أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-11-2014
1704
التاريخ: 20-6-2016
15097
التاريخ: 2023-03-20
3175
التاريخ: 5-2-2016
3285
|
تطرح قصة سفينة نوح في هذه السورة مجموعة من الأحداث والمواقف تتكرر في سور اخرى ، لكنها هنا تظل أكثر تفصيلا من سواها .
ومع أن نوحا تستقل بالحديث عنه سورة خاصة ، هي سورة «نوح» ، إلا أن تلك السورة تتناول ـ كما سنرى في حينه ـ أحداثا ومواقف خاصة لا تتناولها أقاصيص نوح في السور الاخرى .
والسر في ذلك أن أقاصيص نوح ، كما هو شأن غيرها من الأقاصيص المنتثرة في السور ، من حيث كونها تتكرر من حين لآخر ، إنما تصاغ في سياقات تستتبع مثل هذا التكرار ، بغية تعميق وجهة نظر خاصة يستهدفها النص في هذا الصدد .
أما استقلال نوح وقضية سفينته في سورة خاصة ، فهذا يعني أن وجهة نظر لها تميزها وتحددها هي التي تقف مسوغا وراء الاستقلال المذكور .
على أية حال ، يعنينا الآن أن نقف على قصة سفينة نوح في هذه السورة التي تضمنت جملة أقاصيص ، فمنها هذه الاقصوصة التي سردها النص على النحو الآتي :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾
﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾
﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾
﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾
﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾
﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾
﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾
﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾
﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾
﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾
﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾
﴿هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾
﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾
﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ﴾
﴿إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾
﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾
﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾
﴿وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾
﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾
﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾
﴿قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ﴾
﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾
﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾
﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾
﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾
﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
﴿سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
هذه الحكاية ـ في ضوء النصوص المتقدمة ـ تتضمن أكثر من حدث وبيئة وشخصية وموقف يتطلب الوقوف عندها وأن نبدأ بتلخيصها أولا ، وأن نفصل الحديث في العناصر المذكورة ثانيا :
تلخيص الحكاية
1 ـ من حيث المواقف :
تتمثل مواقف هذه الحكاية في :
أ ـ الدعوة إلى الإيمان بالله .
ب ـ ردود الفعل عليها .
أما الدعوة إلى الإيمان ، فتأخذ لدى الرسل بأجمعهم نمطا مماثلا ، مع أساليب متفاوتة تبعا للمناخ الاجتماعي الذي تتحرك الرسالة من خلاله .
وفيما يتصل بنوح ، فقد استهل ذلك باسلوب الإنذار مقرونا بالتخوف من نزول العذاب على قومه .
وقد جاءت الاستجابة من قومه باهتة ، لا علاقة لها بالإنذار الموجه إليهم .
لقد أجابوه أولا ، بأن نوحا مثلهم ينتسب إلى سلالة الآدميين :
﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾
وأجابوه ثانيا ، بأن جماعته التي آمنت برسالته ، هي من أراذل القوم الذين لا مال لديهم ولا منزلة إجتماعية .
﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا . . .﴾
وأجابوه ثالثا ، بأن هؤلاء الجماعة قد آمنوا بصورة عشوائية لم تقترن بالتأمل والتدبر .
﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ . . . بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾
وواضح أن أمثلة هذا الجواب لا ترتكن إلى أي تأمل وتدبر ، أي أن التهمة التي وجهوها لنوح ينبغي أن توجه إليهم من حيث عدم التدبر والتدقيق في معالجة الموقف .
فالإيمان بحقيقة من الحقائق يتطلب بصيرة ذهنية لا علاقة لها بالمركز الاجتماعي أو الاقتصادي للفرد ، ولذلك كان اعتراضهم على نوح بأن الجماعة التي آمنت به ، تنتسب إلى الطبقة الفقيرة أو المهملة اجتماعيا ، هذا الاعتراض يظل مفتقرا إلى الدقة الفكرية في معالجة الموقف .
ومثلما قلنا ، فإن الاعتراض الثالث ، وهو ذهابهم إلى أن الجماعة المؤمنة أقرت شوائيا برسالة نوح . هذا الاعتراض يشكل في حقيقة الأمر سمة بالشخوص الكافرة وليس الشخوص المؤمنة ، مادام الإيمان وعدمه غير مرتبط البتة بنوع الطبقة الاجتماعية ، بل بنمط الذهنية .
ولعل الاعتراض الوحيد الذي خيل للشخوص الكافرة بأنـه يتسم بشيء من المتانة القوة ، هو الاعتراض الذاهب إلى أن نوحا بشر مثلهم .
بيد أن هذا الاعتراض بدوره لا قيمة له إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الرسالة قد اقترنت بما هو معجز ، وكفى به شاهدا .
ومن هنا جاءت إجابة نوح ردا واضحا على اعتراضهم المتقدم ، حينما حاورهم بقوله :
﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾
ثم جاءت خاتمة الاقصوصة شاهدا معجزا آخر متمثلا في واقعة الطوفان ، كما سنرى .
المهم ، أن نوحا تابع إجابته عليهم متسقة مع نمط الاعتراض ونمط الذهنية الكامنة وراء الاعتراض المذكور .
لقد أجابهم ـ في شطر من كلماته ـ أن شاهد النبوة قد غام في أذهانكم :
﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾
وإلى أنـه من المتعذر إكراهكم على أن تتقبلوا أمرا لا تستوعبه أذهانكم الخاوية :
﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
أي : أتريدون أن اكرهكم على المعرفة ، وأنتم لستم أهلا لها ؟
* * *
وتابع نوح إجاباته واحدة بعد اخرى ، وكلها منصبة على اعتراضاتهم المذكورة ، ومنها قضية الطبقة الاجتماعية التي آمنت به . لقد أجابهم بأنه لا يسعه أن يطرد الفقراء ، وتقول بعض النصوص المفسرة : إن الشخوص المعترضة طلبت من نوح أن يطرد الفقراء من حوله حتى يؤمنوا به . وهذا نمط آخر من الذهنية الخاوية التي تسم هؤلاء القوم ، وكأن الإيمان ليس قضية فكرية قائمة على التأمل الموضوعي للحقائق والإقرار بها ، بل هو مجرد مكاسب ذاتية تتعلق بدافع السيطرة والتفوق والاستعلاء ، فإذا تم إشباع هذا الدافع المريض ، فحينئذ يتم الإيمان بالرسالة .
على أية حال ، أجابهم نوح بأنـه لا يسعه أن يطرد الفقراء من حوله ، ثم أضاف إلى ذلك حقيقة ربطها بمعرفة السماء الحقة لهذا الجانب ، وإلى أنـها هي المصدر الذي يملك حق تقويم الأشخاص ومعرفة أعماقهم . لقد حاورهم قائلا :
﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ . . .﴾
وبهذه الإجابة حسم نوح الموقف الذي انطلق المتمردون منه عبر نظرة استعلائية مزدرية للطبقة الاجتماعية الفقيرة .
* * *
وحيال هذه الإجابات الحاسمة ، لم يسع المتمردون إلا أن يمعنوا في العناد ، معتبرين إياها جدالا لا فائدة فيه :
﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾
﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
إن توضيح الحقائق يعد من خلال الذهنية الخاوية جدالا ، وتبعا لهذه الذهنية فإنها طالبت بنزول العذاب الذي توعدهم به نوح .
هنا يبدأ الموقف بالحسم ، فيوحي الله إلى نوح بأن قومه سوف لن يؤمنوا بالحقائق التي أوضحها نوح من خلال إجاباته المتقدمة ، وبخاصة أنـهم تحدوا نوحا بأن ينفذ تهديده لو كان صادقا .
وفعلا تأخذ الاقصوصة هنا منعطفا فنيا ، حيث تكون قد مهدت من خلال الحوار الذي جرى بين نوح وقومه ، تكون قد مهدت بذلك التنبـؤ بإمكان حدوث واقعة تحقق إنذار نوح لقومه وترد بشكل حاسم على هذا التحدي الوقح من قبل المتمردين .
وفعلا يتم التحضير فنيا لنزول الحدث المتوقع على نحو ما سنلحظه الآن .
2 ـ من حيث الأحداث :
تتمثل أحداث القصة عبر بيئة صناعية أولا ، ثم تتجه بعد ذلك إلى حدث خطير هو : الطوفان .
أما البيئة الصناعية التي يتم من خلالها التحضير لنزول الحدث الخطير ، فتتمثل في عملية صنع السفينة .
لقد أوصت السماء نوحا أن يصنع سفينة له ولقومه المؤمنين :
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾
وبدأ نوح بصنع السفينة فعلا .
إلا أن المتمردين لا يزالون في غيهم ولا يزالون يتحركون من خلال ذهنيتهم الخاوية التي وقفنا عليها . إنهم بدلا من التوجس لا يزالون يسخرون من نوح حينما يجدونه مشغولا بصنع السفينة :
﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾
إلا أن نوحا كان يجيب الساخرين بقوله :
﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾
كما ينبغي ألا يفوتنا أن نشير إلى أن السماء عندما أوحت لنوح بصنع السفينة ، حذرته بقولها :
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾
إن تحذير السماء لنوح من عدم مخاطبته للذين ظلموا ، ثم تحذير نوح لقومه من السخرية ، هذان التحذيران سنرى لاحقا أنـهما على صلة بموقف نوح من ابنه ، وبحادثة الطوفان وهذا يعني أنـهما مضطلعان بمهمة فنية تلقي الضوء على مستقبل الحدث ، حيث ينبغي ألا يفوتنا الانتباه حيال ذلك ونحن نعنى بالجانب الفني لهذه الاقصوصة .
* * *
قلنا : إن الحوار الذي جرى بين نوح وقومه ، كان يمهد لنزول حدث خطير هو الطوفان .
وقبيل هذا الحدث ، كانت ثمة بيئة صناعية تهيئ لملابسات الحدث وما يرافقه من مصائر للمؤمنين متمثلة في عملية صنع السفينة .
وقلنا أيضا : إن السماء أنذرت نوحا بألا يتوسط بالإنقاذ للمغرقين ، وأن نوحا أشار إلى الملأ الذين سخروا منه ، بأنـه سيسخر منهم عند نزول العذاب .
والآن يبدأ الحدث الخطير بالتحرك :
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾
﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾
﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
إن هذا الحدث الخطير يحفل بعناصر الدهشة والإثارة . فالنصوص المفسرة تذكر أن ثمة تنورا كان في بيت عجوز مؤمنة بالكوفة ، أو أنـه كان لإحدى الخابزات ، أو أنـه لآدم ، فار الماء منه علامة لنوح ، أو أنـه رمز فني يقصد به وجه الأرض .
وأيا كان الأمر بالنسبة إلى منطلق الماء ، فإن الطوفان قد بدأ فعلا يغمر وجه الأرض .إذ تقول النصوص المفسرة : إن السماء أرسلت المطر يفيض فيضا ، وإن الفرات قد فاض بدوره ، وإن العيون انفجرت هنا وهناك .
وفي سورة اخرى ـ سنقف عليها في حينه ـ يسرد لنا القرآن الكريم بيئة الطوفان بنحو جمالي مدهش لم ترد هنا ، . . . لكن الذي يهمنا الآن هنا ، أن النص القرآني في هذه الاقصوصة لم يعن بوصف بيئة الطوفان ، لأن السياق لا يستدعيها ، بل السياق يستدعي الحديث عن واقعة الطوفان بشكل عام بصفتها جوابا حاسما للتحدي الوقح من قبل قوم نوح .
إلا أن النص ـ مع ذلك ـ يعنى ببعض جوانب هذه البيئة ، ومنها أيضا بيئة السفينة نفسها ، بصفة أن السفينة ذات علاقة بعملية النجاة التي ألمح إليها القرآن عندما مهد لنا بحديثه عن المؤمنين بنوح من أنهم كانوا هدفا لاعتراض الكافرين وكانوا هدفا للسخرية منهم ، فقد لحظنا أن الكافرين اعترضوا على نوح بأن جماعته من الطبقة الفقيرة وطالبوا بطردهم من حوله . كما لحظنا أنـهم سخروا منهم عندما كان نوح وجماعته مشغولين بصنع السفينة .
وهذا يعني ـ من حيث الجانب الفني ـ أن النص القرآني الكريم عندما شدد على وصف السفينة وانطلاقها ورسوها ، إنما كان ذلك تساوقا مع المصير الزائغ لجماعة نوح الذين كانوا هدفا للسخرية والاعتراض .
ولنقرأ الوصف الفني لبيئة السفينة :
﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا . . .﴾
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ . . .﴾
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾
﴿وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ . . .﴾
﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ . . .﴾
إن هذا الوصف المدهش لبيئة السفينة من حيث ركابها ، ومن حيث جريانها ، ومن حيث رسوها في نهاية المطاف يحفل بعناصر الإثارة الفنية على نحو سنتحدث عنه بعد قليل ، إلا أنـنا نعتزم الإشارة هنا فحسب إلى أن النص قد فصل الحديث في بيئة السفينة ، واختزل الحديث في بيئة الطوفان ، على العكس من نصوص قرآنية اخرى كان الحديث فيها مفصلا عن الطوفان ومختزلا عن السفينة .
والسر في ذلك فنيا كما قلنا ، كامن وراء الهدف الذي يعتزم النص إبرازه هنا ، وهو إبراز المؤمنين الذين كانوا هدفا للسخرية ، إبرازهم في مصير رائع يعد جوابا لأولئك الساخرين منهم ، وهذا ما يتصل بوصف السفينة التي أنقذت المؤمنين .
أما الطوفان نفسه فحيث قد اختزل هنا ، فلأنـه كما قلنا أيضا يعد جوابا للتحدي بشكل عام فيما لا يتطلب الأمر إلا إبراز العذاب وليس تفصيلاته .
* * *
على أية حال ، نحن الآن حيال حادثة الطوفان والسفينة على النحو الذي تحدثنا عنهما .
ولكن الذي نريد الآن أن نشدد عليه هو إلقاء الضوء على التحذيرين اللذين سبقت الإشارة إليهما . أولهما : تحذير السماء لنوح من أن يتوسط لبعض الغرقى الذين جرفهم الطوفان :
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾
والتحذير الثاني هو : تحذير نوح لقومه من السخرية التي وجهوها إليه عندما شاهدوه وقومه يصنعون السفينة ، حيث قال لهم :
﴿نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ منا﴾
ونتساءل الآن : ما هو التفسير الفني للتحذير الأول ، تحذير السماء لنوح من أن يتوسط للظالمين ؟
إن التفسير الفني يتضح بجلاء ، حينما ندرك بأن السماء ستهيئ لنا حدثا يمكن التنبؤ به من أن نوحا ستغمره عاطفة أو دافع الابوة على ابنه عندما يجرفه الطوفان مع الآخرين ، بناء على الوعد الذي قطعته السماء لنوح من أنـها ستنقذ أهله .
وفعلا ، يجيء حدث الطوفان ، . . . وإذا بنوح يهتف :
﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾
إلا أن ابن نوح كان في معزل عن الإيمان ، ولذلك أجاب والده بما يلي :
﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾
وهنا أجابه والده :
﴿قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾
ولكن المصير الحتمي لولد نوح قد لفه في نهاية المطاف ، فكان المصير كما رسمه النص على هذا النحو :
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ إذن ، عندما خاطبت السماء نوحا في بداية القصة ـ وقبل حدوث الطوفان ـ بأن لا يخاطبها نوح في الذين ظلموا من أنـهم مغرقون ، إنما كان ذلك الخطاب تمهيدا فنيا لمستقبل الأحداث التي ستسفر عن موقف يقفه نوح من ابنه ، ولكنه سيكون من المغرقين .
وفعلا كان الغرق هو الجواب الفني لهذا التمهيد .
ولنتابع هذه العملية :
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾
﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾
وقد أجاب الله تعالى نوحا بما يلي :
﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾
﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
إذن للمرة الاخرى ينبغي أن نشير إلى أن حادثة الطوفان قد تسلل إليها موقف خاص ، هو موقف نوح من ابنه فيما كان يظن أنـه من أهله الذين وعد الله بإنقاذهم . وإلى أن النص عندما أشار في بداية القصة إلى التحذير من التوسط ، فلأن المستقبل كان يضمر في قلب الأحداث مثل هذا الموقف الذي لحظناه من نوح حيال ابنه .
إن السخرية التي تعرض لها نوح وجماعته المؤمنة عندما كانوا يصنعون السفينة ، ثم جوابه لهم من أ نه سيسخر منهم ، هذه الإجابة إنما كانت منطوية على تمهيد فني يتمثل في أن الأحداث المقبلة تضمر في أعماقها مفاجأة سارة لصالح المؤمنين .
وفعلا جاء حدث السفينة حافلا بما هو مسر للمؤمنين ، وبما هو ساخر من الكافرين الذي كانوا يسخرون من المؤمنين عندما شغلوا بصنع السفينة .
وها هو النص القرآني تساوقا مع حدث السفينة ، يقدم لنا وصفا حافلا بالدهشة والإثارة لعملية جري السفينة ولركابها ولرسوها مؤكدا بهذا الوصف لتفاصيل بيئة السفينة تناسق المصير للمؤمنين مع طبيعة الموقف الساخر حيالهم .
والآن لنقف عند تفاصيل هذا الوصف ، نظرا لما تحفل به من جمالية ممتعة ، ولما تزخر به من مصائر يرسمها النص للمؤمنين حتى في الحياة الدنيا ، جزاء لإيمانهم وصبرهم على الشدائد وعلى سخرية الكافرين .
رسم السفينة
إن تفاصيل الرسم القصصي للسفينة تنطوي على بيئات ثلاث :
1 ـ بيئة الركاب .
2 ـ بيئة الجري : جري السفينة .
3 ـ بيئة الهبوط : رسو السفينة .
ولنقف عند كل واحدة من البيئات الثلاث المذكورة :
1 ـ بيئة الركاب :
يقول النص :
﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾
تذهب النصوص المفسرة إلى أن عدد الركاب يتراوح بين سبعين إلى ثمانين حسب تفاوت هذه النصوص ، بضمنهم من كل زوجين وبضمنهم أهل نوح ما عدا امرأته وابنه الذي تقدم الحديث عنه ، وتقول النصوص : إن نوحا طلب منهم صيام ذلك اليوم ، فصاموه فعلا .
وينبغي أن نشير إلى أن المفسرين اختلفوا في تحديد معنى الأهل هنا من حيث صلة ابنه بذلك . فذهب البعض إلى أن المقصود من ذلك إلى أن ابنه ليس من دينه ، فيكون الأهل هنا رمزا للدين . وذهب البعض إلى أن المقصود من ذلك هو استثناء الابن من الأهل الذين وعدوا بالنجاة .
وأيا كان الأمر فإن طلب نوح من السماء إنقاذ ابنه ، إنما تم بناء على الوعد الإلهي بإنقاذ الأهل ولذلك عندما أوضحت السماء إن ابنه ليس من أهله ، اعتذر نوح مخاطبا الله تعالى :
﴿إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾
2 ـ بيئة الجري :
يقول النص :
﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا . . . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾
تذهب بعض النصوص المفسرة أن الركاب إذا أرادوا أن تجري بهم السفينة قالوا : بسم الله مجراها ، فتجري حينئذ . وإذا أرادوا أن تقف قالوا : بسم الله مرساها ، فتقف حينئذ .
وتقول هذه النصوص : إن الماء قد ارتفع حتى على الجبال بمسافة كبيرة . ولعل الصورة الفنية ، أي تشبيه السفينة بالجبال في تموجها لها صلة بالحقيقة المذكورة .
والمهم أن التشبيه نفسه ينطوي على إمتاع جمالي كبير .
إن المتلقي عندما يترك لتصوراته أن ترسم سفينة كالجبال في ارتفاعها وضخامتها ، وسط أمواج عارمة متلاطمة ، فإن هذه التصورات ستمده ـ دون أدنى شك ـ بفيض جمالي هائل من الإمتاع لهذا المرأى المدهش .
ولهذا المرأى مستويان : أحدهما قبيل أن يغمر الطوفان كل الأرض ، وهذا ما يمكن تخيله من خلال إجابة ابن نوح من أنـه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء قبل أن يكتسح الطوفان الأرض كلها .
أما الآخر ، فيتمثل في اكتساحه لوجه الأرض أجمع .
وتقول النصوص المفسرة : إن السفينة كانت تسير ستة أشهر تطوف الأرض كلها لا تستقر في موضع ، حتى أنـها أتت الحرم فطافت حول الكعبة بعد أن رفعها إلى السماء ، ثم سارت بهم حتى انتهت إلى جبل بأرض الموصل .
وأيا كان الأمر ، فإن مرأى السفينة وهي تجري قبيل أن يغمر الطوفان كل الأرض ، ومرآها وهي تجري في الأمواج الغامرة للأرض جميعا ، ثم جريانها حول الأرض مسافة ستة أشهر على النحو المتقدم وصفه ، كل ذلك يحفل بمرأى مدهش ، مثير ، ممتع ، يتحسس جماليته ورهبته أيضا كل من سمح لتصوراته بأن تتحرك وفق خبرته التي اختزنها في هذا الصدد .
3 ـ بيئة الهبوط : الرسو :
يقول النص :
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾
﴿وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾
إن البلاغيين والنقاد قديما وحديثا أفاضوا في الحديث عن هذه الصورة الفنية ﴿يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي﴾ وأبرزوا شتى مستوياتها الجمالية المدهشة .
ونحن هنا لا نعتزم الإفاضة في هذا الجانب حيث فصلنا الحديث عنها في كتابنا دراسات فنية في صور القرآن» بقدر ما نرغب حاليا في الإشارة إلى بيئة الاقصوصة من حيث هبوط السفينة ، ورسوها بعد تلك الرحلة المثيرة التي تقدم الحديث عنها وفقا للصورة الفنية المذكورة .
فإن الله تعالى قال للأرض :
«أنشفي ماءك الذي غمر الأرض واشربيه حتى لا يبقى على الأرض شيء منه» .
وقال للسماء : «أمسكي عن المطر» .
وفعلا غيض الماء إلى باطن الأرض ، وأصبح ماء السماء بحارا وأنهارا ، ثم استقرت السفينة في نهاية المطاف حيث انحط لها جبل في الموصل ، وقالت السماء ـ عندئذ ـ لنوح :
﴿اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ﴾
وعاد كل شيء إلى موضعه بعد تلك الرحلة التي شاهدت خراب الأرض ومن عليها نتيجة تمرد الكافرين وتحديهم للسماء وسخريتهم من المؤمنين .
* * *
وبعامة ، فإن اقصوصة سفينة نوح طرحت جملة من الأفكار عبر صياغة فنية ممتعة تتصل بعمليات التحدي ونتائجه والمصائر التي تغلف المؤمنين والكافرين دنيويا كما انطوت ـ ضمنا ـ على أفكار ثانوية سنشير إليها خلال تناولنا للعنصر القصصي في هذه السورة وصلته بالأقصوصة الرئيسة اقصوصة هود .
إلا أنـنا نضطر إلى التذكر بأن السياق هو الذي يفرز قصة عن اخرى ، ومن ذلك السياق الذي وردت فيه قصة نوح (عليه السلام) حيث أن البطل نوحا (عليه السلام) في سورة «نوح» ـ كما سنلحظها لاحقا إن شاء الله تعالى ـ يختلف في تعامله مع القوم ، وفي محاورته العامة ، أو المنقولة يختلف عن السياق الذي ورد هنا في سورة «هود» . . .
والأمر كذلك في السور الاخرى التي جاءت في قصة نوح في سياق العرض العابر لقصص المجتمعات البائدة .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|