أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-5-2020
6052
التاريخ: 29-5-2020
13492
التاريخ: 31-5-2020
10282
التاريخ: 31-5-2020
6202
|
قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُو يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ } [السجدة : 23 - 30] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
{ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {فلا تكن في مرية من لقائه} أي في شك من لقائه أي من لقائك موسى ليلة الإسراء بك إلى السماء عن ابن عباس وقد ورد في الحديث أنه قال : ((رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنؤة (2) ورأيت عيسى بن مريم رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس)) فعلى هذا فقد وعد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه سيلقي موسى قبل أن يموت وبه قال مجاهد والسدي .
وقيل فلا تكن في مرية من لقاء موسى إياك في الآخرة وقيل معناه فلا تكن يا محمد في مرية من لقاء موسى الكتاب عن الزجاج وقيل معناه فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى الأذى عن الحسن فكأنه قال فلا تك في مرية من أن تلقى كما لقي موسى {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} أي وجعلنا موسى هاديا لهم عن قتادة وقيل وجعلنا الكتاب هاديا لهم عن الحسن .
{وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} أي وجعلنا منهم رؤساء في الخير يقتدى بهم يهدون إلى أفعال الخير بإذن الله عن قتادة وقيل هم الأنبياء الذين كانوا فيهم يدلون الناس على الطريق المستقيم بأمر الله {لما صبروا} أي لما صبروا وجعلوا أئمة {وكانوا ب آياتنا يوقنون} لا يشكون فيها {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيمة} أي يحكم بين المؤمن والكافر والفاسق {فيما كانوا فيه يختلفون} من التصديق برسل الله والإيمان بالبعث والنشور وغير ذلك من أعمالهم وأمور دينهم .
ثم نبه الله سبحانه خلقه على الاعتبار بمن تقدمهم من القرون فقال {أ ولم يهد لهم} أي أ ولم يبصرهم ويبين لهم {كم أهلكنا من قبلهم من القرون} الماضية جزاء على كفرهم بالله وارتكابهم لمعاصيه {يمشون في مساكنهم} ويرون آثارهم وقيل معناه أنا أهلكناهم بغتة وهم مشاغيل بنفوسهم يمشون في منازلهم {إن في ذلك لآيات} أي في إهلاكنا لهم دلالات واضحات على الحق {أ فلا يسمعون} أي أ فلا يسمع هؤلاء الكفار ما يوعظون به من المواعظ .
ثم نبههم سبحانه على وجه آخر فقال {أ ولم يروا} أي أ ولم يعلموا {أنا نسوق الماء} بالمطر والثلج وقيل بالأنهار والعيون {إلى الأرض الجرز} أي اليابسة التي لا نبات فيها وقيل نسوق الماء بالسيول إليها لأنها مواضع عالية وهي قرى بين الشام واليمن عن ابن عباس {فنخرج به زرعا تأكل منه} أي من ذلك الزرع {أنعامهم وأنفسهم} والمعنى أن هذه الأرض تنبت ما يأكله الناس والأنعام {أ فلا يبصرون} نعم الله تعالى عليهم {ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} قال الفراء المراد به فتح مكة وقال السدي الفتح هو القضاء بعذابهم في الدنيا وهو يوم بدر وقال مجاهد وهو الحكم بالثواب والعقاب يوم القيامة وكانوا يسمعون المسلمين يستفتحون بالله عليهم فقالوا لهم متى هذا الفتح أي متى هذا الحكم فينا .
{قل} يا محمد {يوم الفتح} يوم {لا ينفع الذين كفروا إيمانهم} بين سبحانه أن يوم الفتح يكون يوم القيامة وذلك اليوم لا ينفع الكافرين إيمانهم {ولا هم ينظرون} أي لا يؤخر عنهم العذاب يعني الذين قتلوا يوم بدر لم ينفعهم إيمانهم بعد القتل {فأعرض عنهم} يا محمد فإنه لا ينجع فيهم الدعاء والوعظ وقيل أعرض عن أذاهم وانتظر حكم الله فيهم قال ابن عباس نسخت آية السيف {وانتظر} موعدي لك بالنصر على أعدائك {إنهم منتظرون} بك حوادث الزمان من موت أو قتل فيستريحون منك وقيل معناه إنهم سيأتيهم ما وعد الله فيهم فكأنهم ينتظرونه .
___________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص111-114 .
2- قبيلة من اليمن .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
{ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ} . قال كثير من المفسرين : ان الهاء في لقائه يعود إلى موسى ، وان محمدا يلتقي به في السماء ليلة المعراج . . والصواب ان الهاء تعود إلى القرآن وان النبي يتلقاه من اللَّه لا من سواه ، قال تعالى : وإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ - 6 النمل . وفي كتب اللغة : تلقى الشيء بمعنى لقيه ، واستقبله ، وعليه يكون معنى الآية لقد أنزلنا إليك القرآن يا محمد كما أنزلنا التوراة على موسى ، ولا ينبغي الشك في ذلك منك ولا من غيرك . أما نهي النبي عن الشك فقد تكلمنا عنه مرارا . انظر ج 2 ص 75 .
{وجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ} . المراد بالأئمة هنا أنبياء بني إسرائيل كموسى وعيسى الذي ينتهي نسب أمه إلى داود . .
وكل نبي إسرائيلي كان يلاقي من قومه ألوانا من الأذى والعناء ، بل قتل الإسرائيليون العديد من أنبيائهم : ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ - 61 البقرة . ومع هذا صبروا واستمروا في تأدية رسالتهم ، فاصبر أنت يا محمد على أذى قومك ، واستمر في دعوتك {إِنَّ رَبَّكَ هُو يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . تقدم في الآية 113 من سورة البقرة والآية 93 من سورة يونس والآية 124 من سورة النحل .
{أَولَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} . تقدم مثله في الآية 128 من سورة طه ج 5 ص 253 {أَولَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} - اليابسة - {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} كيف أحيا اللَّه الأرض بعد موتها ، وأنبت فيها من كل زوج بهيج يأكل منه الناس والانعام ؟ كذلك يحيي اللَّه الموتى بعد أن تصبح ترابا وعظاما . . وتقدم هذا المعنى في العديد من الآيات . انظر تفسير الآية 5 من سورة الحج ج 5 ص 311 .
{ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} . هذا مثل : ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ - 38 الأنبياء لأن المراد بالفتح هنا اليوم الذي يحكم فيه بالحق ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وعاندوا الحق في الحياة الدنيا ( ايمانهم ) في الآخرة حين يرون العذاب لأن هذا فرار من حريق الجحيم ، وليس إيمانا من القلب وإيقانا من العقل {ولا هُمْ يُنْظَرُونَ} لا يمهلهم اللَّه يوم القيامة لأنه أمهلهم في الدنيا طويلا فلم يبادروا إلى التوبة ويغتنموا الفرصة قبل فواتها {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} . انهم يتربصون بك يا محمد ريب المنون . . فدعهم وشأنهم ، واصبر قليلا لترى حكم اللَّه فيك وفيهم . . انه ناصرك ومخزيهم : {هُو الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوكَرِهً الْمُشْرِكُونَ} - 33 التوبة .
______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص ١٨٥-187 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
قوله تعالى : {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل} المراد بالكتاب التوراة والمرية الشك والريب .
وقد اختلفوا في مرجع الضمير في قوله : {من لقائه} ومعنى الكلمة فقيل : الضمير لموسى وهو مفعول اللقاء والتقدير فلا تكن في مرية من لقائك موسى وقد لقيه ليلة المعراج كما وردت به الروايات فإن كانت السورة نازلة بعد المعراج فهو تذكرة لما قد وقع وإن كانت نازلة قبله فهو وعد منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سيراه .
وقيل : الضمير لموسى والمعنى : فلا تكن في مرية من لقائك موسى يوم القيامة .
وقيل : الضمير للكتاب والتقدير فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب .
وقيل : التقدير من لقائك الكتاب أومن لقاء الكتاب إياك .
وقيل : الضمير لما لقي موسى من الأذى من قومه والمعنى : فلا تكن في مرية من لقاء الأذى كما لقيه موسى من قومه وأنت خبير بأن الطبع السليم لا يقبل شيئا من هذه الوجوه - على أنها لا تفي لبيان وجه اتصال الآية بما قبلها .
ومن الممكن - والله أعلم - أن يرجع ضمير لقائه إليه تعالى والمراد بلقائه البعث بعناية أنه يوم يحضرون لربهم لا حجاب بينه وبينهم كما تقدم ، وقد عبر عنه باللقاء قبل عدة آيات في قوله : {بل هم بلقاء ربهم كافرون} ، ثم عبر عنه بما في معناه في قوله : {ناكسوا رءوسهم عند ربهم} .
فيكون المعنى : ولقد آتينا موسى الكتاب كما آتيناك القرآن فلا تكن في مرية من البعث الذي ينطق به القرآن بالشك في نفس القرآن وقد أيد نزول القرآن عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنزول التوراة على موسى في مواضع من القرآن ، ويؤيده قوله بعد : {وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} إلخ .
ويمكن أن يكون المراد بلقائه الانقطاع التام إليه تعالى عند وحي القرآن أو بعضه كما في بعض الروايات ، فيكون رجوعا إلى ما في صدر السورة من قوله : {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين{ ، وذيل الآية أشد تأييدا لهذا الوجه من سابقه والله أعلم .
وقوله : {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} أي هاديا فالمصدر بمعنى اسم الفاعل أو بمعناه المصدري مبالغة .
قوله تعالى : {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} أي وجعلنا من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس بأمرنا وإنما نصبناهم أئمة هداة للناس حين صبروا في الدين وكانوا قبل ذلك موقنين بآياتنا .
وقد تقدم البحث عن معنى الإمامة وهداية الإمام بأمر الله في تفسير قوله : {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة : 124] ، وقوله : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الأنبياء : 73] ، وغير ذلك من الموارد المناسبة .
وقد تضمنت هاتان الآيتان من الرحمة المنبسطة بالتوراة أنها هدى في نفسه يهدي من اتبعه إلى الحق ، وأنها أنشأت في حجر تربيتها أناسا اجتباهم الله للإمامة فصاروا يهدون بأمره فهي مباركة للعمل بها ومباركة بعد العمل .
قوله تعالى : {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} يريد اختلافهم في الدين وإنما كان ذلك بغيا بينهم كما يذكره في مواضع من كلامه كقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية : 16 ، 17] .
فالمراد بقوله : {يفصل بينهم} القضاء الفاصل بين الحق والباطل والمحق والمبطل والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {أ ولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} إلخ ، العطف على محذوف كأنه قيل : أ لم يبين لهم كذا وكذا ، أ ولم يهد لهم إلخ ، والهداية بمعنى التبيين أو هو مضمن معنى التبيين ولذا عدي باللام .
وقوله : {كم أهلكنا من قبلهم من القرون} مشير إلى الفاعل قائم مقامه ، والمعنى : أ ولم يبين لهم كثرة من أهلكنا من القرون والحال أنهم يمشون في مساكنهم .
وقوله : {إن في ذلك لآيات أ فلا يسمعون} المراد بالسمع سمع المواعظ المؤدي إلى طاعة الحق وقبوله .
قوله تعالى : {أ ولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم} إلخ ، قال في المجمع : ، السوق الحث على السير من ساقه يسوقه ، وقال : الجرز الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها . انتهى .
والزرع مصدر في الأصل والمراد به هنا المزروع .
والآية تذكر آية أخرى من آيات الله سبحانه تدل على حسن تدبيره للأشياء وخاصة ذوي الحياة منها كالأنعام والإنسان ، والمراد بسوق الماء إلى الأرض الخالية من النبات سوق السحب الحاملة للأمطار إليها ، ففي نزول ماء المطر منها حياة الأرض وخروج الزرع واغتذاء الإنسان والأنعام التي يسخرها ويربيها لمقاصد حياته .
وقوله : {أ فلا يبصرون} تنبيه وتوبيخ وتخصيص هذه الآية بالإبصار ، والآية السابقة بالسمع لما أن العلم بإهلاك الأمم الماضين إنما هو بالأخبار التي تنال من طريق السمع وأما العلم بسوق الأمطار إلى الأرض الجرز وإخراج الزرع واغتذاء الأنعام والإنسان فالطريق إليه حاسة البصر .
قوله تعالى : {ويقولون متى هذا الفتح - إلى قوله - ولا هم ينظرون} قال الراغب : الفتح إزالة الإغلاق والإشكال - إلى أن قال - وفتح القضية فتاحا فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها ، قال : {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} انتهى .
وقد تقدم في الآيات السابقة مما يصدق عليه الفتح بمعنى الفصل أمران : أحدهما فصل بينهم يوم القيامة ، والآخر إذاقة العذاب الأدنى أوالانتقام منهم في الدنيا ولذا فسر الفتح بعضهم بيوم القيامة فيكون معنى قولهم : متى هذا الفتح إن كنتم صادقين هو معنى قولهم المحكي كرارا في كلامه تعالى : {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} .
وفسره بعضهم بيوم بدر فإنه لم ينفع الذين قتلوا من المشركين إيمانهم بعد القتل .
وذكر بعضهم أن المراد به فتح مكة ولا يلائمه الجواب المذكور في قوله : {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} إلا أن يقول قائل : إن إيمانهم يومئذ - وقد عاندوا الحق وقاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سنين وجاهدوا في إطفاء نور الله - لم يكن إيمانا إلا نفاقا من غير أن يدخل في قلوبهم وينتفع به نفوسهم وقد ألزموا بالإيمان ولم ينظروا .
ويمكن أن يكون المراد هو القضاء بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الأمة ويكون ذلك في آخر الزمان كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله : {ولكل أمة رسول} الآية ، : يونس : 47 .
وكيف كان فالمراد بالآيتين استعجال المشركين بالفتح والجواب أنه فتح لا ينفع حال الذين كفروا إيمانهم لأنه ظرف لا ينفع نفسا إيمانها ولا أن العذاب يمهلهم وينظرهم .
قوله تعالى : {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} أمر بالإعراض عنهم وانتظار الفتح كما أنهم ينتظرون وإنما كانوا منتظرين موته أو قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالجملة انقطاع دابر دعوته الحقة فلينتظر هو كما هم ينتظرون حتى يظهر الله الحق على الباطل والمحق على المبطل .
ومن هذا السياق يظهر أن المراد بالفتح الفتح الدنيوي .
_______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص214-217 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
شرط الإمامة : الصبر والإيمان :
تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة وعابرة إلى قصّة «موسى» (عليه السلام) وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم ، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي اُشير إليها في الآيات السابقة ، ولتكون بشارة للمؤمنين بإنتصارهم على القوم الكافرين العنودين كما إنتصر بنو إسرائيل على أعدائهم وأصبحوا أئمّة في الأرض .
ولمّا كان موسى (عليه السلام) نبيّاً جليلا يؤمن به كلّ من اليهود والنصارى ، فإنّه يكون حافزاً على توجّه أهل الكتاب نحو القرآن والإسلام .
تقول الآية أوّلا : (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه) أي فلا تشكّ أو تتردّد في أنّ «موسى» قد تلقّى آيات الله ، وقد جعلنا كتاب موسى «التوراة» وسيلة لهداية بني إسرائيل (وجعلناه هدىً لبني إسرائيل) .
ثمّة إختلاف بين المفسّرين في عودة الضمير في قوله : (من لقائه) ، وقد إحتملوا في ذلك سبعة إحتمالات أو أكثر ، إلاّ أنّ أقربها هو عودته إلى الكتاب ـ كتاب موسى السماوي ، أي «التوراة» ـ كما يبدو ، وله معنى المفعول وفاعله موسى ، وبناءً على هذا فإنّ المعنى الكلّي لهذه الجملة يصبح : لا تشكّ في أنّ موسى(عليه السلام) تلقّى الكتاب السماوي الذي اُلقي إليه من قبل الله تعالى .
والشاهد القويّ على هذا التّفسير هو أنّه قد وردت في الآية أعلاه ثلاث جمل ، تتحدّث الجملتين الاُولى والأخيرة عن التوراة قطعاً ، فمن المناسب أن تتابع الجملة الوسط هذا المعنى أيضاً ، لا أن تتحدّث عن القيامة أوالقرآن المجيد حيث ستكون جملة معترضة في هذه الصورة ، ونعلم أنّ الجملة المعترضة خلاف الظاهر ، وما دمنا في غنىً عنها فلا ينبغي التوجّه إليها .
السؤال الوحيد الذي يبقى في هذا التّفسير هو إستعمال كلمة (لقاء) في مورد الكتاب السماوي ، حيث إنّ هذه الكلمة قد إستعملت في القرآن الكريم غالباً بإضافتها إلى الله أو الربّ أو الآخرة وأمثالها ، وهي إشارة إلى القيامة . ولهذا السبب رجّح البعض كون الآية أعلاه تتحدّث أوّلا عن نزول التوراة على موسى ، ثمّ تأمر نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) أن لا تشكّ في لقاء الله ومسألة المعاد ، ثمّ تعود إلى مسألة التوراة ، لكن في هذه الصورة ينهار الإنسجام بين جمل هذه الآية ويزول التناسب فيما بينها .
غير أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّ تعبير «لقاء» وإن لم يستعمل في القرآن في مورد الكتب السماوية ، إلاّ أنّ الإلقاء والتلقّي قد إستعمل مراراً في هذا المعنى ، كما في الآية (25) من سورة القمر : (أاُلقي الذكر عليه من بيننا) .
ونقرأ في قصّة سليمان وملكة سبأ أنّها قالت عندما وصلتها رسالة سليمان : (إنّي اُلقي إليّ كتاب كريم) .
وفي نفس هذه السورة «سورة سليمان» في الآية (6) نقرأ في شأن القرآن الكريم {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [النمل : 6] .
بناءً على هذا فإنّ فعل الإلقاء والتلقّي قد إستعمل مراراً في هذا المورد ، بل وحتّى نفس فعل اللقاء قد إستعمل في مورد صحيفة أعمال الإنسان ، فنقرأ في الآية (13) من سورة الإسراء : {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } [الإسراء : 13] .
ومن مجموع ما قلناه يتّضح ترجيح هذا التّفسير على سائر الإحتمالات التي إحتملت في الآية أعلاه(2) .
لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يشكّ في مثل هذه المسائل مطلقاً ، بل إنّ مثل هذه التعبيرات تستعمل عادةً لتأكيد المطلب ، وليكون نموذجاً للآخرين .
ثمّ تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الإستقامة والإيمان لتكون درساً للآخرين ، فتقول : {وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} .
لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة : أحدهما : الإيمان واليقين بآيات الله عزّوجلّ ، والثاني : الصبر والإستقامة والصمود . وهذا الأمر ليس مختصّاً ببني إسرائيل ، بل هو درس لكلّ الاُمم ، ولجميع مسلمي الأمس واليوم والغد بأن يُحكموا اُسس يقينهم ، ولا يخافوا من المشاكل التي تعترضهم في طريق التوحيد ، وأن يتحلّوا بالصبر والمقاومة ليكونوا أئمّة الخلق وقادة الاُمم ومرشديها في تاريخ العالم .
التعبير بـ (يهدون) و(يوقنون) بصيغة الفعل المضارع دليل على إستمرار هاتين الصفتين طيلة حياة هؤلاء ، لأنّ مسألة القيادة لا تخلو لحظة من المشكلات ، ويواجه شخص القائد وإمام الناس مشكلة جديدة في كلّ خطوة ، ويجب أن يهبّ لمواجهتها مستعيناً بقوّة اليقين والإستقامة المستمرّة ، ويديم خطّ الهداية إلى الله سبحانه .
والجدير بالإنتباه أنّ الآية تقيّد الهداية بأمر الله ، فتقول : (يهدون بأمرنا)وهذا هو المهمّ في أمر الهداية بأن تنبع من الأوامر الإلهية ، لا من أمر الناس ، أو تقليد هذا وذاك ، أو بأمر من النفس والميول القلبية .
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه العميق المحتوى ، بالإستناد إلى مضامين القرآن المجيد : «إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّوجلّ إمامان : قال الله تبارك وتعالى : وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ، لا بأمر الناس ، يقدّمون أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم ، وقال : وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النار ، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّوجلّ» (3) .
ثمّ أنّ المراد من الأمر هنا هل هوالأمر التشريعي ، أم الأمر التكويني؟ ظاهر الآية يعطي المعنى الأوّل ، وتعبيرات الرّوايات والمفسّرين تؤيّد ذلك ، إلاّ أنّ بعض كبار المفسّرين إعتبروه بمعنى الأمر التكويني .
وتوضيح ذلك : أنّ الهداية قد وردت في الآيات والروايات بمعنيين : «تبيان الطريق» ، و«الإيصال إلى المطلوب» ، وكذلك هداية الأئمّة الإلهيين تتّخذ صورتين : فيكتفون أحياناً بالأمر والنهي ، وأحياناً اُخرى ينفذون إلى أعماق القلوب المستعدّة والجديرة بالهداية ليوصلوها إلى الأهداف التربوية والمقامات المعنوية .
وقد إستعملت كلمة «الأمر» في بعض آيات القرآن بمعنى «الأمر التكويني» ، مثل : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس : 82] ، وجملة (يهدون بأمرنا) في الآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ، أي إنّ اُولئك كانوا أئمّة ينفذون إلى النفوس المستعدّة بقدرة الله ، ويسوقونها إلى الأهداف التربوية والإنسانية العالية(4) .
إنّ هذا المعنى يستحقّ الملاحظة والإنتباه ، وهو أحد شؤون الإمامة ، وفروع وطرق الهداية ، إلاّ أنّ حصر جملة : (يهدون بأمرنا) بهذا المعنى لا يوافق ظاهر الآية ، لكن لا مانع من أن نفسّر كلمة الأمر في هذه الجملة بمعناها الواسع الذي يتضمّن الأمر التكويني والتشريعي ، ويجمع كلا معنيي الهداية في الآية ، وهذا المعنى ينسجم مع بعض الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية .
ولكن ، وعلى كلّ حال ، لا يمكن أن يصل الإمام والهادي إلى هذا المقام إلاّ في ظلّ اليقين والإستقامة فقط .
ويبقى سؤال ، وهو : هل المراد من هؤلاء الأئمّة في بني إسرائيل هم الأنبياء الذين بُعثوا إليهم ، أم أنّ العلماء الذين كانوا يهدون الناس إلى الخيرات بأمر الله يدخلون في هذه الزمرة؟
الآية ساكتة عن ذلك ، واكتفت بالقول بأنّنا قد جعلنا منهم أئمّة ، لكن بملاحظة جملة : (جعلنا) يرجّح في رأينا أنّ المراد هم الأنبياء الذين نصبوا بأمر الله في هذا المنصب .
ولمّا كانوا بنوا إسرائيل ـ كسائر الاُمم ـ قد إختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين ، وسلكوا مسالك مختلفة ، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد : {إنّ ربّك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} .
أجل . . إنّ مصدر ومنبع الإختلاف دائماً هو مزج الحقّ بالأهواء والميول ، ولمّا كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول ، حيث تمحى ويتجلّى الحقّ بأجلى صوره ، فهناك ينهي الله سبحانه الإختلافات بأمره ، وهذه أيضاً إحدى فلسفات المعاد . تأمّلوا ذلك .
وغيرها ، ولا ينسحب من ميدان الصراع والحوادث ، ولا يجزع وييأس ، ولا يفقد زمام الاُمور من يده ، ولا يضطرب ولا يندم حتّى يحقّق هدفه الكبير .
وقد روي في هذا الباب حديث جامع ورائع عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال لأحد أصحابه : إنّ من صبر صبر قليلا (وبعده الظفر) وإنّ من جزع جزع قليلا (ومن بعده الخسران) .
ثمّ قال : عليك بالصبر في جميع اُمورك ، فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً فأمره بالصبر والرفق; فقال : {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا} وقال : {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم} .
فصبر رسول الله حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها ـ فسمّوه ساحراً ومجنوناً وشاعراً ، وكذّبوه في دعوته ـ فضاق صدره ، فأنزل الله عزّوجلّ عليه : {ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين} ـ أي إنّ هذه العبادة تمنحك الإطمئنان والهدوء ـ .
ثمّ كذّبوه ورموه فحزن لذلك ، فأنزل الله عزّوجلّ : {قد نعلم انّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون . ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم نصرنا} .
فألزم النّبي نفسه الصبر ، فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه ، فقال : قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي ، فأنزل الله عزّوجلّ : {واصبر على ما يقولون} ، فصبر النّبي في جميع أحواله .
ثمّ بُشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصبر ، فعند ذلك قال : الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، فشكر الله عزّوجلّ ذلك له ، فأباح له قتال المشركين ، فقتلهم الله على يدي رسول الله وأحبّائه ، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في الآخرة» .
ثمّ أضاف الإمام الصادق (عليه السلام) : «فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتّى يقرّ الله له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة» (5) .
وقوله تعالى : {أَولَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَت أَفَلاَ يَسْمَعُونَ (26) أَولَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَمُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ}
يوم إنتصارنا :
كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفّار ، وتقول الآية الاُولى من الآيات مورد البحث إكمالا لهذا التهديد : {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون (6)} فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اُولئك الأقوام الذين هلكوا من قبلهم {يمشون في مساكنهم} (7) .
تقع مساكن «عاد» و«ثمود» المدمّرة ، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام ، وكانت هذه المساكن مقرّاً ومركزاً للأقوام الأقوياء المنحرفين ، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك ، وأخيراً طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم ، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مئة لسان ، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا ، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط ، لكنّهم لم يعبؤوا بها ويلتفتوا إليها ، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماماً ، ولذلك تضيف الآية في النهاية : {إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون} .
وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان ، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة ، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين ، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة ، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب ، فتقول : {أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون} .
«الجُرُز» تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ ، وهي في الأصل من مادّة (جَرَزْ) على وزن (مرض) بمعنى «القطع» ، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض ، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات .
والطريف هنا أنّه قد عُبّر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات ، وبحكم كونه مائعاً يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض ، إلاّ أنّه عندما يصله أمرنا يفقد طبيعته ، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم .
نعم ، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة تُرسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح .
والواقع أنّه لولا المطر فإنّ كثيراً من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء ، وإذا إفترضنا أنّ هناك أنهاراً غزيرة المياه فانّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي ، إلاّ أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّاً على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة ، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر .
«زرعاً» له هنا معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع العشب والشجر ، وإن كان يستعمل أحياناً في مقابل الشجر .
ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات ، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات .
أومن جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات ، وتستطيع الإستفادة منه وهضمه ، في حين أنّ إستفادة الإنسان من النباتات ، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة .
والطريف هنا أنّ جملة : (أفلا يبصرون) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث ، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة : {أفلا يسمعون} .
وعلّة هذا الإختلاف هو أنّ الجميع يرون باُمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونمو نباتها وينع ثمرها ، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالباً .
ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة المتمردّين : انتبهوا جيّداً ، وافتحوا عيونكم وأسماعكم ، فاسمعوا الحقائق ، وانظروا إليها ، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوماً أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً ، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة ، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!
ولمّا كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام ، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر ، فإنّ الكفّار يطرحون هذا السؤال غروراً وإستكباراً وتعلّلا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقّق؟ كما يذكر القرآن ذلك : {ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} .
فيجيبهم القرآن مباشرةً ، ويأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} أي : إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا ، فإنّ الوقت قد فاتكم ، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً .
وممّا قلنا يتّضح أنّ المراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الإستئصال» ، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين ، ولا يدع لهم فرصة الإيمان . وبتعبير آخر فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي ، لا من عذاب الآخرة ، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة ، بل هو العذاب الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة .
والشاهد على هذا القول اُمور :
أ : إذا كان المراد العقوبات الدنيوية المعتادة ، أو الإنتصارات الشبيهة بإنتصار المسلمين في معركة بدر ويوم فتح مكّة ـ كما قال ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ جملة : {لا ينفع الذين كفروا إيمانهم} لا تصحّ حينئذ ، لأنّ الإيمان كان مفيداً حينذاك ، وأبواب التوبة كانت مفتّحة يوم الإنتصار في بدر ، وفي يوم فتح مكّة .
ب : إذا كان المراد من يوم الفتح يوم القيامة ـ كما إرتضى ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ ذلك لا يناسب جملة : (ولا هم ينظرون) لأنّ إعطاء الفرصة وعدمه يرتبط بالحياة الدنيا ، إضافةً إلى أنّ «يوم الفتح» لم يستعمل بمعنى يوم القيامة في أيّ موضع من القرآن الكريم .
ج : إنّ التعبير بالفتح في مورد عذاب الإستئصال يلاحظ مراراً في القرآن ، مثل الآية (118) من سورة الشعراء ، حيث يقول نوح : { فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 118] وهو إشارة إلى عقوبة الطوفان .
وورد نظير هذا المعنى في الآية (77) من سورة المؤمنون أيضاً .
إلاّ أنّ المراد إذا كان عذاب الإستئصال في الدنيا فإنّه يتّفق مع ما قلناه أعلاه ، وينسجم مع كلّ القرائن ، وهو في الواقع تهديد للكافرين والظالمين بأن لا تطلبوا تحقّق الوعد بالفتح للمؤمنين ووقوع عذاب الإستئصال على الكافرين ، فإنّ طلبكم إذا تحقّق فسوف لا تجدون الفرصة للإيمان ، وإذا وجدتم الفرصة وآمنتم فإنّ إيمانكم سوف لا يقبل .
وهذا المعنى خاصّة يتلاءم كثيراً مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن هلاك الأقوام المتمردّين الطاغين الذين كانوا يعيشون في القرون الماضية ، وابتلوا بالعذاب الإلهي والفناء ، لأنّ كفّار مكّة إذا سمعوا الكلام الذي ورد في الآيتين السابقتين فإنّهم سيطلبون تحقّق مثل هذا الموضوع في حقّهم ، إلاّ أنّ القرآن الكريم يحذّرهم بأن لا يطلبوا مثل هذا الطلب ، فإنّ العذاب إذا نزل لا يبقى لهم شيء .
وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بتهديد بليغ عميق المعنى ، فتقول : {فأعرض عنهم وانتظر إنّهم منتظرون} .
الآن ، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار ، ولا هم أهل منطق وإستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه ، وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها ، فأعرض عنهم ، وانتظر رحمة الله سبحانه ، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه .
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص310-319 .
2 ـ ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مرجع الضمير في (لقائه) إلى موسى ، وبناءً على هذا يصبح المعنى : لا شكّ يا محمّد بأنّك ستلتقي بموسى ، واعتبروا ذلك إشارة إلى لقائه به في ليلة المعراج أوفي يوم القيامة . وهذا المعنى لا يبدو منسجماً مع مفهوم الجملة .
وقال البعض الآخر : إنّ الضمير يرجع إلى الكتاب ، والمراد منه القرآن ، أي : لا تدع أيّها النّبي للشكّ في أنّ هذا القرآن وحي إلهي إلى نفسك سبيلا ، وهذا المعنى وإن كان يتلائم مع آيات بداية السورة ، إلاّ أنّه لا يتلاءم كثيراً مع الجمل الاُخرى الموجودة في نفس هذه الآية . إضافة إلى أنّ الكتاب في الآية مورد البحث بمعنى التوراة ، فلا ينسجم معه عود الضمير إلى القرآن ـ وتوجيه هذا المعنى بأنّ المراد مطلق الكتاب السماوي لا يقلّل من كونه خلاف الظاهر .
وقال بعض المفسّرين : إنّ الضمير في (لقائه) يعود إلى الله ، وهذه الجملة إشارة إلى أنّه لا شكّ أبداً في مسألة المعاد ، وهذا المعنى وإن كان يتّفق وينسجم مع الآيات السابقة ، إلاّ أنّه لا يتلاءم من أي وجه تقريباً مع نفس الآية مورد البحث .
ومن هنا يتّضح أنّ ما ورد في بعض التفاسير من أنّ الآية إشارة إلى التقاء خطّي وبرنامجي موسى ونبي الإسلام ، مطلب ذوقي لا يناسب المفهوم الواقعي لألفاظ الآية ، وبناءً على هذا فإنّ أوضح التفاسير وأجلاها ما أوردناه أعلاه .
3 ـ الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة 168 باب أنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان .
4 ـ تفسير الميزان ، المجلّد الأوّل ، صفحة 275 .
5 ـ اُصول الكافي ، الجزء 2 ، صفحة 72 باب الصبر باختصار قليل .
6 ـ فاعل (لم يهد) يفهم من جملة (كم أهلكنا من قبلهم) والتقدير : أولم يهد لهم كثرة من أهلكنا .
7 ـ ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه ، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون جملة (يمشون) بياناً لحال المهلكين ، أي أنّ اُولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي ، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها ، إذ أتاهم عذاب الله بغتةً وأهلكهم . إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|