أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-11-2017
16382
التاريخ: 9-6-2021
4509
التاريخ: 9-6-2021
3266
التاريخ: 5-11-2017
3497
|
قال تعالى : {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام : 161 - 165] .
قال تعالى : {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام : 161 - 163] .
أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال : {قل} يا محمد لهؤلاء الكفار ، وللخلق جميعا : {إنني هداني} : اي : دلني وأرشدني {ربي إلى صراط مستقيم} وقيل : أراد لطف لي ربي في الاهتداء ، ووفقني لذلك . وقد بينا معنى الصراط المستقيم في سورة الحمد {دينا قيما} أي : مستقيما على نهاية الاستقامة . وقيل : دائما لا ينسخ .
{ملة إبراهيم} وإنما وصف دين النبي بأنه ملة إبراهيم ، ترغيبا فيه للعرب ، لجلالة إبراهيم في نفوسها ، ونفوس كل أهل الأديان ، ولانتساب العرب إليه ، واتفاقهم على أنه كان على حق {حنيفا} أي : مخلصا في العبادة لله ، عن الحسن .
وقيل : مائلا إلى الاسلام ميلا لازما لا رجوع معه ، من قولهم رجل أحنف : إذا كان مائل القدم من خلقة ، عن الزجاج . وقيل : مستقيما ، وإنما جاء أحنف على التفاؤل ، عن الجبائي .
{وما كان من المشركين} يعني إبراهيم كان يدعو إلى عبادة الله ، وينهى عن عبادة الأصنام {قل إن صلاتي} قد فسرنا معنى الصلاة فيما تقدم {ونسكي} أي : ذبيحتي للحج والعمرة ، عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة والسدي . وقيل : نسكي : ديني ، عن الحسن . وقيل : عبادتي ، عن الجبائي ، والزجاج ، وإنما ضم الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد والعدل ، لأن فيها التعظيم لله عند التكبير ، وفيها تلاوة القرآن الذي يدعو إلى كل بر ، وفيها الركوع والسجود ، وفيها الخضوع لله تعالى ، والتسبيح الذي هو التنزيه له .
{ومحياي ومماتي} أي : حياتي وموتي {لله رب العالمين} وإنما جمع بين صلاته وحياته ، وأحدهما من فعله ، والآخر من فعل الله ، لأنهما جميعا بتدبير الله .
وقيل : معناه صلاتي ونسكي له عبادة ، وحياتي ومماتي له ملكا وقدرة ، عن القاضي . وقيل : إن عبادتي له لأنها بهدايته ولطفه ، ومحياي ومماتي له ، لأنه بتدبيره وخلقه ، وقيل : معنى قوله : {ومحياي ومماتي لله} إن الأعمال الصالحة التي تتعلق بالحياة في فنون الطاعات ، وما يتعلق بالممات من الوصية والختم بالخيرات لله ، وفيه تنبيه على أنه لا ينبغي أن يجعل الانسان حياته لشهوته ، ومماته لورثته ، {لا شريك له} أي : لا ثاني له في الإلهية . وقيل : لا شريك له في العبادة ، وفي الإحياء ، والإماتة . {وبذلك أمرت} أي : وبهذا أمرني ربي {وأنا أول المسلمين} من هذه الأمة ، فإن إبراهيم كان أول المسلمين ، ومن بعده تابع له في الاسلام ، عن الحسن ، وقتادة . وفيه بيان فضل الاسلام ، وبيان وجوب اتباعه على الاسلام ، إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم أول من سارع إليه ولأنه إنما أمر بذلك ليتأسى به ، ويقتدى بفعله .
- {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام : 164 - 165] .
لما أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الإخلاص في الدين ، عقبه بأمره أن يبين لهم بطلان أفعال المشركين ، فقال : {قل} يا محمد لهؤلاء الكفار ، على وجه الانكار {أغير الله أبني ربا وهو رب كل شيء} وتقديره : أيجوز أن أطلب غير الله ربا ، وأطلب الفوز بعبادته ، وهو مربوب مثلي ، وأترك عبادة من خلقني ورباني ، وهو مالك كل شيء ، وخالقه ، ومدبره ، وليس بمربوب ، أم هذا قبيح في العقول ، وهو لازم لكم على عبادتكم الأوثان {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} أي : لا تكسب كل نفس جزاء كل عمل من طاعة ، أو معصية ، إلا عليها ، فعليها عقاب معصيتها ، ولها ثواب طاعتها ، ووجه اتصاله بما قبله أنه لا ينفعني في ابتغاء رب غيره ، ما أنتم عليه من ذلك ، لأنه ليس بعذر لي في اكتساب الإثم ، اكتساب غيري له ، {و} لأنه {لا تزر وازرة وزر أخرى} أي : لا يحمل أحد ذنب غيره ، ومعناه : ولا يجازى أحد بذنب غيره . وقال الزجاج : معناه لا تؤخذ نفس غير آثمة بإثم أخرى .
وقيل : إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : اتبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ ، فأنزل الله هذا . وفيه دلالة على فساد قول المجبرة ان الله تعالى يعذب الطفل بكفر أبيه .
{ثم إلى ربكم مرجعكم} أي : مالكم ومصيركم {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} أي : يخبركم بالحق فيما اختلفتم فيه ، فيظهر المحسن من المسيء {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} أخبر سبحانه أنه الذي جعل الخلق خلائف الأرض ، ومعناه : إن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله ، كلما مضى قرن ، خلفهم قرن ، يجري ذلك على انتظام واتساق ، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير ، فلا يخلفه عصر ، وهذا لا يكون إلا من عالم مدبر ، عن الحسن ، والسدي ، وجماعة .
وقيل : المراد بذلك أمة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، جعلهم الله تعالى خلفاء لسائر الأمم ، ونصرهم على سائر الخلق .
{ورفع بعضكم فوق بعض درجات} في الرزق ، عن السدي . وقيل : في الصورة ، والعقل ، والعمر ، والمال ، والقوة ، وهذا أولى ، لأن الأول يدخل فيه .
ووجه الحكمة في ذلك مع أنه سبحانه خلقهم ابتداء من غير استحقاق بعمل يوجب التفاضل بينهم ، ما فيه من الألطاف الداعية إلى الواجبات ، والصارفة عن المقبحات ، لأن كل من كان غنيا في ماله ، شريفا في نسبه ، ربما دعاه ذلك إلى طاعة من يملكه ، رغبة في امتثاله ، ومن كان على ضد ذلك ، ربما دعاه إلى طاعته ، رهبة من أمثاله ، ورجاء أن ينقله عن هذه الحال إلى حال جليلة ، يغتبط عليها .
{ليبلوكم فيما آتاكم} أي : ليختبركم فيما أعطاكم أي : يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل ، وانتفاء من الظلم ، ومعناه : لينظر الغني إلى الفقير فيشكر ، وينظر الفقير إلى الغني فيصبر ، ويفكر العاقل في الأدلة فيعلم ، ويعمل بما يعلم .
{إن ربك سريع العقاب} إنما وصف نفسه بذلك مع أن عقابه في الآخرة من حيث إن كل ما هو آت قريب فهو إذا سريع . وقيل : معناه إنه سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا ، فيكون تحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة . وقيل : معناه أنه قادر على تعجيل العقاب ، فاحذروا معاجلته بالهلاك في الدنيا .
{وإنه لغفور رحيم} قابل سبحانه بين العقاب والغفران ، ولم يقابل بالثواب ، لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب ، لأنه لو ذكر الثواب ، لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن منه عصيان . وقيل : إنه سبحانه افتتح السورة بالحمد على نعمه تعليما ، وختمها بالمغفرة والرحمة ليحمد على ذلك .
___________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 207-210 .
{قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} بعد أن ذكّر سبحانه الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا - أمر رسوله أن يعلن للمشركين وأهل الكتاب وغيرهم ان اللَّه جل ثناؤه قد هداه بالفطرة الصافية ، والعقل السليم ، والوحي من عنده إلى السبيل الذي يبتعد به عن الباطل ، ويوصله إلى الحق {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} الملة الدين ، والحنيف من ترك الأديان الباطلة ، واتبع دين الحق ، والمعنى ان الصراط الذي هدى اللَّه به رسوله محمدا هو دين إبراهيم خليل الرحمن الذي يعظمه أهل الأديان جميعا {وما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل من أعدى أعداء الشرك وأهله ، وهذا رد على مشركي قريش الذين زعموا انهم على دين إبراهيم .
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ } . موضوع الآية السابقة أصول الدين والعقيدة بقرينة { وما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وموضوع هذه الآية فروع الدين والشريعة لمكان الصلاة والنسك ، وعطف النسك على الصلاة من باب عطف العام على الخاص ، مثل قوله تعالى : {وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى والنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران - 83] . والمحيا والممات هنا كناية عن الثبات والاستمرار ، والمعنى ان عبادة محمد ( صلى الله عليه وآله ) وجميع ما هو عليه في حياته عقيدة ونية وعملا يتجه به إلى اللَّه وحده ، ولا يحيد عنه حتى الممات .
{لا شَرِيكَ لَهُ وبِذلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . هذه الآية توضيح وتأكيد لما تضمنته الآية السابقة من التوحيد والإخلاص . . ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) أول المسلمين من أمته بطبيعة الحال ، لأنه صاحب الدعوة .
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } . ومن طلب هذا الرب فأين يجده ؟ ! : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ومن توهم وجها غير وجهه الكريم صدق عليه قول الشاعر :
سوف ترى إذا انجلى الغبار * أفرس تحتك أو حمار
{ وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } . ورب كل شيء واحد لا ضد له ولا ند .
ولا تزر وازرة وزر أخرى :
{ ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها } . كل ما يفعله الإنسان من خير أو شر فهو وليد غرائزه وظروفه وأوضاعه ، ومن نسب فعل الإنسان إلى غيره فهو تماما كمن ينسب الولد إلى غير أمه ، والثمرة إلى غير شجرتها { ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى } المراد بالوزر هنا الذنب ، قال تعالى : {أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} أي ما يفعلونه من الذنوب والآثام ، وهذه الجملة توضيح وتأكيد للجملة قبلها ، ومعناها {ان كل نفس لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} دون ما كسب أو اكتسب غيرها ، وهذا أصل ديني وعقلي لا يمكن نسخه ولا تعديله ، وقد فرع عليه علماء الكلام والفقهاء كثيرا من المسائل والأحكام .
وتسأل : ان هذه الآية تومئ إلى ان الإنسان مسؤول عن نفسه وكفى ، إذن ، أين وجوب الجهاد ، وبذل النصح ، والتعاون على البر والتقوى ؟ .
الجواب : ان موضوع الآية خاص بالمؤاخذة فقط ، وان الإنسان لا يؤخذ بجريرة غيره ، ولا صلة لها بالجهاد والنصح ، ولا بغيرهما من قريب أو بعيد ، لأن عدم المؤاخذة على ذنب الغير شيء ، ووجوب الجهاد وإصلاح الفاسد شيء آخر .
سؤال ثان : لقد اعتاد الناس أن يبذلوا المال والطعام عن أرواح أمواتهم ، وان يقرؤا سورا من القرآن ، ويهدوا إليهم ثوابها ، فهل مثل هذا جائز شرعا ؟
وهل ينتفع به الأموات ؟ كيف ؟ والمفروض ان الأموات لا يعذبون بسيئات الأحياء ، فينبغي أن لا يتنعموا بحسناتهم ؟ .
الجواب : قلنا : ان كلا من العقل والشرع يأبى أن يؤخذ البريء بجرم المذنب ، وان يشاركه فيما يستحق من العقاب ، أما بالنسبة إلى الثواب فلا مانع في نظر العقل أن يشارك غير المحسن المحسن في الثواب الذي استحقه على عمله ، وقد ورد الشرع بذلك ، فوجب التصديق ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له . . وقال : من مات وعليه صوم فليصم عنه وليه . . وقال : من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات .
وعن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وحين ؟ .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على ان الميت ينتفع بإهداء الثواب على عمل الخير والعقل لا يأبى ذلك إطلاقا ، لأنه يتفق مع فضل اللَّه وكرمه ، ولكن الناس توسعوا كثيرا ، وتجاوزوا الموارد المنصوص عليها ، وقد اتفق الفقهاء على ان كل من أتى بما لا نص فيه بقصد انه راجح شرعا فقد ابتدع في الدين ، وافترى على اللَّه ورسوله . . فالأولى أن يهدى الثواب إلى الميت رجاء أن ينتقى به من غير قصد الرجحان دينا وشرعا .
{ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } دون أن تستندوا إلى عقل أو وحي ، فاعترفتم بما هو معروف عندكم ، لا عند الحق ، وأنكرتم ما هو منكر عند أهوائكم وشهواتكم .
الأرض والبيت :
{ وهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ } . خلق اللَّه سبحانه هذه الأرض ، وجعلها مقرا صالحا لنشأة الإنسان بجوها وتركيبها ، وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، وجهزها بجميع ما يحتاج إليه الإنسان ، حتى وسائل الانس والترفيه ، تماما كالدار التي حوت خيرات كل شيء ، ثم اسكن الإنسان فيها بعد أن زوده بالمؤهلات والاستعداد الكامل للانتفاع بخيرات الأرض وبركاتها ، وشاءت حكمته تعالى أن يتفاوت الناس في تلك المؤهلات ، وأن يكون بعضهم فوق بعض في العقل والعلم وقوة الجسم ، واختط لهم منهجا قويما ليختبر الأقوياء (2) : هل يؤدون شكر هذه النعمة ، ويتجهون بقوتهم ومؤهلاتهم إلى صالحهم وصالح إخوانهم من بني الإنسان ، أو يتخذون منها أداة للظلم والاستغلال والتعاظم والتكاثر ؟ . وقد دلت هذه الآية ان اللَّه سبحانه قد أوجد الإنسان على هذه الأرض للعلم والعمل النافع .
وتسأل : كيف تجمع بين هذه الآية ، وبين الآية التي تقول : {وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ؟ .
الجواب : لا تنافي بين الآيتين ، لأن العلم والعمل النافع عبادة للَّه ، بل من أفضل العبادات ، وأكمل الطاعات .
{ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ } ابتلى عباده ليتميز الخبيث من الطيب ، فيعاقب هذا ، ويثيب ذاك { وإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } وليس لرحمته حد ، ولا لعفوه قيد . .
أجل ، ان التوبة تجعل العفو جزاء وفاقا ، ويبقى عفو السخاء والكرم ، وعطاء الجود الذي لا موجب له إلا ذاته القدسية ، وهذا هو الدليل : {وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى - 30] . أي كثير مما كسبت أيدينا .
اللهم انّا نستغيث بك من أنفسنا ، ونسألك العفو عن أوزارنا .
_______________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 292-295 .
2. عند تفسير الآية 94 من المائدة بينا معنى الاختبار من اللَّه لعباده .
الآيات ختام السورة وهي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوته صلى الله عليه وآله في السورة وأنه متلبس بالعمل بما يدعو إليه ، وفيها خلاصة الحجج التي أقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك .
قوله تعالى : {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} إلى آخر الآيتين . القيم بالكسر فالفتح مخفف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد ، وقيل : وصف بمعنى القيم على الأمر .
يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم وسبيل واضح قيم على سالكيه لا تخلف فيه ولا اختلاف دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة أحسن القيام ـ لكونه مبنيا على الفطرة ـ ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين ، وقد تقدم توضيح هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة .
قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ ـ إلى قوله ـ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} النسك مطلق العبادة ، وكثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقربا إلى الله سبحانه .
أمره صلى الله عليه وآله ثانيا أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه متلبس به كما أنه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه ، ويطابق فعله قوله .
فقال : قل : إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ـ واختصت الصلاة بالذكر استقلالا لمزيد العناية بها منه تعالى ـ ومحياي بجميع ما له من الشئون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وأفعال وتروك ، ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره وهي الجهات التي ترجع منه إلى الحياة ـ كما قال : كما تعيشون تموتون ـ جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به فيها أحدا فأنا عبد في جميع شئوني في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له فإنه رب العالمين ، يملك الكل ويدبر أمرهم .
وقد أمرت بهذا النحو من العبودية ، وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة .
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ} إظهار الإخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شئون العبادة والحياة والموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة والاعتقاد بأن مالك الموت والحياة هو الله تعالى ، والدليل على ما ذكرنا قوله : {وَبِذلِكَ أُمِرْتُ} فظاهر أنه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الأولين له إخلاصا وتسليما والاعتقاد بأن الأخيرين له إلا بتكلف .
وفي قوله : {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} دلالة على أنه صلى الله عليه وآله أول الناس من حيث درجة الإسلام ومنزله فإن قبله زمانا غيره من المسلمين ، وقد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال : {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس : 72] وعن إبراهيم في قوله : {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} [البقرة : 131] وعنه وعن ابنه إسماعيل في قولهما : {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة : 128] وعن لوط في قوله : {فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات : 36] وعن ملكة سبإ في قوله : {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل : 42] إن كان مرادها الإسلام لله . وقولها : {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [النمل : 44] ولم ينعت بأول المسلمين أحد في القرآن إلا ما يوجد في هذه الآية من أمره صلى الله عليه وآله أن يخبر قومه بذلك ، وما في سورة الزمر من قوله : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر : 12] .
وربما قيل : إن المراد أول المسلمين من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين ومن بعده تابع له في الإسلام ، وفيه أن التقييد لا دليل عليه ، وأما كون إبراهيم أول المسلمين فيدفعه ما تقدم من الآيات المنقولة .
وأما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل في دعائهما : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة : 128] وقوله : {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج : 78] فلا دلالة فيهما على شيء .
قوله تعالى : {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} إلخ ، هذه الآية والتي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد ، وهي الحجة من طريق بدء الخلقة ، والحجة من طريق عودها ، والحجة من حال الإنسان وهو بينهما وبعبارة أخرى الحجة من نشأة الحياة الدنيا والنشأة التي قبلها والتي بعدها .
فالحجة من طريق البدء ما في قوله : {أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ومن المعلوم أنه إذا كان رب كل شيء كان كل شيء مربوبا له فلا رب غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد .
والحجة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله : {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها} إلى آخر الآية ، أي أن كل نفس لا تعمل عملا ولا تكسب شيئا إلا حمل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى حتى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثم المرجع إلى الله وإليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد ، وإذا كان لا محيص عن الجزاء وهو المالك ليوم الدين فهو الذي تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئا .
والحجة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ} إلخ ، ومحصله أن هذا النظام العجيب الذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا وهو مبني على خلافتكم في الأرض واختلاف شئونكم بالكبر والصغر والقوة والضعف والذكورية والأنوثية والغنى والفقر والرئاسة والمرئوسية والعلم والجهل وغيرها وإن كان نظاما اعتباريا لكنه ناش من عمل التكوين منته إليه فالله سبحانه هو ناظمه ، وإنما فعل ذلك لامتحانكم وابتلائكم فهو الرب الذي يدبر أمر سعادتكم ، ويوصل من أطاعه إلى سعادته المقدرة له ويذر الظالمين فيها جثيا ، فهو الذي يحق عبادته .
وقد تبين بما مر أن مجموع الجملتين : {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} سيق لإفادة معنى واحد وهو أن ما كسبته نفس يلزمها ولا يتعداها ، وهو مفاد قوله : {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر : 38] .
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في الأرض وقد مر كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى : {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30] في الجزء الأول من الكتاب ، ومعنى الآية ظاهر بما مر من البيان ، وقد ختمت السورة بالمغفرة والرحمة .
_________________________
1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 333-336 .
قال تعالى : {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام : 161-163] .
هذا هو طريقي المستقيم
هذه الآية والآيات الأخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام ، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية ، وتركزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر . فقد بدأت هذه السورة بالدعوة إلى التوحيد ومكافحة الشرك ، وختمت بنفس ذلك البحث أيضا .
ففي البداية أمرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم : {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي طريق التوحيد ، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية .
والجدير بالذكر أنّ هذه الآية وطائفة كبيرة من الآيات السابقة واللاحقة لها تبدأ بجملة : «قل» ولعلّه لا توجد في القرآن الكريم سورة كررت فيها هذه الجملة بهذا القدر مثل هذه السورة ، وهذا يعكس في الواقع مدى شدّة المواجهة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين منطق المشركين .
كما أنّه يسدّ كل أبواب العذر في وجوههم ، لأنّ تكرار كلمة «قل» علامة على أنّ كل ما يقوله لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما هو بأمر الله ، بل هو عين كلام الله ، لا أنّها آراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفكاره وقناعاته الشخصية .
ومن الواضح أن ذكر كلمة «قل» في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن ، إنّما هو لحفظ أصالة القرآن ، وللدلالة على أن ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي أوحيت إلى رسول الله .
وبعبارة أخرى : الهدف منها هو الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحدث فيها أيّ تغيير في الألفاظ التي أوحيت إليه ، وحتى كلمة «قل» التي هي خطاب إليه قد ذكرها عينا .
ثمّ إنّه تعالى يوضح «الصراط المستقيم» في هذه الآية والآيتين اللاحقتين .
فهو يقول أوّلا : إنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة ، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأمور الدين والدنيا والجسد والروح : {دِيناً قِيَماً} (2) .
وحيث أنّ العرب كانوا يكنّون لإبراهيم عليه السلام محبّة خاصّة ، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إبراهيم هو هذا الذي أدعو أنا إليه لا ما تزعمونه : {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} .
إبراهيم عليه السلام الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته ، وأقبل على التوحيد {حَنِيفاً} .
و «الحنيف» يعني الشخص أو الشيء الذي يميل إلى جهة ما ، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقّة .
وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب ، فقال النّبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه ، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط ، بل كان إبراهيم ـ الذي نحترمه جميعا ـ كذلك أيضا .
ثمّ يضيف للتأكيد قائلا : {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية ، وحامل الحرب ضد الشرك ، الذي لم يفتأ لحظة واحدة عن محاربته وكفاحه .
إنّ تكرار جملة {حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في عدّة موارد من آيات القرآن الكريم مع قوله : «مسلما» أو بدونها ، إنّما هو للتأكيد على هذه المسألة وهي أنّ إبراهيم الذي يفتخر به العرب الجاهليون مبرّأ ومنزه عن كل هذه العقائد والأعمال الخاطئة (3) .
الآية اللاحقة تشير إلى أنّه على النّبي أن يقول : إنّي لست موحدا من حيث العقيدة فحسب ، بل إني أعمل كل عمل صالح : {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} ، فأنا أحيى لله ، وله أموت ، وأفدي بكل شيء لأجله ، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له .
و «النسك» يعني في الأصل العبادة ، ولذا يقال : للعابد : ناسك ، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال : مناسك الحج .
وقد احتمل البعض أن يكون الموارد من «النسك» هنا هو «الأضحيّة» ، ولكن الظاهر أنّه يشمل كل عبادة ، وهو إشارة أوّلا إلى الصّلاة كأهم عبادة ، ثمّ إلى سائر العبادات بشكل كلّي ، يعني صلاتي وكل عباداتي ، بل وحتى موتي وحياتي كلها له تعالى .
ثمّ في الآية الثالثة يضيف للتأكيد ، وإبطالا لأي نوع من أنواع الشرك والوثنية قائلا : {لا شَرِيكَ لَهُ} .
ثمّ يقول في ختام الآية : {وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
كيف كان النّبيّ أوّل مسلم ؟
في الآية الحاضرة وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أوّل المسلمين .
وقد وقع بين المفسّرين كلام حول هذه المسألة ، لأنّنا نعلم أنّه إذا كان المقصود من «الإسلام» هو المعنى الواسع لهذه الكلمة فإنه يشمل جميع الأديان السماويّة ، ولهذا يطلق وصف المسلم على الأنبياء الآخرين أيضا ، فإننا نقرأ حول نوح عليه السلام : {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس : 72] .
ونقرأ حول إبراهيم الخليل عليه السلام وابنه إسماعيل أيضا : {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}[البقرة : 128] .
وجاء في شأن يوسف عليه السلام : {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} [يوسف : 101.
على أن «المسلم» يعني الذي يسلّم ويخضع أمام أمر الله ، وهذا المعنى يصدق على جميع الأنبياء الإلهيين وأممهم المؤمنة ، ومع ذلك فإن كون رسول الإسلام أوّل المسلمين ، إمّا من جهة كيفية إسلامه وأهميته ، لأنّ درجة إسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع ، وإمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الأمّة التي قبلت بالإسلام والقرآن .
وقد ورد في بعض الرّوايات ـ أيضا ـ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أوّل من أجاب في الميثاق في عالم الذّر ، فإسلامه متقدم على إسلام الخلائق أجمعين (4) .
وعلى أي حال فإنّ الآيات الحاضرة توضح روح الإسلام ، وتعكس حقيقة التعاليم القرآنية وهي : الدعوة إلى الصراط المستقيم ، والدعوة إلى دين محطم الأصنام إبراهيم الخالص ، والدعوة إلى رفض أي نوع من أنواع الشّرك والثنوية . . . هذا من جهة العقيدة والإيمان .
وأمّا من جهة العمل : الدّعوة إلى الإخلاص ، وإلى تصفية النيّة ، والإتيان بكل شيء لله تعالى ، الحياة لأجله ، والموت في سبيله ، وطلب كل شيء منه ، ومحبّته ، والانقطاع إليه ، وعن غيره ، والتولي له ، والتبرؤ من غيره .
فما أكبر الفرق بين ما جاء في الدعوة الإسلامية الواضحة ، وبين أعمال بعض المتظاهرين بالإسلام الذين لا يفهمون من الإسلام سوى التظاهر بالدين ، ولا يفكرون في جميع الموارد إلّا في الظاهر ، ولا يعتنون بالباطن والحقيقة ، ولهذا فليس حياتهم ومماتهم واجتماعهم ومفاخرهم وحريتهم سوى قشور خاوية لا غير .
{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام : 164] .
إنّ التأكيدات المتتابعة المتوالية والاستدلال المتنوع في هذه السورة في صعيد التوحيد ومكافحة الشرك تنبئ عن أهمية كبرى للموضوع .
وهذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر ، حيث قال سبحانه لنبيّه : قل لهم واسألهم : هل من الصحيح أن أطلب ربّا غير الله الواحد في حين أنّه هو المالك والمربّي ، وهو رب كل شيء وبيده أزمة جميع الكائنات ، وحكمه جار في جميع ذرّات الوجود بلا استثناء : {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} .
ثمّ إنّه يردّ على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتّبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ ، قائلا : {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} فلا يعمل أحد إلّا لنفسه ، ولا يحمل أحد وزر أحد .
{ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فمآلكم إليه وهو يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه .
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام : 165] .
في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إشارة إلى أهمية مقام الإنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد ، ومكافحة الشرك ، يعني أن يعرف الإنسان قيمة نفسه ، كأرقى وأفضل كائن في عالم الخلق ، ولا يسجد للخشب والحجر ، ولا يركع أمام الأصنام المختلفة الأخرى ، ولا يقع في أسرها ، بل يكون أميرا وحاكما عليها بدل أن يكون أسيرا ومحكوما لها .
لهذا قال تعالى في مطلع كلامه : {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} (5) .
إن الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه ، والذي سخرت له كل منابع هذا العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى ، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إلى درجة السجود للجمادات .
ثمّ أشار سبحانه إلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر ، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت ، فيقول : {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ} من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها .
ثمّ تشير في خاتمة الآية الحاضرة إلى حرية الإنسان في إختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والابتلاءات ، إذ يقول : {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فإنّ ربّك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الاختبار ، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإصلاح أخطائهم .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 280-289 .
2. «قيما» قد تأتي أيضا بمعنى الاستقامة ، وقد تأتي بمعنى الثبات والدوام وكذلك تأتي بمعنى القائم بأمور الدين والدنيا .
3. البقرة ، 135 ، آل عمران ، 47 و 95 .
4. تفسير الصافي ، ذيل هذه الآية .
5. «الخلائف» كما في المفردات للراغب ـ جمع خليفة «وخلفاء» جمع «خليف» وهما بمعني من يقوم مقام أحد بعده ، والتاء المضافة إلى الكلمة تفيد المبالغة ، وقال جمع آخر من أهل اللغة : الخلائف جمع خليف وخليفة .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|