أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-03-2015
4681
التاريخ: 26-09-2015
5584
التاريخ: 22-03-2015
9625
التاريخ: 22-03-2015
2008
|
يوجد في الكتب العربية، على اختلاف موضوعاتها وفنونها، شعر كثير، بعضه جاهلي.. ولو قصرنا حديثنا على ما ألف منها في القرنين الثاني والثالث واستخرجنا ما تفرق في صفحاتها من شعر جاهلي وحده، ثم جمعناه معًا، لجاء كثيرًا غزيرًا بحيث يملأ أسفارًا عدة، ومن هنا كانت هذه الكتب جديرة بأن نقف عندها وقفة قصيرة، نختم بها حديثنا عن مصادر الشعر الجاهلي. وإذ كنا نرى أن هذه الكتب ليست مصدرًا أوليًّا من مصادر الشعر الجاهلي -على ما سنبينه بعد قليل-فلم نر ما يدعونا إلى الإحاطة بها كلها والاستقصاء في بحثها، وإنما بحسبنا نماذج قليلة ندل بها على طريقة هذه الكتب في إيراد الشعر الجاهلي، ونخلص منها إلى ما نريد من نتائج تتصل بموضوعنا الأصيل.
وقد اخترنا من كتب النحو كتاب سيبويه، ومن كتب اللغة كتابي يعقوب بن السكيت: "إصلاح المنطق" و"تهذيب الألفاظ".
أما كتاب سيبويه فقد كان أول ما استوقفنا فيه ما ذكره أبو عمر الجرمي من قوله(1): "نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فعرفت أسماء قائليها، وأما الخمسون فلم أعرف قائليها". ثم جاء عبد القادر البغدادي فأورد قول الجرمي هذا وذكر ما يوضحه قال(2): "فإن سيبويه إذا استشهد ببيت لم يذكر ناظمه، وأما الأبيات المنسوبة في كتابه إلى قائليها فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها أبو عمر الجرمي... وإنما امتنع سيبويه من تسمية الشعراء لأنه كره أن يذكر الشاعر، وبعض الشعر يُروى لشاعرين وبعضه منحول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به. وفي كتابه شيء مما يُروى لشاعرين، فاعتمد على شيوخه ونسب الإنشاد إليهم فيقول: أنشدنا، يعني الخليل؛ ويقول: أنشدنا يونس، وكذلك يفعل فيما يحكيه عن أبي الخطاب وغيره ممن أخذ عنه. وربما قال: أنشدني أعرابي فصيح. وزعم بعض الذين ينظرون في الشعر أن في كتابه أبياتًا لا تعرف؛ فيقال له: لسنا ننكر أن تكون أنت لا تعرفها ولا أهل زمانك، وقد خرج كتاب سيبويه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه أكيدة، ونظر فيه وفتش فما طعن أحد من المتقدمين عليه، ولا ادعي أنه أتى بشعر منكر، وقد روى في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفة جميع ما فيها لا رووا حرفًا منها".
وكلام البغدادي -على ما فيه من فائدة وغناء-غير ملزم للجرمي، ولا يفهم بالضرورة من كلامه الذي أوردناه. فكلام الجرمي لا يفيد أن سيبويه لم ينسب شيئًا من أبياته التي استشهد بها، وكل ما ذكره الجرمي أنه وجد في كتاب سيبويه ألفًا وخمسين بيتًا، عرف أسماء قائلي ألف منها فأثبتها، ولم يعرف أسماء قائلي الخمسين الباقية. وهذا القول يحتمل أن يكون سيبويه قد عزا بعض هذه الأبيات الألف إلى قائليها ثم جاء الجرمي ونسب ما لم ينسبه سيبويه. ويحتمل أيضًا أن سيبويه لم يعز شيئًا منها وإنما الفضل في نسبتها إلى الجرمي. ولا سبيل إلى ترجيح أحد هذين الاحتمالين من كلام الجرمي وحده. ولكن البغدادي قطع قطعًا يقينيًّا بأن سيبويه لم يعز شيئًا من أبياته وإنما كان الجرمي هو الذي عزاها. ثم مضى البغدادي فعلل لنا امتناع سيبويه من تسمية الشعراء.
فإذا عدنا نحن إلى كتاب سيبويه وجدنا فيه نحو تسعمائة وخمسة وأربعين بيتًا، تكرر منها بعضها مرة أو مرتين في نحو مائة وخمسة مواضع، فيكون بذلك مجموع الأبيات التي استشهد بها ألفًا وخمسين بيتًا مع المكرر منها. وقد تتبعنا الأبيات التي لم تُعز إلى قائل فوجدنا أنها نحو من مائتي بيت وسبعين بيتًا. فكان لابد لنا أن نتساءل هل معنى ذلك أن سيبويه قد نسب نحو ثمانين وسبعمائة بيت إلى قائليها، ثم جاء أبو عمر الجرمي فتتبع الأبيات التي لم ينسبها سيبوبه فاستطاع أن ينسب منها نحو عشرين ومائتي بيت، فيكون بذلك قد عرف نسبة ألف بيت وعجز عن معرفة قائلي الخمسين الباقية؟
ولقد كان من الجائز أن نجيب عن هذا التساؤل بالإثبات، وأن نقبل هذه النتيجة التي وصلنا إليها عن طريق العد والإحصاء لولا شكنا في أصالة النسخة الخطية التي طبع عنها كتاب سيبويه. فقد رأينا في هذه الطبعة من الكتاب مواضع كثيرة تجعلنا نقطع بأن نسخته الخطية ليست النسخة الأصلية التي كتبها سيبويه، وإنما أضيف إليها وأقحم عليها من أقوال تلاميذه ومَنْ بعدهم ممن رووا هذا الكتاب ما لا يجوز بحال أن يكون من أقوال سيبويه نفسه، وخاصة في نسبة الشعر والتعقيب عليه. فمن ذلك ما جاء في صلب الكتاب(3) "واعلم أنه ليس شيء من هذا يمتنع من أن يجمع بالتاء، وزعم الخليل أن قولهم ظريف وظروف لم يكسر على طريف كما أن المذاكير لم تكسر على ذكر. وقال أبو عمر أقول في ظروف هو جمع ظريف، كسر على غير بنائه وليس مثل مذاكير، والدليل على ذلك أنك إذا صغرت قلت ظُرَيِّفُون ولا تقول ذلك في مذاكير". وأبو عمر هذا هو أبو عمر الجرمي، وواضح أنه ممن لم يرو عنهم سيبويه فقد "أخذ أبو عمر النحو عن الأخفش وغيره، وقرأ كتاب سيبويه على الأخفش ولقي يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه.."(4) ومات سنة خمس وعشرين ومائتين(5). فإذن كان جميع ما قاله أبو عمر في هذه العبارة مقحمًا على كتاب سيبويه.
ومن ذلك أيضًا ما جاء في الكتاب من قوله(6): "وقد جاء في الشعر، فزعموا أنه مصنوع"، ثم استشهد ببيتين من الشعر. ونحن نرجح أن قوله "فزعموا أنه مصنوع" مما أضيف على الكتاب وليس في أصله. ومما يجعلنا نرجح ذلك أن المبرد قال عن هذين البيتين(7): "وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة، وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة". ولو رأى المبرد في أصل الكتاب قوله "فزعموا أنه مصنوع" لما قال ما قال، أو لكان على الأقل أشار إليه. وهذا أبو جعفر النحاس قد وفعت بين يديه نسخة من الكتاب أضيفت إليها هذه العبارة فظن أنها من الأصل ولذلك قال يرد على المبرد(8): "وهذا لا يلزم سيبويه منه غلط؛ لأنه قد قال نصًّا: وزعموا أنه مصنوع. فهو عنده مصنوع لا يجوز، فكيف يلزمه منه غلط؟".
ونحن نرى أن كلام أبي جعفر النحاس مردود لأنه لو كان البيت عند سيبويه مصنوعًا لا يجوز لما استشهد به.
ومما نرجح ترجيحًا يقرب إلى اليقين أنه مضاف إلى الكتاب مقحم عليه قوله يستشهد(9): وقال وهو مصنوع على طرفة وهو لبعض العباديين:
أسعد بن مال ألم تعلموا وذو الرأي مهما يقل يصدق
ونحن نرى أن الأصل: "وقال: البيت..." أما عبارة "وهو مصنوع على طرفة وهو لبعض العباديين" فمما زيد على الكتاب بعدُ. ومن أوضح الأمثلة على الزيادة والإقحام أيضًا قوله(10): "وقال الآخر "ويقال وضعه بعض النحويين".
فإذا كانت الأمثلة التي أوردناها مما زيد على الكتاب، فإننا نرى أن كثيرًا من نسبة الشعر قد استحدثت بعد سيبويه وأضيفت إلى كتابه، وجاءت في هذه الطبعة كأنها من الأصل، وإن وضعت أحيانًا بين قوسين. فمن ذلك(11) "وقال أيضًا.. وهو الشماخ" و"قول الشاعر وهو مقاس العائذي"(12) و"قول الشاعر وهو كعب بن جعيل"(13) و"قول الشاعر وهو أبو ذؤيب"(14) و"قال الشاعر بشر بن أبي خازم"(15). والأمثلة على ذلك كثيرة لا مجال لاستقصائها. غير أن من أوضح الدلائل التي قد تجعل الباحث يرجح ما ذهب إليه البغدادي في خزانته من أن سيبويه لم ينسب الشعر الذي استشهد به في كتابه ما جاء في الكتاب(16): "وقال المرار الأسدي" ثم يورد بيتين ويقول: "حدثنا به أبو الخطاب عن شاعره". ونحن نرجح أن كلمتي "المرار الأسدي" مضافتان، وأنه اكتفى بقوله "وقال" ثم أرود البيتين، وأسند الرواية إلى أبي الخطاب عن الشاعر الذي لم يسمه، ولو كان من منهجه أن يعزو الشعر إلى قائله لقال "حدثنا به أبو الخطاب عن المرار الأسدي".
ونحن نرى ألا سبيل إلى القطع الجازم في هذا الأمر إلا إذا عثرنا على النسخة الخطية الأصلية التي كتبها سيبويه أو رواها عنه أحد تلاميذه ولم يضف إليها شيئًا. ومع ذلك فإنه سيان عندنا -في هذا البحث- أن يكون سيبويه قد أهمل نسبة جميع الشعر الذي أروده أو أهمل نسبة بعضه، فإن ما نريد أن نستنتجه من كتابه هو أن الشعر لم يكن عنده إلا وسيلة للاستشهاد أو الاستئناس، ومن هنا لم يكن هذا الشعر غاية يقصد إليها فينص على نسبته إلى قائله وتحقيق هذه النسبة، وإنما كان يكفيه أن يكون هذا الشعر من القديم الذي يصح أن يستشهد به على لغة العرب. ولا عليه بعدُ أن يكون قائله امرأ القيس أو طرقة أو عبيدًا أو رجلًا غير معروف من إحدى القبائل العربية. ومن أجل هذا نجد في الكتاب شعرًا غير منسوب إلى شاعر بعينه بل إلى رجل من القبيلة، ففيه: "وقال رجل من باهلة"(17)، و"قال بعض السلوليين"(18)، أو "قال رجل من بني سلول"(19)، و"قال الهذلي"(20)، و"قال القرشي"(21)، و"قول رجل من عمان"(22)، و"قال رجل من قيس غيلان"(23)، وغيرها كثير.
أما كتابا ابن السكيت: إصلاح المنطق، وتهذيب الألفاظ، فإنهما لا يكادان يختلفان عن كتاب سيبويه فيما عرضنا من أمور. ففي الكتابين إضافات وإقحام وضع بعضها بين علامتين مميزتين، وأرسل بعضها إرسالًا يوهم أنها من أصل الكتاب. ومع ذلك ففي الكتابين شعر كثير غير معزو إلى قائله، وإنما اكتفى ابن السكيت بقوله "قال الشاعر"(24)، أو "قال الآخر"(25)، أو "قال الراجز"(26)، أو "قال"(27). ربما أسند إلى من روى عنه مع إهمال النسبة إلى الشاعر مثل "أنشد أبو زيد"(28)، أو "أنشد الأصمعي"(29)، أو "أنشد الكسائي"(30)، أو "أنشدني ابن الأعرابي"(31)، وربما أورد البيت منسوبًا مرة وأهمل نسبته مرة أخرى(32).
وكما ورد في كتاب سيبويه شعر معزو إلى رجل من إحدى القبائل العربية مع إغفال النص على الشاعر نفسه، كذلك ورد مثل ذلك في "إصلاح المنطق" و"تهذيب الألفاظ"؛ مثل "قال الهذلي"(33)، أو "قال الأسدي"(34) أو "قال رجل من ربيعة"(35)، وغيرها كثير.
والناظر في كتب النحو واللغة في القرنين الثاني والثالث يجد أنها كلها تسير على هذا النهج، وقد قدمنا أننا سنستغني عن الإحاطة بها واستقصائها -بالبحث في هذه الكتب الثلاثة وحدها إذ أنها تدل على غيرها.
وخلاصة بحثنا هذا أن الشعر عامة ومنه الشعر الجاهلي لا يعدو أن يكون في كتب النحو واللغة وسيلة للاستشهاد والاحتجاج، ومن هنا أهملت نسبة الكثير منه إلى قائله، أو نُصَّ على نسبة البيت إلى رجل غير مسمى من إحدى القبائل العربية، ولذلك فنحن نرى أن كتب النحو واللغة وسيلة مصدرا أوليًّا من مصادر الشعر الجاهلي التي تثبت بها نسبة البيت أو الأبيات إلى شاعر بعينه.
وأمر الشعر الجاهلي في كتب السيرة والتاريخ لا يكاد يختلف -في جوهره-عما قدمنا من حديث عن كتب النحو واللغة. ولو أننا قصرنا حديثنا على كتاب واحد هو ما حفظه لنا ابن هشام من السيرة التي صنعها محمد بن إسحاق لوجدنا فيه شعرًا كثيرًا جديرًا بالبحث والدرس، وأول ما يبدو لنا من شأنه أن محمد بن إسحاق لم يكن أول من أدخل الشعر فيما يروي من أخبار، بل لقد سبقه إلى ذلك كل من كتب في السيرة قبله، مثل: عروة بن الزبير، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وابن شهاب الزهري، وغيرهم؛ فإن الأخبار التي تروى عنهم تدل على أنهم كانوا من رواة الشعر وحفاظه ومتذوقيه، وما بقي لنا من آثار السيرة التي كتبوها -متفرقة في مواطن عدة من كتب التاريخ والسيرة- يدل على أنهم كانوا يوردون في كتبهم الأشعار التي قالها الرجال الذين يدر ذكرهم في حوادث السيرة(36). وقد مر بنا في فصل مضى أن السيرة والتاريخ والقصص عامة كانت مجالًا واسعًا للاستشهاد بالشعر، بل لقد كان الشعر ضرورة لازمة لها يزينها ويكسبها ثقة وقوة في نفوس المستمعين والقارئين، كأنما كان الشعر دليلًا على صدق ما يروى من خبر، حتى لقد رووا أن معاوية بن أبي سفيان طلب من عبيد بن شرية -حينما كان يقص عليه أخباره المتضمنة في كتاب "أخبار عبيد بن شرية"-أن يورد في أخباره وقصصه كل ما يتصل من شعر وقال له(37): "وسألتك ألا تمر بشعر تحفظه فيما قاله أحد إلا ذكرته". ومع أن عبيدًا كان لا يقصر في الاستشهاد بالشعر، فقد عاد معاوية يلحف عليه بقول(38): "سألتك إلا شددت حديثك ببعض ما قالوا من الشعر ولو ثلاثة أبيات!"، وحينما ذكر عبيد أن يعرب كان يقول الشعر قال له معاوية(39): "اذكر الشعر الذي قال يعرب"، وكان معاوية كلما سمع الشعر الذي قيل في إحدى الحوادث اطمأن إلى صحة الخبر وقال لعبيد(40): "لقد جئت بالبرهان في حديثك يا عبيد"، أو "لله درك فقد جئت بالبرهان"(41). ونحن لا يعنينا من كل ذلك تحقيق هذه الأخبار والأقوال، وإنما نريد أن نقول إن الاستشهاد بالشعر في التاريخ عامة والقصص التاريخية خاصة كان من مألوف عادة القوم منذ أقدم ما نعرف من آثارهم.
وقد استتبع ذلك أن بعض القصاصين كانوا يجتلبون الشعر اجتلابًا ليضعوه في المكان المناسب له من قصصه، ويطلبون المصنوع ليكثروا به الأحاديث ويستعينوا به على السهر عند الملوك، والملوك لا تستقصي(42)، أو عند عامة الناس وهم أقل استقصاء وتدقيقًا.
ولم يكن جميع كتَّاب السيرة والتاريخ ممن يجتلبون المصنوع اجتلابًا ويطلبون من يصنعه لهم ويضعه، ولكنهم -مع ذلك-اتفقوا جميعًا في إيراد شعر موضوع كثير، بعضهم يعمد إليه عمدًا لما قدمنا من أسباب، وبعضهم يجد هذا الشعر أمامه مرويًّا أو مدونًا، فيضطر إلى الوفاء بواجبه وهو الجمع والتأليف، من غير تحقيق لصحة الشعر ونسبته، ويعتذر في ذلك -حينما يلام عليه-بأنه لا علم له بالشعر وإنما جمع منه ما وجده أمامه أو ما رُوي له.
من هذا الضرب الثاني محمد بن إسحاق صاحب السيرة. فقد كان مشهودًا له بالعلم بالمغازي والسيرة حتى قال عنه ابن سلام(43): "كان من علماء الناس بالسير"، وقال الزهري(44) "لا يزال في الناس علم ما بقي مولى آل مخرمة، وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك". ومع ذلك فإنه لم يكن له علم بالشعر، وكان يعتذر عن الأشعار التي أوردها في سيرته بقوله(45): "لا علم لي بالشعر، أوتَى به فأحمله"، ولم يقبل منه ابن سلام هذا العذر، وذلك لأنه: "كتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة... أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين؟.. فكأن ابن سلام كان يفترض أن هذا القدر من التمييز والعلم بالشعر مما لا يجوز لأحد من العلماء أن يجهله. ومن أجل ذلك نرى في أحكام ابن سلام على ابن إسحاق شيئًا من القسوة والتعميم فهو يقول(46): "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه: محمد بن إسحاق". وقال(47): "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحق، ومثل ما رواه الصحفيون، ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم". وقال أيضًا في معرض حديثه عن أبي سفيان بن الحارث(48): "ولسنا نعد ما يروي ابن إسحاق له ولا لغيره شعرًا، ولأن لا يكون لهم شعر، أحسن من أن يكون ذاك لهم".
ومع ذلك كله فإن الأمر في حاجة إلى التقييد بعد هذا الإطلاق الذي ذهب إليه ابن سلام في أمر الشعر الذي أورده ابن إسحاق. فإذا ما عرضنا الشعر الذي أورده ابن إسحاق في سيرته -وبقي لنا بعد تهذيب ابن هشام-وجدنا أن الشعر عنده على ثلاثة ضروب:
الأول: الشعر الذي لا خلاف في أنه موضوع مصنوع، وهو الذي نُسب إلى آدم وإسماعيل والأمم القديمة والعرب البائدة. وليس في السيرة التي بين أيدينا إلا القليل منه، وإن كان قسم كبير منه قد حفظ في كتب التاريخ مرويًّا عن ابن إسحاق، وذلك لأن ابن هشام قد حذف هذا القسم في تهذيبه للسيرة ونص على ذلك في مقدمته(49). ومع ذلك فإن الأمثلة التي بقيت في السيرة من هذا القسم تدل على أن ابن إسحاق نفسه لم يكن يثق في صحة هذه الأشعار بل في صحة الأخبار نفسها، ولكنه وجدها أمامه مدونة أو مروية، فأثبتها كما قرأها أو سمعها. وكان يذكر من العبارات ما يبرئ به نفسه من تبعتها، فهو مثلًا حين يذكر خبر انتشار النصرانية في نجران ينص على أن "هذا حديث محمد بن كعب القرظي، وبعض أهل نجران"(50) عن ذلك، فليس عليه إذن من تبعته شيء وإنما هو يرويه كما سمعه، وكأنه يؤكد براءته من هذه التبعة بقوله بعد ذلك "والله أعلم أي ذلك كان". وهو يذكر خبر سامة بن لؤي ثم يورد له شعرًا قاله حين أحس بالموت، ولكنه لا يتحمل تبعته، ومن هنا ذكر أن سامة قال ذلك الشعر "فيما يزعمون"(51). ويورد رجزًا لثعلبة بن سعد بن ذبيان فيقيده أيضًا بهذا القيد نفسه قال(52): "وثعلبة -فيما يزعمون-الذي يقول لعوف حين أبطئ به فتركه قومه".
ويروي رجزًا للغوث بن مر، ويحتاط لنفسه فيقول(53): "فيما زعموا". ويورد خبر عثور بعض الناس على حجر في الكعبة قبل الإسلام بأربعين سنة مكتوب عليه بعض الحكم، فيدخل بين الكلام قيده الذي يقيد به مثل هذا الروايات فيقول(54): "وزعم ليث بن أبي سليم... إن كان ما ذكر حقًّا..". فكأن ابن إسحاق يرى -بمثل هذا الاحتياط الذي كان يصطنعه-أن هذه الأخبار والأشعار أصبحت من التراث المروي، وأن لا سبيل إلى البحث العلمي في صحتها وصدق نسبتها، بل لو كان إلى ذلك سبيل، فليس هو ذلك الرجل الذي يضطلع بهذا العبء، فهو ليس عالمًا بالشعر؛ على حفظه له وروايته إياه -وليس من عمله أن يحققه ويمحصه؛ وإنما عمله في أن يورد الأخبار إيرادًا، ويسرد الروايات سردًا، ويزين كل خبر بما يستطيع أن يعثر عليه من شاهد شعري. وكل ما يستطيع أن يأخذ به نفسه في مثل هذا الموضوع هو أن ينثر في حديثه مثل هذه العبارات التي قدمناها كقوله "فيما يزعمون"، أو "إن صح ما قالون"، ليبرئ نفسه من تبعة ما يروى.
الثاني: أما القسم الثاني من الشعر الذي تضمنته السيرة فهو الذي قيل قُبيل البعثة أو في السنوات الأولى منها، فهو بذلك أقرب إلى الصحة، بل إن بعضه صحيح لا شك فيه وإن اختلف بعض الرواة في نسبته. وهنا يتجلى لنا أيضًا حذر ابن إسحاق وحيطته، وتبرؤه من التبعة، فكأنه يريد أن يؤكد المعنى الذي لمحناه في القسم الأول وهو أنه ليس من علماء الشعر المحققين له، وإنما يروي منه ما وجده أمامه وينقل ما نقله إليه غيره. ولذلك نراه يتبع إحدى طريقتين في هذا القسم من الشعر؛ الأولى: أنه يستعمل القيود نفسها التي استعملها في القسم الأول، فهو ينقل الخبر أو الشعر ويبدؤه أو يعقب عليه بقوله "فيما يزعمون"(55)، أو "كما يذكرون"(56)، أو "فزعم بعض أهل الرواية"(57)، أو "فهذا الذي بلغني من هذا الحديث"(58)، أو "فهذا حديث الرواة من أهل المدينة"(59) أو ما شاكل هذه العبارات. وأما الطريقة الثانية التي اتبعها في هذا القسم من الشعر فهي نسبة الشعر إلى شاعر بعينه والتعقيب على ذلك بأنها قد تروى لغيره. فمن ذلك أنه يورد شعرًا نسبه إلى أبي بكر الصديق ثم يقول(60) "ويقال: بل عبد الله بن جحش قالها". ويورد شعرًا آخر ويقول(61): "فقال عبد الله بن رواحة أبو خيثمة". ويقول(62): "وكان مما قيل في بني النضير من الشعر قول ابن لقيم العبسي، ويقال: قاله قيس بن بحر بن طريف". ويقول(63): "وقال قائل من بني جذيمة، وبعضهم يقول امرأة يقال لها سلمى" ثم يقول: "فأجابه عباس بن مرداس، ويقال بل الجحاف بن حكيم السلمي".
الثالث: وأما القسم الثالث من الشعر الذي أورده ابن إسحاق في السيرة فهو هذه الأبيات المجاهيل والقصائد التي لا يعرف اسم قائلها أو لا ينص عليه؛ ومع أن القسمين الأولين واضحا الدلالة على ما نذهب إليه في أمر الشعر الجاهلي الذي يرد في مثل هذه الكتب، فإن هذا القسم أوضح منهما دلالة لأنه يصلنا بكثير من الشعر الذي ورد في بحثنا عن كتب اللغة والنحو والذي سيرد في بحثنا عن كتب الأدب عامة. ووجه الدلالة في هذا القسم أن قائل الشعر أو تحقيق نسبته ليس من الأمور التي يشغل بها المؤرخ أو كاتب السيرة نفسه، كما لم يشغل بها نفسه اللغوي أو النحوي. فبحسب المؤرخ أو كاتب السيرة أن يجد شعرًا قيل في حادثة من الحوادث أو في رجل من الرجال الذين يذكرهم حتى يسارع إلى إيراده في كتابه، وليس يعنيه بعد ذلك شيء، فقد كفاه أن يجد ما يزين قصته أو يؤيد الخبر الذي ذكره. ومن أجل هذا نرى ابن إسحاق في سيرته يورد شعرًا "لشاعر من العرب"(64)، أو "رجل من العرب"(65)، أو "شاعر من قريش أو من بعض العرب"(66)، أو "قال قائل من العرب"(67)، أو "فقالت امرأة من العرب"(68)، أو "قال رجل من بني جذيمة"(69)، أو "قال الآخر"(70). وأكثر هذا الشعر الذي لا ينص ابن إسحاق على قائله هو ما قيل في رجل من الرجال الذين يرد ذكرهم في السيرة. فيذكر مثلًا جرير بن عبد الله البجلي، فيريد أن يزيده تعريفًا بقوله(71): "وهو الذي يقول له القائل"، ويذكر هاشم بن حرملة فيقول(72): وهو "الذي يقول له القائل"، ويعرف سعد بن سيل بقوله(73): "ولسعد بن سيل يقول الشاعر"، ويذكر أبا سيارة عُميلة بن الأعزل بقوله(74): "ففيه يقول شاعر من العرب"، ويذكر المطلب ووفاته فيقول(75): "فقال رجل من العرب يبكيه"؛ ومثل ذلك كثير.
فنحن نرى إذن أن الشعر في كتب التاريخ والسيرة ليس هدفًا يقصد لذاته، ولم يكن موضعًا للتحقيق والتمحيص، وإنما كان حلية أحيانًا، ودليلًا على القصة أو الخبر أحيانًا أخرى، وكان في جميع هذه الأحايين يُقصد منه التأثير في نفوس السامعين أو القارئين حتى يندمجوا في جو الحوادث نفسها وتصغو إليها أفئدتهم فيصدقوها، أو على الأقل لا يناقشوا أمر صحتها. ومن أجل هذا رأينا أصحاب التاريخ أو السيرة يروون شعرًا لا يكاد يشك أحد في انه مختلق موضوع، بل إنهم هم أنفسهم -كما رأينا في سيرة ابن إسحاق-يشكون في هذا الشعر، ويوردونه بعد عبارات تكشف عن بعض هذا الشك، ولكنهم مع ذلك لا يملكون إلا أن يوردوه لأنه -كما ذكرنا-أصبح تراثًا شعبيًّا، وأصبح لا مفر للمؤرخ من أن يجمعه ويورده مع كل حادثة قيل فيها. ومن أجل هذا وجدنا أيضًا أن بعض الشعر الذي ورد في كتب التاريخ والسيرة أرسل إرسالًا، ولم ينسب إلى شاعر،
أو لم ينص على نسبته لشاعر، وذلك لأن ما يعني المؤرخ أو كاتب السيرة هو هذا الشعر نفسه وأنه قيل في حادثة بعينها أو في رجل بذاته، أما تحقيق نسبة الشعر فليس مما يصرفون إليه جهدهم.
وما أحسبني بعد ذلك مغاليًا إذا ضممت كتب التاريخ أو السيرة إلى كتب اللغة والنحو ولم أعدها كلها مصدرًا من مصادر الشعر الجاهلي يطمأن فيه إلى صحة ذلك الشعر الوراد فيه أو إلى نسبته إلى شاعر بعينه.
وكتب الأدب العامة لا تختلف، في طريقة إيراد الشعر، عن كتب النحو واللغة والسيرة والتاريخ، ولو اقتصرنا في حديثنا على كتابين من كتب الجاحظ هما: البيان والتبيين، والحيوان، لوجدنا فيها مصداق ما نذهب إليه.
فالجاحظ -شأنه كشأن جميع من ألف في الأدب العام-لا يورد الشعر على أنه غاية تقصد لذاتها، فلا يكلف نفسه مشقة تمحيصه وتحقيقه والتثبت من نسبته وروايته، وإنما يورد الشعر ليكون مثلًا أو شاهدًا يتوسل بهما لتوضيح ما يسوق من أخبار، أو لدعم ما يذهب إليه من مناظرات ومناقشات. ومن أجل ذلك نراه -حين يذكر عادات العرب في الخطابة ويرد على الشعوبية في ذلك-يقول(76): "وفي كل ذلك قد روينا الشاهد الصادق والمثل السائر". وحين يتحدث عن أنواع الشعراء وطبقاتهم، يورد على كل نوع وطبقة بيتًا أو أبياتًا من الشعر فيها ذكر لهذه الأنواع والطبقات أو لبعضها متخذًا من هذا الشعر دليلًا على صدق قوله(77) والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، بل إننا لنكاد نذهب إلى أن جميع ما أورده الجاحظ في كتابيه هذين إنما ينهج فيه هذا النهج.
وإذا كان الجاحظ ومؤلفو كتب الأدب العامة يشتركون مع مؤلفي كتب النحو واللغة والسيرة والتاريخ في هذه الخاصة وهي: إيراد الشعر على أنه دليل أو شاهد، فإن الجاحظ ومع مؤلفو كتب الأدب العامة ينفردون عن مؤلفي الكتب التي ذكرناها بخاصة أخرى، وهي: أنهم لا يرمون من وراء كتبهم التي يؤلفونها في الأدب العام إلى الفائدة العلمية وحدها، ولا يقتصرون فيها على التعليم والتثقيف وحدهما، أو قل إنهم لا ينهجون فيما ينقلون من العلم نهج الأسلوب العلمي الجاف الذي يرمي إلى القارئ بالقول من أقرب السبل، وإنما ينهجون في ذلك نهج الأسلوب الأدبي، ويلجئون إلى الاستطراد والتنويع والتنقل من باب إلى باب، ومن موضوع إلى موضوع، ثم يعودون إلى ما بدءوا به، ولا يكادون يمضون فيه قليلًا حتى يتجاوزوه إلى حديث آخر. فهم بذلك يجمعون بين التعليم والتسلية، وبين التثقيف والإمتاع. ومن كان هذا شأنه لا يعنيه أن يقف عند موضوع بعينه وقفة طويلة يستغرق فيها جميع أطرافه، وليس من شأنه أن يأخذ نفسه ويأخذ القارئ بالتحقيق والتمحيص. ومن أجل هذا نرى الجاحظ حريصًا على أن يوضح طريقته هذه توضيحًا لا لبس فيه فيقول(78): "وقد ذكرنا من مقطعات الكلام وقصار الأحاديث بقدر ما أسقطنا به مئونة الخطب الطوال. وسنذكر من الخطب المسندة إلى أربابها مقدارًا لا يستفرغ مجهود من قرأها، ثم نعود بعد ذلك إلى ما قصر منها وخف". ويقول أيضا(79): "هذا -أبقاك الله-الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الأحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة والنتف المستخرجة، والمقطعات المتخيرة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة، والجوابات المنتخبة". ويقول(80): "كانت العادة في كتب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار، لما ذكرت عجبك بذلك..."
ويعلل الجاحظ اتباعه هذه الطريقة بقوله(81): "وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يداوي مؤلفه نشاط القارئ له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال له، فمن ذلك أن يخرجه من شيء إلى شيء ومن باب إلى باب... ونقصد من ذلك إلى التخفيف والتقليل، فإنه يأتي من وراء الحاجة، ويعرف بجملته مراد البقية". ويقول بعد أن يورد بعض الأخبار والنوادر(82): "فجعلنا بعضها في باب الاتعاظ والاعتبار وبعضها في باب الهزل والفكاهة. ولكل جنس من هذا موضع يصلح له. ولا بد لمن استكده الجد من الاستراحة إلى بعض الهزل".
ومن كانت هذه غايته، كان خليقًا أن يجمع بين دفتي كتابه ما يحقق له هذه الغاية، يستوي عنده في ذلك الخبر الصحيح والزائف، والشعر الثابت والمشكوك فيه والموضوع، وربما أورد من الأخبار والأشعار ما يعرف يقينًا زيفها ووضعها، ولكنه يسوقها لأنه يستحسنها أو لأن فيها نادرة تناسب ما قبلها. فمن ذلك أن الجاحظ يورد خبرًا فيه شعر ثم يقول(83): "وأخلق بهذا الحديث أن يكون مولدًا، ولقد أحسن من ولده".
ومن أجل هذا كله نرى الجاحظ لا يكلف نفسه مشقة التثبت والتمحيص، والرجوع إلى ما بين يديه من كتب ومصادر، وإنما يرتجل القول ارتجالًا، ويسوقه في كثير من التجاوز والتسامح، ويدفعه إلينا كما ورد في خاطره ساعة كتابته أو إملائه، فهو يورد بيتًا من الشعر ثم يقول(84): "وهي أبيات لم أحفظ منها إلا هذا البيت". ويقول أيضًا في باب الخطب(85): "وخطبة أخرى ذهب عني إسنادها". ويقول(86): "وإذا صرنا إلى ذكر الخطباء والنسابين ذكرنا من كلام كل واحد منهم بقدر ما يحضرنا". ويقول بلسان صاحب الكلب وهو يرد على صاحب الديك(87): "لعلنا إن تتبعنا ذلك وجدناه كثيرًا، ولكنك تقدمت في أمر ولم تشعر بالذي تعني فنلتقط من الجميع أكثر مما التقطت... وما حضرنا من الأشعار إلا قوله...".
ولم يكن ارتجال الجاحظ للكلام، ولا إلقاؤه إياه كما حضره في ذاكرته، عن قلة الكتب التي بين يديه، وإنما كان ذلك لأن طريقة التأليف في مثل كتب الأدب العامة لا تستدعي التثبت والتحقيق والرجوع إلى المصادر كما بينا في مواطن كثيرة في هذا الفصل. وإلا فقد عُرف الجاحظ بكثرة ما لديه من كتب وبكثرة ما قرأه واطلع عليه منها، حتى لقد قال أبو هفان(88): "ثلاثة لم أر قط ولا سمعت أحب إليهم من الكتب والعلوم: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي. فأما الجاحظ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويثبت فيه للنظر..." بل إن في كتابيه هذين ذكرًا لبعض الكتب التي استمد منها بعض ما فيها من أخبار وخطب وأشعار(89).
ومع كل ذلك فقد نثر الجاحظ في كتابيه إشارات متفرقة عبر بها عن شكه فيما أورد من شعر، وهو شك قد يوهم بالتحقيق والتمحيص، ولكن السياق الذي ورد فيه هذا الشك سياق له دلالة خاصة، فالجاحظ مثلًا يورد بيتًا من الشعر ثم يقول(90): "فخبرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبيات أخر كان أسامة صاحب روح بن أبي همام هو الذي كان ولدها. فإن اتهمت خبر أبي إسحاق فسم الشاعر، وهات القصيدة، فإنه لا يقبل في مثل هذا إلا بيت صحيح، صحيح الجوهر، من قصيدة صحيحة لشاعر معروف". ويورد بيتًا لأوس بن حجر ثم يقول: "وهذا الشعر ليس يرويه لأوس إلا من لا يفصل بين شعر أوس بن حجر وشريح بن أوس". ويورد بيتًا لبشر بن أبي خازم ويقول(91): "وقد طعنت الرواة في هذا الشعر الذي أضفتموه إلى بشر بن أبي خازم... وقالوا: في شعر بشر مصنوع كثير مما قد احتملته كثير من الرواة على أنه من صحيح شعره" ويورد شعرًا للأفوه الأودي ثم يقول(92): "وما وجدنا أحدًا يشك في أن القصيدة مصنوعة".
وهذه الإشارات الكثيرة إلى وضع الشعر وردت كلها في موطن واحد، وهو حديثه عن علامات النبوة وانقضاض الكواكب، وفي معرض رد الجاحظ على من يزعم أن انقضاض الكواكب أمر معروف في الجاهلية وقد ذكره الشعراء الجاهليون في شعرهم، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه: ليس في انقضاض الكواكب دلالة على النبوة. فكان من بين ما رد به الجاحظ على هؤلاء أن شك في هذا الشعر ودفعه وذهب إلى أنه مصنوع. فالجاحظ إذن لم يشك في هذا الشعر لأن تحقيق الشعر وتمحيصه غايته ومقصده، وإنما اتخذ ذلك سبيلًا، من سبل كثيرة اصطنعها، للرد على مناظريه أو المخالفين له في الرأي. ومن أجل هذا نراه لا ينقد الشعر الذي يورده ابتداء، إلا في مواطن قليلة جدًّا حيث يورد عبارة واحدة متكررة هي قوله: "إن كان قالها". فهو يقول(93): "وقال أمية -إن كان قالها-" ثم يورد شعرًا، ويقول(94): "وقال تأبط شرًّا -إن كان قالها-".
ثم يورد أبياتًا؛ ويقول(95): "وقال العبدي -إن كان قاله-" وربما كانت هذه العبارة تفيد شكه في نسبة الشعر الذي يورده للشاعر الذي ذكره، ولكنها أيضًا قد تفيد، فيما نرى، شكه في ذاكرته وحفظه، فقد ذكرنا قبل قليل أن الجاحظ لا يكاد يرجع إلى ما بين يديه من كتب ومصادر، وإنما يكتب أو يُملي ما يرد في خاطره وما يحضر في ذاكرته، فلعله أيضًا في هذه المواطن يقصد بهذه العبارة المتكررة أنه إنما يكتب من ذاكرته، ولذلك فهو يشك في حفظه لنسبة الشعر الذي يورده، فإن كان ذلك كذلك، يكن هذا دليلًا جديدًا على ما نذهب إليه من أن الجاحظ إنما يورد الشعر وسيلة لا غاية، وأنه لا يتكلف مشقة تحقيقه وتمحيصه والتثبت من نسبته وصحته.
ومن الأدلة على هذا الذي نذهب إليه ما ورد في الكتابين: الحيوان، والبيان والتبيين، من أخطاء في نسبة الشعر. وهي أخطاء لا يصح أن تقع إلا من السرعة أو الاعتماد على الحافظة لأنها في أغلبها نتيجة لتشابه في الأسماء، فمن ذلك أن الجاحظ ينسب في الحيوان شعرًا لخفاف بن ندبة(96)، وينسبه في البيان والتبيين للبرجمي(97)، والصواب أن هذا الشعر لخفاف بن عبد قيس البرجمي(98). ومن ذلك أيضًا أنه ينسب بيتين في البيان والتبيين لحميد بن ثور الهلالي، والصواب أنهما لحميد الأرقط(99)، ونسب في الحيوان لخفاف بن ندبة البيت التالي(100):
أبا خراشة إما كنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع
وأبو خراشة هي كنية خفاف بن ندبة، فليس هو إذن صاحب هذا البيت وإنما هو المخاطب به، وقائله العباس بن مرداس السلمي.
ودليل آخر على ما نذهب إليه هو هذا الاختلاف في نسبة الشعر بين الحيوان والبيان والتبيين فمن أمثلة ذلك أن شعرًا نسب في الحيوان إلى أبي ذؤيب الهذلي(101)، ولكنه نسب في البيان والتبيين إلى المتنخل الهذلي(102)، ونسب الجاحظ بيتين في البيان والتبيين للفزاري(103)، وكان نسبهما في الحيوان لحريز بن نشبة العدوي(104)، ونسب أبياتًا في البيان لسالم بن وابصة (105)، بينما نسبها في الحيوان للعرجي(106). إلى آخر ما في الكتابين من خلاف في نسبة الشعر.
وآخر هذه الأدلة ما ذكرناه آنفًا عند حديثنا عن كتب النحو واللغة والسيرة والتاريخ، وهو: إغفال اسم الشاعر، والاقتصار على قوله "قال الشاعر"(107)، أو "قال آخر"(108)، أو "قال أعرابي"(109)، أو ما شابه ذلك من العبارات التي تدل على أن المؤلف غير حريص على تحقيق نسبة الشعر ولا يعنيه من أمره إلا أنه وجد بيتًا أو أبياتًا تناسب ما أورد من حديث. وكثيرًا ما يغفل اسم الشاعر ويكتفي بذكر القبيلة وحدها مثل قوله "قال بعض القرشيين"(110)، أو "قال الأسدي"(111)، أو "قالت امرأة من بني أسد"(112)، أو "قال الفزاري"(113)، أو "قال بعض القيسيين"(114)، أو "قال العبدي"(115)، وكثيرًا ما يقول في مواطن متفرقة "قال الهذلي" ثم يورد أبياتًا من الشعر لشعراء مختلفين من هذه القبيلة، فحينًا يكون البيت لأبي العيال الهذلي (116)، وحينًا ثانيًا لحبيب بن عبد الله الهذلي(117)، وحينًا ثالثًا لأبي ذؤيب الهذلي(118)، وحينًا رابعًا لأبي خراش الهذلي(119)، وهكذا..
وخلاصة كل ما تقدم في هذا الفصل أن الشعر في هذه الضروب المختلفة من الكتب ليس غاية تقصد، وإنما هو وسيلة تلتمس لغيرها من الغايات، فهو يساق حينًا للاستدلال والاحتجاج كما في كتب النحو واللغة، وهو يساق حينًا آخر للاستشهاد والتمثل وتقوية الخبر وتزيينه كما في كتب السيرة والتاريخ والأدب العام. وبذلك لا يُعنى مؤلفو هذه الكتب بتحقيق نسبة الشعر غلى شاعر بذاته، وإنما حسبهم أن يكون هذا الشعر قديمًا قيل في عصر يصح الاستشهاد والاحتجاج به، أو قالته قبيلة من القبائل بحيث يكون شاهدًا على لهجتها كما هو الشأن في كتب النحو واللغة؛ أما كتب السيرة والتاريخ والأدب العام فبحسب مؤلفيها أن يجدوا لديهم شعرًا قيل في الحادثة التي يروونها، أو أبياتًا تناسب الحديث الذي يسوقونه، وليس يعنيهم بعد ذلك تحقيق نسبة الشعر إلى شاعر بعينه، بل لا يعنيهم التثبت من صحة الشعر نفسه، وربما أوردوا شعرًا يدركون هم أنفسهم أنه زائف موضوع، ولكن ذلك لا يمنعهم من إيراده لما فيه من نادرة أو حديث مستطرف. ومن أجل هذا كله لا نحسبنا مغالين إذا قلنا إن هذه الكتب كلها، بأنواعها المختلفة، ليست بطبيعتها مصدرًا أصيلًا من مصادر الشعر التي يُعتمد عليها، وإنما المصدر الأصيل الذي يصح للباحث المحقق أن يطمئن إليه ويعتمد عليه، هو هذه الدواوين الشعرية التي اقتصر على الشعر نفسه واتخذته غاية لذاته، وأفرغ جامعوها وصانعوها وشراحها جهدهم في التثبت من صحة كل قصيدة بل كل بيت، والتحقق من نسبة كل ذلك إلى شاعره، ودفع ما لا تثبت لهم صحته أو نسبته، والنص على ما يشكون فيه منه. هذا الجهد الخصب المثمر الذي بذله العلماء الرواة منذ مطلع القرن الثاني الهجري، وبلغ غاية نشاطه في النصف الأخير من القرن الثاني ومطلع القرن الثالث -هذا الجهد الخصيب المثمر من التنقيب والتدقيق والتحقيق والتمحيص للتثبت من صحة الشعر وأصالته ونسبته-هو الذي أخرج لنا هذه الدواوين التي تناقلها التلاميذ من الرواة العلماء عن شيوخهم بالرواية جيلًا بعد جيل حتى وصلت إلينا مروية عن هؤلاء العلماء، مسندة إلى عالم راوية من علماء الطبقة الأولى في النصف الأخير من القرن الثاني. هذه الدواوين وحدها هي المصدر الأولي الوحيد الذي يُعتمد عليه في إثبات صحة الشعر وفي التحقق من نسبته إلى شاعر بذاته. وقد وفينا كل ذلك حقه في البحث في الفصول الثلاثة السابقة من هذا الباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات النحويين واللغويين: 77.
(2) الخزانة 1: 333-334.
(3) الكتاب 2: 208.
(4) أخبار النحويين البصريين: 72.
(5) إنباه الرواة: 81.
(6) الكتاب 1: 96.
(7) الكامل "ليبسك": 205-206.
(8) الخزانة: 4: 201-202.
(9) الكتاب 1: 336-337.
(10) الكتاب 1: 434.
(11) الكتاب 1: 11.
(12) المصدر السابق 1: 21.
(13) المصدر السابق 1: 34-35.
(14) المصدر السابق 1: 61.
(15) المصدر السابق 1: 290.
(16) المصدر السابق 1: 40.
(17) 1: 11-12، 39.
(18) 1: 434.
(19) 1: 358.
(20) 1: 124، 261/ 2: 307.
(21) 1: 290.
(22) 1: 82.
(23) 1: 86-87.
(24) إصلاح المنطق 10، 22، 28، 33، 101، 320 وغيرها كثير؛ وتهذيب الألفاظ 1: 38، 40، 81، 86، 87، 117، 134 إلخ.
(25) إصلاح: 29، 34، 41-42، 163.
(26) إصلاح: 19، 23، 29، وتهذيب 1: 59، 64، 65، 69، 130 إلخ.
(27) إصلاح: 25، 185 وتهذيب 1: 88.
(28) إصلاح: 64، 124، 164، وتهذيب 2، 86.
(29) إصلاح: 11، 28، 32، 95.
(30) إصلاح: 113.
(31) إصلاح: 34، 50.
(32) إصلاح: 34، 35.
(33) إصلاح: 8، 45، 54، 58، 70، 74-75، 92، 93، 148، 152، 320، 449؛ وتهذيب 1: 78، 86، 222، 240.
(34) إصلاح: 80 وتهذيب 86، 241.
(35) إصلاح: 39، 401-402.
(36) انظر هوروفتس المغازي الأولى ومؤلفوها: 24، 44، 68.
(37) أخبار عبيد بن شرية: 314.
(38) المصدر السابق: 318.
(39) أخبار عبيدة: 316.
(40) المصدر السابق: 330.
(41) المصدر السابق: 349.
(42) طبقات الشعراء: 50.
(43) المصدر السابق: 9.
(44) المصدر السابق: 8.
(45) طبقات فحول الشعراء: 9.
(46) المصدر السابق: 8.
(47) المصدر السابق: 11.
(48) المصدر السابق: 206.
(49) السيرة 1: 4.
(50) المصدر السابق 1: 36.
(51) المصدر السابق 1: 101.
(52) المصدر السابق 1: 102.
(53) المصدر السابق 1: 125.
(54) المصدر السابق 1: 208.
(55) السيرة 1: 143، 147/ 2: 246.
(56) المصدر السابق 2: 242/ 3: 5.
(57) المصدر السابق 1: 209.
(58) المصدر السابق 1/ 153.
(59) المصدر السابق 1/ 371.
(60) المصدر السابق 2/ 256.
(61) السيرة 2: 310.
(62) المصدر السابق 3: 204-205.
(63) المصدر السابق 4: 74-75.
(64) المصدر السابق 1: 86، 206.
(65) المصدر السابق 1: 88.
(66) المصدر السابق 1: 143/ 144.
(67) المصدر السابق 1: 215.
(68) السيرة 1: 215.
(69) المصدر السابق 4: 77.
(70) المصدر السابق 4: 78.
(71) المصدر السابق 1: 76.
(72) المصدر السابق 1: 105.
(73) المصدر السابق 1: 110.
(74) المصدر السابق 1: 128.
(75) المصدر السابق 1: 145.
(76) البيان والتبيين 2: 4.
(77) المصدر السابق 2: 9-12.
(78) البيان والتبيين 2: 117.
(79) المصدر السابق 3: 5.
(80) البيان والتبيين 3: 302.
(81) المصدر السابق 3: 366-367.
(82) المصدر السابق 3: 222.
(83) المصدر السابق 4: 36.
(84) الحيوان 2: 13.
(85) البيان والتبيين 2: 121.
(86) البيان والتبيين 1: 97.
(87) الحيوان1: 276-277.
(88) ابن النديم، الفهرست: 169.
(89) انظر مثلًا: البيان والتبيين 1: 92، 135/ 136، 335، 373، 378؛ 3/ 57-58.
(90) الحيوان 6: 278.
(91) الحيوان 6: 279.
(92) المصدر السابق 6: 280.
(93) المصدر السابق 3: 49.
(94) المصدر السابق 3: 68.
(95) المصدر السابق 4: 248.
(96) الحيوان 1: 133.
(97) البيان والتبيين 2: 11.
(98) المصدر السابق، هامش: 6.
(99) المصدر السابق 1: 6.
(100) الحيوان 5: 24، وهامش: 3.
(101) الحيوان 5: 285.
(102) البيان والتبيين: 1: 17.
(103) البيان والتبيين 2: 160.
(104) الحيوان 4: 151.
(105) البيان والتبيين 1: 223.
(106) الحيوان 3: 137.
(107) الأمثلة على ذلك كثيرة انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 94، 109، 274/ 2: 329 والحيوان 3: 310، 317، 444.
(108) انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 78، 190، 212، 231، 233/ 2: 284. والحيوان 3: 317، 388، 417، 423.
(109) انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 212، 213.
(110) البيان والتبيين 1: 18.
(111) البيان والتبيين 1: 159/ 2: 160، 280.
(112) المصدر السابق 1: 180.
(113) المصدر السابق 2: 160.
(114) الحيوان 1: 134.
(115) الحيوان 4: 248.
(116) البيان والتبيين 1: 3.
(117) المصدر السابق 1: 275.
(118) المصدر السابق 1: 277.
(119) المصدر السابق 1: 229.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|