خلال حفل افتتاح مؤتمرِ السيرة النبويّة الشريفة العلميّ الدوليّ الأوّل الذي تُقيمه دارُ الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في العتبة العبّاسية المقدّسة، كانت هناك كلمةٌ للمتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزّه) التي بيّن فيها قائلاً:
لعلّ أفضل ما يجمع المسلمين في هذا الوقت الحسّاس هو الحديث عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، ولا شكّ أنّه لا يوجد مثل شخصه(صلّى الله عليه وآله) منذ أن بدأ الله الخلق الى نهايته، فهو خاتم النبيّين وأفضل الأنبياء والمرسلين وهو الذي ادّخره الله تعالى ليقول: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ)، لذلك كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله) محطّ بشارةٍ لباقي الأنبياء الذين أُرسلوا الى أممهم، فكانوا دائماً يتطلّعون الى ذلك اليوم الذي يأتي فيه ويُعلن دينه على أرض البسيطة.
قد يسأل سائلٌ أنّه كُتب عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) الشيء الكثير وكلّ المسلمين يفتخرون بنسبتهم الى هذا الدين، ويفتخرون كذلك عندما يكتبون عن سيرة نبيّهم، وقد جادت أقلامهم جميعاً وعندنا الكمّ الكبير من هذه السيرة النبويّة العطرة، فهل فعلاً نحن نحتاج أن نكتب كتابةً فيها إفادة عن هذه السيرة مع هذا الكمّ أو لا؟
فعندما أُسّس هذا المركزُ المبارك كان هدفُه الجواب عن السؤال الذي تقدّم، وأن يأخذ على عاتقه إيجاد إجاباتٍ وافية عن أسئلة كثيرة تتعلّق بشخص النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وعلى هذا المركز أيضاً أن يكون جريئاً مع الحقّ في طرح هذه الإجابات، فنحن لا نملك إلّا شيئين أساسيّين هُما القرآن الكريم والنبيّ(صلّى الله عليه وآله).
لذا فالأساس الذي نبدأ به يجب أن يكون ما بين القرآن الكريم والنبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وعلى المسلمين اليوم أن يدافعوا عنهما، وعلى هذا الأساس فقد تصدّى المسلمون بقوّةٍ للدفاع عن القرآن والنبيّ(صلّى الله عليه وآله)، لكن هنا نجد علامة استفهامٍ كبيرة جدّاً، هل الصورة الموجودة في السيرة هي صورةُ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) بما تتطابق مع القرآن الكريم؟! ولعلّ هذه الملاحظة هي التي دعتنا أن نفكّر في إنشاء هذا المركز.
هناك تفاوتٌ كبير ما بين النبيّ في القرآن وما بين النبيّ في سيرة مَنْ كَتَبَ عنه، لكن الذي نحتاجه اليوم هو أنّنا نحتاج الى النبيّ قرآنيّاً، ندرس ونبحث سيرته من خلال القرآن الكريم.
المؤرّخون عندما كتبوا السيرة كتبوا تأريخاً، ولا شكّ أنّ هناك قواعد وأصولاً في كتابة التاريخ، والتاريخ يميل الى جهةٍ على حسب الظرف ثمّ يميل الى جهةٍ ثانية، خصوصاً إذا علمنا -وهذه ملاحظة أرجو أن نلتفت اليها- إذا علمنا أنّ المسلمين بعد النبيّ(صلّى الله عليه وآله) اختلفوا وهذا أمرٌ لا يُنكر، والمسلمون والمختلفون كلّهم ينسبُ نفسه الى النبيّ مع الاختلاف الشاسع فيما بينهم، لأنّ كلّ مسلمٍ يريد أن يُعطي الشرعيّة لما عنده وهذا من حقّه، وأساسُ الشرعيّة مبنيّ على نسبته للنبيّ(صلّى الله عليه وآله)، فمن حقّ الباحث عندما يكتب تاريخاً روائيّاً أن يكون في طور الشكّ.
فكلّ ما كُتب يحتاج أن يُعرض على مصدرٍ نقيّ سليم غير متّهم، وعندما نأتي لنعرض هذه الأمور قد تتّضح بعض المعالم على أنّ هذا الذي نُسب الى النبيّ(صلّى الله عليه وآله) حقّ أو نُسب اليه بغير حقّ؟ مع ملاحظة أنّ أصل النبوّة لا يمكن أن نستدلّ عليها من القرآن، لأنّ هذا يلزم الدور الباطل -كما يقول أهل المنطق-، أصل النبوّة نستدلّ عليها من خارج القرآن، لا بُدّ أن نستدلّ عليها من مطلبٍ آخر، وهذا المطلب الآخر بعد أن نبيّن ونصدّق بالنبيّ(صلّى الله عليه وآله) سنصدّق بكلّ ما يأتي به.
لدينا تأريخ للنبيّ في ثلاثٍ وعشرين سنة، وهذا التاريخ هو الذي أشار اليه القرآن الكريم، فماذا عرض لنا من بطاقةٍ شخصيّة للنبيّ؟ هل يُمكن أو لا يُمكن؟ مثلاً نقرأ اليوم في الكتب الدراسيّة أنّ النبيّ لا يقرأ ولا يكتب! وهذه المسألة الآن شائعة عند أغلب المسلمين أنّ النبيّ لا يعرف القراءة والكتابة! لماذا؟ خوفاً أن يُتّهم أنّه جاء بهذا القرآن من عنده، مع أنّ هذه التهمة باقية الى يومنا هذا، الناس تتّهم النبيّ أنّ هذا القرآن هو قرآن محمد وليس من عند الله تعالى، فما هو الداعي الى أنّ النبيّ لا يعرف القراءة ولا بدعوى أنّ النبيّ أمّي (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ)، ما معنى الأمّي الآن؟!.
بعد (1400) سنة نقرأ في بعض المعاجم حيث يقول أحدهم الأمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وأُخذ هذا الاصطلاح وأُشيع واتّهمنا به النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أنّه لا يعرف القراءة والكتابة -هذه نقطةٌ أرجو أن تتّضح-، نحن نسأل عن بطاقته، سيسألُنا غداً (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) والنبيّ هو إمامُنا، يقول: أنتم معاشر المسلمين تتّهمونني بعدم القراءة والكتابة؟! أنا أتحدّث عن علماء الفريقين طبعاً، نعم ظاهر بعض الآيات الشريفة قد يُفهم منها هذا، هو هل أنّ النبيّ يعرف القراءة والكتابة أو لا؟ أنا أُعطي النتيجة أنّ النبيّ يعرف القراءة والكتابة.
هناك شخصيّةٌ للنبيّ هي الشخصيّة القرآنيّة، لذا أسأل من أين تبدأ هذه الشخصية القرآنيّة؟ نؤرّخ -كما قلت- في عام الفيل، في القرآن الكريم بعض الآيات مثلاً في سورة الشعراء (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني أنّ النبيّ ينتقل من صلبٍ الى صلبٍ والله تعالى يراه.
أنا أسأل الإخوة الأعزّاء انظروا الى خصوصيّة الآيات، في هذه الآية أنا عندما أقرأ أقول: لا يريد الله أن يبيّن أنّه يرى فقط وإنّما هناك خصوصيّة للمرئيّ، الله يريد أن ينبّهنا أنّ الذي يراك يا رسول الله في مقام أن يُعظّم من منزلة النبيّ، عندما نأتي ونرى أنّ تقلّبك في الساجدين نستفيد منها فوائد جمّة، وهي أنّ آباء النبيّ كلّهم كانوا من الموحّدين، والنبيّ عندما رأته الآية الشريفة تدلّ على أنّ ولادته -بما هو مولود- قديمة.
عندما أأخذ روايةً عنه (صلّى الله عليه وآله) ربّما قد تكون موجودة عند الفريقين (كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين) أستطيع أن أصدّق هذه الرواية لأنّها لا تُنافي القرآن الكريم، أسأل هل النبيّ يريد أن يتكلّم معنا عن تاريخٍ فقط أو هنالك شيءٌ عظيم عنده؟!.
سأرجع الى الوراء، من بطاقته الشخصيّة أرجع الى أنّ هنالك موجوداً وهو النبيّ المخلوق، الله تعالى أفاض عليه بشيءٍ خاصّ، كيف ذلك؟ تعال معي الى بعض السور القرآنيّة، لاحظوا في سورة التحريم القرآن الكريم يشبّه أنّ النبيّ لا بُدّ أن يتحمّل، فمثلاً عندما جاء الرُّسُل الى لوط ماذا فعل الرُّسُل بلوط؟ أنجوا لوطاً ونزل العقابُ بزوجته والكفرة من قومه، لكن مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) القرآن لا يتعامل هكذا! لاحظوا الآية رقم أربعة في سورة التحريم (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ) لاحظوا أنّ القرآن يستخدم لغةً غير التي استعملها مع لوط، وهذا من عجيب الاهتمام، كان يُمكن أن يقول إن تتوبا وقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فننزّل عقابنا، الكلام ليس في مَنْ نعاقب بل عطف الكلام اليه (صلّى الله عليه وآله)، وهذه إشارة الى عظمة النبيّ(صلّى الله عليه وآله).
لاحظوا الآية الأخرى في سورة النجم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ)، بدأنا الآن ببطاقة تعريف للنبيّ، غير معهود هذا التعريف بهذه الطريقة، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) فإذن كلّ الأصوات المُخالفة تُلجَمُ لأنّ النبيّ لا ينطق من نفسه (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ) هذه بطاقةٌ ضخمة لم يُعهد نبيٌّ بهذه الطريقة إطلاقاً.
أنا أقرأ في التاريخ أنّ النبيّ رضع من حليمة السعديّة! أنا هنا أشكّك لماذا ذهب الى البادية ليتعلّم الفروسيّة والفصاحة؟! أنا أعتقد أنّ هذه الطريقة عيبٌ في حقّ النبيّ، مكّة أمّ الأدب فكيف يتعلّم الفصاحة والفروسيّة في البادية؟! النبيّ عمره ستّ سنوات وماتت أمّه آمنة، لماذا لم تُرضعْه آمنة؟ من هي حليمة السعديّة؟ مؤمنة كافرة!، القصّة التي تُنسج حول حليمة السعديّة تحتاج الى مراجعة، فآمنة لما لها من وجودٍ مقدّس من رعايةٍ واهتمامٍ خاصّ لماذا تُرضعه حليمة؟! فأنا كوني مسلّم أشكّك، فكون جدّه عبد المطلب كفله لأنّ أباه تُوفّي هناك ضرورة، ولكن هل توجد ضرورة لإرضاع حليمة للنبيّ(صلّى الله عليه وآله)؟ فأنا لا أجد ضرورة حقيقيّة، وعند عرض بعد النصوص التاريخيّة تدعو للتوقّف لكونها تتعارض مع النصّ القرآنيّ.
القرآن أبدع وأعطى الصورة القرآنيّة للنبيّ، وعظّمه تعظيماً كبيراً، لكن عندما نأتي إلى السيرة النبويّة لابُدّ أن نحاكم السيرة بالقرآن وليس العكس، لذا لابُدّ من أن يكون هناك منهج صحيح عن حياة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) حتى يكون من الثوابت التي أحاجج بها السيرة وما تحتويه من رواياتٍ غير صحيحة تسيئ لشخص النبيّ.
لذا فإنّ دار الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مطالَب أن يُنتج بطاقةً شخصيّة للنبيّ(صلّى الله عليه وآله) بالتفصيل والإجمال، على أن تتحدّث عن كراماته وشخصيّته منذ الولادة لكون أنّ هناك آياتٍ قرآنيّة تشير إلى هذا، وما هي الآثار التي تركت في المجتمع من سيرة النبيّ(صلّى الله عليه آله)، لأنّ ما موجود الآن عن سيرة النبيّ(صلّى الله عليه آله) غير صحيح ويفتح الباب للضالّين من التطاول على النبيّ(صلّى الله عليه وآله).
لذا ندعو إلى البحث في حياة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) على أن تكون لثلاث مراحل، وهي: قبل الولادة الشريفة وخلال حياته الشريفة وبعد وفاته، فمن غير المنطق أنّه بعد وفاته قد انتهى الأمر، فهذا أمرٌ غير صحيح، لذا لابُدّ من البحث في البقاء الحقيقيّ للنبيّ(صلّى الله عليه وآله)، والقرآن قد أعطى صورةً إجماليّة لهذه المراحل الثلاث فلابُدّ من تفصيلها والوقوف على حقيقتها، حتى نحاجج بها من يتحدّث عن مقام النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وهذه من الأمور المهمّة التي يجب أن نعمل عليها لكونها أهمّ من المسائل الفقهيّة وتخصّ حياة نبيّنا (صلّى الله عليه وآله).
وفي ختام كلمته حثّ سماحته الحضور من الأساتذة والأكاديميّين على العمل على تشكيل سيرةٍ قرآنيّة للنبيّ(صلّى الله عليه وآله)، لتنظمّ إلى باقي السير وتكون محوريّةً نحكم بها على بقيّة السير إن كانت مستمدّةً مباشرةً من القرآن الكريم.