أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-5-2020
13492
التاريخ: 29-5-2020
6052
التاريخ: 31-5-2020
6203
التاريخ: 31-5-2020
10282
|
قال تعالى : {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَو تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَو شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة : 10 ، 14] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
{وقالوا} يعني منكري البعث {أ إذا ضللنا في الأرض} أي غبنا في الأرض وصرنا ترابا وكل شيء غلب عليه غيره حتى يغيب فيه فقد ضل قال الأخطل :
فكنت القذا في موج أكدر مزبد *** قذف الآتي به فضل ضلالا (2)
وقيل إن معنى ضللنا هلكنا عن قتادة ومجاهد {أ إنا لفي خلق جديد} أي نبعث ونحيي فهو استفهام معناه الإنكار والمعنى كيف نخلق جديدا ونعاد بعد أن هلكنا وتفرقت أجسامنا ثم قال سبحانه {بل هم} أي هؤلاء الكفار {بلقاء ربهم} أي ما وعد ربهم به من الثواب والعقاب {كافرون} أي جاحدون فلهذا قالوا هذا القول .
ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {قل} يا محمد للمكلفين {يتوفيكم} أي يقبض أرواحكم أجمعين وقيل يقبضكم واحدا واحدا حتى لا يبقى منكم أحدا {ملك الموت الذي وكل بكم} أي وكل بقبض أرواحكم عن ابن عباس قال جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما شاء إذا قضى عليه الموت من غير عناء وخطوته ما بين المشرق والمغرب وقيل إن له أعوانا كثيرة من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب عن قتادة والكلبي فعلى هذا المراد بملك الموت الجنس ويدل عليه قوله {توفته رسلنا} وقوله {تتوفيهم الملائكة} وأما إضافة التوفي إلى نفسه في قوله {الله يتوفى الأنفس حين موتها} فلأنها سبحانه خلق الموت ولا يقدر عليه أحد سواه {ثم إلى ربكم ترجعون} أي إلى جزاء ربكم من الثواب والعقاب تردون وجعل ذلك رجوعا إليه تفخيما للأمر وتعظيما للحال .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((الأمراض والأوجاع كلها بريد للموت ورسل للموت فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال يا أيها العبد كم خبر بعد خبر وكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد أنا الخبر الذي ليس بعدي خبر وأنا الرسول أجب ربك طائعا أو مكرها فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون فو الله ما ظلمت له أجلا ولا أكلت له رزقا بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فإن لي فيكم عودات وعودات ، حتى لا أبقي منكم أحدا)) .
ثم أخبر سبحانه عن حالهم في القيامة وعند الحساب فقال {ولو ترى} يا محمد أو أيها الإنسان {إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم} أي يوم القيامة حين يكون المجرمون متطاطئي رءوسهم ومطرقيها حياء وندما وذلا {عند ربهم} أي عند ما يتولى الله سبحانه حساب خلقه يقولون {ربنا أبصرنا وسمعنا} أي أبصرنا الرشد وسمعنا الحق وقيل معناه أبصرنا صدق وعدك وسمعنا منك تصديق رسلك وقيل معناه إنا قد كنا بمنزلة العمي فأبصرنا وبمنزلة الصم فسمعنا {فارجعنا} أي فارددنا إلى دار التكليف {نعمل صالحا} من الصالحات {إنا موقنون} اليوم لا نرتاب شيئا من الحق والرسالة .
ثم قال سبحانه {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها} بأن نفعل أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بالتوحيد ولكن ذلك يبطل الغرض بالتكليف لأن المقصود به استحقاق الثواب والإلجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب قال الجبائي ويجوز أن يكون المراد به ولو شئنا لأجبناهم إلى ما سألوا من الرد إلى دار التكليف ليعملوا بالطاعات ولكن حق القول مني أن أجازيهم بالعقاب ولا أردهم وقيل معناه ولو شئنا لهديناهم إلى الجنة {ولكن حق القول مني} أي الخبر والوعيد {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} أي من كلا الصنفين بكفرهم بالله سبحانه وجحدهم وحدانيته وكفرانهم نعمته والقول من الله سبحانه بمنزلة القسم فلذلك أتى بجواب القسم وهو قوله {لأملأن جهنم} .
ثم حكى سبحانه ما يقال لهؤلاء الذين طلبوا الرجعة إلى دار التكليف إذا جعلوا في العذاب بقوله {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي بما فعلتم فعل من نسي لقاء جزاء هذا اليوم فتركتم ما أمركم الله به وعصيتموه والنسيان الترك ومنه قول النابغة : ((سفود شرب نسوة عند مفتاد))(3) أي تركوه فلم يستعملوه قال المبرد لأنه لوكان المراد النسيان الذي هو ضد الذكر لجاز أن يكونوا استعملوه {إنا نسيناكم} أي فعلنا معكم فعل من نسيكم من ثوابه أي ترككم من نعيمه جزاء على ترككم طاعتنا {وذوقوا عذاب الخلد} الذي لا فناء له {بما كنتم تعملون} من الكفر والمعاصي .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص102-105 .
2- القذى : ما يحمله السيل من تبن ونحوه . ومزبد أي : ذو زبد . والاتي : السيل . الجدول قذف رجلا بقلة عنائه في الحرب ، وانه كان في تلك الحرب بمزلة القذى في الماء الكدر الذي يقذف به السيل ، او بعض الجداول ، لا يرى له عين ، ولا أثر .
3- هذا عجز بيت يصف فيه فرسه وقبله : ((كأنه خارجا من جنب صفحته)) وهو من قصيدة قالها في مدح نعمان بن المنذر ، ويعتذر اليه مما وشى له به المنخل اليشكري ، من شأن امرأته المتجردة . واعتبر بعض العلماء هذه القصيدة من المعلقات . سفود : حديدة يشوى عليها اللحم . والشرب : القوم المجتمعون للشراب . والمفتأد : موضع الوقود . وقد مر في الجزء السادس ايضا .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
{وقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . هذا مثل قولهم :
أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ - 5 الرعد ج 4 ص 378 {بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ} .
وتسأل : لقد أعلن المشركون كفرهم بلقاء اللَّه صراحة ، فما هو وجه الاضراب في قوله تعالى : {بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ} ؟ وهل هو إلا كقولنا : أنت كافر لمن أعلن الكفر ؟
الجواب : المراد انهم لم يكفروا باليوم الآخر عن علم ، بل عن جهل وتقليد ، فهو تماما كقولنا لمن أعلن الكفر : أنت جاهل .
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} . قل يا محمد للذين كفروا باليوم الآخر : أنتم ميتون ما في ذلك ريب ، وبعد الموت تنكشف لكم الحقيقة ، وتعلمون ان الساعة آتية لا ريب ، وان اللَّه يبعث من في القبور .
{ولَو تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . أنكروا البعث ، وسخروا ممن آمن به ودعاهم إلى العمل له ، وحذرهم من عواقبه . . ولما بعثوا ووقفوا بين يدي اللَّه للحساب طأطئوا رؤوسهم حياء وندما وقالوا : {رَبَّنا أَبْصَرْنا وسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} . تقدم مثله في الآية 27 من سورة الأنعام ج 3 ص 178 والآية 100 من سورة (المؤمنون) .
{ولَو شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} . قال الرازي : (هذا صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول : ان اللَّه ما أراد الايمان من الكافر ، وما شاء منه إلا الكفر) .
ونقول للرازي : إذا كان اللَّه هو الذي أراد الكفر من الكافر ولا رادّ لمشيئته فعلى أي شيء يعذبه ويعاقبه ؟ كيف وهو القائل : وما ظَلَمْناهُمْ ولكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ - 76 الزخرف . والصحيح ان المراد بمشيئة اللَّه هنا المشيئة التكوينية التي هي عبارة عن كلمة {كن} . وعليه يكون المعنى لو أراد اللَّه إلجاءهم إلى الهداية لاهتدوا . . ولو فعل ذلك لبطل الثواب والعقاب ، ولم تلزم الأسماء معانيها .
وتقدم ذلك أكثر من مرة . انظر ج 3 ص 69 .
{ولكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . لقد حق القول من اللَّه تعالى أن يملأ جهنم من الذين أفسدوا وتمادوا في الغي بملء اختيارهم وإرادتهم ، أما الذين استجابوا لربهم فلهم مغفرة وأجر كريم . وفي الحديث القدسي : خلقت الجنة لمن أطاعني ولوكان عبدا حبشيا ، والنار لمن عصاني ولوكان سيدا قرشيا .
{فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . ما انقاد أحد لأهوائه وشهواته إلا ونسي اللَّه والحساب ، وكفر بالحق والضمير . . وغدا تقول ملائكة العذاب لهذا المجرم : سكرت بحلاوة الدنيا فذق الآن مرارة الآخرة . وتقدم مثله في الآية 51 من سورة الأعراف ج 3 ص 336 والآية 67 من سورة التوبة ج 4 ص 67 .
_______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص ١٨٠-181 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
قوله تعالى : {وقالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون} حجة من منكري البعث مبنية على الاستبعاد .
والضلال في الأرض قيل : هو الضيعة كما يقال : ضلت النعمة أي ضاعت ، وقيل : هو بمعنى الغيبة ، وكيف كان فمرادهم به أ إنا إذا متنا وانتشرت أجزاء أبداننا في الأرض وصرنا بحيث لا تميز لأجزائنا من سائر أجزاء الأرض ولا خبر عنا نقع في خلق جديد ونخلق ثانيا خلقنا الأول؟ .
والاستفهام للإنكار ، والخلق الجديد هو البعث .
وقوله : {بل هم بلقاء ربهم كافرون} إضراب عن فحوى قولهم : {أ إذا ضللنا في الأرض} كأنه قيل : إنهم لا يجحدون الخلق الجديد لجحدهم قدرتنا على ذلك أو لسبب آخر بل هم كافرون بالرجوع إلينا ولقائنا ولذا جيء في الجواب عن قولهم بما يدل على الرجوع .
قوله تعالى : {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} توفي الشيء أخذه تاما كاملا كتوفي الحق وتوفي الدين من المديون .
وقوله : {ملك الموت الذي وكل بكم} قيل : أي وكل بإماتتكم وقبض أرواحكم والآية مطلقة ظاهرة في أعم من ذلك .
وقد نسب التوفي في الآية إلى ملك الموت ، وفي قوله : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [الزمر : 42] إليه تعالى ، وفي قوله : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام : 61] ، وقوله : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [النحل : 28] ، إلى الرسل والملائكة نظرا إلى اختلاف مراتب الأسباب فالسبب القريب الملائكة الرسل أعوان ملك الموت وفوقهم ملك الموت الآمر بذلك المجرى لأمر الله والله من ورائهم محيط وهو السبب الأعلى ومسبب الأسباب فذلك بوجه كمثل كتابة الإنسان بالقلم فالقلم كاتب واليد كاتبة والإنسان كاتب .
وقوله : {ثم إلى ربكم ترجعون} هو الرجوع الذي عبر عنه في الآية السابقة باللقاء وموطنه البعث المترتب على التوفي والمتراخي عنه ، كما يدل عليه العطف بثم الدالة على التراخي .
والآية - على أي تقدير - جواب عن الاحتجاج بضلال الموتى في الأرض على نفي البعث ومن المعلوم أن إماتة ملك الموت لهم ليس يحسم مادة الإشكال فيبقى قوله : {ثم إلى ربكم ترجعون} دعوى خالية عن الدليل في مقابل دعواهم المدللة والكلام الإلهي أنزه ساحة أن يتعاطى هذا النوع من المحاجة .
لكنه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنية على الاستبعاد بأن حقيقة الموت ليس بطلانا لكم وضلالا منكم في الأرض بل ملك الموت الموكل بكم يأخذكم تامين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان وأرواحكم تمام حقيقتكم فأنتم أي ما يعني بلفظة {كم} محفوظون لا يضل منكم شيء في الأرض وإنما يضل الأبدان وتتغير من حال إلى حال وقد كانت في معرض التغير من أول كينونتها .
ثم إنكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها .
وبهذا يندفع حجتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء قررت على نحو الاستبعاد أو قررت على أن تلاشي البدن يبطل شخصية الإنسان فينعدم ولا معنى لإعادة المعدوم فإن حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها بقول {أنا} وهي غير البدن والبدن تابع لها في شخصيته وهي لا تتلاشى بالموت ولا تنعدم بل محفوظة في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب والجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه .
وظهر بما تقدم أولا وجه اتصال قوله : {قل يتوفاكم} إلخ بقوله : {ء إذا ضللنا في الأرض} إلخ وأنه جواب حاسم للإشكال قاطع للشبهة ، وقد أشكل الأمر على بعض من فسر التوفي بمطلق الإماتة من غير التفات إلى نكتة التعبير بلفظ التوفي فتكلف في توجيه اتصال الآيتين بما لا يرتضيه العقل السليم .
وثانيا : أن الآية من أوضح الآيات القرآنية الدالة على تجرد النفس بمعنى كونها غير البدن أو شيء من حالات البدن .
قوله تعالى : {ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} نكس الرأس إطراقه وطأطأته ، والمراد بالمجرمين بقرينة ذيل الآية خصوص المنكرين للمعاد فاللام فيه لا تخلو من معنى العهد أي هؤلاء الذين يجحدون المعاد ويقولون : {أ إذا ضللنا في الأرض} إلخ .
وفي التعبير عن البعث بقوله : {عند ربهم} محاذاة لما تقدم من قوله : {بل هم بلقاء ربهم كافرون} أي واقفون موقفا من اللقاء لا يسعهم إنكاره ، وقولهم : {أبصرنا وسمعنا} ومسألتهم الرجوع للعمل الصالح لما ينجلي لهم أن النجاة في الإيمان والعمل الصالح وقد حصل لهم الإيمان اليقيني وبقي العمل الصالح ولذا يعترفون باليقين ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيتم لهم سببا النجاة .
والمعنى : ولو ترى إذ هؤلاء الذين يجرمون بإنكار لقاء الله مطرقوا رءوسهم عند ربهم في موقف اللقاء من الخزي والذل والندم يقولون ربنا أبصرنا بالمشاهدة وسمعنا بالطاعة فارجعنا نعمل عملا صالحا إنا موقنون والمحصل أنك تراهم يجحدون اللقاء ولو تراهم إذ أحاط بهم الخزي والذل فنكسوا رءوسهم واعترفوا بما ينكرونه اليوم وسألوا العود إلى هاهنا ولن يعودوا .
قوله تعالى : {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} إلى آخر الآية أي لو شئنا أن نعطي كل نفس أعم من المؤمنة والكافرة الهدى الذي يختص بها ويناسبها لأعطيناه لها بأن نشاء من طريق اختيار الكافر وإرادته أن يتلبس بالهدى فيتلبس بها من طريق الاختيار والإرادة كما شئنا في المؤمن كذلك فتلبس بالهدى باختيار منه وإرادة من دون أن ينجر إلى الإلجاء والاضطرار فيبطل التكليف ويلغو الجزاء .
وقوله : {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} أي ولكن هناك قضاء سابق مني محتوم وهو إملاء جهنم من الجنة والناس أجمعين وهو قوله لإبليس لما امتنع من سجدة آدم وقال : {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص : 84 ، 85] ، فقضى أن يدخل متبعي إبليس العذاب المخلد .
ولازم ذلك أن لا يهديهم لظلمهم وفسقهم بالخروج عن زي العبودية كما قال : {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة : 80] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم} إلى آخر الآية ، تفريع على قوله : {ولكن حق القول مني} والنسيان ذهول صورة الشيء عن الذاكرة ويكنى به عن عدم الاعتناء بما يهم الشيء وهو المراد في الآية .
والمعنى : فإذا كان من القضاء إذاقة العذاب لمتبعي إبليس فذوقوا العذاب بسبب عدم اعتنائكم بلقاء هذا اليوم حتى جحدتموه ولم تعملوا صالحا تثابون به فيه لأنا لم نعتن بما يهمكم في هذا اليوم من السعادة والنجاة ، وقوله : {وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} تأكيد وتوضيح لسابقه أي إن الذوق الذي أمرنا به ذوق عذاب الخلد ونسيانهم لقاء يومهم هذا أعمالهم السيئة .
_________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص203-206 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
الندم وطلب الرجوع :
تبدأ هذه الآيات ببحث واضح جلي حول المعاد ، ثمّ تبيّن وتبحث حال المجرمين في العالم الآخر ، وهي في المجموع تتمّة للبحوث السابقة التي تحدّثت حول المبدأ ، إذ أنّ البحث عن المبدأ والمعاد مقترنان غالباً في القرآن المجيد فتقول : إنّ هؤلاء الكفّار يتساءلون باستغراب بأنّنا إذا متنا وتحوّلت أبداننا إلى تراب وإندثرت تماماً فهل سوف نُخلق من جديد : {وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض أءِنّا لفي خلق جديد} .
إنّ التعبير بـ {ضللنا في الأرض} إشارة إلى أنّ الإنسان يصبح تراباً بعد موته كسائر الأتربة ويتفرّق هذا التراب نتيجة العوامل الطبيعية وغير الطبيعية ، ولا يبقى منه شيء حتّى يعيده الله سبحانه في القيامة مرّة اُخرى .
إلاّ أنّ هؤلاء ليسوا بمنكرين قدرة الله في الحقيقة {بل هم بلقاء ربّهم كافرون} إنّهم ينكرون مرحلة لقاء الله والحساب والثواب والعقاب لتبرير حرية العمل وليعملوا ما يريدون!
وهذه الآية تشبه كثيراً الآيات الاُولى من سورة القيامة التي تقول : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } [القيامة : 3 - 6]
بناء على هذا ، فإنّ هؤلاء ليسوا قاصرين من ناحية الإستدلال ، ولكن شهواتهم حجبت قلوبهم ، ونيّاتهم السيّئة منعتهم من قبول مسألة المعاد ، وإلاّ فإنّ الله الذي أعطى قطعة المغناطيس القوّة التي تجذب إلى نفسها ذرّات الحديد الصغيرة جدّاً والمتناثرة في طيّات أطنان من تراب الأرض من خلال جولة سريعة في تلك الأرض ، وتجمعها بكلّ بساطة ، هو الذي يجعل بين ذرّات بدن الإنسان مثل هذه الجاذبية المتقابلة .
من الذي يستطيع أن ينكر أنّ المياه الموجودة في جسم الإنسان ـ وأكثر جسم الإنسان ماء ـ وكذلك المواد الغذائية ، كانت ذرّاتها متناثرة في زاوية من العالم قبل ألف عام مثلا ، وكلّ قطرة في محيط ، وكلّ ذرّة في إقليم ، إلاّ أنّها تجمّعت عن طريق السحاب والمطر والعوامل الطبيعية الاُخرى ، وكوّنت الوجود الإنساني في النهاية ، فأي داع للعجب من أن تجتمع وترجع إلى حالها الأوّل بعد تلاشيها وتبعثرها؟!
وتجيب الآية هؤلاء عن طريق آخر ، فتقول : لا تتصوّروا أنّ شخصيتكم بأبدانكم وأجسامكم ، بل بأرواحكم ، وهي باقية ومحفوظة : {قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثمّ إلى ربّكم ترجعون} .
إذا لاحظنا أنّ معنى «يتوفّاكم» ـ من مادة «توفّي» (على وزن تصدّي) ، هو الإستيفاء ، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء ، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهمّ من وجود الإنسان .
صحيح أنّ القرآن يتحدّث عن المعاد الجسماني ، ويعتبر رجوع الروح والجسم المادّي في المعاد حتميّاً ، إلاّ أنّ الهدف من الآية أعلاه هو بيان أنّ هذه الأجزاء الماديّة التي شغلتم بها فكركم تماماً ليست هي أساس شخصيّة الإنسان ، بل الأساس هو الجوهر الروحي الذي جاء من قبل الله تعالى وإليه يرجع .
وفي المجموع يمكن أن يقال : إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب : إذا كان إشكالكم في تفرّق الأجزاء الجسمية ، فإنّكم تقرّون بقدرة الله سبحانه ولا تنكرونها ، وإذا كان إشكالكم في إضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر تناثر تلك الذرّات ، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصيّة الإنسان يستند إلى الروح .
وهذا الإيراد لا يختلف عن شبهة (الآكل والمأكول) المعروفة ، كما أنّ جوابه في الموردين يشبه جواب تلك الشبهة(2) .
وثمّة مسألة ينبغي التوجّه إليها ، وهي أنّ في بعض آيات القرآن نُسب التوفّي إلى الله سبحانه : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [الزمر : 42] وفي بعضها إلى مجموعة من الملائكة : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل : 28] وفي الآيات مورد البحث نسب قبض الأرواح إلى ملك الموت ، إلاّ أنّه لا منافاة بين هذه التعبيرات مطلقاً ، فإنّ لملك الموت معنى الجنس ، وهو يطلق على كلّ الملائكة ، أو هو إشارة إلى كبير الملائكة وزعيمها ، ولمّا كان الجميع يقبضون الأرواح بأمر الله سبحانه ، فقد نسب الفعل إلى الله عزّوجلّ .
ثمّ تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة ، فتقول : {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون} (3) .
ستعجب حقّاً! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم اُولئك المتكبّرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟! إلاّ أنّهم الآن يتغيّرون تماماً عند رؤية مشاهد القيامة ويصلون إلى مستوى الشهود ، لكنّ هذا الوعي وتغيير الموقف سريع الزوال ، فإنّهم ـ وطبقاً لآيات القرآن الاُخرى ـ لو رجعوا إلى هذه الدنيا لعادوا إلى حالتهم الاُولى ، الأنعام / الآية 28 .
«الناكس» من مادّة (نكس) على وزن (كلب) بمعنى إنقلاب الشيء ، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته .
تقديم «أبصرنا» على «سمعنا» لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلا ، ثمّ يسمع إستجواب الله والملائكة .
ويتبيّن ممّا قلناه أنّ المراد من «المجرمين» هنا الكافرون ، وخاصّة منكري القيامة .
وعلى كلّ حال ، فليست هذه المرّة الاُولى التي نواجه فيها هذه المسألة في آيات القرآن ، وهي أنّ المجرمين يندمون أشدّ الندم عند مشاهدة نتائج الأعمال والعذاب الإلهي ، ويطلبون الرجوع إلى الدنيا ، في حين أنّ مثل هذا الرجوع غير ممن في السنّة الإلهية ، كما أنّ رجوع الطفل إلى رحم الاُمّ ، والثمرة المقطوفة إلى الشجرة غير ممكن .
والجدير بالذكر أنّ طلب المجرمين الوحيد هو الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً ، ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ رأس مال النجاة الوحيد في القيامة هو الأعمال الصالحة . . تلك الأعمال التي تنبع من قلب طاهر مليء بالإيمان ، وتتمّ بخالص النيّة .
ولمّا كان كلّ هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز الله سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء ، فإنّ الآية التالية تضيف : {ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها} .
فمن المسلّم أنّ الله تعالى يمتلك مثل هذه القدرة ، إلاّ أنّ الإيمان الذي يتحقّق ويتمّ بالإجبار لا قيمة له ، ولذا فالمشيئة الإلهيّة أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختاراً ، وأن يسير في طريق التكامل بحريته وإختياره ، ولذلك تضيف في النهاية لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختاراً {ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين} .
أجل . . إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء إختيارهم ، ولذلك فهم مستحقّون للعقاب ، ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنّم منهم .
وبملاحظة ما قلناه ، وبملاحظة مئات الآيات القرآنية التي تعتبر الإنسان موجوداً مختاراً ذا إرادة ، ومكلّفاً بتكاليف ، ومسؤولا عن أعماله ، وقابلا للهداية بواسطة الأنبياء وتهذيب النفس وتربيتها ، فإنّ كلّ توهّم يبتني على أنّ الآية أعلاه دليل على الجبر ـ كما ظنّ ذلك الفخر الرازي وأمثاله ـ واضح البطلان .
ولعلّ الجملة الشديدة القاطعة أعلاه إشارة إلى أن لا تتصوّروا أنّ رحمة الله الواسعة تمنع من عقاب المجرمين الفسقة والظالمين ، وأن لا تغترّوا بآيات الرحمة وتعدّوا أنفسكم بمأمن من العذاب الإلهي ، فإنّ لرحمته موضعاً ، ولغضبه موضعاً .
إنّه عزّوجلّ سَيَفِي بوعيده حتماً ـ وخاصّة بملاحظة لام القسم في جملة (لأملأنّ) ونون التوكيد في آخرها ـ وسيملأ جهنّم من أصحابها هؤلاء ، وإن لم يفعل فذلك خلاف الحكمة ، ولذلك تقول الآية التالية : إنّا سنقول لأصحاب النار {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنّا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} .
مرّة اُخرى يستفاد من هذه الآية أنّ نسيان محكمة القيامة العادلة هو الأساس لكلّ تعاسة وشقاء للإنسان ، لأنّه سيرى نفسه في هذه الصورة حرّاً إزاء إرتكاب القبائح والظلم والعدوان .
وكذلك يستفاد من الآية بوضوح أنّ العقاب الأبدي للفرد معلول لما إرتكبه من أعمال في دار الدنيا ، لا لشيء آخر .
وضمناً يتّضح أنّ المراد من «نسيان الله» هو عدم رعايته ونصرته لهم ، وإلاّ فإنّ جميع العالم حاضر دوماً عند الله ، ولا معنى للنسيان بالنسبة له عزّوجلّ .
____________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص291-295 .
2 ـ لمزيد الإيضاح حول شبهة (الآكل والمأكول) وجوابها المفصّل راجع التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (260) من سورة البقرة .
3 ـ (لو) في الآية الشريفة شرطية ، شرطها جملة (وترى . .) وجزاؤها محذوف ، والتقدير : «ولو ترى إذ المجرمون . . . لرأيت عجباً» . وفي جملة (ربّنا أبصرنا) حذف تقديره : يقولون ربّنا أبصرنا .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|