع ببقاء الرقيه بشكل مطلق و في كل الحالات يستلزم الضرر.
٢- ما أفاده الشيخ النائيني أيضا من أنّ لازم شمول الحديث للأحكام العدمية تأسيس فقه جديد، إذ يلزم صيرورة أمر الطلاق بيد الزوجة في حالة تضرّرها، فمن حقّها أن تطلّق نفسها و لو لم يطلّقها الزوج، و هذا غريب لم يعهد من أحد القول به.
وفيه: انّ ما ذكره ليس إلّا مجرّد شعار و إعلام، فقد نقل هو (قدّس سرّه) أنّ السيّد الطباطبائي اليزدي في ملحقّات العروة يرى: إمكان الحكم بثبوت حقّ الطلاق لغير الزوج تمسّكا بحديث لا ضرر.
و المناسب أن يقال بشمول الحديث للأحكام العدمية و الالتزام بما يؤدّي إليه من نتائج فيما إذا لم يكن هناك إجماع على خلافها، و مجرّد عدم كونها معروفة بين الفقهاء لا يمنع من التمسّك بعموم الحديث.
٣- انّ حديث لا ضرر حديث نفي و ليس حديث إثبات، فهو كأنّه يقول: أنا أنفي الأحكام التي يستلزم ثبوتها الضرر، و لا يقول: أنا أثبت الأحكام التي يستلزم عدمها الضرر.
و فيه: إنّا نسلّم ظهوره في النفي دون الإثبات حيث عبّر بكلمة «لا» النافية، إلّا أنّه ينفي الضرر من زاوية عالم التشريع، فكأنّه يقول لا يلزم ضرر من ناحية مواقفي التشريعيّة في عالم التشريع، و واضح أنّ نفي الضرر من هذه الزاوية له مصداقان، أحدهما: نفي الحكم الذي يستلزم ثبوته الضرر و الآخر: إثبات الحكم الذي يستلزم عدمه الضرر. فإثبات الحكم الذي يستلزم عدمه الضرر إذن مصداق للمدلول المباشري، و لا ندّعي كونه مدلولا مباشريّا.
٤- انّه بناء على شمول الحديث للأحكام العدمية يكون مفيدا بيان تشريع أحكام يستلزم عدمها الضرر. و من المناسب للإنسان العرفي إذا أراد بيان تشريع أحكام وجودية أن يعبّر بنفس الحكم الوجودي، و يقول: شرّعت هذا الحكم الوجودي، و ليس من المناسب الاستعانة بنفي النفي، فإنّ نفي النفي و إن كان إثباتا، إلّا أنّه ليس طريقة عرفية لإفادة الحكم الوجودي.
و في مقامنا لو كان عدم ثبوت حقّ الطلاق للزوجة ضررياً و مشمولًا للحديث لكان لازم ذلك دلالة الحديث على نفي عدم ثبوت حقّ الطلاق للزوجة، الذي هو عبارة اخرى عن ثبوت حقّ الطلاق للزوجة، و مثل هذه الطريقة ليست عرفية، فليس من المناسب بيان ثبوت حقّ الطلاق للزوجة بنفي النفي، فالحديث بناء على شموله للأحكام العدمية يكون قد استعان بهذه الطريقة التي هي ليست عرفية.
و فيه: انّ الحديث بلسانه المباشري ينفي الضرر من زاوية الموقف التشريعي لا أكثر، لكن نفي الضرر من هذه الزاوية قد يتطابق بحسب النتيجة مع نفي النفي، فنفي النفي ليس مدلولا للدليل بشكل مباشر حتى يقال: إنّ ذلك أمر غير عرفي؛ و إنّما هو قضية متطابقة بحسب النتيجة مع مفاد الدليل المباشري، و الذي هو مستهجن كون مفاد الدليل بشكل مباشر نفي النفى، أمّا مجرّد التطابق فليس بمستهجن.
١٠- وجه تقديم الحديث على الأدلّة الأوّلية :
لا إشكال في أنّ نسبة حديث نفي الضرر إلى أدلّة الأحكام الأوّلية نسبة العموم من وجه، فدليل وجوب الوضوء- مثلا- يدلّ على وجوب الوضوء في حالتي الضرر و عدمها، و حديث نفي الضرر يدلّ على نفي الحكم الضرري، سواء كان من قبيل وجوب الوضوء أو غيره، فذاك يشمل حالة الضرر و غيرها، و هذا يشمل وجوب الوضوء و غيره.
ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها هي الوضوء الضرري، فإنّ أحدهما يثبت الوجوب فيها و الآخر ينفيه.
والمناسب في موارد المعارضة بنحو العموم من وجه هو تساقط الدليلين في مادة المعارضة لا تقديم أحدهما، و معه فلما ذا يقدّم حديث نفي الضرر على الأدلّة الأوّلية؟
ونلفت النظر إلى أنّه لا إشكال بين الأعلام في تقدّم حديث نفي الضرر، و إنّما الإشكال و التساؤل عن النكتة الفنيّة لذلك.
وفي هذا المجال ذكرت عدّة أجوبة كان أحدها كون التقديم من جهة حكومة الحديث.
وحينما انجرّ الحديث إلى الحكومة وقع اختلاف ثان في المقصود من مصطلح الحكومة فهل يقصد منه نظر أحد الدليلين إلى الآخر أو يقصد منه شيء آخر؟
وانجرّ الحديث إلى اختلاف ثالث و هو: ما هي النكتة الفنيّة التي لأجلها يقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم؟
انّ هذه مواطن ثلاثة للاختلاف نحاول المرور عليها بشكل سريع.
وجه التقدّم :
أمّا بالنسبة إلى وجه تقدّم الحديث على الأدلّة الأوّلية فهناك عدّة آراء، نذكر من بينها :
١- انّ حديث نفي الضرر حينما نلحظه بالقياس إلى كل دليل من أدلّة الأحكام الأوّلية بانفراده فالنسبة و إن كانت هي العموم من وجه، إلّا أنّه حينما نلحظه بالقياس إلى مجموع الأدلّة الأوّلية فالنسبة نسبة العموم والخصوص المطلق، فإن دليل وجوب الصلاة لو ضمّ إلى دليل وجوب الصوم و الحجّ و ... صار مجموعها بمنزلة دليل واحد يقول :
تجب الصلاة والصوم و بقية الواجبات، و نسبة هذا الدليل الواحد الملحوظ بهذا الشكل إلى حديث لا ضرر نسبة العموم و الخصوص المطلق، فحديث لا ضرر بمنزلة الأخص و يقدّم من جهة الأخصيّة.
والوجه في صيرورته أخصّ: انّ دليل وجوب الصوم و الصلاة و ... و إن كان يثبت وجوب الامور المذكورة في حالة الضرر و عدمها- و هو من هذه الناحية أعمّ- إلّا أنّ حديث نفي الضرر يصير خاصّا و تنتفي عنه جهة العمومية، لأنّه إنّما كان أعمّ باعتبار أنّه ينفي الحكم الضرري، سواء كان وجوب الصلاة أو وجوب الصوم أو بقية الأحكام، فإذا فرض انّ كل الأحكام لوحظت بمنزلة حكم واحد فلا تبقى له عمومية.
وفيه : انّ ملاحظة مجموع الأدلّة الأوّلية بمنزلة دليل واحد عناية تحتاج إلى ما يبرّرها بعد فرض انّ كلّ واحد منها دليل مستقلّ حقيقة، و لا مبرّر يثبت ذلك.
٢- لو لم يقدّم حديث لا ضرر على الأدلّة الأوّلية يلزم الغاؤه رأسا و عدم بقاء مورد له، و هذا بخلاف ما لو قدّم فإنّه لا يلزم إلغاء الأدلّة الأوّلية رأسا، و إنّما يلزم اختصاصها بموارد عدم الضرر. و كلّما دار الأمر بين دليلين من هذا القبيل قدّم ما يلزم من عدم تقديمه الغاؤه رأسا، و هو حديث لا ضرر في المقام.
وفيه : انّ هذا الوجه جيّد، و لكن لا ينحصر وجه التقديم به كما سيتّضح.
٣- ما ذكره الآخوند في الكفاية. و حاصله: انّه كلّما كان عندنا دليلان، أحدهما: وارد لبيان الحكم الأوّلي للشيء، و الآخر: لبيان الحكم الثانوي له فالعرف يوفّق بينهما بحمل الأوّل على الحكم الاقتضائي و الثاني على الحكم الفعلي، و في المقام حيث إنّ الضرر عنوان ثانوي للأشياء فالعرف يحمل حديث نفي الضرر على بيان الحكم الفعلي و أنّ الوضوء محكوم فعلا بعدم الوجوب و انّ الوجوب الذي كان ثابتا له ثابت بنحو الاقتضاء، أي أنّ في الوضوء مصلحة و اقتضاء للوجوب بدون أن يصل ذلك إلى مرحلة الفعلية.
انّ الآخوند يعتقد أنّه كلّما اجتمع دليلان: أوّلي و ثانوي فالعرف يوفّق بينهما بحمل الأوّلي على الاقتضائي، و الثانوي على الفعلي.
وعند اجتماع الحكم الفعلي و الاقتضائي لا إشكال في لزوم الأخذ بالحكم الفعلي.
وفيه : أنّه ليس بوسعنا التصديق بورود الأدلّة الأوّلية لبيان الحكم الاقتضائي. و كيف يحتمل ورود مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] لبيان الحكم الاقتضائي ، وانّ هناك مقتضيا و مصلحة في الوضوء تقتضي وجوبه من دون أن يكون دالّا على وجوبه الفعلي؟!
و إذا قيل: ليس المدّعى أنّ دليل وجوب الوضوء يدلّ على الحكم الاقتضائي دائما و في جميع الحالات، و إنّما المدّعى دلالته على ذلك عند كونه مضرّا. و بتعبير أوضح هو يدلّ على الوجوب الفعلي عند عدم كونه مضرّا، و على وجوبه الاقتضائي عند كونه مضرّا.
قلنا: إنّ الدليل الواحد إمّا أن يدلّ على الوجوب الفعلي فقط، أو يدلّ على الوجوب الاقتضائي فقط، و لا معنى لأن يدلّ على هذا في حالة و على ذاك في حالة اخرى؛ إذ ذلك مخالف للظاهر جزما، فإنّ ظاهر كلّ دليل الدلالة على حكم واحد و ليس على حكمين.
٤- انّ دليل القاعدة و الأدلّة الأوّلية متعارضان، و بعد التعارض و التساقط يرجع إلى الأصل العملي، و هو يقتضي البراءة التي هي تتّفق مع نتيجة تقديم قاعدة لا ضرر.
وفيه : انّ المعارضة و التساقط غير تامين، لإمكان الجمع العرفي بالحكومة كما سنذكر.
٥- أن يكون الوجه في ذلك هو حكومة حديث لا ضرر على الأدلّة الأوّلية، و هذا الوجه هو المعروف بين المتأخّرين.
وما ذا تعني الحكومة ؟
الحكومة :
انّها تعني نظر أحد الدليلين إلى الآخر بحيث يكون الأوّل لغوا لو لم يفرض الثاني في مرحلة أسبق و هذا كما هو الحال في مقامنا، فإنّ حديث لا ضرر ينفي الضرر من زاوية التشريع، فلا بدّ من فرض تشريع و أحكام في مرحلة سابقة لينفيها حديث لا ضرر في حالة الضرر.
هذا، و هناك رأي ثان (52) في تفسير الحكومة يقول : إنّ الدليلين متى ما كان لسان أحدهما مسالما للدليل الثاني فالأوّل هو الحاكم و الثاني هو المحكوم، فلو قيل: أكرم العالم، ثمّ قيل لا تكرم العالم الفاسق، كان لسان الثاني منافيا للأوّل، أمّا لو قيل بدل الدليل الثاني: الفاسق ليس بعالم، كان لسانه مسالما للأوّل.
وإذا كان اللسان مسالما فهو مورد الحكومة، و إذا لم يكن مسالما فهو مورد التخصيص.
وتظهر الثمرة بين التفسيرين فيما إذا فرض أنّ حديث لا ضرر لم يثبت نظره إلى الأدلّة الأوّلية- كما هو رأي الآخوند- فإنّه على الرأي الأوّل لا يكون حاكما، في حين أنّه على الرأي الثاني يكون حاكما، لأنّ لسانه مسالم للأدلّة الأوّلية.
ثمّ إنّ الآخوند في الكفاية رفض تقديم حديث لا ضرر من ناحية الحكومة، باعتبار أنّها متقوّمة بالنظر و لم يثبت نظر حديث لا ضرر إلى الأدلّة الأوّلية، و بنى على كون التقديم من جهة التوفيق العرفي بالبيان المتقدّم.
ولعلّ السبب في إنكاره للنظر أنّ حديث لا ضرر كأنّه يقول بلسانه: أنا لا أجعل حكما ضرريا، وواضح انّ مثل هذا اللسان لا يتوقّف على افتراض وجود أحكام مسبقة، فإنّ اللسان المذكور يصحّ حتى لو فرض عدم تشريع أحكام مسبقة، إذ عدم جعل حكم ضرري لا يتوقّف على وجود أحكام مسبقة.
ويردّه : انّ ذلك يتمّ لو فرض انّا كنّا نحتمل أنّ المولى لم يشرّع حكما سوى قاعدة لا ضرر، أمّا بعد جزمنا بوجود شريعة و أحكام فلا بدّ من كون الحديث ناظرا إلى تلك الشريعة و الأحكام ليبيّن أنّها غير ثابتة في حالة الضرر.
نكتة تقدم الحاكم :
يبقى علينا أن نعرف نكتة تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، فإنّ من المسلّم بين جميع الأعلام تقديم الدليل الحاكم، و إنّما اختلفوا في نكتة تقدّمه. و في هذا المجال يوجد رأيان:
١- ما أفاده الشيخ النائيني (53).
وحاصله : أنّ الدليل المحكوم يتكفّل إثبات الحكم على تقدير ثبوت الموضوع و لا يتكفّل إثبات الموضوع و أنّه متحقّق بالفعل أو لا في حين أن الدليل الحاكم ينفي تحقّق الموضوع، و مثل هذين لا تعارض بينهما، فدليل أكرم العالم - مثلا- يقول : على تقدير كون هذا أو ذاك عالما يجب اكرامه، أمّا أنّ هذا أو ذاك عالم بالفعل فلا يتكفّل اثباته، فإذا جاء دليل ثان يقول الفاسق ليس بعالم فلا يكون معارضا للأوّل ليتأمّل في وجه تقدّمه عليه.
ويردّه : انّ دليل أكرم العالم يثبت وجوب الإكرام لمن كان عالما حقيقة و واقعا كما هو شأن كل دليل حيث يثبت الحكم للموضوع الواقعي، و واضح أنّ دليل الفاسق ليس بعالم لا ينفي العالمية واقعا لكي لا يتنافى و وجوب إكرام كلّ عالم.
٢- أن يكون وجه التقدّم هو النظر، فإنّ كون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم هو بنفسه نكتة تكفي في نظر العرف للتقدّم، لأنّ معنى كونه ناظرا هو أنّ المتكلّم قد أعدّه لتوضيح المقصود من الدليل المحكوم، و واضح أنّ ما اعدّ لتوضيح المقصود من غيره يكون هو المقدّم في نظر العرف.
١١- الضرر الواقعي أو العلمي :
كلّ عنوان يؤخذ في الدليل يحمل على الواقعي دون العلمي، فحينما يقال: الدم نجس فالمقصود انّ ما كان دما واقعا هو نجس، سواء علم المكلّف بكونه دما أو لا، فالمدار إذن على تحقّق العنوان بوجوده الواقعي و ليس على تحقّقه بنظر المكلّف و علمه.
وفي ضوء هذا يلزم أن يقال بأنّ حديث لا ضرر حينما ينفي كلّ حكم شرعي في حالة الضرر فالمقصود : نفي ذلك حالة تحقّق الضرر واقعا حتى و إن لم يحرز المكلّف ذلك.
ويتفرّع على هذا أنّ المكلّف لو كان يعتقد حينما يريد الوضوء بعدم كونه مضرّا، و بعد أن توضّأ اتّضح أنّه مضر فالمناسب الحكم ببطلانه، لأنّه ما دام مضرّا واقعا فالأمر به يكون منتفيا بسبب حديث لا ضرر، و مع انتفاء الأمر به يلزم وقوعه باطلا، و الحال أنّ المعروف بين الأعلام بل قيل بتسالمهم على الحكم بصحّته.
وبكلمة مختصرة : كيف يوجّه الحكم بصحّة الوضوء في الحالة المذكورة، و الحال أنّ المناسب لحديث لا ضرر هو البطلان؟
وهناك عدّة أجوبة عن ذلك نذكر منها :
١- ما أفاده الشيخ النائيني (قدّس سرّه) من أنّ الضرر في المقام لم ينشأ من الحكم الشرعي بوجوب الوضوء ليرتفع الحكم بالوجوب، و إنّما نشأ من اعتقاد المكلّف و تخيّله عدم الضرر في وضوئه، فاعتقاده عدم الضرر هو الذي أوقعه في الضرر و ليس الحكم الشرعي بوجوب الوضوء، و لذا لو فرض أنّ الحكم بوجوب الوضوء لم يكن واقعا لوقع المكلّف في الضرر بسبب اعتقاده عدم الضرر.
وما دام الضرر لم ينشأ من الحكم الشرعي بوجوب الوضوء فلا يرتفع- وجوب الوضوء- بحديث نفي الضرر.
ومع عدم ارتفاع وجوب الوضوء يقع- الوضوء- صحيحا من جهة تعلّق الأمر به و عدم انتفائه.
وفيه : انّ وجوب الوضوء لو كان ثابتا في مورد الفرض فهو ثابت في مورد تحقّق الضرر واقعا فيلزم انتفاؤه. و مجرّد أنّ الضرر خارجا لم يتحقّق بسببه غير مهمّ فإنّ الميزان في تطبيق حديث لا ضرر هو على ثبوت الحكم الشرعي في مورد الضرر و ليس على نشوء الضرر خارجا من جهة الحكم الشرعي حتى يتعذّر تطبيقه في المقام.
٢- انّ حديث نفي الضرر، حيث انّه وارد مورد الامتنان، فهو يرفع الالزام و الوجوب دون أصل الطلب و المشروعية، فإنّ رفع ذلك ليس امتنانا و إنّما الامتنان هو في رفع الالزام لا أكثر. و هذا معنى ما يقال من أنّ نفي الضرر هو على نحو الرخصة دون العزيمة.
وهذا الجواب يظهر من السيّد اليزدي في مبحث التيمّم من العروة الوثقى.
وقد يشكل على ذلك بأنّ الوجوب ليس مركّبا من جزءين: طلب الفعل و الالزام ليكون حديث نفي الضرر رافعا للجزء الثاني دون الأول، بل هو أمر بسيط عبارة عن الطلب الشديد، أو يقال: إنّ الصيغة تدل على الطلب فقط، و الالزام يستفاد من حكم العقل بناء على المسلك القائل باستفادة الوجوب من حكم العقل دون الوضع (54).
وفيه : ان الوجوب حتى لو افترضناه أمرا بسيطا، و لكن جعل الوجوب يستلزم بالتبع جعل المشروعية و الطلب، فالمشروعية مجعولة بالتبع و ليس بالأصالة من باب انّها جزء مدلول الوجوب لينكر ذلك.
وإن شئت قلت: كما ان الأربعة لها لازم لا ينفكّ عنها و هو الزوجية و ان الجاعل للأربعة يكون جاعلا للزوجية بالتبع كذلك الحال في الوجوب، فان له لازما لا ينفك عنه و هو المشروعية، و جعل الوجوب يستلزم جعل المشروعية بالتبع، و الامتنان يتحقق برفع المجعول الأصلي بلا حاجة إلى رفع المجعول التبعي.
وإذا قيل : ان المولى إذا رفع المجعول الأصلي فمن أين نعرف عدم رفعه للمجعول التبعي؟
قلنا: ان نفس الامتنان دليل على عدم رفع اليد عن المجعول التبعي؛ إذ الامتنان يتحقق برفع اليد عن الوجوب بلا حاجة إلى رفع اليد عن المشروعية، بل رفع اليد عنها مخالف للامتنان.
وإذا قيل: ان المشروعية ما دامت لازما للوجوب فبرفع الوجوب كيف تبقى المشروعية؟ انّ بقاءها خلف كونها لازمة و تابعة للوجوب.
قلنا: ان الإشكال المذكور يتم في الأمور التكوينية دون الاعتبارية، فان الاعتبار سهل المؤونة، والوجوب و المشروعية هما من الامور الاعتبارية، و بالامكان ان يفترض ان المولى يرفع الوجوب دون المشروعية.
والذي يكشف عن صحة ما ذكرناه ان الوجدان قاض بصحة تصريح المولى: اني ارفع الوجوب دون المشروعية.
وإذا قيل: إنّ هذا كله وجيه على غير مسلك حكم العقل، و اما بناء على كون الوجوب حكما عقليا فلا يكون الوجوب حكما مجعولا بالأصالة لتكون المشروعية مجعولة بالتبع ثمّ ليتصور رفع المولى يده عن المجعول الأصلي دون التبعي.
قلنا: انه بناء على كون الوجوب حكما عقليا يلزم عدم امكان رفع الوجوب حتى مع الانضمام إلى رفع المشروعية، لأنّ الوجوب ليس أمرا مجعولا ليمكن رفعه.
وهذا ينبغي عدّه كمنبّه وجداني على بطلان مسلك حكم العقل، فان له لوازم باطلة، من جملتها عدم امكان رفع الوجوب بحديث نفي الضرر أو حديث الرفع أو غيرهما.
٣- ان دليل وجوب الوضوء يدل على شيئين: وجوب الوضوء و اشتماله على الملاك، و حديث نفي الضرر حيث انّه وارد مورد الامتنان، و هو يكفي في تحققه نفي الوجوب فقط دون الملاك فيكون المرفوع بالحديث هو الوجوب فقط دون الملاك، و مع بقاء الملاك يقع الوضوء صحيحا من ناحية الملاك (55).
ونوقش ذلك بأن الدال على الملاك هو الوجوب، فإذا ارتفع بالحديث فلا يبقى ما يدل على الملاك ليمكن التقرب به (56).
و قد يضاف إلى ذلك أيضا بأن الملاك أمر تكويني و ليس أمرا مجعولا من قبل الشارع ليمكن رفعه أو إبقاءه بالحديث، فان القابل للرفع و الابقاء هو الأمر المجعول دون الأمر التكويني.
هاتان مناقشتان قد توردان على هذا الوجه.
ويرد المناقشة الاولى: أنّ حديث نفي الضرر ما دام واردا مورد الامتنان فلا بدّ من كون المرفوع خصوص الوجوب؛ إذ رفع الملاك اضافة إلى رفع الوجوب مستلزم لمخالفة الامتنان، لأنّ لازم ذلك بطلان وضوء الجاهل بالضرر و لزوم الاعادة عليه، و ذلك مخالف للامتنان.
ويرد المناقشة الثانية: أنّنا لا ندّعي دلالة الحديث على إبقاء الملاك ليقال بأن إبقاء الملاك و رفعه ليس أمرا ممكنا، بل نقول: إنّ الحديث يدل على انّ الملاك باق واقعا و لم يتأثر فهو كاشف عن بقاء الملاك لا انّه يبقيه بتقريب: أنّ الضرر حينما يذكر سببا للرفع يفهم منه العرف كونه مانعا من تأثير الملاك لا رافعا له من أساسه، إذ لو كان مرتفعا لما كان الحديث مسوقا للامتنان، لأن الامتنان لا يتحقّق مع ارتفاع المصلحة من الأساس، و إنّما يتحقق لو رفع الحكم- بالرغم من وجود المصلحة- لأجل الضرر.
وبهذا اتّضح ان الوجه المذكور تام و صالح للاعتماد عليه.
شرطان لصحة الوضوء :
وقد يقال : إنّ الحكم بصحة الوضوء في المقام موقوف على إثبات أمرين :
أ- ان تكون آية الوضوء ذات اطلاق تدل بواسطته على صحة الوضوء في جميع الحالات، بما في ذلك حالة الضرر الواقعي ليمكن التمسك باطلاقها بعد فرض قصور حديث نفي الضرر عن اثبات البطلان.
و بكلمة أخرى: ان قصور حديث لا ضرر عن اثبات بطلان الوضوء لا يستلزم الحكم بصحته إلّا بعد فرض وجود اطلاق يمكن التمسك به، و آية الوضوء لا إطلاق فيها؛ إذ تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ... } [المائدة: 6].
ان الآية الكريمة تدل على تقيد مطلوبية الوضوء بحالة عدم المرض، و حيث إنّ المرض ملحوظ بما هو طريق إلى الضرر (57) فيكون وجوب الوضوء مقيدا بحالة عدم الضرر و ليس له اطلاق.
ويرده: ان هذا وجيه لو كانت صحة الوضوء موقوفة على وجود الأمر به، أمّا بناء على كفاية الملاك فلا نكون بحاجة إلى اطلاق الآية الكريمة و تكفينا دلالة حديث لا ضرر على بقاء الملاك.
ب- ان لا يا بنى على حرمة كل ما هو مضر للإنسان و إلّا وقع الوضوء باطلا، لأنّه لو كان مضرّا واقعا يلزم وقوعه محرما، و مع حرمته كيف يقع صحيحا و مصداقا للمطلوب؟
و فيه: انّا حتى لو بنينا على حرمة مطلق ما يوجب الضرر فلا يلزم من ذلك بطلان الوضوء، لأنّه ما دام مشتملا على الملاك واقعا- حسب ما هو المفروض- و قد صدر بقصد التقرب يلزم وقوعه صحيحا، و حرمته واقعا لا تستلزم امتناع التقرب به بعد فرض كونها مجهولة.
و دعوى ان المحرم لا يمكن ان يقع مصداقا لما هو الصحيح شرعا قضية غير مدعومة بالدليل.
حرمة الاضرار بالنفس :
وحيث انجرّ الحديث إلى مسألة حرمة الاضرار بالنفس فلا بأس بالتعرض إلى هذه المسألة باختصار.
ان الاضرار بالنفس تارة يكون بدرجة كبيرة موجبة للموت و لا اشكال في حرمة مثل ذلك لقوله تعالى : {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
واخرى لا يكون واصلا إلى درجة الموت، و لكنه بدرجة يعلم بمبغوضيّته شرعا، كقطع الإنسان يده أو رجله مثلا.
وثالثة يفترض كونه ليس من أحد النحوين السابقين بل هو بدرجة أخف منهما، كالضرر المتولّد من التدخين، أو من استعمال الماء للمريض و أمثال ذلك.
والكلام هو في هذا النحو الثالث فهل هو حرام أو لا؟
قد يقال بحرمته للوجوه التالية:
١- ان السيرة العقلائية جارية على التجنب عن كل ما يوجب الضرر، و حيث لم يردع عنها شرعا فهي ممضاة.
و يرده: ان العقلاء و ان تجنبوا عن كل ما يوجب الضرر، إلّا ان ذلك ليس بنحو الالزام، بل بنحو الرجحان و من باب كونه أجدر، و إلّا فهل يحتمل حرمة ملء المعدة بالطعام، أو أكل المصاب بمرض السكر لبعض الأطعمة التي قد ترفع من درجة السكر؟ و هل يحتمل حرمة الجماع الزائد، أو الخروج من المكان الدافئ إلى البارد و أمثال ذلك؟
٢- التمسك بحديث لا ضرر، حيث ورد في الفقرة الثانية «و لا ضرار»، و قد ذكرنا سابقا امكان حمل هذه الفقرة على النهي و انّه لا يجوز الاضرار.
وفيه : ان المنصرف من النهي المذكور هو النهي عن الاضرار بالآخرين دون اضرار الشخص بنفسه.
٣- التمسّك بالآيات الناهية عن ظلم الإنسان نفسه، بتقريب: ان ارتكاب ما يضر بالنفس ظلم لها.
و فيه: ان صدق الظلم على ارتكاب شيء فرع حرمته في المرتبة السابقة، و إلّا فلا يصدق- لأن المراد ظلمها بارتكاب الذنوب و ادخالها نار جهنّم عقوبة على ذلك-، و المفروض بعد لم تثبت حرمة مطلق المضر.
٤- التمسك ببعض الروايات الدالة على انّ علّة تحريم بعض المحرمات هو اضرارها ببدن الإنسان، من قبيل رواية المفضل بن عمر:
«قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير؟
قال ان اللّه تبارك و تعالى ... علم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم ...» (58).
ونحوها غيرها بتقريب: أنّ علّة تحريم المحرمات إذا كانت هي الاضرار بالنفس فيلزم حرمة كل ما يوجب الضرر بالنفس، و إلّا لما صلح أن يكون علّة لتحريم المحرمات.
وفيه : ان الحديث و إن دلّ على حرمة الاضرار بالنفس، و لكن لم يوضح ان الضرر من أي قسم و بأي درجة يكون محرما، و ليس له اطلاق من هذه الناحية ليتمسّك به، و لعلّ المحرم حصة خاصة من الضرر.
بل انّ بعض الأحاديث يستفاد منها عدم حرمة الاضرار بالنفس، كالأحاديث التي ترشد إلى رجحان عدم تناول بعض الأطعمة لكونها مضرة.
و بالجملة : لا دليل على حرمة مطلق ما يوجب الضرر، إلّا في أحد النحوين الأولين.
١٢- تعارض الضررين :
من الأبحاث التي تعرض لها الشيخ الاعظم في الرسائل في قاعدة لا ضرر مسألة تعارض الضررين.
وننتخب من ذلك صورتين نتعرض لهما باختصار.
الصورة الاولى :
إذا دار الأمر بين ضررين في حق شخصين فأيهما المقدم؟
بمعنى: انّه لو كان شخصان دار الأمر بين ان يتضرر هذا أو ذاك، و رفعا أمرهما إلى الحاكم، فهل يقدّم الحاكم تضرر هذا أو تضرر ذاك؟
والمثال المتوارث لذلك : ما إذا أدخلت دابة شخص رأسها في قدر شخص آخر، و دار الأمر بين كسر القدر حفاظا على رأس الدابّة و بين قطع رأس الدابّة حفاظا على القدر، فأيّهما المقدّم؟ بعد وضوح أن الحكم بكسر القدر يستوجب الضرر على صاحبه، و الحكم بقطع رأس الدابة يستوجب الضرر على صاحبها، فالأمر على هذا يدور بين حكمين يستلزم كل منهما الضرر.
وفي هذه الحالة إذا فرض ان الطرفين تمّ اتفاقهما على أمر معين، ككسر القدر- مثلا- فلا اشكال، لأن المال مالهما و بامكانهما التصالح كيفما أحبّا.
وتنحصر المشكلة بما إذا لم يتصالحا على أمر معين و رفعا أمرهما إلى الحاكم، فما ذا يفعل؟
إنّه ليس بالامكان التمسك بحديث لا ضرر، لأنّ التمسك به في صالح أي واحد منهما ترجيح بلا مرجح بعد استلزام كل منهما الضرر.
ولا محيص للحاكم- بعد عدم امكان التمسك بحديث لا ضرر- من ملاحظة من يتضرر أقل فيرجّح اتلاف ماله، و عند التساوي من هذه الناحية و سائر الخصوصيات الموجبة للترجيح العقلائي ينتقل إلى القرعة، لأنّها طريق عقلائي في أمثال هذه المقامات. كل ذلك مع ضمان قيمة النقص الطارئ بسبب الكسر أو قطع الرأس على الطرف الثاني.
والوجه في ذلك هو التمسك بقاعدة العدل و الانصاف، فانّ مقتضى العدالة هو ما ذكرناه.
وإذا قيل: إنّ القاعدة المذكورة لم ينعقد عليها بناء عقلائي، و لا مستند لها سوى عذوبة ألفاظها، كما ناقش بذلك السيد الخوئي في بعض المواضع من كلماته (59).
كان الجواب: يكفينا لإثباتها في الجملة كتاب اللّه العزيز حيث يقول : {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
مثال معاصر :
والمثال الموروث - كما قلنا - هو ما تقدم، بيد أنّه قد يبدل بمثال معاصر، و هو: ما اذا كانت امرأة حاملا بطفل، و دار الأمر بين الحفاظ على الطفل الموجب لتضرّرها و الحفاظ على الام الموجب لقتل الطفل (60).
وان شئت قلت: إنّ حكم الشارع بوجوب الحفاظ على الام حيث يستلزم الضرر على الطفل، و هكذا العكس بالعكس فلا يمكن التمسك بحديث نفي الضرر، لأن ذلك ترجيح بلا مرجح.
وإذا كان الاستشهاد بالمثال المذكور قابلا للمناقشة من بعض الجهات، إلّا أنّه جيد في الجملة.
وفي تحقيق حاله نقول: إذا كان ضرر الام بدرجة موتها و كان موتها مستلزما لموت الحمل أيضا فلا إشكال في تعين الحفاظ على حياتها، لأنّ الأمر يدور بين موت الام و حملها أو موت خصوص الحمل، و الثاني متعين.
وإذا كان تضرّرها شديدا و لكنه لا يبلغ درجة الموت فيجوز لها اسقاطه أيضا باعتبار ان الدليل على حرمة الاسقاط: إمّا هو الاجماع و التسالم أو روايات ثبوت الدّية في الاسقاط بناء على دلالة ذلك بالملازمة على الحرمة، و كلاهما لا اطلاق فيه.
وطبيعي جواز الاسقاط لا يعني ارتفاع الدية، بل هي ثابتة بالرغم من جواز الاسقاط لإطلاق دليلها.
وهل عملية الاسقاط ينبغي أن تكون من الحامل نفسها أو تجوز من الطبيب أيضا؟
المناسب جوازها من الطبيب أيضا، لأنّ الاسقاط من الطبيب لا دليل على حرمته في مثل هذه الحالة فيتمسك بأصل البراءة.
الصورة الثانية :
ان يفترض أنّ لإنسان ملكا، كدار أو غيرها، و أراد التصرّف باحداث حمام فيها إلى جانب غرفة بيت جاره فاعترض الجار بأن رطوبة الحمام تسري إلى غرفتي.
وهذه المسألة من موارد الابتلاء الكثيرة في حياتنا.
وطبيعي ينبغي ان نحصر الكلام بحالة: إذا لم يتمكّن صاحب الدار من إحداث الحمام في غير ذلك المكان الذي يضر بالجار، و إلّا فمنعه من إحداث الحمام لا يولّد له ضررا، بل أقصى ما يلزم عدم امكان تصرفه في داره بالشكل الذي يحب، و ذلك لا يعدّ ضررا بالنظر العقلائي، كما ينبغي ان نفترض أنّ إحداثه للحمام ضروري بحيث يشكّل عدمه ضررا عليه.
وإذا قيل : إنّ منع المالك من التصرف في ملكه كيفما أحبّ حرج عليه، و هو منفي في التشريع الاسلامي.
كان الجواب: ان ذلك ليس بحرج؛ لأنّ الحرج هو المشقة الشديدة، و المفروض عدم لزومها.
إذن لا بدّ من فرض البحث في حالة دوران الأمر بين ضررين، و على أساس هذا الافتراض لا يمكن التمسّك بحديث نفي الضرر، لأنّ الأمر يدور بين حكمين ضرريّين، فالحكم بجواز إحداث الحمام مستلزم للضرر على الجار، و الحكم بعدم جوازه مستلزم للضرر على المالك، و التمسك بالحديث بلحاظ أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.
وإذا قيل : إنّ قاعدة الناس مسلطون على أموالهم ترجّح طرف المالك، حيث ان منعه من التصرّف في ملكه خلاف تسلطه على ماله.
كان الجواب: انّ القاعدة المذكورة لا دليل معتبر عليها من الروايات، فانها لم ترد في معاجمنا الحديثية إلّا في البحار (61).
أجل قد تشتمل عليها بعض كتبنا الفقهية، كالخلاف للشيخ الطوسي (62)، بل قيل:
إنّ المعاجم الحديثية المشهورة للعامة لا تشتمل عليها.
وعلى هذا فمهم المستند للقاعدة المذكورة هو سيرة العقلاء و ارتكازهم، و القدر المتيقّن من ذلك حالة عدم استلزام تصرف الإنسان في ملكه الضرر بالآخرين.
وبعد اتضاح عدم امكان التمسك بقاعدة لا ضرر يتعين الرجوع- بعد الشك في جواز تصرف المالك في ملكه- إلى أصل البراءة.
١٣- تطبيقات :
١- هل يمكن ان نستفيد- وفق حديث لا ضرر- حكم التطبير في عزاء سيّد الشهداء (عليه السلام) جوازا أو تحريما؟
٢- هل يمكن في ضوء حديث لا ضرر استفادة حكم التدخين جوازا أو تحريما؟
٣- يخرج في وجه الشخص احيانا بعض اللحوم الصغيرة الزائدة فإذا أراد قطع تلك اللحوم من خلال شدّ خيط عليها و نحوه مع عدم وصول الماء إليها يوما أو يومين خلال فترة وجود الخيط فهل ذلك جائز بعد الالتفات إلى امتناع الوضوء خلال تلك الفترة؟
٤- امرأة أرادت وضع لولب لمنع الحمل فهل ذلك جائز؟ فصّل الشقوق المتصوّرة في ذلك.
٥- شخص لا يمكنه القيام أثناء الصلاة كيف نشخّص وظيفته طبق الأدلة؟
٦- إذا فرض انّ شخصا يتضرّر بشكل و آخر من أداء الصلاة فهل يجوز له تركها؟ و لما ذا؟
7- مؤمن يعمل في بعض الدوائر الرسمية يحتاج لسبب و آخر إلى حلق لحيته فهل يجوز له ذلك على تفصيل أو مطلقا؟
٨- هل يجوز للمرأة استعمال أقراص منع الحمل، و لما ذا؟
٩- مؤمن اعتقد بأنّ الصلاة من قيام مضرّة له فصلّى من جلوس ثم اتّضح له خطأ اعتقاده فما حكم صلاته؟ و لو فرض العكس: بأن اعتقد أنّ القيام غير مضر له فصلّى من قيام ثم اتّضح الخطأ فما حكم صلاته؟
١٠- هل يشمل حديث لا ضرر الأحكام الترخيصية؟ فلو فرض ان شخصا كان يضرّه استعمال الماء فهل يرتفع بذلك جواز شرب الماء بمقتضى الحديث؟ اوضح نكتة جوابك.
____________
(١) تنوير الحوالك للسيوطي ٢: ١٢٢.
(2) بل كتب عنها رسالة مستقلة الحقت بآخر المكاسب، و تعرّض لها الشيخ النراقي في العائدة الرابعة من عوائد الأيام أيضا.
(3) الكافي ٥: ٢٩٢.
(4) العذق على ما في المنجد: كل غصن له شعب.
(5) الحائط: هو البستان على ما في المنجد.
(6) وسائل الشيعة: الباب ١٢ من إحياء الموات ح ٣. و الرواية صحيحة السند.
أمّا العدة من أصحابنا فقد تعرّضنا إليها في أبحاثنا الرجالية، و انتهينا إلى عدم وجود مشكلة من ناحيتها.
وأمّا أحمد بن محمّد بن خالد فهو البرقي المعروف بصاحب المحاسن، و قد قال عنه النجاشي :
«كان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء، و اعتمد المراسيل».
وأمّا والده فهو محمّد بن خالد البرقي و قد وثّقه الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الرضا (عليه السلام).
وأمّا عبد اللّه بن بكير فقد قال عنه الشيخ الطوسي: «فطحي المذهب إلّا انّه ثقة».
وأمّا زرارة فهو أجلّ من أن يحتاج إلى توثيق.
(7) وسائل الشيعة: الباب ١٢ من إحياء الموات ح ٤.
الرواية المذكورة ضعيفة السند من ناحية الارسال عن بعض اصحابنا.
(8) التهذيب ٧: ١٤٦.
(9) الفقيه ٣: ١٤٧.
(10) الفقيه ٣: ٥٩.
(11) أي رسمت الحدود. و كأنه يراد بذكر جملة «لا ضرر» بيان حكمة تشريع الشفعة، كما و انه يراد بذكر جملة «إذا ارفت ...» الرّد على قول من يقول بأنّ الشفعة ثابتة بعد تقسيم الأرض و تعيين حصة كل شريك.
(12) وسائل الشيعة: الباب ٥ من أبواب الشفعة ح ١.
(13) لعلّ كلمة نقع- بالقاف- أنسب. و النقع هو الفاضل. قال ابن الأثير في النهاية في شرح الحديث: فيه نهي ان يمنع نقع البئر- أي فضل مائها- لأنّه ينقع به العطش أي يروي.
(النهاية ٥: ١٠٨) .
(14) الوسائل: الباب ٧ من إحياء الموات ح ٢.
ثم إنّه يحتمل أن يكون المقصود من جملة «لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء» هو انّ الشخص الذي عنده بئر فضل قسم من مائها لو منع الناس من ذلك الفاضل فسوف يصير منعه سببا لعدم مرور رعاة الأنعام على تلك المنطقة التي فيها البئر، و من ثمّ سوف يبقى الكلأ الفاضل عاطلا في الصحراء و من دون حيوانات تستفيد من أكله.
وبهذا يتّضح انّ اللام للعاقبة، أي: لا يمنع فضل الماء الذي عاقبته المنع من فاضل الكلأ.
وقد ذكر شيخ الشريعة في (رسالته: ١٤) ان هذا هو المعروف في تفسير الحديث.
ثم نقل عن الشيخ الطوسي في المبسوط الحكم التالي: كل موضع قلنا انه يملك البئر فانه احق بمائها بقدر حاجته لشربه و شرب ماشيته و سقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك شيء وجب عليه بذله بلا عوض ... و ليس له منع الماء الفاضل من حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعي الكلأ الذي يقرب ذلك الماء ...
(15) الفقيه ٤: ٢٤٣.
(16) راجع هذا و ما قبله في قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني: ١٠٥.
(17) قاعدة لا ضرر لشيخ الشريعة: ١٢- ١٣.
(18) و قد أوضح السيد السيستاني ذلك في رسالة قاعدة لا ضرر: ٧٥- ٨٣.
(19) الفقيه ٤: ٢٤٣.
(20) و قد أشار إلى ذلك السيد محمد علي القاضي في هامش رسالة لا ضرر لشيخ الشريعة الاصفهاني: ١٣ فراجعه.
(21) الدراسات: ٣٢٢.
(22) مصباح الأصول ٢: ٥٢٠.
(23) بحوث في علم الاصول ٥: ٤٣٧.
(24) الفقيه ٤: ٢٤٣.
(25) الرسائل: ٢٥.
(26) و لكن سيأتي إن شاء اللّه التأمل في ذلك أيضا.
(27) قاعدة لا ضرر: ١٨- ١٩.
(28) الجبار هو الهدر الذي لا يغرم. و العجماء هي البهيمة.
(29) ففي الفقيه بسنده إلى عاقبة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: من قضاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) انّ المعدن جبار و البئر جبار و العجماء جبار. و في الكافي و التهذيب عن عاقبة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) انّ ثمر النخل للذي أبّرها إلّا أن يشترط المبتاع.
(30) مصباح الأصول ٢: ٥٢١.
(31) المبسوط ٣: ٢٨١.
(32) وإذا قيل: كيف لا يكون للمؤلف حقّ و هو قد بذل جهودا فكرية كبيرة؟ أجبنا: انّ لازم انّ المطالب العلمية التي يسجلها بعض المفكرين في كتبهم لا يحقّ للآخرين الاستفادة منها و التبنّي لها، و هو واضح البطلان.
(33) و يمكن أن يمثل للمختلفين لفظا بالضرر و الضرار و بالتلف و الاتلاف و النفع و المنفعة.
(34) فإنّ الفعل الثلاثي قد يأتي مصدره على فعال، من قبيل كتب كتابا، و حسب حسابا، و قام قياما.
(35) في شرح ابن عقيل ٢: ١٣١، كل فعل على وزن فاعل فمصدره الفعال والمفاعلة ، نحو :
ضارب ضرابا و مضاربة، و قاتل قتالا و مقاتلة، و خاصم خصاما و مخاصمة.
(36) الوافية: ١٩٤.
(37) مصباح الاصول ٢: ٥٢٩.
(38) الوسائل: الباب ٦ من أبواب دعوى القتل و ما يثبت به ح ١.
(39) المقصود من السبب و المسبب التوليدي العلة التامّة ومعلولها، فان العلة التامّة متى ما تحققت سبّبت وولدت المعلول ، فالعلّة تسمّى بالسبب التوليدي، والمعلول يسمّى بالمسبّب التوليدي.
ومثال ذلك النار و الاحراق، فالنار سبب توليدي و الاحراق مسبب توليدي.
وفي مقابل هذا المصطلح الفعل المباشري، وهو الفعل الذي يصدر من الفاعل باختياره، فالانسان يشعل النار و يحصل بذلك الاحراق؛ ان اشعال النار فعل يصدر منه بارادته و اختياره، و يسمى بالفعل المباشري، و اما الاحراق فيصدر منه بدون اختياره، اذ اشتعال النار علّة تامة للإحراق بدون مدخلية للاختيار. و يسمى الاشعال بالسبب التوليدي و الاحراق بالمسبب التوليدي.
(40) فإنّ الحكم المتصوّر للضرر لو كان فهو الحرمة و الضمان- و لا يوجد حكم غيرهما- و إن كان في ذلك شيء من المسامحة، باعتبار ان الضرر الذي هو نفس النقص لا حكم له، و إنّما المحرم و الموجب للضمان هو الضرار بمعنى الاضرار.
(41) غير أنّه يستفاد منها عدم اباحة الاضرار بالآخرين، و لا يستفاد منها عدم ثبوت اباحة اضرار الانسان نفسه، بخلاف ذلك في فقرة «و لا ضرار» فانّه يمكن ان يستفاد منها ذلك تمسكا بالاطلاق .
(42) مصباح الاصول ٢: ٢٣٢.
(43) الرسائل: ٥٥.
(44) الرسائل: ٥٩.
(45) و لعلّ على هذا المنوال يمكن ذكر أمثلة أخرى، من قبيل سلب حرية الزوجة من التزوّج بزوج آخر، أو عدم جواز خروجها من البيت بدون إذن زوجها أو ...
(46) رسالة لا ضرر: ٢١١.
(47) هكذا ذكر جماعة منهم السيّد الخوئي في المصباح ٢: ٥٣٩. هذا و لكن السيّد الشهيد في التقرير ٥: ٤٧٤ اختار انّ كليهما في طول الدخول في الملك.
(48) المعبّر عنه بالفصل في الأوساط العراقية.
(49) و لم يستند السيّد اليزدي إلى حديث لا ضرر فقط، بل تمسّك بالروايات الخاصّة أيضا.
(50) رسالة لا ضرر: ٢٢٠.
(51) مصباح الاصول ٢: ٥٦٠.
(52) تبنّاه السيّد السيستاني (دام ظلّه) في قاعدة لا ضرر: ٢٣٩.
(53) رسالة لا ضرر: ٢١٣، و تبنّى هذا الرأي السيّد الخوئي أيضا في مصباح الاصول ٢:
٥٤٢.
(54) التنقيح ٩: ٤٢٤.
(55) من جملة من اختار ذلك السيد الحكيم في المستمسك ٤: ٣٣٢.
(56) التنقيح ٩: ٤٢٥.
(57) لوضوح ان ذكر المرض هو من باب استلزامه للضرر عادة، فلو فرض انّ مريضا لم يضره استعمال الماء لم يجز له التيمّم.
(58) وسائل الشيعة: الباب ١ من أبواب الأطعمة المحرمة ح ١.
(59) راجع كتاب الخمس من مستند العروة الوثقى: ١٤٧، أجل التزم بها (قدّس سرّه) في مصباح الاصول ٢: ٥٦٤.
(60) و من الأمثلة المعاصرة أيضا: ما اذا كان الإنسان راكبا سيارة و دار الأمر بين أن يضرّر الآخرين أو يضرر نفسه.
(61) البحار ٢: ٢٧٢.
(62) الخلاف ٣: ١٧٦.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|