أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-7-2020
5679
التاريخ: 4-7-2020
10447
التاريخ: 2-7-2020
13921
التاريخ: 28-6-2020
14018
|
قال تعالى:{ يَصحِبىِ السجْنِ ءَ أَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَحِدُ الْقَهَّارُ(39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلا أَسمَاءً سمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وءَابَاؤُكم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بهَا مِن سلْطن إِنِ الْحُكْمُ إِلا للَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَكِنَّ أَكثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39، 40]
{ يا صاحبي السجن } هذا حكاية نداء يوسف للمستفتين له عن تأويل رؤياهما أي: يا ملازمي السجن { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي: أ أملاك متباينون من حجر وخشب لا تضر ولا تنفع خير لمن عبدها أم الله الواحد القهار الذي إليه الخير والشر والنفع والضر وهذا ظاهره الاستفهام والمراد به التقرير وإلزام الحجة والقاهر هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء ما { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ابتدأ بخطاب اثنين ثم خاطب بلفظ الجمع لأنه قصد جميع من هو في مثل حالهما وقيل إنه خطاب لجميع من في الحبس ومعناه أن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله وسميتموها بأسماء يعني الأرباب والآلهة هي أسماء فارغة عن المعاني لا حقيقة لها ما أنزل الله من حجة بعبادتها { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي: ما الحكم والأمر إلا لله فلا يجوز العبادة والخضوع والتذلل إلا لله { أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} أي: وقد أمركم أن لا تعبدوا غيره { ذلك} أي: ذلك الذي بينت لكم من توحيده وعبادته وترك عبادة غيره { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي: الدين المستقيم الذي لا عوج فيه { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: ما للمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب وقيل: لا يعلمون صحة ما أقوله لعدولهم عن النظر والاستدلال.
_________________
1- تفسير مجمع البيان،الطبرسي،ج5،ص403.
{ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ } . المراد بصاحبي السجن الفتيان اللذان دخلا السجن مع يوسف ، وسألاه عن تعبير الرؤيا ، وأضافهما إلى السجن بالنظر لإقامتهما فيه ، مثل أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ويحتمل أن يكون يوسف أضافهما إلى نفسه أي يا صاحبيّ في السجن ، وحذفت ( في ) توسعا ، والأول أظهر ، ومهما يكن فإن يوسف ( عليه السلام ) قد جادلهما فيما يعبدان وقومهما من دون اللَّه ، وأورد الجدال والحجاج في صيغة السؤال والاستفهام لأنه أقرب
إلى الطباع من المجابهة بفساد العقيدة . . وقد ذكرنا الدليل على التوحيد في ج 2 ص 344 عند تفسير الآية 48 من سورة النساء .
ثم خطا يوسف ( عليه السلام ) خطوة ثانية في الدعوة إلى التوحيد ، ونبذ الشرك ، وقال : { ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ } . انكم تعبدون مجرد أسماء لا وجود لمعانيها إطلاقا ، وكل ما لا وجود له لا أثر له ، وتستحيل إقامة الدليل عليه . . فمعبودكم - إذن - خيال في خيال . . وهكذا العالم الحكيم ينتقل من أسلوب إلى أسلوب لاقناع الجاهل ، يلوح ثم يصرّخ حتى يصل إلى ما يبتغيه من الإذعان والتسليم لدعوته .
_________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص314-315.
قوله تعالى:{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} لفظة الخير بحسب الوزن صفة من قولهم: خار يخار خيرة إذا انتخب واختار أحد شيئين يتردد بينهما من حيث الفعل أومن حيث الأخذ بوجه فالخير منهما هو الذي يفضل على الآخر في صفة المطلوبية فيتعين الأخذ به فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذي يتعين القيام به وخير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الأخذ به كخير المالين من جهة التمتع به وخير الدارين من جهة سكناها وخير الإنسانين من جهة مصاحبته، وخير الرأيين من جهة الأخذ به، وخير الإلهين من جهة عبادته، ومن هنا ذكر أهل الأدب أن الخير في الأصل{أخير} أفعل تفضيل، والحقيقة أنه صفة مشبهة تفيد بحسب المادة ما يفيده أفعل التفضيل من الفضل في القياس.
وبما مر يتبين أن قوله (عليه السلام):{ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} إلخ مسوق لبيان الحجة على تعينه تعالى للعبادة إذا فرض تردد الأمر بينه وبين سائر الأرباب التي تدعى من دون الله لا لبيان أنه تعالى هو الحق الموجود دون غيره من الأرباب أو أنه تعالى هو الإله الذي تنتهي إليه الأشياء بدءا وعودا دونها أو غير ذلك فإن الشيء إنما يسمى خيرا من جهة طلبه وتعيينه بالأخذ به بنحو فقوله (عليه السلام): أهو خير أم سائر الأرباب يريد به السؤال عن تعين أحد الطرفين من جهة الأخذ به والأخذ بالرب هو عبادته.
ثم إنه (عليه السلام) سمى آلهتهم أربابا متفرقين لأنهم كانوا يعبدون الملائكة وهم عندهم صفات الله سبحانه أو تعينات ذاته المقدسة التي تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم فيفرقون بين الصفات بتنظيمها طولا وعرضا ويعبدون كلا بما يخصه من الشأن فهناك إله العلم وإله القدرة وإله السماء وإله الأرض وإله الحسن وإله الحب وإله الأمن والخصب وغير ذلك، ويعبدون الجن وهم مبادىء الشر في العالم كالموت والفناء والفقر والقبح والألم والغم وغير ذلك، ويعبدون أفرادا كالكملين من الأولياء والجبابرة من السلاطين والملوك وغيرهم، وهم جميعا متفرقون من حيث أعيانهم ومن حيث أصنامهم والتماثيل المتخذة لهم المنصوبة للتوجه بها إليهم.
وقابل الأرباب المتفرقين بذكر الله عز اسمه ووصفه بالواحد القهار حيث قال:{أم الله الواحد القهار} فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله:{أ أرباب متفرقون} لضرورة التقابل بين طرفي الترديد.
فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدسة الإلهية التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه ووجود لا يتطرق العدم والفناء إليه، والوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يفرض له حد محدود ولا أمد ممدود لأن كل محدود فهو معدوم وراء حده، والممدود باطل بعد أمده فهو تعالى ذات غير محدود ووجود غير متناه بحب، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدودا غير موجود في ظرف الصفة وفاقرا لا يجد الصفة في ذاته ولم يمكن أيضا فرض المغايرة والبينونة بين صفاته الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لأن ذلك يؤدي إلى وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حد في خارجه فيتغاير الذات والصفات ويتكثر جميعا ويحد، وهذا كله مما اعترفت به الوثنية على ما بأيدينا من معارفهم.
فمما لا يتطرق إليه الشك عند المثبتين لوجود الإله سبحانه لو تفطنوا أن الله سبحانه موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره، وإن ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه ولا بعض صفات كماله صفات زائد على بعض فهو علم وقدرة وحياة بعينه.
فهو تعالى أحدي الذات والصفات أي أنه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شيء إلا موجودا به لا مستقلا بالوجود وواحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقية إلا أن تكون عين الذات فهو الذي يقهر كل شيء لا يقهره شيء.
والإشارة إلى هذا كله هي التي دعته (عليه السلام) أن يصف الله سبحانه بالواحد القهار حيث قال:{أم الله الواحد القهار} أي أنه تعالى واحد لكن لا واحد عددي إذا أضيف إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلا وهي موجودة به لا بنفسها ولا أن يفرض قباله صفة له إلا وهي عينه وإلا صارت باطلة كل ذلك لأنه بحث غير محدود بحد ولا منته إلى نهاية.
وقد تمت الحجة على الخصم منه (عليه السلام) في هذا السؤال بما وصف الأرباب بكونهم متفرقين، وإياه تعالى بالواحد القهار لأن كون ذاته المتعالية واحدا قهارا يبطل التفرقة - أي تفرقة مفروضة - بين الذات والصفات، فالذات عين الصفات والصفات بعضها عين بعض فمن عبد الذات عبد الذات والصفات ومن عبد علمه فقد عبد ذاته، وإن عبد علمه ولم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه ولا ذاته وعلى هذا القياس.
فإذا فرض تردد العبادة بين أرباب متفرقين وبين الله الواحد القهار تعالى وتقدس تعينت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض أرباب متفرقين ولا تفرقة في العبادة.
نعم يبقى هناك شيء وهو الذي يعتمد عليه عامة الوثنية من أن الله سبحانه أجل وأرفع ذاتا من أن تحيط به عقولنا أو يناله أفهامنا فلا يمكننا التوجه إليه بعبادته ولا يسعنا التقرب منه بعبوديته والخضوع له، والذي يسعنا هو أن نتقرب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة التي هي مؤثرات في تدبير النظام العالمي حتى يقربونا منه ويشفعوا لنا عنده فأشار (عليه السلام) في الشطر الثاني من كلامه أعني قوله:{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً } إلخ إلى دفعه.
قوله تعالى:{ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} إلخ، بدأ (عليه السلام) بخطاب صاحبيه في السجن أولا ثم عمم الخطاب للجميع لأن الحكم مشترك بينهما وبين غيرهما من عبدة الأوثان.
ونفي العبادة إلا عن الأسماء كناية عن أنه لا مسميات وراء هذه الأسماء فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء وإله الأرض وإله البحر وإله البر والأب والأم وابن الإله ونظائر ذلك.
وقد أكد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسميات بقوله:{أنتم وآباؤكم} فإنه في معنى الحصر أي لم يضع هذه الأسامي أحد غيركم بل أنتم وآباؤكم وضعتموها، ثم أكده ثانيا بقوله:{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} والسلطان هو البرهان لتسلطه على العقول أي ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدل على أن لها مسميات وراءها، وحينئذ كان يثبت لها الألوهية أي المعبودية فصحت عبادتكم لها.
ومن الجائز أن يكون ضمير{بها} عائدا إلى العبادة أي ما أنزل الله حجة على عبادتها بأن يثبت لها شفاعة واستقلالا في التأثير حتى تصح عبادتها والتوجه إليها فإن الأمر إلى الله على كل حال.
وإليه أشار بقوله بعده:{إن الحكم إلا لله}.
وهو أعني قوله:{إن الحكم إلا لله} مما لا ريب فيه البتة إذ الحكم في أمر ما لا يستقيم إلا ممن يملك تمام التصرف، ولا مالك للتصرف والتدبير في أمور العالم وتربية العباد حقيقة إلا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى إلا له.
وهو أعني قوله:{إن الحكم إلا لله} مفيد فيما قبله وما بعده صالح لتعليلهما معا، أما فائدته في قوله قبل:{ما أنزل الله بها من سلطان} فقد ظهرت آنفا، وأما فائدته في قوله بعد:{أمر ألا تعبدوا إلا إياه} فلأنه متضمن لجانب إثبات الحكم كما أن قوله قبل:{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} متضمن لجانب السلب، وحكمه تعالى نافذ في الجانبين معا فكأنه لما قيل:{ما أنزل الله بها من سلطان} قيل:{فما ذا حكم به في أمر العبادة} فقيل:{أمر ألا تعبدوا إلا إياه} ولذلك جيء بالفعل.
ومعنى الآية - والله أعلم - ما تعبدون من دون الله إلا أسماء خالية عن المسميات لم يضعها إلا أنتم وآباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهانا يدل على أن لها شفاعة عند الله أوشيئا من الاستقلال في التأثير حتى يصح لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعا في خيرها أو خوفا من شرها.
وأما قوله:{ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله ونفي الشريك عنه، والقيم هو القائم بالأمر القوي على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل والمتضعضع، والمعنى أن دين التوحيد وحده هو القوي على إدارة المجتمع وسوقه إلى منزل السعادة، والدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غير غي والحقية من غير بطلان، ولكن أكثر الناس لأنسهم بالحس والمحسوس وانهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب واستقامة العقل لا يعلمون ذلك، وإنما يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة معرضون.
أما أن التوحيد دين فيه الرشد ومطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما أقامه (عليه السلام) من البرهان، وأما أنه هو القوي على إدارة المجتمع الإنساني فلأن هذا النوع إنما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته وأحكام معاشه على مبنى حق مطابق للواقع فسار عليها لا إذا بناها على مبنى باطل خرافي لا يعتمد على أصل ثابت.
فقد بان من جميع ما تقدم أن الآيتين جميعا أعني قوله:{يا صاحبي السجن} - إلى قوله -{ألا تعبدوا إلا إياه} برهان واحد على توحيد العبادة، محصله أن عبادة المعبود أن كانت لألوهيته في نفسه ووجوب وجوده بذاته فالله سبحانه في وجوده واحد قهار لا يتصور له ثان ولا مع تأثيره مؤثر آخر فلا معنى لتعدد الآلهة، وإن كانت لكون آلهة غير الله شركاء له شفعاء عنده فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل على خلافه فإن الله حكم من طريق العقل وبلسان أنبيائه أن لا يعبد إلا هو.
وبذلك يظهر فساد ما أورده البيضاوي في تفسيره تبعا للكشاف أن الآيتين تتضمنان دليلين على التوحيد فما في الأولى وهو قوله:{ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} دليل خطابي، وما في الثانية وهو قوله:{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً} إلخ برهان تام.
قال البيضاوي: وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الإلهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنهما ثم نص على ما هوالحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه. انتهى.
ولعل الذي حدأه إلى ذلك ما في الآية الأولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابي، وقد فاته ما فيها من قيد{الواحد القهار} وقد عرفت تقرير ما تتضمنه الآيتان من البرهان، وأن الذي ذكره من معنى الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون الثانية فحسب.
وربما يقرر مدلول الآيتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخصه أن الله الواحد الذي يقهر بقدرته الأسباب المتفرقة التي تفعل في الكون ويسوقها على تلائم آثارها المتفرقة المتنوعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الأطراف كما هو المشهود من وحدة النظام وتوافق الأسباب خير من أرباب متفرقين تترشح منها لتفرقها ومضادتها أنظمة مختلفة وتدابير متضادة تؤدي إلى انفصام وحدة النظام الكوني وفساد التدبير الواحد العمومي.
ثم الآلهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل على وجود مسمياتها في الخارج بتسميتكم لا من جانب العقل ولا من جانب النقل لأن العقل لا يدل إلا على التوحيد والأنبياء لم يؤمروا من جهة الوحي إلا بأن لا يعبد إلا الله وحده. انتهى.
وهذا التقرير - كما ترى - ينزل الآية الأولى على معنى قوله تعالى{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}: الأنبياء: 22، ويعمم الآية الثانية على نفي ألوهية آلهة إلا الله بذاتها ونفي ألوهيتها من جهة إذن الله في شفاعتها.
ويرد عليه أولا: أن فيه تقييدا لإطلاق قوله:{القهار} من غير مقيد فإن الله سبحانه كما يقهر الأسباب في تأثيرها يقهر كل شيء في ذاته وصفته وآثاره فلا ثاني له في وجوده ولا ثاني له في استقلاله في نفسه وفي تأثيره فلا يتأتى مع وحدته القاهرة على الإطلاق أن يفرض شيء يستقل عنه في وجوده، ولا أمر يستقل عنه في أمره، والإله الذي يفرض دونه إما مستقل عنه في ذاته وآثار ذاته جميعا وإما مستقل عنه في آثار ذاته فحسب، وكلا الأمرين محال كما ظهر.
وثانيا: أن فيه تعميما لخصوص الآية الثانية من غير معمم فإن الآية - كما عرفت - تنيط كونها آلهة بإذن الله وحكمه كما هو ظاهر قوله:{ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله} إلخ ومن الواضح أن هذه الألوهية المنوطة بإذنه تعالى وحكمه ألوهية شفاعة لا ألوهية ذاتية أي ألوهية بالغير لا ما هو أعم من الألوهية بالذات وبالغير جميعا.
___________________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج11،ص147-152.
السّجن أو مركز التّربية:
حين هيّأ يوسف في البحث السابق قلوب السجينين لقبول حقيقة التوحيد،توجّه إليهما وقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
فكأنّ يوسف يريد أن يفهم السجينين أنّه لِمَ تريانِ الحرية في النوم ولا تريانها في اليقظة؟! أليس ذلك من تفرقتكم وشرككم ونفاقكم الذي مصدره عبادة الأوثان والأرباب المتفرّقين ممّا سبّب أن يتغلّب عليكم الطغاة والجبابرة؟! فلِمَ لا تجتمعون تحت راية التوحيد، وتعتصموا بحبل الواحد القهّار، لتطردوا من مجتمعكم هؤلاء الظالمين والجبابرة الذين يسوقونكم إلى السجن أبرياء دون ذنب؟!
ثمّ يضيف قائلا: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} بل هي صنع عقولكم العاجزة وأفكاركم المنحرفة .. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فلا ينبغي أن تطأطئوا رؤوسكم لسواه من الطغاة والفراعنة، ثمّ أضاف زيادة في التأكيد قائلا: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
أي إنّ التوحيد في جميع أبعاده ـ في العبادة، في الحكومة، في المجتمع، في المسائل الثقافية، وفي كلّ شيء ـ هو الدين الإلهي المستقيم والثابت. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ولذلك خضعوا لحكومة غير (الله) فذاقوا الشقاء والسجون في هذا السبيل.
___________________
1- تفسير الامثل، ناصر مكارم الشيرازي, ج6, ص291-292.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|