أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-12-2014
5190
التاريخ:
3519
التاريخ: 11-12-2014
4553
التاريخ: 21-6-2017
2815
|
أقبل الشيخ أبو معاذ في ليلته مشرق الوجه واستقبل مستمعيه برحابة وتكريم وانعقد المجلس، وكل من الحاضرين في شوق لحديثه ، وقال: إن سلمان الفارسي - يا قوم - ما سجد لمطلع الشمس - كما يفعل المجوس وإنما كان يسجد للّه عز وجل، وكان أبواه يظنان أنه يسجد كهيئتهم ،
وممن ضرب في الأرض يطلب الحجة، فلم يزل يتنقل من بلد إلى آخر، ومن كنيسة إلى مثلها، ويبحث عن الأسرار، ويستطلع الأخبار، ينتظر أن يحظى بالنبي الذي أخبر عنه فهو ضالته، وأخيراً عثر على ما يريد، وأتم حياته كأحسن مسلم تفهماً للدين، وتفانياً في سبيله.
لقد كان سلمان في السابق من أهل أصبهان، وأبوه دهقان قريته، يحبه بشكل يعجز عنه الوصف، ومن جراء هذا كان يخشى عليه، فيحبسه في بيته تماماً، كما يفعل بالجواري ، وكان أهله مجوساً يعبدون الشمس، ويوقدون لها النار، وصادف أن مر سلمان على كنيسة فدخل بها، ولمح أهلها يصلون، ويتضرعون إلى اللّه، فأعجب بهذا اللون من العبارة، وفضلها على طريقة أهله، لأنه في أعماقه لم يؤمن بالصلاة للشمس ،
وكانت هذه الانطلاقة منه - في التحقيق عن الدين - قد جرّته لأن يجول في البلدان، يطلب دين اللّه، فقيل له بالشام فقصدها، وعاش في كنيستها برهة من الزمن ثم انتقل إلى الموصل يخدم ويتعبد في كنيستها، ومنها إلى نصيبين، وأخيراً قيل له: إن في كنيسة عمورية من بلاد الروم رجلاً صالحاً يدله علي الحقيقة فشدّ اليه الرحال وبقي ملازماً لكاهنها مدة طويلة، يتلمس فيه الإيمان، والطيب، والوفاء ولما دنت من الرجل الوفاة - وكان يحفظ لسلمان اخلاصه - دنا منه، وطلب أن يرشده على الحقيقة وإلى أين ينتقل من بعده؟ ، وبين لحظات الموت والحياة قال الكاهن: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد يستحق أن آمرك بالذهاب له، ولكن سيبعث نبي في هذا الزمان، يأتي بدين إبراهيم (عليه السلام)، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين(1) بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ، وانقطع نفس الكاهن، وذبل النور في عينيه.
وهز الحديث سلماناً، وأخذ منه مآخذاً، وبقي ينتظر اللحظة التي تساعده على السفر إلى تلك الديار ساعة بعد ساعة، يتحين الفرصة، ويتطلب القافلة.
وانتشر الخبر في عمورية أن قافلة من العرب تعمل بالتجارة وصلت البلد وهرع اليها سلمان يتعرف على حالها . إنها من قبيلة (كلب) احدى قبائل العرب ومرت أيام ولملمت القافلة أمرها وأعلنت عن سفرها، فاتفق معها على أن يعطيها كل ما يملك من بقرات، وأغنام، مقابل وصوله إلى مكة ، وتم الاتفاق وسافرت القافلة تطوي القفار، ولم تبلغ أطراف مكة، حتى عمد أصحاب القافلة عليه، وأسروه، وباعوه الى يهودي، فأخذه الى قريته يخدمه ،
ومرَّ على سلمان عهد في خدمة هذا اليهودي، ولكنه لم يقطع الأمل في نفسه، فقد رأى القرية يكثر فيها النخل، فرجا أن تكون هو المكان الذي يطلبه من وصف الكاهن وبينما هو عند صاحبه إذ أقبل ابن عم له من بني قريظة يسكن المدينة فأعجب به فابتاعه واحتمله اليها ،
وسرَّ سلمان بهذا العمل، وكتم في نفسه فرحة عظيمة، عندما عرف المدينة، وانها التي وصفها له صاحبه، والمكان الذي سيلتقي فيه بالنبي.
وكانت الأيام تدور في مسيرتها، لكنها ثقيلة الظل على هذا المتلهف لمعرفة الحقيقة ، وفي صباح ترهق الشمس ساعاته، أخذ سلمان عدته، وذهب لإصلاح بعض النخيل، وجاء صاحبه واستقر تحتها، وهو يرقب عمله، وأقبل عليه أحد أقربائه وجلس الى جنبه، وأخذ يحدثه، وهو لا يعلم ان هذا الحديث يهم سلمان قبل كل أحد، قال اليهودي لقريبه: قاتل اللّه بني قيلة ، إنهم الآن مجتمعون بقباء(2) على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون انه نبي ،
وتهادى النبأ الى أسماع سلمان، فتأخذه الرعدة، ويكاد يسقط من أعلى النخلة، ويشدّ على نفسه من الانزلاق، وينزل وهو مضطرب، ويهرع الرجل فيلح عليه بالأسئلة، يستطلع منه جلية الخبر، فيغضب صاحبه منه، ويلكمه لكمة قوية يكاد يسقط من شدتها، فيتمالك، ويصمت، ويبقى واقفاً أمامه فيصرخ في وجهه مالكه: إذهب الى عملك، ما لك والدخول في مثل هذا الحديث.
ويطوي سلمان أسئلته وشوقه، ويتجه لعمله، فيتشاغل به ريثما ينفذ أمراً كان قد قرره لحظة تصميمه على إجلاء الحقيقة.
وأقبل المساء، وانتشر الظلام في المدينة، وحمل سلمان أكلاً معه، وتسلل الى رسول اللّه في قباء ، ودخل عليه، وتطلع فيه ثم قال له: بلغني انك رجل صالح، ومعك أصحاب غرباء وهذه صدقة عندي، أنتم أحق بها من غيركم، ويقدمها للرسول فيقبلها منه ويدعو أصحابه لأكلها، ويمتنع هو عن الأكل.
ويقول سلمان في نفسه، ان هذه إحدى العلامات فقد أخبره صاحبه الكاهن انه لا يأكل الصدقة ، وينصرف ويعود بعد ليال، ومعه حاجات اخرى، ويدخل على النبي، ويقول له: هذه هدية أرجو قبولها، فيأخذها، ويشكره على ذلك ، وتطفو على سلمان إشراقة الفرحة، انها العلامة الثانية، لا يقبل الصدقة، ويأخذ الهدية.
ولم يدر سلمان كيف تنقضي الأيام انه يحسبها دقائق وثواني لكي تسنح له الفرصة، وتشاء الصدف ان تواتيه، فيتبع النبي ببقيع الغرقد - وهي مقبرة المدينة - ويدخل عليه، ولم يستقر به المكان حتى يستدير بنظره الى خلف الرسول، فيلتفت ماذا يريد، ويلقي الرداء عن متنه، ويظهر خاتم النبوة ، فشهق سلمان، وسقط على كفي النبي يقبلهما، ويبكي فرحاً، وقص عليه قصته ،
وبقي ملازماً له، يتفانى في إخلاصه، وإن كان لم يخرج معه لمعركة بدر واحد، لأنه رقّ، ثم لم يمكث ان قال له الرسول كاتب صاحبك، واتفق معه على تحريره من العبودية، وطلب منه صاحبه أن يغرس له ثلاثمائة نخلة، وهذا المطلب كبيراً بالنسبة لسلمان الذي لا يملك قيمة هذا النخل ليؤديها له، وعرف الرسول ذلك، فالتفت الى أصحابه طالباً منهم أن يعينوا أخاهم سلمان على فكاك رقبته، فجمع له المقدار المطلوب، وشريت النخيل وغرست، وأصبح حراً بعدها.
ولازم سلمان النبي في المدينة، وآخى بينه وبين أبي الدرداء وكان بعد ذلك إذا نزل الشام حلّ عند أبي الدرداء.
وأطلَّت السنة الخامسة، وقد مرَّ على أُحد سنتان واقتضت مصلحة الرسول أن يُجلي بني النضير الى خيبر لنقضهم العهد ، ولم يهن ذلك عليهم، وبيَّتوا على النبي أمراً خطيراً فقد عمدوا الى القبائل من قريش وغيرها يحرضونها على قتال محمد ، وصادف ذلك قبولاً في نفوس قريش وغيرها فلم تكن ثارات بدر قد أخمدتها أُحد، ولم تكن أُحد نصراً ضد النبي لتخمد أحقاد الجاهلية.
وإذا كانت المعركتان بدر وأُحد قد أدارتها قريش ومن تبعها من أعوانها، فان في هذه المرة قد شدَّت سواعدها اليهود، وصارت تثير اللهب وتجمع الناس، ولم يمر زمان حتى صار عدد الجيش المحارب يقدر بعشرة آلاف يقودهم (ابو سفيان) .
ولم تكن قريش، وغطفان، وجيوش اليهود، إلا حركة موحدة تجمعت من هنا وهناك لترفع راية القتال على رسول اللّه وتهدم الدعوة الجديدة في مهدها وقد وصلت أخبارها الى مسامع المسلمين، فدبَّ فيهم الذعر والرهبة، وخاصة في النفوس الضعيفة، مما اضطر النبي أن يجمع أهل الرأي من أصحابه ليتشاور معهم في الرأي.
كان سلمان أحد اولئك الأشخاص الذين جمعهم الرسول للمشورة والرأي، وطال الحديث في ذلك، وسلمان ساكت لم يتكلم، فيلتفت اليه النبي قائلاً: ولماذا لم تتكلم يا سلمان؟
- يا رسول اللّه: أفكر في أمر يمنع الأعداء من الوصول الينا.
- وكيف ذلك؟.
- يا رسول اللّه: نحفر خندقاً حول المدينة، فلا يستطيع العدو الوصول اليها.
- وكم تقدر المدة التي تستغرق لحفر هذا الخندق؟
- لا يزيد على الأسبوع ، ومسير الجيش بهذا العدد الذي نسمعه يحتاج إلى مسير عشرة أيام يقطعها بين مكة والمدينة ، هذا إذا لم يصادف تأخر الركب، أو بعض القبائل، فيتأخر مسير الجيش يوماً أو أكثر عن موعده.
واستصوب الجميع رأي سلمان ، وأمر النبي بالعمل ، ولم يبق أحد من المسلمين إلا واشترك في الحفر.
وكانت المدينة حينذاك مشبكة بالبنيان والنخيل من سائر جوانبها إلا جانباً واحداً مفتوحاً، وهو الذي حفر فيه الخندق وما ان تم حتى خرج النبي بعسكره، وهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وتمركز في سفح جبل المدينة وصار الخندق بينه وبين القوم.
وعندما وقف على الخندق أبو سفيان ومعه عدد من أصحابه قال: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها من قبل، وهي من عمل الفارسي - ويعني به سلمان - .
ثم سكت قليلاً الشيخ أبو معاذ، وقد ندت عنه آهة كادت تمزق هدوء الليل ، وقال: لقد ابتلى محمد باليهود ، وان خطرهم كان أشد عليه من خطر قريش وأتباعها وما كانت القبائل اليهودية تهدأ من نسج المؤامرات واثارة الحروب على المسلمين فالدعوة الإسلامية كانت في مرحلة خطر من كيد اليهود، ولولا لطف اللّه لكان ما كان فلقد كانت القبائل اليهودية حينذاك ثلاثة، وقد دخلت مع النبي في عهد، وهي: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة وكانت المدينة تضم من المسلمين: المهاجرين، والأنصار، وبها من المشركين من الأوس والخزرج ممن لم يسلم، ومن اليهود بنو قينقاع في داخلها، وبنو قريظة في فدك، وبنو النضير على مقربة منها، ويهود خيبر في شمالها ، وظن اليهود أول هجرة الرسول إلى المدينة انهم يستطيعون التحالف مع الإسلام على النصرانية، والتي كانوا يضمرون لها حقداً دفيناً، فلما لم يستطيعوا ذلك جهروا بعدائهم للإسلام ونقضوا عهودهم، وانتهى عندما احتدم الصراع بجلاء يهود بني النضير عن المدينة في السنة الرابعة من الهجرة ، وكان بنو قينقاع قد نقضوا العهد أيضاً، ولم يبق إلا بنو قريظة ، ثم عندما تألبت الأحزاب على رسول اللّه في السنة الخامسة، وقاد أبو سفيان جيشاً لحرب محمد كان يهتم لاستمالة بني قريظة له، طالما وأن قبيلتين من اليهود انضمت إلي الجيش المحارب.
وفكر أبو سفيان بادئ الأمر بمن يقوم بهذه المهمة، فلم يرَ أليق من يحيى بن أخطب فهو رجل معروف بالدس والدهاء والمكر ، وفعلاً توجه الرجل إلى كعب بن أسيد - زعيم بني قريظة - ولم يعد لأبي سفيان، حتى حمل معه رضاه بنقض العهد.
وعرف المسلمون الخبر، فعظم الأمر عليهم، واشتد فيهم الخوف والهلع، وأمعن الغزاة بالحصار على المدينة حتى وصل قرابة الشهر، مما أثر على معنوية قسم من المسلمين ودب الجزع في نفوس المنافقين، والضعفاء من المسلمين، ويقول أحدهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب لحاجته ، وآخر يستأذن الرسول بالسماح له ليذهب فيحفظ بيته، إذ يقول: يا رسول اللّه، إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا ان نخرج فنرجع الى دورنا فليس فيها من يحرسها.
وعلى هذا اللون بدأ الانجراد النفسي يتحكم في نفوس البعض مما اضطر النبي ان يراسل قبيلة غطفان - وهي القوة الرئيسية الثانية، العربية، والتي تقابل قريشاً - على اتفاق ومصالحة يتم بينهما فيعطيهم ثلث ثمار المدينة مقابل عودتهم بدون حرب فوافقوا مبدئياً على الأمر، وقبل ان يبرم العهد أرسل النبي الى سيدي الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة يعرض عليهما فكرة الاتفاق، ويأخذ رأيهما في ذلك ، وأجاب الزعيمان، بما يعبر عن واقع الإنسان المسلم الذي يعيش قضيته في أحرج ظروفها: يا رسول اللّه، أمراً تحبه فتصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟.
ويقول الرسول: بل شيء أصنعه لكم ، واللّه ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، وكالبوكم - أي اشتدوا عليكم - من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم الى أمر ما .
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللّه، ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى - ما يصنع للضيف من الطعام - او بيعاً ، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! واللّه ما لنا بهذا من حاجة واللّه لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم.
قال رسول اللّه: فأنتم وذاك ، هذان الموقفان المتناقضان لدى أصحاب الرسول كانا يتعاظمان يوماً بعد يوم ، فالذين آمنوا وأخلصوا لدينهم - كما رأينا من حديث شيخي الأوس والخزرج - لم يهمهم إن طال الحصار أو قصر، وكثر عدد المحاربين أو قل، وهم يؤكدون لنبيهم وقوفهم الى جانبه مهما ضاقت السبل وتطورت الأحوال، ولم يمدوا للعدو يداً ذليلة ، أما الذين دخلوا الإسلام كرهاً ومصلحة، أخذوا يتذرعون بشتى الطرق للهرب من القتال ، مرّت حالة لا حرب ولا سلم على الطرفين طويلاً.
المدة تصل قرابة الشهر، ولم يكن بينهما غير الحصار والترامي بالنبل والحصى، مما أثار الجزع في نفوس الطرفين، وخاصة لدى المشركين، فإن أبا سفيان أخذ يخشى هبوب العاصفة، وتفرق القبائل من حوله، فالسأم والضجر بدا على جيشه ، أما المسلمون، فإنهم وإن ضاقوا ذرعاً بالحصار لكنهم على مقربة من عوائلهم وبيوتهم، وهذا ما يساعد على التمنع والصمود ، وصمم ابو سفيان على التحرك ضد المسلمين، فحرّض عدداً من فرسان قريش، على الاصطدام المباشر بالمسلمين، واختار لهذه الغاية: عمرو بن عبد ود بطل بني عامر - وهو من مشاهير العرب - وعكرمة بن ابي جهل، وهبيرة بن ابي وهب بطلي بني مخزوم، وضرار بن الخطاب، أخا بني محارب، وأمثالهم ممن لهم دويّ وسمعة، ودفع هؤلاء ان يمروا على خيام أصحابهم ليدفعوهم على الاستعداد للقتال ، ثم أقبلوا تسرع بهم خيولهم وجالوا حول الخندق، حتى تلمسوا فيه ثغرة فاقتحموا ، وكانت هذه المبادرة قد أرعبت المسلمين ، ووقف عمرو بن عبد ود وحوله جماعته يصرخ في المسلمين: هل من مبارز؟
وقف قبالته عدد من المسلمين، ولكن الوجوم خيم عليهم فلم يجبه أحد، وقام علي يطلب من النبي أن يأذن له في مبارزته فيمنعه، وكرر عمرو النداء ثلاثاً، وصار يقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها أفلا يبرز إلي رجل؟.
فأذن النبي إلى علي ليخرج له، وما ان برز اليه، وعينه الكريمة مشدودة إلى ابن عمه، وهو يقول: برز الإيمان كله إلى الشرك كله .
وتقابل البطلان، علي بن أبي طالب بكل بساطته، يقف في وسط الميدان، وعمرو بن عبد ود لم يترك شيئاً من لباس الحرب إلا وارتداه، وبرز كأنه جبل معلم ، وبادر بطل المشركين علياً بالسؤال: مَن المبارز؟
- فتى عبد مناف علي بن أبي طالب.
ويهز الفارس المغوار ويرد بصوته الأجش: ولم يا ابن أخي تقتل نفسك ألم يكن لابن عمك غيرك يخرجه لمبارزتي، فواللّه ما أحب أن تكون طعمه لسيفي.
وبكل بطولة وإصرار يقول علي: ولكني واللّه أحب أن أقتلك.
ويشتد الغضب بعمرو، ويهم بالانقضاض على (فتى أبي طالب) فتصدى له أبو الحسن قائلا: يا عمرو إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أخذت واحدة منها ، قال عمرو: أجل.
قال علي: فإني أدعوك إلى الإسلام .
قال عمرو: لا أريد هذا .
فقال علي: أو ترجع إلى بلادك فإن يك محمد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذباً كان الذي تريد.
قال عمرو: لا اريد هذا أيضاً، فما هي الثالثة؟
قال علي: أدعوك الى النزال راجلاً، فأنت فارس وأنا راجل ، فما كان من عمرو إلا أن عقر فرسه، وضرب وجهه، وأقبل عليه شاهراً سيفه وتقابلا في صراع حامي الوطيس ، وعلى مقربة من المعركة تقف كتلتان: من جهة جماعة عمرو بن عبد ود، وهم ينتظرون انكشاف الغبار، ولا يشكون ان النصر لصاحبهم ، وقبالتهم وقف آخرون، فيهم الخلَّص من أصحاب النبي يتوسطهم سلمان، وأبصارهم شاخصة الى ميدان المعركة، وكلمة الرسول الخالدة ترنُّ في آذانهم، وتملأ آفاقهم : برز الإيمان كله إلى الشرك كله، وانكشفت المعركة، وإذا بعلي فوق صدر عمرو يحز رأسه ، روّع المنظر الطرفين ولم يتمالك عكرمة بن ابي جهل إلا أن ألقى رمحه وهرب خائفاً، وتبعه بقيه أصحابه ، وكان لهذا الموقف الخاسر أثره الكبير في تضعضع معنويات المهاجمين، وتحطم قوتهم ودب الذعر والخوف مما اضطر أن يفكر أبو سفيان - خوفاً من فرار أصحابه - في المبادرة بالتراجع، أو القتال، فأرسل إلى بني قريظة يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر (الإبل والخيل) فاغدوا للقتال، حتى نناجز محمداً ونفرغ ما بيننا وبينه ، ولكن بني قريظة لم ترغب في إثارة الحرب، بعد أن تحسست تضعضع الجيش المحارب ، ولما شعر أبو سفيان بذلك وقف وسط جيشه قائلاً: يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، لا يطمئن منها قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله، وهو معقول، فجلس عليه، وضربه فوثب به على ثلاث، فواللّه ما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
ولم يكد يبصر به الجيش الغازي حتى تفكك، وأخذ كل يركب دابته ويعود، ولا يلتفت لصاحبه، ولم يمس المساء حتى بدت الصحراء خالية منهم ، وعاد رسول اللّه وأصحابه إلي المدينة، ويلتفت بعض الصحابة لسلمان قائلاً: جزاك اللّه خيراً يا سلمان، لقد حفظت المدينة وجيشنا بالخندق.
وتنازع المهاجرون والأنصار، كل يقول سلمان منا، شخصية فذة - بحر لا ينزف - كما قال عنه علي بن أبي طالب ، لكن الرسول الأعظم ينهي النزاع عن هذا الأمر فيقول: لا تقولوا سلمان الفارسي، بل سلمان المحمدي ، وهو منا أهل البيت .
وسام رفيع يناله سلمان من رسول اللّه، ذلك يقول عنه النبي مرة: أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه سبحانه يحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان والمقداد .
ويقول النبي: لو كان الدين في الثريا لناله سلمان .
واستمرت هذه الشخصية الكريمة في ظل رسولها العظيم تستمد من أخلاقه، ما يرفع مجدها، وتعبّ من غيرها بما يبني شخصيتها الإسلامية على أساس متين وصارت لها مكانة في قلب النبي يغبطها عليها الكثير من الصحابة ، تقول عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول اللّه يتفرد به بالليل، حتى كاد يغلبنا على رسول اللّه .
لقد دخل عليه قوم، وهو أمير على المدائن، وكان يعمل الخوص، فقيل له: لم تعمل هذا، وأنت أمير يجري عليك رزق يبلغ خمسة آلاف دينار، فتتصدق به، فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي ، ثم توقف الشيخ أبو معاذ قليلاً، وكفكف دمعة حزن، واستأنف حديثه قائلاً: رحمك اللّه يا أبا عبد اللّه، فقد قيل له مرة ابن من أنت؟
قال: أنا سلمان ابن الإسلام من بني آدم .
كان قوياً في إسلامه، صامداً لعقيدته، مخلصاً لنبيه وآله، وكان واقعياً زهد في الدنيا، يعمل الخوص، ويبيعه فيأكله، ويفترش عباءته لينام، ويباهي بأخلاقه.
وفي العقد الرابع من الهجرة يلبي نداء ربه ، وخلف بعده ذكراً خالداً ما دام الزمان.
___________________________
(1) الحرة: كل أرض ذات حجارة سوداء.
(2) قباء: قرية على ميلين من المدينة.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
في مستشفى الكفيل.. نجاح عملية رفع الانزلاقات الغضروفية لمريض أربعيني
|
|
|