أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-5-2017
3498
التاريخ: 28-1-2019
2861
التاريخ: 3-4-2022
2260
التاريخ: 7-3-2022
6166
|
- أسمعت أحاديث مكة وشعابها، يجتاح شيوخها، ويمرّ بكهولها، ذلك حديث فتى عبد المطلب، ودعوته الجديدة.
- حديث شيق يا أبا مناف ينساب إلى قلبي انسياب العطر.
- كفى. كفى يا وليد. أفيك قوى لتحمل سوط قريش ومكاويهم الحديدية. اسكت بحق صاحب هذا البيت. هذا الشيخ أقبل علينا، وأخشى أن يكون أحد من القوم فيصيبنا بسوء.
وأقبل الشيخ يقترب رويداً رويداً حتى إذا وضح لهما فإذا به أبو رافع مولى العباس بن عبد المطلب وقد عَلَت ثغره الأسود ابتسامة مشرقة، وانضم إلى صاحبيه.
كيف أنت يا أبا رافع اليوم، أذهبتَ إلى دار الأرقم، أسمعت من حديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) أعذبه وأنداه.
لو أتيت هذه الليلة معنا يا أبا مناف لرأيت من عطف نبي الرحمة الشيء الكثير ، وظهر على القوم دفعة أمية بن خلف، وقد علته موجة من السخط والكراهية، ومر بهذه الحلقة، ويكاد لا يلتفت لها، وخيم الوجوم على الجالسين، ولكن ما ان اجتاز الثلاثة بخطوات حتى عاد وألقى نظرة عليهم، وما إن وقعت على أبي رافع، حتى هجم عليه والشرر يتطاير من عينيه، وأخذ يلعب بسوطه على جسمه دون رحمة وشفقة، وأبو رافع يتلوى بين يديه، وإذا ما كلت يداه من الضرب، وقف وهو يسحب أنفاساً مهترئة، وهي تكاد تلفح وجهه بلهيبها.
والتفت اليه وهو يهذر بصخب: لو عدت لدار الأرقم لكويتك بالحديد.
وزحف ابو رافع وهو يجمع قواه يئن من آلامه ليذهب تواً الى بيته، وعيناه قد شدت الى الكعبة، وهو يتمتم كلمات تكاد تموت على شفتيه لانهيار قواه.
كان ابو رافع يجتمع في بادئ امره بإخوان له من موالي العرب، وكانت احاديث دعوة محمد تلهج بها أندية مكة وحلقات سمرها ، وابو رافع يستمع لها بشيء من الاهتمام، وكلما تعرف على جديد من تلك الأخبار، خفق لها قلبه، ونبض صدره، غير انه لا يعرف سر هذا الخفقان، وتلك النبضات المتوالية، وبمرور الزمن انحاز الى اخبار الدعوة الجديدة، وتتبع احاديثها، بكل شوق ولهفة وحتى اصبح يوماً ما من جملة أعضائها.
ولكن ابا رافع ما كان في امكانه - وفي وقته المبكر - ان يجهر بأمره، وان كان في الواقع في منعة من ظلم قريش، لأنه مولى العباس بن عبد المطلب، وللعباس حرمة ومكانة.
وبطبيعة الحال كانت قريش تستأثر بحديث الرسول بالقسط الأوفر، من يومها، لأن الأمر كان يتعلق بهم قبل كل قبيلة فهو ان جلس الى فتيان اسياده، كان يلتهم احاديثهم عن الدعوة وان كان بعضهم لم يمل اليها، أو لم يعلن إسلامه بعد.
حتى كان يوم تحدثت مكة بصراحة عن إسلام العباس نفسه فطار ابو رافع فرحاً بهذه البشارة، وأزاح عن كاهله ثقلاً كبيراً ثقل الكتمان والتستر ، وعرف الناس بعدئذ ان ابا رافع من جملة الذين انضموا الى دعوة محمد رسول اللّه، ودخل يومها ابو جهل الى البيت وهو يحرق الارم، والتقى بزمرته وصاح بغضب متناهي حتى أبي رافع ذلك المولى القبطي صبا لدين فتى عبد اللّه، وحق اللات والعزى ان ظفرت به لأتركه طعمة للوحوش، وأشفي بدمه غليلي ، ولكن رجلاً من القوم التفت اليه وقال: مهلاً يا أبا الحكم لا تظهر قواك على الموالي والضعفاء، أما علمت أن العباس نفسه قد تبع محمداً، فلو كنت شجاعاً لذهبت اليه، وتركت جسمه طعمة للوحوش، كما نويت أن تعمله مع ابي رافع؟.
وسكت ابو جهل على مضض، وفي قلبه شعلة من حقد، لقد ضاق ذرعاً بما يطوي عليه نفسه، وقد أخذ امر المسلمين يشيع وينتشر، ويتلقاه الناس بكل مسرة واستبشار، ويستقبلون كل يوم اسماً جديداً ينداح لحوزة النبي كما ينداح العطر في الروضة الغناء، فتلهج أندية مكة بحديثه، حتى اذا ما أطل اسم جديد لهجت بذكره، ولاكت حديثه، والناس تواقة لكل جديد وهكذا دواليك.
وتحدث العرب عن اسم أبي رافع كشخص جديد لمع اسمه ثم حرره الرسول بشارة لإسلام العباس، واستطال الحديث الى ان هذه الدعوة تحاول تحرير الرق وترك هذه العادة السقيمة وهذا ما يثير الرعب في قلوب الكثيرين، وتكون لأبي رافع مكانة لدى الصفوة الطيبة من المسلمين، وكيف لا تكون كذلك والرسول الأعظم يعطف عليه لأنه من هذه المجموعة المستضعفَة التي اكتوت بعذاب قريش وهي تزداد صلابة كلما تفنن الكافر الأرعن في أساليب التعذيب والإبادة معهم ، فأمس تحدثت مكة عن اسلوب الطغاة في معاقبة ياسر وعمار وأمه، وبعد برهة تحدثت عن تعذيب بلال والخباب، ولقد كانت مكاوي الحديد المجمرة تلمع في أيدي ابي جهل وجلاوزته وهي تترنح على أجسام هؤلاء المستضعفين الذين صبوا الى دعوة الرسول، فلم ترقّ لهم قلوب ولم تلِنْ لهم نفوس.
وهاجر النبي الى المدينة، تاركاً مكة وقريش وحقدها وضغنها، ولم تمر الأشهر على الطغاة بالشروق والأمل، فقد عزَّ عليهم، أن يسلم محمد وأصحابه، ويتوطد أمر دعوته في يثرب وكانت تتحين المناسبة للهجوم عليه، حتى كانت (بدر) ، وكان اجتماعهم في دار الندوة عاجلاً للبتّ في طلب ابي سفيان وقرروا الاستجابة للطلب وكان من بدر ما كان.
وبقي في مكة من بقي يتصيد الأخبار، ويتعرف على المسافرين، علَّهم يحملون من أخبار قريش ما يسعد يومهم وينير ليلهم ، وعاشت مكة ردحاً من الزمن على أعصابها لم يبلغها قدوم أحد، إلا وهرعت اليه ، وانقطعت الأخبار وكادت القلوب المتلهفة لسماع نبأ جيشها تتقطع .
طال الانتظار ودبَّ القلق، وانسابت الوساوس الى الأذهان تحرك المشاعر وتثير العواطف، ولحظة الانتظار أشد ما يعانيها الانسان.
يحدثنا أبو رافع مولى رسول اللّه، فيقول: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد فشى فينا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أمُّ الفضل زوجته وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان عدو اللّه أبو لهب قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته (ذله) اللّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.
قال: وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أعمل القدَاح، أنحتها في حُجرة زمزم، فواللّه إني لجالس أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب بجر رجليه بشرّ، حتى جلس إلى طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال للناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم - وكان شهد مع المشركين بدراً - .
فقال أبو لهب: هلم يا ابن أخي فعندك واللّه الخبر .
قال: فجلس اليه، والناس قيام حوله، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال: لا شيء، واللّه ان هو إلا لقيناهم فمنحناهم أكتافنا، فقتلونا كيف شاؤوا، وأسرونا كيف شاؤوا وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، لا واللّه ما تبقي شيئاً، ولا يقوم لها شيء.
قال ابو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك واللّه الملائكة.
قال: فرفع أبو لهب يده ، فضرب بها وجهي ضربة شديدة ، ثم احتملني فضرب بي الارض ، ثم برك عليَّ يضربني وكنت رجلاً ضعيفاً .
فقامت ام الفضل الى عمود من عُمد الحجرة فأخذته فضربته على رأسه، فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفته إذ غاب سيده، فقام مولياً ذليلاً، فواللّه ما عاش إلا سبع ليالي، حتى رماه اللّه بالعدسة(1) فقتله.
هكذا تلقى القرشيون خبر الهزيمة وخسران المعركة ، ويقف ابو سفيان وهو مشدوه بما أصيب من نكبة، يصيح والحقد يغلي في صدره: يا معشر قريش، لا تبكوا على قتلاكم ولا تنح عليهم نائحة، ولا يندبهم شاعر، وأظهروا الجلد والعزاء فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلّكم ذلك من عداوة محمد وأصحابه، مع أن محمداً إن بلغه وأصحابه ذلك شمتوا بكم فتكون أعظم المصيبتين ولعلكم تدركون ثأركم، فالدهن، والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمداً.
وإذ كان ابو سفيان يتنقل في بيوتات قريش، وهو مخذول مهزوم يطلب منهم الجلد والصبر، كانت زوجته هند بنت عتبة من جانب آخر تقول لنساء قريش ذهبن لتعزيتها فقلن لها، ألا تبكين على أبيك وأخيك، وعمك، وأهل بيتك، فقالت: حلأني (منعني) أن أبكيهم، فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا وبنساء بني الخزرج، لا واللّه حتى أثأر محمداً وأصحابه والدهن عليّ حرام ان دخل رأسي حتى نغزو محمداً، واللّه لو أعلم الحزن يذهب عن قلبي لبكيت، ولكن بما لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة.
تقول الرواية: فمكثت على حالها لا تقرب الدهن، ولا قربت فراش ابي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أُحد.
لقد أخلص ابو رافع للنبي الأكرم، حتى أصبح جزءاً من صفوته، في ركابه بغزواته، وموكلاً على ثقله، وأميناً على ماله فقد قال رسول اللّه يوماً، وهو في جموع حاشدة بين يديه: يا أيها الناس، من أحبَّ أن ينظر الى أميني على نفسي وأهلي، فهذا ابو رافع أميني على نفسي .
وكان هذا أرفع وسام يقلده رسول اللّه، وأعظم فخر يناله بشرف الاسلام.
ودخل ذات مرة ابو رافع دار النبي، فوجد رسول اللّه نائماً، وعلى مقربة منه ثعبان عظيم يزحف باتجاه الرسول، وذهل الرجل الشيخ من هذا الأمر، وحاول ان يوقظ النبي (صلى الله عليه وآله) ولكنه عز عليه ان يقلق على الرسول نومه، وصمم على التضحية وتقدم فاضطجع الى جنب النبي باتجاه الثعبان بحيث فصل بينهما ليكون هو ضحية إذا قدم على الزحف، وكان هذا أعذب ما يدور في خاطره.
واستيقظ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فألفى أبا رافع الى جانبه مستلقياً، وعلى بضعة أمتار يقف ثعبان، وعرف جلية الأمر ورفع الرسول طرفاً خاشعاً الى السماء ليدعو اللّه ان يوفق أبا رافع.
وتمر الأيام ثقيلة السير، مليئة بالأحداث، قد لبى الرسول الأعظم نداء ربه، والزمن يطوي خطواته، وأبو رافع قد استقر في خيبر يزرع أرضاً له هناك.
وأعلن الإمام علي (عليه السلام) حربه - على معاوية، وفي الشدة تعرف الرجال - وأخذ يجمع أصحابه من حوله ما يقتضيه لتلك الحرب.
وانتشر النبأ يسري كالبرق في أرجاء الجزيرة العربية أن علياً عزم على قتال معاوية، وعلم ابو رافع بجلية الأمر كما سمع غيره.
وعندما أصبح الصباح أعلن ابو رافع بأنه عازم على السفر الى علي (عليه السلام).
- يا أبا رافع أنت شيخ طاعن في السن أخذت من العقد التاسع نصفه، وقد سقط التكليف عن الشيوخ، فالجهاد لغيرك.
- لا تتحدث بمثل هذا أبداً، إن القتال مع علي عبادة، لقد أصبحت لا احد بمنزلتي، بايعت البيعتين: بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، وصليت القبلتين وهاجرت الهجرات الثلاث: مع جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ومع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة ومع على بن أبي طالب سأهاجر إلى الكوفة.
- يا أبا رافع: وأرضك ودارك.
- غداً سأبيعها.
وكان ما أراد، وقف إلى جانب علي في حروبه مجاهداً صابراً ومعاوية لم يتوان عن إغراء أبي رافع بالمال، والمكانة، والسلطان ولكن صلابة هذا الصحابي الجليل، وصموده الحديدي العجيب في خدمة الإسلام، كانا أقوى من أن تنهار أمام أموال معاوية ومواعيده المعسولة.
________________________________
(1) العدسة: قرحة كالطاعون قاتلة، شرح النهج: 14 - 182 هجري 1 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|