أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-8-2022
2236
التاريخ: 27-6-2022
3866
التاريخ: 6-7-2022
4705
التاريخ: 9-7-2022
2622
|
يقصد بالتكوین: مجموعة الصفات والخصائص التي تصاحب الإنسان منذ ولادته أو تظهر عليه حال حياته، ولما كان الإنسان كائن مركب من جسم وروح فإن تكوينه يتحلل إلى تكوين عضوي وتكوين نفسي، ولكل منها خصائصه وصفاته المميزة، ولكن مع ذلك يكونان وحدة متجانسة يتأثر فيها كل منهما بالآخر، فيتأثر التكوين العضوي بأحوال التكوين النفسي، وبالمقابل يتأثر التكوين النفسي بظروف التكوين العضوي.
أولا- العلاقة بين التكوين العضوي والظاهرة الأجراميه: يقصد بالتكوين العضوي: مجموعة الصفات الخلقية المتعلقة بشكل الاعضاء ووظائفها، وهذا التكوين قد يكون طبيعية وقد يكون غير طبيعي. فالتكوين الطبيعي قد يرادف التكوين السوي أي الذي يتمثل في استواء الأعضاء الخارجية للانسان، وإداء الأعضاء الداخلية الوظائفها العادية.
أما التكوين غير الطبيعي، فقد يتمثل في شذوذ في شكل الاعضاء الخارجية أو في اضطراب في أداء الأعضاء الداخلية لوظائفها العادية، ويطلق على مثل هذا التكوين ب (التكوين العضوي المريض).
1- أثر التكوين العضوي المعيب على الظاهرة الأجراميه: حاول العالم الايطالي لومبروزو) الربط بين الشكل الخارجي لأعضاء الجسم والاجرام، حيث عدد الأوصاف التي يتصف بها المجرمون عن غيرهم کشكل الجمجمة والانف والاذن والذقن والوجنتين وغيرها من الأوصاف الخارجية.
کما ذهب العالم الانكليزي (جورنج) إلى أن المجرمين اقل حجما وأخف وزنا من غير المجرمين، وأنهم يتميزون عنهم بالانحطاط الجسدي والعقلي. وذهب إلى ذلك ايضا العالم الامریكی (هوتون). ولكن هناك أبحاث ودراسات قد نفت وجود تمییز یذکر بين المجرمين وغير المجرمين يمكن ارجاع السلوك الإجرامي إليه، حيث انه لاتوجد علاقة مباشرة بين الشذوذ في شكل الاعضاء الخارجية والظاهرة الإجرامية، غير أن هذا الشذوذ قد يؤثر على السلوك الانساني بصفة عامة ومنها السلوك الإجرامي ولكن هذا التأثير ضئيل وغير مباشر، أي أن تأثيره يظهر على الأحوال النفسية والظروف الاجتماعية، والتي قد تدفع بالأنسان إلى سلوك ماهو مفيد له وللجماعة، كما قد تدفع به إلى الانحراف. أما فيما يخص إضطراب وظائف الأعضاء الداخلية فيذهب بعض علماء الإجرام إلى القول بوجود صلة وثيقة بين وظائف الأعضاء الداخلية وبصفة خاصة إفرازات الغدد وبين السلوك الإجرامي(1). وتؤثر افرازات تلك الغدد على إداء اجهزة الجسم لوظائفها المختلفة وبصفة خاصة الجهاز العصبي، وما يترتب على ذلك من ردود الفعل المختلفة في مواجهة المؤثرات الخارجية والتي تأخذ صور السلوك الانساني المتنوعة، ويؤثر الاضطراب أو الخلل الذي يصيب الغدد على التكوين العضوي والنفسي للجسم، مما يؤثر بالتالي على السلوك الإنساني فيدفع به إلى الانحراف وربا إلى الجريمة (2). وفي هذا المجال ذهب العالمين الايطاليين (بند) و (دي توليو) إلى وجود علاقة بين الخلل في إفرازات الغدد وبين السلوك الإجرامي، وقد خلصت أبحاثها إلى أن مرتكبي جرائم العنف يشيع بينهم زيادة افرازات الغدة الدرقية. ولاشك أن للغدد دور في التأثير على التكوين العضوي والنفسي للانسان، وإن أي خلل أو اضطراب من شأنه أن ينعكس على سلوكه فينحرف به وقد يدفعه إلى الجريمة، ولكن هذا الدور يقف على مدى تقدم علم الغدد وتطوره وما توضحه نتائج هذا العلم من تأثير الغدد بصورة مباشرة أو غير مباشرة على السلوك الإنساني بصفة عامة، والجريمة بصفة خاصة.
2- أثر التكوين العضوي المريض على الظاهرة الإجرامية: يقصد بالتكوين العضوي المريض ذلك التكوين المصاب بأحد أعضائه أو أجهزته بمرض يقعده عن إداء وظائفه العادية، أي أن للمرض في هذه الحالة تأثير على التكوين العضوي يصاحبه تغيير في هذا التكوين، وينجم عنه إختلالا في أدائه لوظائفه، ويؤثر ذلك بالتالي على التكوين النفسي الذي يؤثر بدوره على تصرفات الفرد الاجتماعية ومنها سلوكه الإجرامي، كما أن المرض قد يؤثر على طاقة الفرد وقدرته على العمل مما يدفعه إلى سلوك سبيل الجريمة لتدبير المال اللازم له وإشباع حاجاته المختلفة. وتؤثر الأمراض بصفة عامة - على سلوك الأفراد، الا أن هذا التأثير يختلف في مداه وعمقه بأختلاف نوع المرض، ومن اهم الامراض التي يكون لها علاقة بالسلوك الإجرامي هي: السل والزهري وإصابات الرأس والتهابات أغشية المخ.
أ- السل والزهري: دلت الأبحاث التي أجراها كل من العالم الايطالي (دي توليو) والعالم البلجيكي (فيرفاك) على وجود علاقة بين مرض السل والجريمة، فقد أثبت (دي توليو) أنه يوجد مالايقل عن (203) من مرضى السل بين (1000) ألف مجرم أجرى عليهم البحث.
كذلك لاحظ (فيرفاك) في دراسة شملت (1913) مسجونا بلجيكية أن 10٪ منهم ينحدرون من عائلات مصابة بمرض السل. ويرى (دي توليو) أن مرض السل يعد عامل مثيرة أو مهيء للسلوك الإجرامي، حيث يزيد هذا المرض من حساسية الاختلاف النفسي والوظيفي والاستعداد الإجرامي السابق (3).. فالشخص المريض بالسل شديد الحساسية، سريع الانفعال، مضطرب نفسية، ضعيف الارادة، وهو لهذا تسهل إثارته مما يدفعه إلى ارتكاب الجرائم وبصفة خاصة جرائم العنف، كما أن لمرض السل تأثير على الغرائز الجنسية للمريض مما قد يدفعه إلى ارتكاب الجرائم الجنسية وجرائم العنف الذي يصل أحيانا إلى القتل، مثل قتل الزوج نتيجة الغير المفرطة التي تسببها ظروف المرض وخشية العدوى. وتترتب نفس النتيجة على الاصابة بمرض الزهري، حيث يصحب هذا المرض اضطرابات نفسية وعصبية ينتج عنها ضعف مقدرة المريض في السيطرة على تصرفاته، مما يسهل معه إقدامه على أرتکاب الجرائم، وخاصة إذا كان لديه إستعداد إجرامی سابق، وقد يكون تأثير مرض الزهري عارضا يزول بزواله، وقد يظل هذا التأثير دائما على الرغم من زوال المرض.
ب- اصابات الرأس وإلتهابات أغشية المخ: تؤثر هذه الاصابات والالتهابات على الحالة النفسية والعصبية للمريض بها، وقد يتأخر ظهور آثارها عدة سنوات بعد الشفاء منها. وتعد الحمى الشوكية المخية من أخطرالاصابات التي تهم الباحث في علم الإجرام، إذ يصحبها تغييرا في شخصية المريض، وبصفة خاصة عدم قدرته على التحكم في دوافعه وتصرفاته، وقلة الاحتمال القيود النظام وسرعة الانفعال واللامبالاة والميل إلى العنف. وبصفة عامة تدفع اصابات الرأس والتهابات أغشية المخ المريض بها إلى إرتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص والاموال والبلاغ الكاذب والجرائم المتعلقة بالآداب العامة(4) ثانيا: العلاقة بين التكوين النفسي والظاهره الأجراميه: يقصد بالتكوين النفسي مجموعة الصفات والخصائص التي تؤثر في تكوين الشخصية الانسانية وتكيفها مع البيئة الخارجية، ويساهم في نشأة هذه الصفات والخصائص عوامل مختلفة كالوراثة والسن والتكوين العضوي والصحة والمرض ومايحيط بكل ذلك من ظروف بيئية خارجية.
لابد من القول إبتداءا بأنه ليس هناك أشخاص يقعوا حتأ في هاوية الإجرام لأن لديهم تکوین نفسي إجرامي، وذلك أن الجريمة ظاهرة اجتماعية من خلق المشرع، وهي بالتالي متغيرة في المكان والزمان، ولكن هذا لا يعني أن التكوين النفسي خلو من أي تأثير على السلوك الإجرامي، إذ يمكن عن طريق هذا التكوين تفسير السلوك الانساني إجرامية كان هذا السلوك أو عادية فالسلوك الإنساني ماهو الآ تعبير عن عوامل نفسية معينة تتحكم فيه وتعد بمثابة البواعث الدافعة اليه(5). هذا وقد دلت التجارب على أن هناك صفات وخصائص نفسية معينة يكمن فيها الميل إلى إرتكاب الجرائم، ولهذا يصبح من توافرت فيه مثل هذه الخصائص مصدر خطر جدي في أن ينقلب مجرما إذا تهيأت له بقية العوامل الاخريوتضافرت على نحو يدفع فعلا إلى سلوك سبيل الجريمة(6). وهذا يعني ان التكوين النفسي لايفضى بذاته إلى الإجرام حتها، وانیا قد يكمن في هذا التكوين الاستعداد للاجرام ولايتحول صاحبه إلى مجرم الا إذا حركته واثارته العوامل الاجرامية الأخرى. وبالنظر إلى أن النفس الإنسانية تقسم إلى (الذكاء، والشعور، والارادة) (7)، لذا يقتضي منا بیان علاقة كل قسم من هذه الأقسام بالظاهرة الإجرامية.
1- علاقة الذكاء بالظاهرة الإجرامية: يعنى الذكاء- في معناه العام – مجموعة القدرات والكفاءات التي تتميز بالتقاط والافكار والمعاني والقدرة على التعبير عنها، فهو ينطوي على ملكة تخزين الأحاسيس والانطباعات المختلفة وتجميعها ثم تحليلها وتنظيمها وترتيبها وإستخلاص الأفكار والمعاني منها بعد ذلك. وأخيرا التعبير عنها، ولهذا يقال أن الذكاء يتكون من التذكر والتخيل والحكم. وقد كان سائدة في القرن التاسع عشر الاعتقاد بوجود علاقة بين الإجرام والذكاء، حيث يرى (جودارد) أن أغلب المجرمين يتمتعون بمستوى ضعيف من الذكاء، ومن هذا الرأي كذلك (شوشارد) (8). وعلى العكس من ذلك كان هناك من ذهب إلى انکار وجود علاقة حقيقية بين مستوى الذكاء الضعيف والاجرام. وقد اجريت ابحاث حديثة كشفت نتائجها عن ان المجرمين يتمتعون بمسوی ذکاء اقل قليلا من المستوى العادي للذكاء الذي يتمتع به جمهور الناس. ويستخلص من هذه الأبحاث أن الأذكياء وغير الاذكياء يرتكبون الجرائم سواء بسواء (9)، الا أنه يلاحظ وجود جرائم معينة يكثر وقوعها من غير الاذكياء مثل التسول والتشرد والحريق العمد وبعض الجرائم المخله بالأخلاق والسرقة وبعض الجرائم غير العمدية، ويرجع انتشار هذه الجرائم بين ضعاف العقول إلى تسرعهم وعدم تقديرهم لعواقب الأمور، وعدم قدرتهم على ضبط جماح غرائزهم، وبصفة عامة عدم قدرتهم على التكيف مع المجتمع.
نخلص مما تقدم إلى أن الضعف العقلي او التخلف العقلي لايعد سببا اللاجرام أو أحد عوامله، وانا كل ما يمكن أن يعزى اليه هو إرتكاب ضعاف العقول جرائم نوعية معينة تتفق ومستواهم العقلي، كما أن للتكوين العقلي - بصفة عامة - تأثير على الناحية الشعورية سواء بالنسبة للغرائز أو العواطف (10).
2- علاقة الشعور بالظاهرة الأجراميه: يشمل الشعور الجانب الغريزي والجانب العاطفي ويتكون الجانب الغريزي من مجموعة الغرائز أو الميول الفطرية الكامنة في النفس والتي تدفع بالانسان إلى إنتهاج سلوك معين.
فالانسان اما أن يتحكم في غرائزه وعدم إتيانه من السلوك الآ مايتفق والقانون، وإما أن يطلق لغرائزه العنان وإشباعها بأي ثمن فيأتي من السلوك مايخالف القانون، حتى ولو كان هذا السلوك إجرامية، وعلى ذلك فإن أي شذوذ يصحب إحدى غرائز الإنسان قد يدفع به إلى إرتكاب الجريمة، ومن الملاحظ أن أهم الغرائز التي يهتم بها علماء الإجرام هي غريزة حب البقاء، وغريزة الاقتناء، والغريزة الجنسية أو التناسلية(11). فقد تصاب غريزة حب البقاء بالشذوذ الذي يتمثل في الشراهة أي الميل الذي لاحد له إلى الطعام، أو في العزوف عن الطعام والاحجام عنه، وقد يصل الشذوذ حد المغالاة في العجب بالنفس والاعتداد بالذات أو الحرص على الظهور بأكثر من الحقيقة، وكثيرا مايؤدي هذا الشذوذ إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على المال وبصفة خاصة السرقة، وكذلك جرائم الاعتداء على الأشخاص في صورة القتل والايذاء .
أما بالنسبة لغريزة الاقتناء فقد تصاب بشذوذ يأخذ صورة الميل إلى جمع الأشياء وتكديسها وبصفة خاصة الأموال، أو العكس الاسراف والتبذير أو أستحلال مال الغير، وكثيرا مايؤدي هذا الشذوذ إلى إرتكاب جرائم الاعتداء على الأموال السرقة والاحتيال وخيانة الأمانة. وفيما يخص الغريزة الجنسية أو التناسليه فان الشذوذ الذي يصيبها يتمثل في شراهة الأشتهاء الجنسي أو ضعفه أو إشباعها بصورة غير طبيعية، وكثيرا مايؤدي هذا الشذوذ إلى وقوع الجرائم الجنسية كالاغتصاب وهتك العرض واللواط أو التعذيب. ويتضح مما تقدم ان شذوذ الغرائز يلعب دورا مهما في تكوين السلوك الإجرامي، الا أنه يلاحظ ضرورة توافر عوامل أخرى تساعد على تكوين هذا السلوك، وذلك أن التكوين الشاذ للغرائز يمكن الحيلولة بينه وبين الاندفاع نحو الجريمة عن طريق الثقافة والتهذيب وماينشأ عنها من غرائز ثانوية تتغلب على الغرائز الأساسية الشاذة (12). أما الجانب العاطفي من الناحية الشعورية فيشمل مدى القابلية للانفعال والقدرة على الاحتيال، وهذا الجانب قد يشوبه الخلل أو الاضطراب الذي يترتب عليه بعض العقد النفسية، وأهم هذه العقد الشعور بالظلم أو الشعور بالذنب أو الشعور بالنقص. وقد تؤدي هذه العقد إلى ارتكاب الجرائم لرد الظلم الذي يشعر به، أو لأمتصاص الشعور بالذنب أو لتعويض الشعور بالعجز. ان الشذوذ الذي يصيب الجانب العاطفي يعد شذوذا أصيلا، أي يصاحب الفرد منذ مولده ويطلق عليه علماء النفس (السيكوباتيه)، وقد يصاب هذا الجانب بالأمراض القلق والأرهاق، وهي عوارض تطرأ بعد الميلاد لأسباب داخلية أو خارجيه قد تدفع بالمصاب بها إلى الأجرام.
هذا ويقسم الاشخاص تبعا لمدى انفعالهم ودرجة احتمالهم(13) إلى: متلبدوا العواطف: ويتميزون بالقسوة وجمود المشاعر وبرود العواطف فلا يتجاوبون مع الناس ولا تربطهم بهم أي مشاعر وجدانية ويتميزون بالانانية، ويرتكبون جرائم العنف كالقتل وقطع الطريق وهتك العرض
- متقلبوا الاهواء: ويتميزون بسرعة الاستقرار وسرعة الانتقال من النشاط إلى الخمود، ومن السرور إلى الحزن والكآبة، كما يتميزون بالثورة على الأنظمة القانونية، ولذلك يرتكبون جرائم يغلب عليها الطابع العاطفي وجرائم التسول والتشرد والدعارة والادمان على تعاطي المخدرات.
- سریعوا الانفعال: ويتصفون بالاندفاع والميل إلى الشجار فتسهل اثارتهم، ويكون رد فعلهم على هذه الاثارة عنيفة غير متناسب معها، وغالبا مايرتكبون جرائم ضد الآداب العامة، ومنهم كذلك المكتئبين والموسوسين والطموحين والمتخوفين والخيالين والمتشككين (14). ويتضح مما تقدم أن الخلل او الشذوذ الذي يصيب الجانب العاطفي له دور كذلك في تكوين السلوك الإجرامي، الا أنه ليس العامل الوحيد، بل لابد ان تتوافر معه عوامل أخرى تدفع بالشخص إلى ارتكاب الجريمة.
3- علاقة الارادة بالظاهرة الأجراميه: الارادة هي اهلية العزم والتصميم وإتخاذ القرار، وتتأثر الارادة بها يصيب العقل والشعور من عيوب، فالشذوذ العقلى أو الشعوري لابد أن يكون له أثر على إنعقاد الارادة والقرار الصادر عنها. وقد تصاب الارادة بخلل او شذوذ يؤثر على حريتها في اتخاذ القرار فينتقص من قدر هذه الحرية، وتضعف قوة التحكم والسيطرة على النفس مما قد يفضي إلى السلوك الإجرامي متى ما توافرت في الوسط المحيط العوامل الأخرى اللازمة لأنتاج هذا السلوك. ومن عيوب الارادة تخبط النفس بين رغبات متناقضة وإتجاهات متعارضة وعدم وضوح الرؤية أمامها، أو أن تكون أسيرة اوهام وافكار متسلطة عليها لايستطيع الشخص الفكاك منها، وقد تنطوي على رعونة وعدم تبصر بعواقب الأمور وتقدير نتائجها (15)، وهذه العيوب تصاحب الإنسان منذ مولده لذلك يكون شذوذ الارادة أصيلا. ولكن قد تتعرض الارادة بعد الميلاد للاصابة بأمراض تنقص من حريتها في الاختيار أو تعدم هذه الحرية تماما، وتسمى هذه الأمراض بالامراض العقلية. وقد دار النقاش بين علماء الإجرام حول وجود علاقة بين المرض العقلي والسلوك الإجرامي، حيث يميز العلماء بين أمرين:
الأمر الأول: متعلق بمدى التوافق بين الاستعداد للاصابة بالمرض العقلي والاستعداد الإجرامي.
أما الأمر الثاني: يتصل ببيان اثر الاصابة الفعلية بالمرض العقلي على حرية الارادة وعلاقة ذلك بالسلوك الإجرامي.
ففيما يخص الأمر الأول فقد تضاربت نتائج الأبحاث التي أجريت لإثبات العلاقة بين السلوك الإجرامي والاستعداد للاصابة بالمرض العقلى (16). فخلصت بعض الأبحاث إلى التأكيد على وجود مثل هذه العلاقة، حيث اجری کل من (کنت) و (رودن) بحوثا في (12) مستشفى للامراض العقلية في (بافاريا) بألمانيا وانتهيا إلى آن مابين (20 و30٪) من نزلائها من المجرمين، وكذلك أبحاث اخري خلصت إلى نتيجة مقاربة حيث كشفت ان (20٪) من نزلاء المصحات العقلية سبق أن حكم عليهم الارتكابهم جرائم، وان هذه النسبة أعلى من نسبة المجرمين إلى الأفراد العاديين، فهذه الأبحاث وغيرها تبرز بوضوح عن وجود علاقة بين الاستعداد للاصابة بالأمراض العقلية والاجرام. وبالمقابل توجد ابحاث اخرى انتهت إلى نتائج متناقضة للنتائج السابقة حيث تنفي وجود صلة بين الاستعداد للاصابة بالأمراض العقلية والاجرام. فقد دلت الاحصاءات التي اجريت في داخل السجون أن نسبة المصابين بأمراض عقلية إلى مجموع النزلاء تتراوح مابين (21٪) في حين أن المصابين بتلك الامراض إلى مجموع السكان أقل من نصف في المائة(5،0) (17). ان هذا التضارب في النتائج يؤدي إلى القول ان الاستعداد للاصابة بالأمراض العقلية لايعد سببا أو عاملا للاجرام، وان كان يمكن حدوث توافق بينهما، وذلك أن المراحل السابقة على ظهور أعراض المرض العقلي يكون لها أثر فعال وحاسم على الشخصية الانسانية والتي قد تدفع بصاحبها إلى إنتهاج السلوك الإجرامي، فبعض الأمراض العقلية الخطيرة (كأنفصام الشخصية والصرع) قبل ظهور اعراضها على المريض بها، تصاحبها تغييرات في نفسية الإنسان قد تدفع به إلى الإجرام، وبذلك يتضح أن العلاقة بين الاستعداد للاصابة بالمرض العقلي والاجرام علاقة غير مباشرة، حيث يؤثر فيها مراحل تطور المرض على التكوين النفسي فيدفع المريض إلى الجريمة، بل قد يرجع الاستعداد للمرض العقلي إلى عامل آخر كالوراثة في حالة الصرع، فلقد ثبت أن الابناء الذين يولدون من اصل مصاب بالصرع أكثر استعدادا من غيرهم للإصابة بهذا المرض ومايصاحبه من خلل في شخصياتهم قد يدفعهم إلى الإجرام.
أما عن الأمر الثاني (أثر الإصابة الفعلية بالمرض العقلي على حرية الارادة وعلاقة ذلك بالسلوك الإجرامي) فقد ثبت وجود علاقة بين الاصابة الفعلية بالمرض العقلي والاجرام، وأن هذه العلاقة مباشرة تؤثر على تصرفات وسلوك المريض أثناء المرض ذاته، وبعبارة أخرى فإنه لولا المرض العقلى ما إقترف المريض به الجريمة، ومن قبيل ذلك (انفصام الشخصية، والصرع، وجنون الهوس، والاكتئاب، والبارانویا، والهستيريا، والنيوراستینا).
آ- انفصام الشخصية والاجرام: يعد انفصام الشخصية من اخطر الأمراض العقلية، وكان يطلق عليه سابقا (الجنون المبكر) لكثرة انتشاره بين الشباب بين سن (18- 25) سنة، ويتميز هذا المرض بأنطواء صاحبه تدريجيا في عالم من الخيال وفقدانه کل اتصال بالواقع ويصحب ذلك بلادة في الشعور والانفعال، واختلال في التفكير، مع عدم الاتساق في التعبير والحديث وينتهي به الأمر إلى تفكك وإنحلال تام في الشخصية، وتتميز تصرفاته باللامبالاة سواء على مستوى الأسرة أو العمل او الحياة الاجتماعية، فهو غير متكيف إجتماعية، وغالبا ماتكون جرائم الشخص المصاب بهذا المرض من النوع البسيط كالتشرد او التسول او السرقة البسيطة، وقد يلجأ إلى ارتكاب افعال تتسم بالعنف وبعدم التفكير والروية.
ب- الصرع والاجرام: يتميز المريض بالصرع بصعوبة الادراك واستعادة الذكريات وصعوبة في التفكير، ويصاب هذا المريض بالتشنج وفقدان الوعي الذي يطول امده، ويصاحبه حالة اضطراب الوعي وخداع الحواس فيعتقد في رؤية الأشياء أو سماع أصوات لا وجود لها، كما تضعف لديه قوة كبح جماح غرائزه فلايستطيع السيطرة عليها مما يدفعه إلى ارتكاب الجرائم دون أن يذكر شيئا فيما بعد عنها. وأغلب جرائم الشخص المصاب بهذا المرض تتمثل في الأفعال المخلة بالحياء، والجرائم المخله بالأخلاق، والسرقة، والشروع في القتل.
ج- جنون الهوس والاكتئاب والاجرام: يتصف المريض بهذا المرض بتناوب فترات الهلوسة والاكتئاب أو الميلانخوليا ويطلق عليه ايضأ (الذهاب الدوري) کا يتميز المريض به بالافراط في الأفكار والمشاعر والثرثرة في حالة الهوس، وتشتيت الفكر والقلق في حالة الاكتئاب، وقد تدفع حالة الهوس المريض بها إلى ارتکاب اعمال العنف والتدمير والمساس بجسم الغير، وفي حالة الاكتئاب قد يلجأ المريض إلى الانتحار للتخلص مثلا من الشعور بالذنب.
د- البارانويا والاجرام: يتميز المريض بهذا المرض بتسلط فكرة أو مجموعة من الأفكار على نشاطه وتصرفاته، فهو شخص عادي من جميع الوجوه الآ حالة الاعتقاد بصدق افكاره ومعتقداته التي تسيطر عليه، واهم صور هذه الافكار والمعتقدات، اعتقاده بأنه مضطهد او عظيم، ويقود مثل هذا الاعتقاد إلى الوقوع في الإجرام، فيرتكب جرائم الاعتداء على الأشخاص لاعتقاده بأن المجني عليه يضطهده، وكما يرتكب الجرائم ضد الاموال مثل تدمير او حرق امال احد الجيران لأعتقاده أنه يضطهده، وقد يدفعه احساسه بالعظمة إلى تقمص شخصيات تاريخية او مشهورة ويتصرف کالو كان صاحب الشخصية التي تقمصها، وقد يسبب له ذلك الوقوع في جرائم الاحتيال.
هـ - الهستيريا والاجرام: يرجع هذا المرض إلى الصراع النفسي الحاد الذي يعيشه المصاب بهذا المرض بسبب الظروف التي يوجد فيها، فيتولد الانفجار الذي قد يكون في صورة هدوء ورکود شدید لايشعر المريض بعدها بالوسط المحيط به، وقد يتخذ صورة تشنجات او صراخ وبكاء او إغراق في الضحك. واخطر انواع الهستيريا بالنسبة للاجرام حينها تكون الجريمة وليدة هذا الصراع النفسي فيندفع المريض إلى ارتكابها تلقائية، ويسمى هذا النوع بالهستيريا المتسلطة، حيث يشعر المريض بها إلى دافع قوي يسيطر عليه ويدفعه إلى الإتيان بسلوك اجرامي معين كالسرقة والقتل والحريق. والمصاب بهذا النوع من الهستيريا قد يرتكب ابشع الجرائم واشنعها لمجرد لفت الانتباه اليه فقط، واكثر جرائمه الغش والاحتيال وشهادة الزور والبلاغ الكاذب.
و- النيوراستینا والاجرام: من أعراض هذا المرض الشعور بالتعب والارهاق الشديدين، وتضاؤل القدرة على العمل، وحساسية شديدة للمؤثرات المحيطة بالمريض كالصوت والضوء، كما يشعر المريض بالاكتئاب واليأس والتشاؤم فهذه الحالة من الانهاك العصبي والنفسي تدفع المريض بها إلى ارتكاب بعض الافعال الاجرامية كالتسول والجرائم الجنسية والدعارة.
____________
1- يقرر علماء الطب بان الغدد نوعان: غدد قنوية وغدد صماء. فالغدد القنوية تنقل افرازاتها عن طريق قنوات إما إلى داخل الجسم كالغدد اللعابية والبنكرياس والكبد، وإما إلى خارج الجسم كالغدد الدمعية والعرقية أما الغدد الصماء فتأخذ المواد الغذائية التي ينقلها اليها الدم وتقوم بتحويلها إلى هرمونات ثم تعيدها إلى الدم ليوزعها على أجزاء الجسم دون الاستعانة بقنوات أو أوعية ومثالها الغدد النخامية التي توجد في مؤخرة الرأس، والغدد الدرقية ومكانها في الرقبة والغدد فوق الكليتين والغدد الجنسية ينظر: د. فوزيه عبد الستار - مبادئ علم الإجرام و علم العقاب - دار النهضة العربية القاهرة – 1978 ، ص 111/د. عوض محمد عوض - مبادئ علم الإجرام مؤسسة الثقافة الجامعية - الإسكندرية 1980 ، ص210 .
2- آن خلل الغدد قد يكون تكوينية يصاحب الفرد منذ مولده، كزيادة او ضعف افرازات احد الغدد، أي تكون ذات تكوين معيب، وقد يكون عارضا يصيب الإنسان سليم التكوين في فترات معينة من عمره حيث تنشط خلالها افرازات الغدد أحيانا أو تقل أحيانا أخرى، مثل نشاط الغدد الجنسية في فترة المراهقة او الشيخوخة، أو نشاط الغدد بصفة عامة بالنسبة للمرأة في فترات الحمل أو الحيض. ينظر: د. علي عبد القادر القهوجي - علمي الإجرام والعقاب - الدار الجامعية للطباعة والنشر بيروت. 1984. ص 135 .
3- د. علي عبد القادر القهوجي- مرجع سابق، ص 136
4- د. علي عبد القادر القهوجي- المرجع السابق. ص137
5- د مامون محمد سلامه اصول علم الإجرام والعقاب۔ دار الفكر العربي- القاهرة 1971 ص 197
6- د. عوض محمد عوض - مبادئ علم الإجرام مؤسسة الثقافة الجامعية - الإسكندرية 1980 ، ص217
7- د. رمسيس بهنام المجرم تكوينا وتقويما۔ منشاة المعارف الإسكندرية ، ص 73
8- د. علي عبد القادر القهوجي- مرجع سابق، ص139
9- د. عوض محمد عوض- مرجع سابق، ص193.
10- د. مأمون سلامة. مرجع سابق، ص190
11- د. رمسيس بهنام- مرجع سابق، ص78 ود. فوزية عبد الستار - مرجع سابق، ص 120
12- د. علي عبد القادر القهوجي- مرجع سابق، ص 191
13- د. مامون سلامة. مرجع سابق، ص 198 ود. فوزية عبد الستار - مرجع سابق، ص125
14- د. علي عبد القادر القهوجي- مرجع سابق، ص142 .
15- د. رمسيس بهنام- مرجع سابق، ص 85- 86
16- د. مامون سلامة. مرجع سابق، ص 219د. عوض محمد عوض- مرجع سابق، ص222/د. يسر انور ود. آمال عثمان- مرجع سابق، ص203 د. فوزية عبد الستار - مرجع سابق، ص130
17- د. علي عبد القادر القهوجي- مرجع سابق، ص 144
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|