أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-10-2014
2576
التاريخ: 8-10-2014
2249
التاريخ: 14-8-2021
2255
التاريخ: 10-10-2014
2341
|
لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة و الأخلاق الكريمة لا تتم إلا بالتوحيد فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية و تتفرع بالأخلاق الكريمة، و هذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } [إبراهيم: 24، 26]
فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل و هو التوحيد لا محالة و أكل تؤتيه كل حين بإذن ربها" و هو العمل الصالح، و فرع و هو الخلق الكريم كالتقوى و العفة و المعرفة و الشجاعة و العدالة و الرحمة و نظائرها.
و قال تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فجعل سعادة الصعود إلى الله و هو القرب منه تعالى للكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق و جعل العمل الذي يصلح له و يناسبه هو الذي يرفعه و يمده في صعوده.
بيان ذلك: أن من المعلوم أن الإنسان لا يتم له كماله النوعي و لا يسعد في حياته التي لا بغية له أعظم من إسعادها إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة و التنوع و ليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.
و هذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن و قوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة و الفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا أعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله و يقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.
و من المسلم أن هذه السنن و القوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسنن و قوانين أخرى جزائية تهدد المتخلفين عن السنن و القوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق، و تخوفهم بالسيئة قبال السيئة و بأخرى تشوقهم و ترغبهم في عمل الخيرات و تضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم و تتسيطر عليهم بالعدل و الصدق.
و إنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم و قوية على المجرم، و أما إذا جهلت و وقع الأجرام على جهل منها أو غفلة - و كم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحققه، و القوانين لا أيدي لها تبطش بها، و كذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة و العمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ضاعت القوانين و فشت التخلفات و التعديات على حقوق الناس، و الإنسان - كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه و لو أضر غيره.
و يشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس و سلب منهم القدرة على رده إلى العدل و تقويمه بالحق فصار ذا قوة و شوكة لا يقاوم في قوته و لا يعارض في إرادته.
و التواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة و الطواغيت و تحكماتهم الجائرة على الناس، و هو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.
و بالجملة السنن و القوانين لا تأمن التخلف و الضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية و استظهرت بها.
ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع و لا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد و هو الإيمان بأن للعالم - و منه الإنسان - إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شيء، و لا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها و سيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.
و من المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، و كان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم و لو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية و التلذذ بلذائذ الحياة المادية، و أقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي و للاجتماع من الفساد، و إن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، و يثني عليه الناس و يمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.
أما ثناء الناس و تقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها أما الجزئيات و ما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها و أما الذكر الجاري و الاسم السامي و يؤثر غالبا فيما فيه تفدية و تضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن و بذل المال و الوقت في ترفيع مباني الدولة و نحو ذلك فليس ممن يبتغيه و يذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان - على هذا - بعد الموت و الفوت حتى يعود إليه شيء من النفع بثناء أو حسن ذكر و أي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه و ليس عنده بعد الموت إلا البطلان و الاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه و التفات.
فقد تبين أن شيئا عن هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، و لا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية و نقض السنن و القوانين و خاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس و خاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها و بغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، و قد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته و بين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) - و لا كان من الحري أن يمنعه - شيء إلا العلم بمقام ربه.
2- يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة و إن شئت فقل
و بعضهم يغلب على نفسه الرجاء و كلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات من النعمة و الكرامة و حسن العاقبة زاد رجاء و بالغ في التقوى و التزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة و الجنة.
و طائفة ثالثا و هم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه و إنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة و ذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى و الصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم و إرادتهم و رضاهم و كل شيء غيرهم، و يدبر الأمر وحده و ليسوا إلا عباد الله فحسب، و ليس للعبد إلا أن يعبد ربه، و يقدم مرضاته و إرادته على مرضاته و إرادته، فهم يعبدون الله و لا يريدون في شيء من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه، و لا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم، و لا إلى ثواب يرجيهم، و إن خافوا عذابه و رجوا رحمته، و إلى هذا يشير قوله (عليه السلام): "ما عبدتك خوفا من نارك و لا رغبة في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك".
و هؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم و محضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية و ذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه، و قد سمى نفسه بأحسن الأسماء و وصف ذاته بكل صفة جميلة و من خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق و قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } [الأنعام: 102] ثم قال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن و أنهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شيء آية تدل عليه و إن في السماوات و الأرض لآيات لأولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى و لا يحكي شيئا من جماله و جلاله.
فالأشياء من جهة أنواع خلقها و حسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى و يحمده و يثني على حسنه الذي لا يفنى، و من جهة ما فيها من أنواع النقص و الحاجة تدل على غناه المطلق و تسبح و تنزه ساحة القدس و الكبرياء كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم و عرفها لهم و هو أنها آيات له و علامات لصفات جماله و جلاله، و ليس لها من النفسية و الأصالة و الاستقلال إلا أنها كمرائي تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي و بفقرها و حاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، و بذلتها و استكانتها ما فوقها من العزة و الكبرياء، و لا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة و العظمة و يغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه و كل شيء، و يمحو رسم الأهواء و الأميال النفسانية عن باطنه، و يبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
و لذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا و طريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة و الكرامة، و لو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده و لا حام حول معرفته، و قد تقدمت الرواية - عن الصادق (عليه السلام): "هل الدين إلا الحب" و قوله (عليه السلام) في حديث: "و إني أعبده حبا له و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون" الحديث، و إنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية و الألواث المادية فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب.
و أما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا و زينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس و ما لها من حظوظ و آمال، و تقصر القلب في التعلق به تعالى و بما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي و سائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشيء حب لآثاره.
فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله و يبغض منها ما يبغضه الله و يرضى برضا الله و لرضاه و يغضب بغضب الله و لغضبه، و هو النور الذي يضيء له طريق العمل، قال تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } [الأنعام: 122].
و الروح الذي يشير إليه بالخيرات و الأعمال الصالحات، قال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] و هذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل و الخير و يتجنب كل مكروه و شر.
و أما الموجودات الكونية و الحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شيء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلا أحبه و استحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلى له ما وراءها من الجمال المطلق و الحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين و مكروه.
و لذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه و لذة و ابتهاج لا ألم و لا حزن معه، و أمن لا خوف معه، فإن هذه العوارض السوء إنما تطرأ عن إدراك للسوء و ترقب للشر و المكروه، و من كان لا يرى إلا الخير و الجميل و لا يجد إلا ما يجري على وفق إرادته و رضاه فلا سبيل للغم و الحزن و الخوف و كل ما يسوء الإنسان و يؤذيه إليه بل ينال من السرور و الابتهاج و الأمن ما لا يقدره و لا يحيط به إلا الله سبحانه و هذا أمر ليس في وسع النفوس العادية أن تتعقله و تكتنهه إلا بنوع من التصور الناقص.
و إليه يشير أمثال قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس: 62، 63] ، و قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82].
و هؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم و بين ربهم شيء مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين، و يكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه و بينهم كما يشير إليه قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 - 21] ، و قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 5، 6] و قد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة: 105] في الجزء السادس من الكتاب.
و بالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لأمره إذ لا يرون إلا خيرا و لا يشاهدون إلا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة و الأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].
و هؤلاء هم الأنبياء و الأئمة، و قد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 87] ، و قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
و آتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب المعاصي، و تمتنع معه صدور شيء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، و بهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.
و قد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم، و الله سبحانه يصدق ذلك بقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159، 160] ، و إن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله و ينصرفوا عن المعاصي و الله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].
و من الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } [النساء: 113] و قد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.
و قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [يوسف: 33] و قد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.
و يظهر من ذلك أولا: أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي و هو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فإن الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } [النمل: 14]: و قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] ، و قال: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية: 17].
و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159، 160] ، و ذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى و صفاته من طريق السمع، و قد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا، و الآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون فليس إلا أن العلم غير العلم و إن كان متعلق العلمين واحدا من وجه.
و ثانيا: أن هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادئ الاختيار، و مجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا و إنما يضطر الفاعل و يجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع.
و يشهد على ذلك قوله: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 87، 88] تفيد الآية أنهم في إمكانهم أن يشركوا بالله و إن كان الاجتباء و الهدى الإلهي مانعا من ذلك، و قوله: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] إلى غير ذلك من الآيات.
نعم هناك قوم زعموا أن الله سبحانه إنما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها و يحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.
و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه أنهم يرون أن حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنما هي في حدوثها، و أما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلا أنه لما كان أقدر و أقوى من كل شيء كان له أن يتصرف في الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.
فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبدا عن شر مثلا أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه و يغير مجرى إرادته مثلا عن الشر إلى الخير أو أراد أن يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار.
و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشر مشاهدة عيان أنه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طولي لا عرضي و هو ظاهر.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|