أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014
1740
التاريخ: 18-11-2014
3817
التاريخ: 27-09-2015
2433
التاريخ: 18-11-2014
1894
|
قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } ، { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }.
هكذا تبدأ اقصوصة سبأ أو البلدة الطيبة ، تبدأ برسم بيئة ذات صلة بأقوام اتيحت لهم أرض زراعية ملأى بالخصب والثمر والجمال.
ويلاحظ من هذه البداية القصصية أنها تشدد على عطاء يزاوج بين الطعام والجمال.
وواضح أن هاتين الحاجتين تـتصلان بأشد الدوافع إلحاحا عند الكائن الآدمي.
أما الحاجة إلى الطعام فلا تحتاج إلى تعقيب.
وأما الحس الجمالي فإنه واحد من الحاجات الحيوية التي تحقق للكائن الآدمي توازنه الداخلي حينما يتاح لها إشباع ثر ، من نحو ما يحققه المرأى الطبيعي من ماء وشجر وثمر ونحوه ، بما تنطوي عليه هذه المشاهد من خصائص جمالية وبما تنطوي عليه أشكال التناسق بين المرائي المذكورة من خصائص جمالية أيضا.
إن إشباع تينك الحاجتين الحيويتين بما يستتليه من توازن داخلي للشخصية ، ينبغي أن لا نفصله عن العطاء الذي رسمته البداية القصصية ، مصحوبا بجملة من الظواهر ، هي : الشكر لله ، والتذكر بأنه غافر للذنوب ، فضلا عن التذكير بأن البيئة المذكورة هي : «بلدة طيبة».
ولنقرأ من جديد :
{ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }
ونكرر من جديد بأن هدفنا من الاقصوصة هو توضيح خصائصها الجمالية والفكرية.
وإذا أدركنا أن الخصيصة الفكرية تتمثل في عملية الشكر للسماء ، مصحوبة بتذكر المغفرة أيضا ، ... أمكننا حينئذ أن نستجلي خصائص القيم الفنية لهذه البداية في الاقصوصة.
فبداية الرسم القصصي تتحدث عن جنتين ، أي مزرعتين عن يمين البلد وشماله. ومجرد مواجهتنا لمثل هذا المرأى الطبيعي من الممكن أن يحدد استجابتنا في البعد الجمالي للمرأى أو المنظر المذكور ، وبخاصة أن الرسم حدد اليمين والشمال من البلدة التي تقع المزرعتان فيها. مما يعني أننا حيال مرأى جميل يشبع حاجتنا إلى ما هو متناسق ، وحي من الظواهر.
بيد أن الرسم القصصي سرعان ما ينعطف بنا نحو قيم فكرية ، عندما يوجه حوارا من السماء إلى القوم الذين تضمهم هذه الأرض الجميلة ، بقوله :
{ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ...}
إذن ثمة قيمة فنية وقيم فكرية تضمنتها بداية الاقصوصة ، يتحتم أن نوازن بينهما في عملية الرسم القصصي للبداية المذكورة.
إن أهم ما يمكن استخلاصه ـ فنيا ـ في هذه البداية القصصية ، هو ملاحظة الجانب المتصل باشباع الحاجة الحيوية الطعام ، وملاحظة الجانب المتصل باشباع الحاجة الحسية الجمال.
أما الحاجة الحيوية فإن فقرة كلوا تفصح عنها بوضوح ، كما أن فقره عن يمين وشمال تفصح عن الحاجة الحسية ، في حين أن فقرة بلدة طيبة تفصح عن الحاجتين معا.
والمتلقي مدعو لأن يتأمل بدقة هذا البناء الهندسي لبداية الاقصوصة ، ليس من خلال تضمنها للبعدين الحسي والحيوي من الحاجات فحسب ، بل من خلال تنظيم البعدين المذكورين وتوشيجهما في عملية الاستجابة أيضا.
إن العبارة القصصية (بلدة طيبة) تواشج بين البعدين المذكورين : الحسي والحيوي : الجمال الطبيعي والطعام ، إنها تواشج بينهما بعد أن تفردهما أولا على حدة ، حيث توضح أن المزرعتين عن يمين البلد وشماله البعد الحسي ، وحيث توضح أنهما حافلتان بالرزق { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ }... ثم تجمعها في عطاء واحد هو «بلدة طيبة» ، حيث أن الطيب يشمل كلا من البعدين المذكورين ، كما هو واضح.
وهذا كله من حيث المبنى الهندسي لصياغة العبارة القصصية.
بيد أن ما يعنينا ـ من ثم ـ هو صلة الجانب الفني بالجانب الفكري من الاقصوصة.
ترى : كيف تم صياغة ذلك ؟
قلنا : إن البداية القصصية سرعان ما ربطت بين إشباع الحاجتين المذكورتين الرزق والجمال ، وبين ظاهرة الشكر لله ، كما أنها ربطت ذلك بتذكير القوم بأن الله غفور أيضا.
والسؤال هو :
ما الذي يمكننا أن نستخلصه من رسم ظاهرتي الشكر والغفران في هذه البداية القصصية ؟
مما لا شك فيه أن الشكر من الممكن أن يتبينه المتلقي بوضوح ، حينما يضع في الاعتبار أن السماء تطلب من القوم أن يقدروا هذا العطاء الذي أغدقته السماء عليهم.
غير أن ظاهرة الغفران من الممكن أن يقف المتلقي حيالها بنحو من الاستجابة الغامضة ، فيما يتساءل :
ما المقصود من الغفران ؟
هل إن القصة ستتناول لاحقا مصائر شخوص يشملهم الغفران ، مما يعني أنهم مارسوا مفارقات أعقبها الندم بحيث تغفرها السماء في نهاية المطاف ؟
إن متابعة القصة حتى نهايتها ، لاتفصح عن أن الندم قد غلف شخوص القوم ، إلا إذا افترضنا أن البعض منهم قد ندم فعلا ، أو أنه منذ البداية لم يقم بمفارقة ما ، فيما يترتب على ذلك أن تظل المغفرة من نصيب هذا البعض.
ولعل بعض الفقرات القصصية التي سنواجهها لاحقا ، تفصح عن ذلك بشكل أو بآخر.
لكن المتلقي بالرغم من ذلك سيظل حيال استجابة فنية موشحة بأكثر من استخلاص كما سنرى في مواجهته لظاهرة الغفران وصلتها بظاهرة الشكر ، ثم صلتهما الشكر والغفران بأحداث القصة التي نبدأ بمتابعتها.
لقد رسم النص في البداية القصصية لحكاية سبأ أو البلدة الطيبة المعطى الزراعي والجمالي لمدينة سبأ ، مرتبطا بالشكر وبالغفران كما لحظنا.
والآن فإن التفسير الفني لهذه البداية القصصية ، يعني أن كلا من الظواهر الأربع التي تضمنتها البداية ، لابد أن تتنامى وتتطور بحيث تعكس آثارها على الاجزاء اللاحقة من الاقصوصة.
والظواهر الأربع هي ـ كما لحظنا ـ : المعطى الزراعي ، والمعطى الجمالي للمدينة ، ثم صلتهما بظاهرة الشكر لله على المعطيين المذكورين ، وبظاهرة غفران السماء.
هذه الظواهر الأربع : الرزق ، الجمال ، الشكر ، الغفران ، هي الظواهر التي نتوقع ـ فنيا ـ أن تتطور وتتنامى من خلال ما نواجهه من أحداث ومواقف في القصة.
والآن ، ما هي الأحداث التي رسمها القسم الأول من الاقصوصة ؟
بدأ القسم الأول من الاقصوصة على النحو الآتي :
يقول النص عن أقوام سبأ :
{ فَأَعْرَضُوا }
وهذا هو رد الفعل ، أو الاستجابة التي صدرت عن هؤلاء الأقوام حيال المعطى الذي أغدقته السماء عليهم. إنهم أعرضوا عن ذلك المعطى ولم يشكروا السماء عليه.
إذن ظاهرة الشكر التي طرحتها البداية القصصية عكست فاعليتها في القسم الأول من الاقصوصة ، بحيث تجسدت عملا سلبيا على العكس مما ينبغي أن يسلكه القوم حيال عطاءات السماء.
فالسماء طالبتهم بأن يشكروا الله على العطاءات المذكورة ، لكن القوم أعرضوا عن ذلك بدلا من الشكر.
والآن قد أعرض القوم عن ذلك ، فماذا نتوقع من السماء حيال الإعراض المذكور ؟
القسم الثاني من الاقصوصة هو الذي يتكفل ـ فنيا ـ بالإجابة على السؤال المذكور.
يبدأ القسم الثاني من الاقصوصة برسم الأحداث التي ترتبت على إعراض القوم عن شكرهم للسماء.
وها هو النص يرسم نتائج الإعراض المذكور :
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ }
{ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ }
إنها أحداث خطيرة كل الخطورة دون أدنى شك.
فبعد أن كانت هذه المدينة الجمالية ـ كما يصفها النص القرآني ونصوص التفسير ـ ذات مزرعتين عن يمين البلد وشماله ، وبعد أن كانت المزرعتان تمطران بالرزق الضخم على نحو تسرده نصوص التفسير من أن المرأة مثلا عندما كانت تمشي والمكتل على رأسها ، فإن المكتل يمتلئ بالفواكه من غير أن تمس يدها شيئا من ذلك.
وبعد أن كانت هذه المدينة سالمة من أية آفة ، أو أذى يمس شخوصها على نحو لم يدب فيها حتى البعوض والذباب والهوام التي تواكب ـ عادة ـ المناطق الزراعية. وبعد أن كان التفاف الشجر حولها على نحو لم تمسها الشمس ، ... بعد أن كان ذلك كله ، إذا بالمزرعتين المذكورتين تتحولان إلى نمط آخر ، بعد أن يسبق ذلك حدث خطير هو : سيل العرم.
{سيل العرم} :
هذا الحدث توضحه النصوص المفسرة من أن أرض سبأ كان الماء يأتي إليها من أودية اليمن ، وكان ثمة جبلان يجتمع الماء عندهما ، ... قد سد ما بين الجبلين ، بحيث كانوا يبقونه عند الحاجة لسقي مزارعهم.
وتقول بعض النصوص المفسرة : إن سليمان (عليه السلام) كان قد أجرى خليجا ومجاري وردما من الصخر والكلس ، .. فيما استخدم للغرض الزراعي المذكور.
والمهم أن المعطيات المذكورة جميعا ، قد اكتسحها حدث خطير هو : أن الجرذ نقبت السد الذي لم يستطع الرجال قلع صخوره ، ففاض الماء على المدينة حتى خربها واتلف مزارعها ، حتى أنهم هربوا من المدينة نتيجة للسيل المذكور.
وهذا هو الحدث الأول.
أما الحدث الثاني ، فقد اتجه إلى المزرعتين ذاتهما ، حيث بدلتا بمزرعتين ذواتي اكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
وحين نتجه إلى النصوص المفسرة التي ترسم معالم هذا التغير ، نجد أن المعالم تحسس المتلقي بالوحشة التي تغمر المرأى بعد ذلك الخصب والغنى.
لقد بدل الثمر بالشوك ، والإخضرار باليبس ، والقطاف الثر بشيء قليل من السدر فحسب.
وهكذا تغيرت ملامح المدينة والمزرعة بعد ذلك العطاء الضخم الذي لحظناه.
اولئك جميعا تجيء نتيجة لعدم الشكر ، نتيجة لتكذيبهم رسل السماء.
إذن السيل العرم ، وإبدال الجنتين يشكلان حدثا متطورا أومتناميا من موقف سلبي صدر عن القوم حيال السماء : إنه عدم الشكر الذي مهدت له بداية الاقصوصة ، حينما طالبت بأن يشكر القوم السماء على معطياتها : معطى الطعام ، ومعطى الجمال.
أما الطعام فقد بدل ، بل قد تلف إلا القليل من السدر الذي لا يغني. وأما الجمال فقد تحول إلى وحشة إلى خمط وأثل ، إلى شوك ويبس ، إلى مزرعة قاحلة.
ويجيء القسم الثالث من الاقصوصة مؤكدا من خلال عنصر التكرار أسباب التحول الجديد :
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا...}
وللمرة الجديدة يؤكد النص القصصي أن عدم الشكر أو الكفران بالنعم يجيء سببا مباشرا لعملية التحول المذكورة.
ومع هذا التكرار يرسم النص تفصيلات جديدة لم تتضمنها البداية القصصية.
البداية القصصية لم تتحدث كما لحظنا ، إلا عن الرزق بعامة ، وإلا عن الجمال المتمثل في البناء المعماري للمزرعتين.
أما التفصيل الجديد الذي ينهض به القسم الثالث من الاقصوصة ، فإنه يتناول أبعادا اخرى من المعطى المادي والجمالي ، من المعطى الحيوي الطعام والمعطى الحسي الجمال ، على النحو الآتي :
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً}
{ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ }
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ }
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
إن هذه التفصيلات الجديدة تتضمن مبنى هندسيا وفكريا ينبغي أن نقف عنده مفصلا ونصل بينه ومن ثم وبين الأحداث السابقة.
يقوم البناء الهندسي لاقصوصة سبأ أو البلدة الطيبة على شطرين من الحركة :
الأول منها : يتحدث عن الجنتين وموقعهما الجمالي ومصيرهما البائس نتيجة لعدم الشكر. وكانت حركة الاقصوصة داخل سبأ ذاتها. وقد تقدم الحديث عن ذلك مفصلا.
أما الشطر الثاني من الاقصوصة فيتحدث عن الحركة خارج سبأ :
(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)
كان الشطر الأول من الاقصوصة يتحرك ضمن أسوار المدينة ، بما تتضمنها المدينة من معطيات.
أما الشطر الثاني فيعبر أسوار المدينة ، ليصل بينها وبين بلاد اخرى ، متحدثا أيضا عن المعطيات التي اغدقتها السماء على أقوام سبأ في أسفارهم وتجارتهم.
وقبل أن نتحدث مفصلا عن هذا الشطر من الاقصوصة ينبغي أن نلفت الانتباه إلى البناء الهندسي لها بعامة ، بغية الوقوف على الأسرار الفنية لانشطار الاقصوصة داخل حركتين : المدينة وخارجها.
إن المتلقي بمقدوره أن يثير أكثر من تساؤل عن السر الفني لهذا الرسم.
فالملاحظ أن الشطر الأول من الاقصوصة رسم المزرعتين وما فيهما من النعم ، ثم رسم عدم الشكر على النعم المذكورة ، وما استتلاه من إبادة النعم.
والشطر الثاني من الاقصوصة يتحدث أيضا عن النعم وكفران القوم بها ، وما استتلاه من إبادة النعم.
والسؤال هو :
إن الاقصوصة كان من الممكن أن تتحدث عن النعم داخل سبأ وخارج أسوارها دفعة واحدة ، ثم تتحدث عن إبادة النعم دفعة واحدة أيضا مادام الأمر في الحالتين يتصل بالقوم أنفسهم ، وبالنعم عليهم ، وتمردهم على النعم المذكورة.
فلماذا شطرت ذلك قسمين ؟ بحيث تحدثت مرتين عن النعم ، ومرتين عن الإبادة.
وبكلمة جديدة :
لماذا قطعت الاقصوصة الحوادث والبيئات والمواقف ، ثم وصلت بينها ؟
لماذا أنهت الشطر الأول من الحوادث بإبادة الجنتين ، والشطر الآخر منها بإبادتهم ، أو بتمزيقهم ؟
إن الإجابة على السؤال المتقدم تتضح تماما حين نضع في الاعتبار أكثر من مسوغ جمالي وفكري للتقطيع المذكور.
فأولا : أن طبيعة التحرك داخلا وخارجا يتطلب شطره إلى شريحتين : فالمقيم أو الحاضر داخل المدينة متميز عن المسافر خارج أسوارها.
وإذا كان المقيم عادة تتاح له إشباعات خاصة ، فإن المسافر قد لا يتاح له ذلك.
إن الفارق كبير بين مقيم داخل مزرعتين محفوفتين بكل أنماط الإشباع ، وبين مسافر قد يواجه صحارى ومنازل ومتاعب تفرضها عملية السفر ، وتبعا لوجود مثل هذه الفارقية بين المقيم والمسافر ، فإن شطر الحركة القصصية إلى قسمين ، يظل أمرا له مسوغاته الهندسية والفكرية.
ثانيا : بالرغم من وجود الفارقية بين المقيم والمسافر ، فإن الاقصوصة في صدد تبيين النعم الضخمة على القوم ، ... حتى أن النعم كانت من التنوع والضخامة إلى الدرجة التي هيأتها السماء حتى للمسافر من هؤلاء القوم.
ومن الواضح ، أن تبيين ضخامة النعم حتى على المسافر الذي لا تتوفر له عادة نعم الإقامة ، يتطلب فرزها على حدة ، وتخصيص قسم لها يتواسق وخصوصية النعم التي هيأتها السماء لهؤلاء القوم.
إذن خصوصية النعم تناسقت مع خصوصية الشطر القصصي لها.
وهذا هو المسوغ الثاني هندسيا وفكريا لتقطيع الأحداث والبيئات والمواقف.
ثالثا : يترتب على ذلك أن المصائر الدنيوية التي لحقت هؤلاء القوم ستفرز أيضا ضمن شطرين يتناسبان مع سلوكهم من جانب ، ومع الفارقية التي تفرز المسافر عن المقيم من جانب ثان.
ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح حينما نجد أن المصير الدنيوي في الشطر الأول من القصة كان ناجما ـ كما هو ظاهر نصوص التفسير ـ من تكذيبهم الرسل ، مضافا إلى عدم شكرهم للمعطيات الحيوية والجمالية التي تفرزها المزرعتان.
أما الشطر الآخر من القصة ـ كما سنرى ـ فإنه ناجم عن الترف الذي طالب القوم باستبداله.
وبكلمة جديدة :
إن نعم المدينة لم يصاحبها شكر على وجودها . أما نعم الأسفار فقد صاحبها اقتراح باستبدالها والفارق كبير بين الاستجابتين :
الاستجابة الاولى : إقرار بالنعم دون أن يصحبها شكر.
الاستجابة الثانية : عدم الإقرار بها أساسا.
ومثل هذه الفارقية تتطلب فرز قسم قصصي لها كما هو واضح.
إذن للمرة الثالثة تتضح أمامنا جملة من المسوغات الفنية والفكرية لشطر الاقصوصة قسمين تتقطع الأحداث والبيئات والمواقف خلالهما ، وتوصل بنحو فني ، يشيع فضلا عن الإمتاع الجمالي إمتاعا فكريا قائما على فرز مفردات السلوك الذي صدر عن القوم ، ومفردات النعم التي اتيحت لهم ، والمصائر التي انتهوا إليها.
هذا ، وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن المصائر الدنيوية لهؤلاء القوم قد افرزت بدورها ، بحيث كان المصير الأول لهم هو : إبادة الجنتين ، ... بينما كان المصير الآخر ـ كما سنرى ـ هو تمزيقهم كل ممزق.
وهذا يعني أن المصير الأول متميز عن المصير الثاني ، وهذا التميز يفرض شطر الاقصوصة هندسيا وفكريا إلى قسميها اللذين تحدثنا عنهما.
وبعامة فإن المسوغات الفنية والفكرية الأربعة المذكورة تفسر لنا أهمية البناء الهندسي الذي قامت الاقصوصة عليه.
إنه بناء عماري ممتع ، قد لا يعيه متذوق عادي ، لكنه يتحسسه دون أن يدرك السر الفني وراء ذلك.
بيد أن الذي خبر تذوق القصص ، أو الفن بعامة بمقدوره أن يستخلص الدلالات الفنية لهذا النمط من بناء القصة ، بما يواكب ذلك من إمتاع جمالي وإمتاع فكري قد استهدفته القصة وراء صياغتها بالنحو المذكور.
خلاصة الاقصوصة :
قلنا : إن سورة «سبأ» تتضمن ثلاث حكايات أو أقاصيص هي : داود ، سليمان ، سبأ.
وقد انتهينا من قصة سبأ ، أي قصة البلدة الطيبة ، فيما رأينا أنها حامت على عطاء الله الذي أمد المدينة بالمزرعتين الجميلتين ، وبالمواصلات التي تربط بين المدينة والبلدان الاخرى ، حيث كانوا يسيرون فيها ليالي وأياما آمنين.
لكن القوم بطروا ، فلم يشكروا السماء على الرزق الذي أغدقتهم عليه ، ولم يقدروا نعمة المواصلات بينهم وبين الشام ، حتى طالبوا باستبدال الراحة تعبا. ثم جاءت الخاتمة إرسال السيل العرم عليهم وتمزيقهم جزاء لكفرانهم بالنعم المذكورة.
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|